البابا أثناسيوس
القمص تادرس يعقوب ملطي
أطفال على الشاطيء
سمع البابا الكسندروس أصوات أطفال كثيرة، فتطلع من النافذة وإذا به يرى صبيًا صغيرًا يقف وأمامه مجموعة من الأطفال، وقد نظروا نحو الغرب. وكان الصبي يقودهم إلى جحد الشيطان، وأياديهم مرفوعة.
سمع البابا صوت الصبي الصغير وأيضًا جماعة الأطفال يرددون الكلمات التالية:
"أجحدك أيها الشيطان،
وكل أعمالك النجسة،
وكل جنودك الشريرة،
وكل شياطينك الرديئة،
وكل قوتك...
أجحدك، أجحدك، أجحدك".
ثم نفخ الصبي في وجه كل طفل ثلاث مرات.
دُهش البابا إذ رأى الصبي الصغير يمارس طقس العماد بكل جدية ودقة.
حوّل الكل وجوههم نحو الشرق، ثم سمعهم يرددون وراء قائدهم "الاعتراف بالإيمان".
"أعترف لك أيها المسيح إلهي...
أؤمن بإله واحد، الله الآب ضابط الكل،
وابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا،
والروح القدس المحيي...."
صار المشهد أكثر جدية حين انطلق القائد الصبي بزملائه نحو البحر، وأمسك بكل طفل ليغطسه ثلاث مرات...
نادى البابا تلميذه، وقال له: "أتعرف هؤلاء الأطفال؟".
- لا يا قداسة البابا.
- ماذا تظن أنهم يفعلون؟
- لم أكن أتابع تصرفاتهم.
- إنهم يقومون بألعاب غير عادية، أرى قائدهم يمثل دور أسقف يقوم بعمادهم بدقة غريبة...
اذهب وتعال بهم إليّ.
ذهب التلميذ إلى الأطفال، فتجمعوا حوله لكونه أباهم الذي يحبهم ويرعاهم، وطلب منهم أن يأتوا معه إلى دار البطريركية المطلة على الشاطيء.
ذهبوا معه فوجدوا البابا يستقبلهم بحنو ويهتم بهم.
وبعد قليل إذ جلسوا حوله، سألهم البابا: "ماذا كنتم تفعلون؟".
ارتبكوا جميعًا وخشوا أن يكون البابا قد غضب بسبب لعبهم على الشاطيء، لكن سرعان ما اكتشفوا على ملامحه ابتسامة لطيفة وحنوًا فائقًا. فتقدم الصبي الصغير وقال له: "كنا نلعب لعبة دينية، فقد اختاروني أسقفًا وقمت بتعميدهم في البحر". وبدأ الصبي يروي للبابا كيف أنه معجب بعمل الله، وأنه يحب الكنيسة جدًا، يشعر بسعادة فائقة حين يدخلها، وأنه يشتاق أن يعمد كل طفل وصبي.
احتضنه البابا وقبَّله هو وزملاءه وأبدى اهتمامًا بهم جميعًا. أخيرًا سأل الصبي:
- ما اسمك؟
- أثناسيوس.
- وما هو عمرك؟
- ثمان سنوات.
- اذهب إلى بيتك وأخبر والديك إنني أريد أن أراهم.
انصرف الأطفال، وكانوا ينعمون بالفرح، ويشعرون بقوة الروح تملأ حياتهم.
بعد ساعات قليلة عاد الصبي أثناسيوس ومعه والده. روى لهم البابا ما قد رآه، وكشف لهم كيف امتلأ قلبه فرحًا بغيرة ابنهم الصغير واشتياقاته وروحانيته مع دقته في إتمام طقس العماد.
في دار البطريركية
أحب أثناسيوس البابا الكسندروس، وتتلمذ على يديه.
التحق بمدرسة البطريركية فتفوّق في دراسة الكتاب المقدس وعلوم الكنيسة ونبغ في اللغة اليونانية والعلوم الأخرى.
