الصفحات

قايين وهابيل



قايين وهابيل

القمص تادرس يعقوب ملطي

أم كل حيّ

عاش آدم وزوجته حواء في جنة عدن سعيدان جدًا بالله صديقهما الحميم. كانا يتمتعان بالعالم الجميل الذي خلقه الله لأجلهما... لا يعرفان الحزن ولا الغضب، ولا ينطقان بكلمة جارحة، إنما يسلكان برقة ولطف مع بعضهما كما مع الحيوانات والطيور الخ...

دخلت الخطية إلى حياتهما، ففقدا وجودهما مع الله، وارتبك ذهنهما كما ضعفت إرادتهما. صارت لهما أحاسيس غريبة لم يعرفاها من قبل: يعانيان من الآلام والأمراض ويخشيان الموت، كما بدأ يتسلل الغضب تارة والكبرياء تارة أخرى، والأنانية الخ... إلى حياتهما.

دعى آدم زوجته "حواء"، لأنها أم كل حيّ، ولدت ابنًا دعته قايين، قائلة: "اقتنيت رجلاً من عند الرب". ثم ولدت ابنًا آخر دعته هابيل.

كان قايين مزارعًا، يهييء التربة ويزرع المحصولات، ليجد هو وعائلته طعامًا يقتاتون به. أما هابيل فكان راعيًا، يهتم برعاية الغنم على التلال في النهار، ليردها في المساء إلى حظيرتها. وإذ ما وجد حملاً صغيرًا جدًا يحمله على ذارعيه حتى يقوي على المشي.

الله يطلب القلب

ذات يوم جاء قايين ببعض المحاصيل التي زرعها وقدمها لله؛ وجاء أيضًا هابيل بأبكار غنمه وسِمانها. فقبل الله ذبائح هابيل بسرور، لأنه قدمها بكل قلبه المتسع حبًا؛ ولم يقبل الله تقدمة قايين، لأنه قدمها متغصبًا.

يقبل الله عطايانا إن كان قلبنا مملوء حبًا.

إن كان قلب قايين شريرًا اغتاظ، لأن الله فضل عنه هابيل، وسار برأس منكسة ووجه ساقط. حسد قايين أخاه وتمرد على الله.

الله يسعى وراء الخطاة

رأى الله قايين أنه غير سعيد، ففي حب ولطف سأله:

"لماذا اغتظت؟

ولماذا سقط وجهك عندما عرفت أن تقدمتك لم تسرني؟

إن لم تحسن التصرف فالخطية رابضة عند الباب، تشتاق إليك؛ لكن يليق بك أن تسود عليها، وأن تسيطر على غضبك".

فتح الله باب الرجاء أمام قايين لكي يترك الشر الرابض في قلبه، ويسيطر على مشاعره، ممارسًا التوبة.

لقد سمع قايين تحذير الله وتساؤلاته ولم يجب بكلمة.

الله لم يحب هابيل وحده، وإنما كان يحب قايين أيضًا. لهذا حذره؛ لكن قايين لم يصغِ لمشورة الله، إنما صار وراء أحاسيس قلبه الشرير.

قايين الشرير

لم يُصغِ قايين لإنذرات الله، فتحولت أفكاره الشريرة إلى عمل. تظاهر بالصداقة مع أخيه ودعاه ليذهب معه إلى الحقل. وهناك افتعل مشكلة معه، فصار يتحاوران. ازداد قايين غضبًا، وأخيرًا قتل أخاه.

لقد ملك الشر على الإنسان، بدأ أولاً بعصيان الله في الفردوس، ونما في قلب الإنسان وفكره حتى بلغ إلى قتل الأخ. دخل العنف وسفك الدماء إلى أول أسرة نشأت في هذا العالم.

تحولت الحياة البشرية إلى الشر: عصيان وتمرد على الله، عنف ضد الإخوة. لهذا قدم لنا السيد المسيح وصية محبة الله ومحبة القريب بكونهما يحويان تكميل الناموس (متى 22: 37-39). وقد جاء السيد المسيح بنفسه إلى العالم ليعلن حب الله لنا عمليًا. لقد صُلب باسطًا يديه لكي يحتضن بالحب كل إنسان، ولكي نبسط أيدينا نحن لكل أحد ونحب الجميع.

الخطية خاطئة جدًا

إذ قتل قايين أخاه هابيل أعطى ظهره له وأراد أن يهرب... لماذا؟

لم يكن يوجد رجال شرطة يقبضون عليه، ولا قضاة يحكمون عليه، ولا يوجد سجن يُحبس فيه، لكن الخطية تمرر النفس. لم يحتمل أن يرى أخاه القتيل. لقد ارتعد وخاف وأراد الهروب. لقد أدرك أن ما صنعه شر، وعمل مخزي ومخجل، حتى ولو لم يوجد من يعاقبه عليه.

