قالت العروس للرب، الذي هو الراعي الصالح: " أخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟. فأجابها إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة" (نش1: 7،8).
أين ترعى؟
هنا نجد نفسا تبحث عن الله, وتسأل عن طرقة, وتقول له: " أين أنت يا رب؟" إنني أبحث عنك؟ أين أجدك؟".
العجيب إن هذه النفس التي تبحث عن الله، ليست باستمرار نفسا خاطئة، إنما هي نفس تحب الله وقد دعاها " الجميلة بين النساء". إنها تذكرني بداود النبيالذي قال الرب: " عرفني يا رب طرقك, فهمني سبلك,، أين تربض وقت الظهيرة؟ طلبت وجهك, ولوجهك يا رب ألتمس. لا تحجب عني".. هذا النداء. هو نفس نداء النفس التي في مفترق الطرق. أخبرني يا من تحبة نفسي, أين ترعى؟ أين أجدك؟ هل في البتولية أم في الزواج؟ في العمل أم في التكريس؟ في الخلوة أم في الخدمة؟ في الدير أم في العالم؟ أين تربض.. ؟ أين ألتقي بك. في الصلاة؟ فيالصوم؟ في التداريب الروحية؟ في التناول؟ في الكنيسة؟ أين ترعى.. ؟ وقد تقول هذا الكلام النفس البعيدة عن الله.
إنها تذكرني بأوغسطينوس الذي كان بعيدا لفترة طويلة، ثم أخذ يبحث عن الله، أين يجدة؟ هل بالعقل؟ بالفلسفة بالمنطق؟ أم بالإيمان, بالقلب؟ أين ترعى؟ فأجابه الرب: هناك في داخلك, تجدني. وأعترف أغسطينوس قائلا: نعم لقد كنت معي، ولكني من فرط شقاوتي لم أكن معك.. حقآ هناك أشخاص يسألون أين الرب. وهو معهم.
كان المسيح مع تلميذي عمواس, ولم تكن عيونهما منفتحة لمعرفتة, كذلك ظهرلمريم المجدلية، وهي لا تزال تسأل عنة: أين هو. وقيل عن معاصري السيد وقت ميلادة أن " النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركة".. حقآ, كثيرآ ما تسأل الرب (أين ترعى), ويكون الرب في داخلنا ونحن لا ندري! ما أعجب قول المسيح لفيلبس " أنا معكم زمانا هذه مدتة, ولم تعرفني يافيلبس"؟ وكذلك المولود أعمى قال له السيد " أتؤمن بأبن الله؟ فأجابه " من هو يا سيد؟. كان الرب يكلمه, وقد شفاه, ومع ذلك لم يكن يعرفه, ويسأل أين يرعى؟ (يو9). أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟
لوط لم يقل للرب أين ترعى؟ وإنما إختار لنفسه مكاناً معشباً يعيش فيه, لذلك ضاع منه كل شئ, بعكس إبراهيم الذي ترك للرب أن يختار له، فقال له " أترك أهلك وعشيرتك, وأذهب للأرض التي أريك إياها (تك 12: 1). سأذهب إليه يا رب, مادمت سترعاني هناك. نعم هناك " أباركك وتكون بركة, وبك تتبارك جميع قبائل الأرض" (تك12: 2, 3). حينما تسأل عن الله أين ترعى؟ يقول أحياناً: هناك عند الجلجثة. ويرينا طرقاً ما كنا نظن إطلاقاً إنه سيرعانا فيها..