سامه البابا شماسًا، وجعله سكرتيره الخاص، وإذ نجح في خدمته وأحبه الشعب جدًا سامه رئيس شمامسة.
اهتم بكلمة الله، بالوعظ والكتابة. فكتب وهو شاب دفاعًا عن لاهوت السيد المسيح باسم: "تجسد الكلمة" كما كتب إلى الوثنيين يدعوهم إلى الإيمان المسيحي.
وفي إحدى الأمسيات دخل رئيس الشمامسة على البابا فوجد على ملامحه علامات الحزن...
سأله أثناسيوس: "لماذا أنت حزين يا أبي على غير عادتك؟".
أجابه البابا: "لقد التقيت بالكاهن أريوس، بعد أن ألقى عظته التي أحسست فيها أنه ينكر أن السيد المسيح هو كلمة الله المساوي للآب والواحد معه في الجوهر".
وإذ بدأت معه الحوار في هدوء، قال لي:
"إن كان الآب قد ولد الابن،
فإنه كان وقت فيه الآب موجود دون الابن، وأن للابن بداية،
وهو غير مساوٍ للآب !".
هزّ أثناسيوس رأسه في حزن وهو يقول:
"مسكين آريوس،
لقد ظن ولادة الابن من الآب كولادتنا نحن من أمهاتنا. فالأب والأم يسبقاننا.
لقد ظنها ولادة جسدية! ياللحماقة!
عندما يلد النور بهاءً، فهل بهاء النور أقل من النور؟
هل يوجد النور قبل بهائه؟!
هل يمكن فصل النور عن بهائه؟!"
صمت رئيس الشمامسة قليلاًً، ثم قال:
"أليس لأريوس نفس وهي موجودة حقيقة، وتلد عقلاً؟! هل وُجدت نفسه يومًا بدون عقل؟!
وهل النفس أعظم من العقل وأسبق منه؟!".
ألا يرى قرص الشمس كيف يلد أشعة؟ فهل وُجد القرص يومًا بدون الأشعة؟
ليمسك شمعة منيرة وينير منها شمعة، فهل النور المولود من النور أقل من النور الأول؟!
مخلصنا هو ابن الله، النور المولود من النور، الإله الحق من الإله الحق!".
توقف رئيس الشمامسة عن الكلام قليلاً ليكمل حديثه مع البابا:
"آريوس متعلم، لكن كبرياء قلبه أخفى عنه حقائق الكتاب المقدس.
ألم يسمع إشعياء النبي الذي سبق ميلاد السيد المسيح بأكثر من 700 سنة ماذا يقول عن ابن الله؟
"لأنه يولد لنا ولد، وتُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام" إش 9: 6.
ألم يقرأ ما كتبه عنه داود النبي قبل مجيئه بأكثر من ألف سنة "قال الرب لربي" مز 110: 1 ؟!
ثم إن كان كلمة الله ليس مساويًا للآب، فكيف يتمم خلاصنا؟ كيف يقدم دمه ثمنًا عن خطايانا؟! ألا نحتاج إلى الخالق نفسه كي يفدينا ويجدد طبيعتنا الي أفسدتها الخطية؟
ألم يسمع أن المسيح سيأتي على السحاب يدين العالم كله؟ فهل الديان أقل من الآب أم هو واحد معه؟...".
تحولت جلسات البابا مع رئيس الشمامسة إلى أحاديث لاهوتية حية، تنبع عن الكتاب المقدس، وتمس تمتعنا بالشركة مع الله والتمتع بالمجد الأبدي.
في المجمع المسكوني الأول
بسبب نشاط أريوس وأتباعه الذين ينكرون أن السيد المسيح هو كلمة الله المساوي للآب حدثت متاعب كثيرة في الشرق. وخشى الإمبراطور قسطنطين من حدوث انقسام لا في الكنيسة فقط بل وفي المملكة، لهذا طلب عقد أول مجمع مسكوني بعد الرسل.
