الصفحات

الكنز الملوكي




الكنز الملوكي

الشبان الثمانية

في سنة 250 ميلادية صار داكيوس إمبراطورًا، وكان يكره المسيحيين جدًا، فأصدر أوامره بقتلهم، ومصادرة أموالهم، وهدم كنائسهم.

زار داكيوس مدينة أفسس عاصمة آسيا الصغرى (تركيا)، وفي لقائه مع أشراف المدينة، طلب منهم جميعًا أن يسجدوا للأوثان ويقدموا لها ذبائح. تحدث معهم بكل عنف قائلاً لهم:

"ليسجد كل أحد للوثن ويقدم له ذبائح وإلا يقتل قتلاً. من يعرف أحدًا لا يذبح للوثن ولا يخبرنا عنه يُقتل، حتى وإن قدم هو نفسه ذبائح وتقدمات للوثن".

تحولت المدينة كلها إلى حالة من الرعب، فكان الآباء يسلمون أبناءهم، والإخوة إخوتهم، حتى الوثنيون كانوا في خوف لئلا يُتهموا أنهم لم يبلغوا عن أصدقائهم المسيحيين.

في وسط هذا الجو المتوتر وشَى البعض لدى الإمبراطور بأن ثمانية شبان يعملون في القصر لا يطيعون أمره. تضايق الإمبراطور جدًا، وأصدر أوامره بإحضارهم فورًا.

وقف الشبان الثمانية أمامه، فقال لهم:

"لا أريد أن أسمع كلمة واحدة منكم، عليكم أن تقدموا فورًا ذبائح للوثن!"

رفض الثمانية الطاعة لأوامره.

أمر الإمبراطور الوالي بتجريدهم من رتبهم، وأن تُعطى لهم فرصة للتفكير وإلا قتلوا.

اجتمع الشبان معًا، وصاروا يصلون، وإذ ضاق بهم الأمر جدًا جمعوا أموالهم معًا، ووزعوا غالبيتها على الفقراء، وأبقوا معهم القليل جدًا ليعيشوا به على حد الكفاف حتى يسافر الإمبراطور ويهدأ الحال في أفسس.

انطلقوا إلى الجبال المجاورة خارج المدينة، وصاروا يجولون هناك حتى وجدوا عدة كهوف بعيدة عن الأنظار. قرروا أن يعيشوا في أحدها حتى ينتهي الاضطهاد.

كان أحد الشبان يدعى يمليخا يرتدي ثوبًا باليًا، ينزل من حين إلى آخر إلى المدينة ليشتري ما يحتاجون إليه.

وفي كل مرة ينزل فيها إلى المدينة يعود إليهم حاملاً أخبارًا مؤلمة عما حلّ بها.

سلبوا ما لنا!

انتظر الإمبراطور مجيء الشبان الثمانية في الموعد المحدد فلم يحضروا. استدعى آباءهم وهددهم بعنف:

"لا تظنوا أنكم أشراف المدينة لا تخضعون لأوامري!

لقد أمرت... أن يقدم الكل ذبائح للوثن! أين هم أبناؤكم؟!

إنني لن أرحمكم، سأقتلكم إن لم تجيئوا بهم حالاً!"

أجاب أحدهم في خوف ورعدة:

"سيدي الإمبراطور... نحن عبيدك الطائعون لأوامرك.

نحن أول من قدّم الذبائح للوثن، بل ودفعنا الشعب ليقتدي بنا.

أما أبناؤنا ففاسدون،

لقد سلبونا مالنا ووزعوه على الفقراء.

نحن لا نحتملهم...

نبحث معهم في كل موضع لنتصرف معهم.

كل ما عرفناه أنهم هربوا إلى الجبل واعتكفوا في كهف بعيد. لسنا نعرف إن كانوا أحياء أم أموات.

ليتحقق سيدي بنفسه الأمر ليدرك أننا صادقون وأمناء لك!"

أجاب الإمبراطور:

"أنتم لا تقدرون أن تصلوا إليهم، لكنني أنا أقدر.

سأعرف إن كانوا أحياء أم أموات!

سأتحقق بنفسي من الخبر.

اذهبوا الآن، وأنا أعرف كيف أنتقم من أولادكم".

الكهف المغلق

استدعى الإمبراطور والي المدينة وطلب منه أن يبعث رسلاً في الجبال ليبحثوا عن الكهف، ومتى وجدوه يغلقون عليه بحجارة...

تمم الوالي أمر الإمبراطور، وبالفعل أغلق على الشبان الثمانية، وبقوا في الكهف بلا ماء حتى خاروا وماتوا...