وكأنه يقول ليوحنا الحبيب: أتسألني أين أرعى.. هناك في المنفى في جزيرةبطمس, سأرعاك, وسأكشف لك باباً مفتوحاً في السماء, وأريك العرش الإلهي والقوات السمائية, وما لابد أن يكون. وكأني بالثلاثة فتية قد سألوه أين ترعى؟ فقال لهم هناك في أتون النار.. وفرحوا بالأتون, وعندما ألقوهم فيه رأوا معهم رابعاً شبيهاُ بأبن الآلهة, يتمشى معهم في الأتون. وشعرة من رؤوسهم لم تحترق, ولا رائحة النار كانت في ثيابهم.. (دا 3). وبنفس الوضع كان جب الأسود بالنسبة إلي دانيال النبى. رعاه الله هناك، وأرسل ملاكة فسد أفواة الأسود. (جا 6). في إحدى المرات أثناء المجاعة, لم يقل إبرام للرب " أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟" بل ذهب من تلقاء نفسه إلي مصر يلتمس المعونة. وهناك أخذواإمرأتة سارة, وكاد يضيع لولا تدخل الرب لإنقاذه.. ونفس الوضع عندما سكن بين قادش وشور وتغرب في جرار (تك 20: 1) دون أن يسأل هل يرعى الرب هناك فكانت النتيجة أنه وقع في تجربة ثقيلة, وأخذواإمرأته سارة. لأن ذلك الموضع لم يكن فيه خوف البتة" (تك 20: 1). هناك عبارة جميلة في سفر النشيد، يقول فيها الرب: " تعال يا حبيبي لنخرج إلي الحقول, ونبيت في القرى".. هناك أريك حبي (نش2: 12). نعم هناك وليس في أي مكان أخر.. إذن يا رب فليكن لي كقولك (اقرأ مقالاً عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).. سأذهب إلي الحقول وإلي القرى وإلي أقاصي الأرض, مادمت هناك ستريني حبك. سأدخل إلي أتون النار, وسأنزل إلي جب الأسود, مادمت أعرف أين ترعى.. سأسير بمبدأ " حيث قادني أسير" سأترك كل شئ من أجلك, وأتبعك حيثما كنت.. مثلما تركت رفقة بلادها وأهلها وذهبت وراء إسحق (تك24: 58), وكما يقولالمزمور للنفس البشرية: أسمعي يا ابنتي، وأصغي, وإنسي شعبك وبيت أبيك, فأن الرب قد أشتهى حسنك, وله تسجدين (مز 45: 10،11). أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى, لأنك في مراع خضر تربضني, وإلي ماء الراحة توردني. ترد نفسي وتهديني إلي طرق البر (مز 23).. لقد التحقت نفسي وراءك فقل أين ترعى, وأنا سأتبعك حتى إن سرتُ في وادي ظل الموت لن أخاف شراً، لأنك ستكون معي, هناك تريني حبك..
أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى أين تربض وقت الظهيرة؟
أين تربض وقت الظهيرة؟
في وقت الظهيرة, حيث يريد كل إنسان أن يستظل, وأنا تحت ظللك أشتهيت أن أجلس, وأخشى من شيطان الظهيرة (مز 91: 6), وأتعب من هذا اللهيب, لأنالشمس قد لوحتني وقت الظهيرة. أحياناً يستغيث الإنسان بهذه العبارة, أين ترعى؟ يقولها في أوقات الفتور والجفاف, وفترات تخلي النعمة الإلهية..
يشعر الإنسان إن نفسه ليست كما كانت قبلاً، لم تعد لهل الحرارة الأولى, ولا الصلة ولا الدالة الأولى, ولا الحب القديم, فتقول نفسه للرب: " لماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك" (نش1: 7)
أين أيام شبابي الروحي, حينما كنت أقول" شمالة تحت رأسي ويمينة تعانقني".. أين الأيام التي كنت أصلي فيها بعمق وكلماتة حلوة في حلقي (نش2: 3), كالعسل والشهد في فمي. أيام كنت أرفع يدي, فتشبع نفسي كما من لحم ودسم (مز63: 4).. أشعر كما لو كنت ضللت الطريق, فاخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض؟..
أريد يا رب أن أرجع إليك, فأخبرني أين ترعى؟
أنا بعيد عنك, ولكني أحبك, بعدت عنك سلوكاً, ولم أبعد عنك قلباً "أنت تعلم يا رب كل شئ, أنت تعلم إني أحبك".. من الجائز أنني تركت نشاطي, وتركت ممارستي, وعباداتي، وخدمتي, ولكني لم أترك محبتك.. ربما تكون صورتي قد تشوهت, ولكن لا تزال تشتاق إلي شبهك ومثالك, أنا أحبك على الرغم من خطيئتي, ليتك تردني إليك, وتخبرني أين ترعى..
