الصفحات

ثمن الصداقة

"ثمن الصداقة"

لا يوجد أحد ممن عاصروا حرب النكسة يستطيع أن يصف أو ينقل صورة حقيقية لحجم وفداحة الكارثة التي أصابت مصر في الخامس من يونيو عام 1967 ، سلاح الطيران كله تحطم قبل أن تصعد طائرة واحدة إلي السماء ، معظم شباب مصر استشهد قبل أن يطلق رصاصة واحدة ، ثم صدر قرار بالانسحاب ، واستدار الجيش كله يركض وسط رمال الصحراء في اتجاه الغرب سعيا وراء الفرار ، ومن بين هؤلاء كان يركض الجندي مينا والحزن يملأ قلبه.

و فجأة تذكر مينا صديقه جرجس ، صديقه الذي ابتعد عن المسيح وسار وراء شهواته ومن يومها ابتعد جرجس عن مينا ، ولكن شاء القدر أن يقضوا فترة تجنيدهما معا في وسط هذه الكارثة ، وتذكر مينا إن صديقه جرجس هناك عند الممرات (ممر متلا ) وأحس إنه يحتاج إليه ، وقرر مينا العودة إلي الشرق ، إلي منطقة الممرات حتى يعود بصديقه.

و صل مينا إلي منطقة الممرات عند غروب الشمس و هناك ألقى جسده على الرمال وأخذ يلهث من التعب ولكنه لن يتراجع أبدا ، لن يتخلى عن صديقه أبدا ، سيعود به للمسيح حتى لو دفع حياته ثمنا لذلك ، إنه ثمن الصداقة.

و فجأة رأى جرجس وهو ملقى على الأرض و لكنه لا يستطيع الحركة بسبب كسر في رجله ، وكان لقاءا حارا بينهما.

لماذا أنت هنا يا مينا ؟ لقد أتيت لأعود بك يا صديقي جرجس ؟ هل عدت من أجلي أنا !!

نعم يا جرجس وسننجو معا ، هيا ضع يدك على كتفي حتى نعود. لا يمكن يا مينا ، عد بدوني يا صديقي فلا فائدة مني.

اسمعني يا جرجس ، إنني لم أقطع كل هذه المسافة لكي أعود من غيرك ، لقد وعدته أن أعود بك.

من هو يا مينا الذي وعدته ؟

لقد وعدت المسيح أن أعود بك يا جرجس ، لن أتركك تموت وأنت بعيدا عنه ، لن أدعك تذهب للجحيم ، لن أغفر لنفسي إذا مت وأنت في الخطية.

زلزلت هذه الكلمات قلب جرجس ، هل فعل صديقه كل هذا من أجله ، هل بلغت محبة صديقه له أكثر من محبته لنفسه ؟ و لكن إذا كان الإنسان يحبه هكذا ، فكم يحبه خالق الإنسان ، إذا كان مينا مستعد أن يبذل حياته لأجله ، فكم وكم ربنا يسوع المسيح الذي بذل حياته فعلا من أجله ؟

( إذا كتب لنا النجاة يا صديقي مينا ، فثق إن أول شئ سأفعله هو أني سأتوب وأتغير وأعود عن طرقي الرديئة ، فالذي فعلته معي لا يمكن أن أنساه )

و ابتدأت رحلة العودة حتى أصبحت القناة على مرمى البصر ، ولكن الموقف تبدل دفعة واحدة عندما وجدتهما فرقة إسرائيلية وأمطرتهما بالرصاص و أصبح من الواضح أن النهاية قريبة ولكن الله لا ينسانا ، فقد انهالت الرصاصات على الإسرائيليين من مجموعة من بدو سيناء ، واستطاع أحد البدو أن يوفر لمينا و جرجس قارب حتى يستطيعوا عبور القناة ويعودوا إلي الغرب.

و فعلا ابتدأ الزورق يبتعد وأشرق الأمل في قلب مينا وقال لجرجس : لقد نجحنا يا صديقي ، إن الله لم ينسانا يا جرجس....

ثم دوت تلك الرصاصة الغادرة وجحظت عينا مينا وصرخ جرجس : صديقي مينا.....

ترنح مينا وارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة: لا تحزن يا جرجس ، لا تحزن يا صديقي ، لقد أكملت مهمتي ونجحت فيها ، كل ما أطلبه منك ألا تنسى وعدك و تعود لحضن المسيح وتتوب من قلبك وتنسى الخطية ، لا تجعل حياتي تضيع هباء وعود للمسيح يا............ .....

و تراخى جسد مينا بين ذراعي صديقه جرجس.

......... ......... ......... ......... ......... ......... ......... ............ ......

مهلا لا داع لكل هذا الحزن ولا كل هذه الدموع ، فالقصة لم تنته بعد في زورق صغير في مياه قناة السويس ، بل انتهت في أحد المستشفيات عندما فتح مينا عينيه و رأى جرجس قدامه يبتسم قائلا : الحمد لله على سلامتك يا بطل.

قال مينا : كيف نجونا ؟ قال الطبيب : عندما أصابتك الرصاصة في جانبك ، اخترقت الطحال و فقدت كمية كبيرة من دمائك و كنا نعاني من نقص في أكياس الدم ، لذا فقد أعطاك صديقك جرجس لترا كاملا من دمائه.

قال مينا مذهولا : كيف تفعل هذا وأنت تعاني من كل هذه الإصابات.

قال جرجس : لا يهم ذلك يا صديقي ، المهم إنه يجري في عروقنا دم واحد ، ولا تنسى إن الذي فعلته هو ثمن الصداقة.

الصديق الحقيقي هو الذي يفعل المستحيل ليعود بأصدقائه لحضن المسيح ، أما الصديق الذي يبعدني عن المسيح فهو ليس صديقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.