مريم فائقة القداسة
مريم فائقة القداسة
للمتنيح: الأنبا غريغوريوس - أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي
إن العذراء مريم ليست فقط صديقة وقديسة، لكنها فائقة القداسة، وقد وصفها الملاك جبرائيل عندما بشرها بالحبل الإلهي منها أنها (الممتلئة نعمة) (لوقا 1: 28)، ومعني أنها (ممتلئة نعمة) أنها كانت قبل اختيارها لشرف ولادة الله الكلمة منها، نقية وطاهرة وعفيفة ومفعمة بالفضيلة إي درجة الامتلاء الكامل، وهي قامة روحية عظيمة نادرة في فتاة في مثل سن العذراء مريم، ولم تكن قد بلغت الثالثة عشرة من عمرها: (بنات كثيرات عملن فضلا. أما أنت ففقت عليهن جميعا) (أمثال 31: 29).
وإذا كانت تلك هي قامتها الروحية وهي صبية صغيرة، فلابد أن هذه القامة امتدت طولا وعرضا وعمقا بتأملها في سر التجسد، وبملازمتها للمسيح له المجد، وانفعالها المستمر بالمكاشفات الروحية والتجليات العالية التي عاشتها وعايشتها، واستغرقت روحها ونفسها وذهنها وكل كيانها ووجدانها. قال عنها الإنجيل (وأما مريم كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها... وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمر في قلبها) (لوقا 2: 19، 51). إن مريم تحولت بفضل كل هذا الجو الروحاني الذي غمرها، وغرقت هي في أعماقه وغاصت في بحوره، ومتابعتها المستمرة المتأنية لكل كلمة من ابنها وسيدها وربها الذي وقفت وأوقفت كل حياتها علي خدمته، ومتابعتها المستمرة المتأنية لكل تصرفاته وكل تحركاته، وما صاحب حياته من أحداث إلهية مبهرة ومعجزات وآيات وقدرات سحقت روح مريم بمزيد من الاتضاع، والاستغراق الروحاني، حتي صارت تحيا (في الروح) (الرؤيا 1: 10) وكأنها ليست في الجسد، ولعلها من عمق استغراقها في الروحيات لم تكن تدري (هل هي في الجسد أم خارج الجسد) (2 كورنثوس 12: 2، 3).
إن إنسانة روحانية بهذه الدرجة، بدأت خدمتها في سن الصبوة وهي (ممتلئة نعمة) وامتدت بعد ذلك قامتها الروحية طولا وعرضا وعمقا، كيف لا تكون لها عند الله شفاعة ودالة؟ وكيف لا يكون لصلواتها وزن ثقيل؟.
إذا كان الله تعالي يقرر أنه إن وجد في مدينة خمسين أو أربعين أو ثلاثين أو عشرين أو عشرة أبرار، فإنه يصفح عن المكان كله من أجل الأبرار الذين فيه، ويطيل أناته علي الخطاة الذين في المكان ولا يهلكهم من أجل الأبرار الذين في وسطهم (التكوين 18: 23 - 32)، فكيف لا يكون لمريم العذراء وهي (الممتلئة نعمة) والفائقة القداسة، شفاعة ودالة عند الله بحيث أنه بصلواتها وطلباتها يرحم الرب بشرا آخرين تشفع هي فيهم، فتشملهم مراحم الرب ويطيل أناته عليهم؟
الملكة أم الملك
لكن مريم العذراء بفضل روحانيتها وقداستها، قد اصطفاها الرب دون نساء العالمين (لوقا 1: 28، 42) لتكون هي (المختارة) (2 يوحنا 1: 1) التي يحل الله الكلمة فيها، ومن دمها ولحمها تكون الجسد الذي اتحد به اللاهوت، وظهر منها (الله متجسدا) (1 تيموثيئوس 3: 16)، إنه شرف، ياله من شرف، أن تصبح امرأة من جنسنا (سماء ثانية) حل فيها الله جسديا، وأن تصير من ثم (والدة الإله)، (إشعياء 7: 14) وأن يجلس الله الكلمة علي ركبتيها وهو (الجالس فوق الكاروبيم) (1 صموئيل 4: 4)، (2 صموئيل 6: 2)، (مزمور 79 أو 80: 1)... هي إذن الملكة أم الملك (مزمور 44 أو 45: 9). فبهذه المكانة السامية وهذه الصفة والحيثية هي ذات دالة وشفاعة، ولابد أن تكون لصلواتها مكانة أمام الله، مكانة لا تعلوها مكانة لأحد آخر من القديسين والقديسات.