ربما تقول هذه العبارة "نفوس في السبي، قد جلست على أنهار بابل، ولكنها تبكي كلما تذكرت صهيون" (مز 137: 1).
لم تعد تستطيع أن تسبح تسبحة الرب في أرض غريبة، قيثارتها على الصفصاف (مز 137: 2, 4). وهي تصرخ من عمق القلب, ومن عمق الرغبة, إستغاثة غريق إلي قارب النجاة, تقول اخبرني يا من تحبه نفسي, أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة..
أريد أن أدخل إلي هيكلك, إلي مذابحك, لكي تنضح عليَ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فابيض أكثر من الثلج.. أين ترعى أيها الراعي الصالح؟ ضللت مثل الخروف الضال, فأطلب عبدك (مز 119: 176).
أسرع وأعني, لأنه على ظهري جلدني الخطاة وأطالوا إثمهم (مز 129: 3).. أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد, والتهبوا كنار في شوك (مز 118: 12).. في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخاً (مز140: 5)..
ولكنني مشتاق إليك, أريد أن أصل إليك, ولا أعرف..
ما أعجب الله ال1ي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع إليه, الذي كل من يقبل إليه، لا يخرجه خارجاً, إنه يقول لهذه النفس الباحثة عنه, على الرغم من إنالشمس قد لوحتها: إن لم تعرفي أيتها الجميلة بيت النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وإرعي جداءك عند مساكن الرعاة.. عجباً يا رب أن تسميها " جميلة " وهي خاطئة! أنا أسميها جميلة, ليس من أجل خطيئتها, وإنما من اجل توبتها.. من أجل سعيها وطلبها, من أجل عبارة أين ترعى؟
أخرجي على أثار الغنم:
غنيمات كثيرة, سرن في طريقي من قبل, ووصلن إليَ, أثار هذه الغنيمات لا تزال ثابتة على الطريق, فتتبعيها (ومن سار على الدرب, وصل).
وما أثار الغنم, سوى سير القديسين.. وقت ترك لنا القديسين نموذجاً في كل مجال لكي نحتذي به. متشبهين بأعمالهم. وقد يجد إنساناً نفسه بلا مرشد في الطريق, والذين بلا مرشد يسقطون كأوراق الشجر.. هذا الإنسان لا ييأس، هناك أثار الغنم إن تعذر وجود الرعاة.. لم يطلب إلينا الرب أن نقبع في مكاننا, وندرس سير القديسين, إنما أن نخرج ونسير متبعين أثارهم. لا تجلسي في مكانك متأملة وتقولي ما أجمل الغنيمات القديسات, وما أحلى طرقها, كلها بر وكمال, وتعب وجهاد.. ! كلا, بل أخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة.. جداءك هي خطاياكِ, إذهبي إلي مساكن الرعاة, تجدي هناك حلاً وحلاً.
أخرجي على أثار الغنم, لا تبتدعي طريقاً جديداً, ولا تنقلي التخم القديمة, وإنما إتبعي ما رسمه الآباء من طرق..
" إن بشرناكم نحن وملاك من السماء, بغير ما بشرناكم به, فليكن أناثيما" (غل1: 8). " إن كان احد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم, فلا تقبلوه في البيت, ولا تقولوا له سلاماً, لأن من يسلم عليه, يشترك في أعماله الشريرة (2يو1: 11).
إذن ماذا نفعل. ؟ " كونوا متمثلين بيَ, كما أنا أيضاً بالمسيح" (1كو11: 1). نعم أيتها الجميلة " أخرجي على أثار الغنم". وإن لم تسيري على أثار الغنم, لا تكوني جميلة بين النساء.
" إن لم تعرفي أيتها الجميلة.. فأخرجي على أثار الغنم". ترينا هذه العبارة, أنة حتى النفس الجميلة, هناك أشياء لا تعرفها, هناك جداء قد اختلطت بغنمها, تحتاج أن تذهب بها إلي مساكن الرعاة. لا تعتمدي على نفسك, فهؤلاء الرعاة قد أقامهم الرب, لأجلك
كتاب تأملات في سفر نشيد الأناشيد - البابا شنودة الثالث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.