الصفحات

مار إبراهيم القيدوني




مار إبراهيم القيدوني

القمص تادرس يعقوب ملطي

مار إبراهيم القيدوني في حديقة القصر

في منتصف الليلن وسط الهدوء الشديد، كان الرجل ينتظر مجيء زوجته لتنام؛ وإذ تأخرت جدًا، أمسك بسراج منير، وسار في خطوات هادئة يبحث عنها وسط حجرات القصر.

ترك السراج، وفتح باب القصر، وخرج إلى الحديقة، فوجد زوجته تجلس على كرسي، وقد رفعت عينيها إلى السماء، وكأنها كانت تتحدث مع الله في أمر خطير لا تلايد أن تفاتح فيه أحدًا.

أمسك الرجل بكرسي وحمله إلى حيث :انت زوجته جالسة؛ وفي حِنٍوّ مدّ يده ليلاطفها في وجهها، وهو يقول: "فيم تفكرين أيتها الزوجة العزيزة؟".

صمتت السيدة قليلاً، وفي صوت خافت بدأت تتحدث، وكلنت دموعها تجري من عينيها.

- فيمَ تظن إني أفكر إلا في ابني إبراهيم؟

- ألم أقل لكِ مرات عديدة إنه ليس ابننا، بل هو عطية الله؟! لِنصلَّ لأجله، وهو يدبر كل حياته.

- إنني لا أكف عن الصلاة من أجله، ولكن...

- ماذا؟

- إنه ابني البكر، ناجح في دراساته، كثير المواهب، جاد في حياته منذ صباه، هاديء الطبع، حلو اللسان، جذاب لكل من يراه أو يسمعه، لا يحب الضحك والمزاح لكنه دائم البشاشة، قلبه وكل كيانه مملوء فرحًا!

- ثقي في الله الذي وهبنا إياه إنه يدبر حياته.

- إني أثق في الله، ولكن...

- ماذا؟

- ألم تلاحظ تصرفاته اليوم... إنها تقلقني.

لقد زارنا اليوم كاهن مدينتنا-الرُها بسوريا- وهو رجل تقي. لم يتحدث إلا في كلمة الله ومعاملات الله معنا، وروى لنا الكثير من سير القديسين. كنت أشعر أن إبراهيم يُنْصت إليه بكل قلبه، كان كمن في السماء. علامات الفرح تملأ كل ملامح وجهه.

- وماذا يخيفك في هذا؟

- عندما بدأنا العشاء، وكان الأب الكاهن بصوته الهادىء يحدثنا عن خبرات روحية أدركت أن ابني لم يحضر وسط إخوتة وأبناء عمه وأبناء خاله... تسللت في هدوء أبحث عنه. اتجهت إلى حجرته، وسمحت لنفسي أن أنظر من خلف النافذة، وإذا بي أجده راكعًا يصلي.

سمعته يقول:

"أشكرك يا إلهي من أجل كثرة خيراتك.

أشكرك لأجل تقوى والدّي، وحبهما لك، ولخدامك، ولأقربائنا وللفقراء!

أشكرك يا سيدي لأنك تدعوني إلى سمواتك.

إنني لا أريد هذا الغِنَى ولا هذه الولائم، ولو قُدٍمت لي كل مدينة الرُها، بل وكل سوريا، بل وكل العالم".

- أنا أعرف فيمَ تفكرين… أتخافين أن يصير راهبًا؟

- هذا ما أخشاه؟ إنني لا أستطيع أن أعيش بدونه. هو ابننا البكر، أود أن يتزوج فنفرح بحفيد يملأ بيتنا فرحًا!

- صلّيِ ولا تخافي… فإن حياته في يد الله، وهو يختار له الطريق المناسب له.

- لا أقدر أن أتخيل أنه لايتزوج… إنه يحبك ويخشاك، ولم يَعْتِد (يعتاد) أن يرفض لك طلبًا… لتفاتحه في أمر زواجه، ولتضغط معي عليه.

العريس الهارب

ركع الشاب إبراهيم في بيت عرسه، وكانت الدموع تنهمر من عينيه، وبدأ يصلي بصوت هادىء وديع.

"ليس لي عذر أقدمه لك يا رب.

لقد خجلت من والدّي…حاولت أن أقنعهما إني لا أريد الزواج، لكنهما أصرَّا على ذلك.

لقد فرح الوالدان وأقربائي والأصدقاء خلال حفلات عرسي التي استمرت أسبوعًا كاملاً.

الآن أشكرك يا رب لأنك أعطيت في قلب أختي العروس شوقًا نحو اليتولية (عدم الزواج).

عرفني ماذا أفعل؟"

بعد الضلاة، جفف إبراهيم دموعه، وتسلل خارج القصر في وسط ظلام الليل، وسار في الطرق حتى ترك المدينة، وذهب إلى مغارة، وهناك ركع يصلي إلى الله يطلب إرشاده.