كان في القصر وكيلان للامبراطور مؤمنين، تشاورا معًا، وكتبا قصة هؤلاء الشبان على صحائف وضعت في صندوق نحاسي وضعاه عند مدخل الكهف إكرامًا لهؤلاء الشهداء.

بقى الحال هكذا أكثر من 150 عامًا حتى تولى ثيئودوسيوس الصغير الحكم، وكان مؤمنًا تقيًا يخشى الله...

حُورب الإمبراطور بالشك في إمكانية القيامة من الأموات...

التجأ إلى آباء كثيرين يبرهنون له عن القيامة، وقرأ كتبًا كثيرة لكن الشك لم يفارقه.

كان الإمبراطور يصرخ النهار كله في أعماقه لكي ينزع الله عنه فكر الشك. وبالليل كثيرًا ما كان يلبس المسوح ويجلس أرضًا ويطلب من الله أن يرفع عنه هذه الحرب...

الكنز الملوكي

تطلع الشاب يمليخا إلى المدينة من بعيد ووقف في ذهول يتحدث مع نفسه:

"تُرى هل أنا في حلم أم في حقيقة؟

إنها ليست مدينة أفسس...

لا... لا يمكن أن تكون هي...

ما هذا الصليب المنحوت على بابها؟!

ما هذه المنارات؟..."

دخل الشاب المدينة، وصار يبحث عن مخبز، وهناك إذ قدم قطعة من النقود الفضية أمسك به صاحب المخبز، وصار يقول له: "أخبرني أين هو الكنز الملوكي؟"

وقف الشاب في ذهول، يلتفت حوله يمينًا ويسارًا، لا يعرف ما الذي يجري حوله، فقد جاء جمع كبير يلتفون حوله...

كل واحد منهم يمسك النقود التي قدمها لصاحب المخبز ويقول:

"لا تتركوه... خذوه إلى الوالي... ليخبرنا أين هو الكنز الملوكي؟"

أدرك أحد الحاضرين أن الشاب بسيط، فطبي من الجمهور أن يهدأوا، ثم سأل الشاب:

"قل لنا بالحق ما هو اسمك؟

وما هي عائلتك؟

ومن أي بلد أنت؟"

أجاب الشاب: "أنا يمليخا، من مدينة أفسس، أبي هو أحد الأشراف، وأنا منذ وقت قصير كنت أعمل بالقصر..."

صرخ أحد الحاضرين: "إنه مجنون! ليس لدينا شريف باسم والده...."

وقال آخر: "لنذهب به إلى الوالي!"

وقال ثالث: "لنحتكم لدى أبينا الأسقف!"

أُقتيد الشاب إلى الأب الأسقف، وهناك إذ سأله الأسقف عن قصته قال: "أنا يمليخا العامل بالقصر مع زملائي السبعة، أبناء أشراف المدينة. جاء الإمبراطور داكيوس وطلب منا السجود للأوثان وتقديم ذبائح لها.

وإذ أراد قتلنا وزعنا أموالنا على الفقراء، وهربنا إلى الجبل لنعيش في كهف. أغلق علينا فنمنا، ولما استيقظتُ جئت اشتري خبزًا لإخوتي فأمسكوا بي!"

تطلع الأب الأسقف إلى قطعة الفضة وأدرك إنها بالفعل من عصر داكيوس الذي مضى عليه أكثر من 150 عامًا. قرر أن يذهب مع الشاب ومعهما بعض الأشراف إلى الكهف ليتحققوا الأمر...

خرجوا من المدينة وجاءوا إلى الكهف فوجدوا في الطريق راعي غنم ذهب معهم... هناك وجدوا عند مدخل الكهف الصندوق النحاسي وبه صحائف تحمل سيرة الشبان الشهداء...

قال الراعي: لقد أردت مع إخوتي الرعاة أن نبني حظيرة بجوار الكهف، ونحن نزعنا الحجارة منذ أيام قليلة لنبني الحظيرة ولم نعرف أن الكهف مقبرة الشهداء!...

وقف الكل يسبح الله ويمجدونه.

الله واهب القيامة

سمع الإمبراطور بأمر الشبان الثمانية فأسرع بالحضور، وإذ رآهم سجد أمامهم وعانقهم وبكى ثم وقف يشكر الله القادر أن يقيم الموتى.

تحدث أحدهم معه: "أيها الإمبراطور... لقد سمح الله بإقامتنا لكي يحفظ إيمان الكنيسة، ولا يتشكك أحد في القيامة".

رقد الشبان الثمانية، وبسط الإمبراطور حلته الملوكية عليهم وهو يبكي... ولم يعد يشك بعد في القيامة من الأموات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.