ألم يقل لها الملاك المبشر: (إنك قد نلت نعمة عند الله) (لوقا 1: 30) ولا ينال هذه النعمة والحظوة إلا من أرضي الرب بسيرته العطرة.
مريم مع المسيح في آلامه
علي أن شفاعة مريم وفعاليات صلواتها ودالتها أمام الله ليست فقط من حيث مكانتها باعتبارها الملكة أم الملك، وليست فحسب من أجل روحانية حياتها وقداسة سيرتها وهي (الممتلئة نعمة) والفائقة القداسة ولذلك (نالت نعمة عند الله)، ولكنها بالإضافة إلي هذا وذاك، لأنها تعبت مع المسيح ومن أجله كثيرا... وإذا كان المسيح له المجد يقول عن المرأة الخاطئة التي تابت باكية عند قدميه (إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبت كثيرا)، ولم تكن محبتها مجرد عاطفة روحية جياشة، وليست مجرد تبتل وانقطاع تام وتفرغ كامل للرياضات الروحانية العالية، ولكن مريم قد تعبت من أجل الرب يسوع كثيرا، كما لم يتعب من أجله أحد آخر مثل تعبها، فهي التي حملته جسديا كأم في أحشائها، وأرضعته جسديا، وربته وهو ينمو في جسده نموا تدريجيا إلي قامة الإنسان الكامل (لوقا 2: 52)، واحتملت من أجله التعيير والشكوك في طهارتها، حتي يوسف خطيبها البار شك فيها، ولكنه (إذ كان يوسف رجلها بارا، ولم يشأ أن يشهر أمرها، أراد أن يخلي سبيلها سرا، ولكنه فيما كان يفكر في ذلك، إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف بن داود، لا تخف أن تستبقي امرأتك، لأن الذي سيولد منها إنما هو من روح القدس) (متي 1: 19، 20) ولقد عانت معه في رحلتها الطويلة في كل أرض مصر، من شمالها إلي جنوبها، وهم يطاردونها معه من مكان إلي مكان، وبعد أن عادت إلي أرض فلسطين عاشت معه نفس المصير الذي عاناه من مضايقات اليهود واضطهادهم له (يوحنا 15: 20) ويمكننا أن نتصور معاناة العذراء مريم خصوصا في أسبوع آلام سيدها وابنها، وكيف عاشت معه تلك الأيام القاتمة الحزينة والمحاكمات الدينية والمدنية التي حاكموه بها، والقضاء عليه بالجلد والضرب والصلب، وكيف كانت تراه وتتابعه في مراحل الصلب مرحلة مرحلة، وكيف كان شعورها كأم وهي تراه واقعا تحت حمل الصليب الثقيل ثلاث مرات، وقائد الجند القاسي القلب يلهب بالسياط ظهره المثخن بالجراح يستحثه علي النهوض وهو منهك، والعرق يتصبب من جبينه مختلطا بالدم ثم يمتزج بتراب الأرض، فيصير وجهه ملطخا كله بالطين...
كيف كان شعورها كأم وهي تري الذي هو (أبرع جمالا من بني البشر) (مزمور 44 أو 45: 2) قد صار (لا صورة له ولا جمال) (إشعياء 53: 2)... ثم تراه والمسامير تدق في يديه ورجليه في قسوة بالغة، وتراه وهو علي الصليب يقول (أنا عطشان) (يوحنا 19: 28) فلا يقدمون له ماء وإنما يقدمون له خلا في أسفنجة (يوحنا 19: 29) ثم تري رئيس الجند يطعنه بالحربة في جنبه، فيجري من جنبه دم وماء (يوحنا 19: 34)، وحقا ما قاله سمعان الشيخ عندما رأي المسيح علي يدي العذراء مريم تحمله عند تمام الأربعين يوما من ولادته، متنبئا عن آلامها ومعاناتها مع المسيح ربها، وفاديها وابنها (إن هذا قد جعل لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، وسيكون هدفا للمقاومة، وأنت أيضا سينفذ في نفسك سيف، حتي تنكشف نوايا قلوب كثيرة) (لوقا 2: 34، 35).