مرت الساعات على الوالدين كأنها سنوات طويلة، لم يتركا وسيلة للبحث فيها عن ابنهما العريس الهارب. أما العروس فلم تكن مرتبكة ولم تُظهر عليها علامات الضيق، وكأنها قد اتفقت معه على الهروب.

بعد 17 يومًا اكتشف البعض المغارة، وقد أصِّر إبراهيم ألاَّ يرجع.

جاء إليه الوالدان فوجداه متهللاً، تملأ السعادة كل كيانه. حاولا معه أن يعود إليهما، ووعداه ألاِّ يُلزٍماه أن يعود إلى عروسه، إذ شعرا أن الشوق إلى حياة عدم الزواج كان مشتركًا في حياة العروسين.

أصِّر إبراهيم ألاِّ يعود معهما. بكت الأم كثيرًا، لكنها في داخلها شعرت أن ابنها أسعد إنسان في الوجود، وقد ملأ الرب قلبها بالتعزية.

طلبت الأم من ابنها ألاَّ ينساها في صلواته، وعادت مع رجلها وكانت تفكر أن تبيع الكثير مما تملك وتُسَعِد به الفقراء والمحتاجين.

الأسقف الباكي

بعد صلاة نصف الليل رفع أسقف الرُها عينيه إلى الله، وكانت دموعه تنهمر من عينيه...

صار يصنع (مطانيات) أي يسجد ويقوم مرات كثيرة، وهو يقول:

"أذكر يارب بيت قيدون!"

"ارحم يارب بيت قيدون!"

"أرْسِل لهم مَنْ يهتم بخلاص نفوسهم!".

صمت الأسقف طويلاً وهو واقف للصلاة، وإذا به يتذكر الاسك إبراهيم الذي اجتذب نفوسًا كثيرة للسيد المسيح بحبه الصادق وجديَّته مع بشاشة وجهه الدائمة واهتمامه بخلاص كل نفس. أدرك أنه خير مِنْ يصلح لخدمة بيت قيدون الوثنيين قساة القلب، ولكنه تساءل في نفسه إن كان يقبل سيلمته كاهنًا.

فاتح الأب الأسقف الناسك إبراهيم في أمر سيامته فرفض تمامًا... لكنه أخيراً قَبِلَ السيامة، إذ شعر أن في سيامته لا ينال كرامة بل يتعرض للآلام قد تصل حتى الموت، لأنهم شعب عنيف للغاية.

متاعب الكاهن أفرآم

سيم الناسك إبراهيم على بيت قيدون، ودعى الأب أفرآم...

أظهر لهم كل محبة ورعاية، فكان يخدمهم ليلاً ونهاراً، أما هم فلم يكونوا يطيقونه. هجموا عليه في بيته مرات كثيرة، وكانوا أحيانًا يسحبونه في الشوارع، ويُلْقونه في وسط القاذورات، ظانين أنه قد مات.

بعد ثلاث سنوات شعر بيت قيدون أنهم مخطئون في حق الأب القديس أفرآم، بل وفي حق أنفسهم... جاءوا إلى الأب نادمين، يطلبون منه أن يتحدث معهم... وأخيراً اعتمدوا.

بقى معهم الأب حتى اطمأن على حياتهم... وأخيرًا تركهم الأب وعاد إلى مغارته...

بحث عبه بيت قيدون، وأرسلوا إليه ليرجع إليهم فرفض. صاروا يبكون... لكن ما كان يعزيهم أنهم عرفوا أنه لن ينساهم في صلواته. شعروا أن لهم أبًا يصلي عنهم ويسندهم.

انكسار قلبه

لم يمض وقت طويل حتى سمع الأب الناسك بانتقال أخيه... لم يضطرب لموت أخيه، لكنه شعر بالمسئولية تجاه ابنته الصغيرة الوحيدة واليتيمة أبًا وأمً

في أبوة حانية اهتم الناسك بابنة أخيه التي اشتاقت إلى الحياة اللرهبانية، لتعيش عروسًا للسيد المسيح.

كان الناسك سعيدًا بعمل الله اليومي في حياته وفي حياة الآخرين. لكن جاء إليه إنسان يروي له خبرًا أحزن قلبه. عرف أن شابًا اِلْتقى بمريم –ابنة أخيه- وتظاهر بالتقوى، وصار يخدعها حتى أخطأ معها، فتركت الرهبنة واختفت.

بكى الناسك عند سماعه الخبر، واعتطف في صوم وصلاة مع دموع كثيرة...

بعد أيام قليلة ترك الناسك مغارته متخفيًا حتى لا تتعرف عليه مريم. وإذ اِلْتقى معها أظهر لها كل حب، وطمأنها... فامتلأت رجاءً في المسيح ومخلصها. وصممت أن ترجع إلى حياتها الأولى...

عاد الكاهن الناسك إلى مغارته بقلب شكر لله... كان قلبه متسعًا بالحب لله والناس... تحولت حياته إلى صلاة دائمة لأجل خلاص كل إنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.