فجأة سمع قايين صوت الله، كما سبق وسمع أبوه آدم ذات الصوت. لكن جاء الحديث في هذه المرة يسأله: "أين هابيل أخوك؟"

ارتعب قايين، وعوض الاعتراف بخطيته حاول إخفاء شرّه بالقول: "لا أعلم أين هو. أحارس أنا لأخي؟"

قال له الله: "قايين، صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض.

الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاهها لتقبل دم أخيك من يدك. فإنها لا تعود تعطيك ثمرها؛ وتكون أنت هاربًا وتائهًا في الأرض".

نخس صوت الله قلب قايين الذي صرخ إلى الله في رعدة:

"كيف يمكنني أن أعيش هاربًا وتائهًا في الأرض بعيدًا عنك؟

وبعيدًا عن أرضي؟

عقوبتي أعظم من أن أحتملها.

اليوم أنت طردتني من الأرض،

وجعلتني أختفي من وجهك.

فأكون هاربًا وجائلاً في الأرض،

وكل من يجدني يقتلني".

إذ اعترف قايين بخطأه أكد له الله أنه سيعاقب بشدة من يؤذيه. ووضع لقايين علامة لكي يطمئن.

عجيب هو الله في عدله كما في رحمته. فقد عاقب قايين لقتله هابيل البريء، عاقب المخطيء الذي سبق أن حذَّره قبل السقوط بطريقة أبوية. والآن حتى بعد أن أوقع عليه العقوبة أظهر له الرحمة.

حياة مؤلمة

كما تغيرت حياة آدم وحواء تغييرًا جذريًا بالعصيان، فاسودت الحياة في عينهما، هكذا بسقوط قايين في الكراهية التي بلغت حتى قتل الأخ زاد سواد العالم في عينيه. صارت الأرض في عينيه قفراء غير مثمرة. وصار المستقبل في عينيه مجهولاً!

كان قايين في حالة بؤس شديد. لقد عرف أنه صنع الخطية، لكنه حسب نفسه عاجزًا عن الخلاص منه. سقط تحت العقوبة التي كانت أعظم من أن يحتملها.

تحرك قايين نحو شرق عدن، إلى أرض نود. هناك تزوج وصار له ابن، دعاه أنوش. تعب قايين جدًا حتى بنى مدينة دعاها على اسم ابنه لكي لا يعيش أولاده تائهين مثله.

صار قايين رئيسًا لشعب جديد، ولم يرجع أحد من نسله إلى أرض أبيه. لقد تزايد نسله جدًا، ودُعوا القاينيين، وسلكوا بعيدًا عن الله. من بين نسله: أنوش وعيراد ومحويائيل ومتوشائيل ولامك.

فاق لامك الكل في شره. كان مقاومًا لله، فكان يقول إنه في غير حاجة لمعونته.

قتل قايين

قيل إن لامك شاخ جدًا وصار ضعيف البصر، وإذ كان حفيده يقوده كان محبًا للصيد أشار له حفيده عن صيد فضرب بالسهم، فإذا به يقتل جده قايين عن غير قصد. صرخ الحفيد معلنًا قتل قايين، فضرب لامك الفتى فقتله. لذلك قال: "قتلت رجلاً (قايين) لجرحي، وفتى لشدخي".

أدرك لامك أنه كقاتل لابد أن يُقتل، لكنه إذ قتل عن غير عمد ينتقم له الرب سبعة وسبعين.

فساد أبناء قايين

لقد عمل نسل قايين كل ما في وسعهم للتمتع بحياة سعيدة مريحة، فبنوا مدنًا، واخترعوا مهارات، لكن غناهم لم يسعدهم، لأنهم اعتزلوا الحياة مع الله.

لم يُسر الله بحياتهم، ولم يجد من بينهم شخصًا واحدًا يأتمنه على الوعد بمجيء المخلص والتمتع بالبركات الإلهية. لهذا أعطى الله حواء ابنًا آخر يعزيها، دعته شيثًا، قائلة: "لأن الله قد وضع له نسلاً عوضًا عن هابيل". فإن كلمة "شيث" معناها "عوض" أو "معَيَّن".

لقد جعل شيث حواء سعيدة لأنه احتل مركز هابيل، الابن الذي فقدته.

منح الله شيثًا بركته، واختاره لكي يقدم للعالم الإيمان بالله والرجاء في المخلص. ففي كل جيل يرسل الله من يعمل ليضم الناس إلى ملكوته.

جاء من نسل شيث الآباء العظماء الذين نسمع عنهم في الكتاب المقدس: نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى... خلال هؤلاء العظماء قاد الله شعبه عبر الأجيال ليتهيأوا لمجيء المخلص. وبهذا استمر الله يعمل لأجل خلاص البشرية من الخطية وتمتعهم بمجده الذي أعده للبشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.