وإذا كان الكتاب المقدس يقرر من حيث المبدأ أن الله عادل، وأنه لعدله (يجازي كل إنسان علي حسب أعماله) (متي 16: 27)، (رومية2: 6) وأن (كل واحد ينال أجرته علي مقدار تعبه) (1 كورنثوس 3: 8)، والتعب هو برهان المحبة، (وما من حب أعظم من أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه) (يوحنا 15: 13) فإن العذراء مريم قد أحبت الرب حبا لايدانيه حب، أولا- كقديسة جزيلة القداسة. وثانيا- كأم، وليس كمحبة الأم محبة أخري تدانيها، وثالثا- كإنسانة عاشت مع المسيح وعايشته وارتبط مصيرها بمصيره واحتملت من أجله مالم يحتمله أحد آخر، وعانت من أجله مالم يجرؤ أحد أن يدعيه، فهي معه أكثر من شهيدة، تعذبت معه منذ بدء تجسده، وقبل تجسده، وتعذبت معه آلامه وموته، وبعد قيامته وبعد صعوده إلي السماء، ومازال اليهود إلي اليوم يسبونها ويعادونها وييبغضونها.
هناك آلام ليست نتيجة خطايانا، هذه لو أصابتنا فهي لفائدتنا ولتمحيصنا، ولتظهر فضيلتنا، لأنه كيف تظهر فضيلة الاحتمال مالم يكن هناك ألم وإهانة أو موقف يقتضي أو يستخدم الإنسان أن يوظف هذه الفضيلة، أين تظهر فضيلة الاحتمال وفضيلة الصبر، ويصبر الإنسان ويقبل الأحداث بشكر، متي تظهر هذه الأشياء إن لم يكن هناك مواقف من هذا القبيل. يجب أن نتعلم من العذراء كيف أن هذه الآلام لفائدتنا ولنمونا وأيضا لتزود الأكليل، كل هذا جعل كرامة العذراء أمام الله لها الدالة والشفاعة لأنها من أجله عاشت ومن أجله احتملت.
تلك الاعتبارات الثلاثة، علي الأقل، من أجلها تكون للعذراء عند المسيح الرب شفاعة ودالة فوق كل شفاعة ودالة لأي إنسان آخر... ويكفي العذراء مريم فخرا أن أول معجزة صنعها المسيح له المجد في خدمته الجهرية، كانت استجابة لرغبة العذراء مريم. فعلي الرغم من أنه لم يكن يشاء أن يصنع معجزة في هذا الوقت، لكنه صنع المعجزة الأولي التي افتتح بها خدمته الجهارية من أجل العذراء مريم، فحول الماء إلي خمر، في عرس قانا الجليل (يوحنا2: 1 - 11).
وإذا كان المسيح له المجد لم ينس لمريم أخت لعازر التي سكبت الطيب علي رأسه، ودافع عنها، وقال للمعترضين عليها (إنها قد صنعت بي صنيعا حسنا، لقد فعلت ما في وسعها... الحق أقول لكم إنه حيثما يبشر بهذا الإنجيل في العالم كله يحدث أيضا بما فعلته هذه المرأة، إحياء لذكرها) (مرقس14: 8، 9)، (متي 26: 10-13)، فإنه بالأحري لا ينسي لمريم العذراء أتعابها في سبيله، فقد سكبت علي جسده، ليس طيبا من قارورة، بل لقد سكبت دمها وأعصابها، بل أهلكت حياتها من أجله. فكيف لا يكون لها حسن القبول أمامه؟، وكيف لا تكون لصلواتها الفاعلية العظمي عنده؟.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.