كان للإسكندرية مركز القيادة من جانب التعليم، وقد أخذ بابا الاسكندرية معه رئيس الشمامسة الشاب أثناسيوس.
اجتمع 318 أسقفًا أكثرهم شيوخ، ومعهم الإمبراطور الذي حضر الافتتاح ثم تركهم...
بدأ الحوار فوقف الشاب أثناسيوس يتكلم. وكان الجميع مندهشين، كيف يقدم البابا الشيخ شابًا ليتكلم...
ما أن فتح الشاب فمه حتى حدث صمت رهيب، وانسحبت القلوب والأفكار إليه. فقد شعر الكل بقوة الروح القدس العامل فيه... كان حديثه ممتعًا، فيه قوة الإقناع مع عذوبة الروح.
تلألأ نجم الشماس الشاب بسبب غنى معرفته للكتاب المقدس، وقوة حجته في الدفاع، وعذوبة أسلوبه، مع روحانيته العجيبة. كان يتحدث بقوة كأسد يزأر، وبوداعة كحمامة هادئة!
انتهى المجمع وكل أنظار العالم المسيحي في الشرق والغرب تتطلع نحو هذا الشاب... ماذا يكون؟!
لقد كسب بعضًا من الأريوسيين الذين كانوا يطلبون الحق لكن أريوس خدعهم، أما أريوس ومن أصروا على الخطأ فكانوا يشعرون أن عدوهم اللدود هو أثناسيوس! لقد وضعوا في قلوبهم أن يتخلصوا منه مهما يكن الثمن!
البابا الجديد
عاد البابا الكسندروس إلى الاسكندرية، وبعد أيام ثقل عليه المرض جدًا، فاجتمع حوله الأساقفة والكهنة والشمامسة والرهبان وأراخنة الشعب...
في صوت هاديء قال البابا:
"الآن أنا راحل بقلب متهلل فرحًا،
إني أشعر بطمأنينة من جهة كنيسة المسيح،
فقد أرسل إليها أثناسيوس الشاب ليعمل به مقاومًا آريوس العنيد.
إنه هو باباكم... اسمعوا له واسندوه في جهاده. الله يعينه ويتمم إرادته به".
أسلم البابا روحه وهو مطمئن البال... وبعد أيام انعقد مجمع مقدس، ووافق الكل على ترشيح أثناسيوس بطريركًا، وأجمع الشعب على انتخابه.
سمع الشماس أثناسيوس بذلك وحاول الهروب لكن الجميع أرغموه أن يقبل، قائلين له: "نحن نعلم أنك تهرب من الكرامة، لكن الضرورة تلزمك، فالطريق شاق، ومقاومة أتباع أريوس ومليتوس ليست بالأمر الهين"
دوى الخبر في العالم كله، فتهللت الكنيسة كلها، واغتم الأريوسيون جدًا.
قال القديس غريغوريوس اللاهوتي: "إن رأس كنيسة الاسكندرية هو رأس العالم".
طريق الآلام
عرف الاريوسيون كيف يلتقون بالامبراطور قسطنطين ويهيجونه ضد البابا أثناسيوس صوّروا له البابا كقائد له شعبيته ليس في مصر وحدها، بل وعلى المستوى العالمي، مما يمثل خطورة على الإمبراطور نفسه. مرة أخرى اتهموه أنه يمنع إرسال القمح من الاسكندرية إلى القسطنطينية عاصمة الامبراطورية...
كرس الأريوسيون كل طاقاتهم لتحطيم البابا أثناسيوس، فنُفى عن كرسيه خمس مرات، تارة في تريف بأوربا حيث استقبله أسقفها كبطلٍ، وأخرى اضطر إلى الهروب إلى مقبرة أبيه، وثالثة إلى أحد البيوت، ورابعة إلى الأديرة...
عقدت مجامع ضده... وكانوا يكيلون له اتهامات كثيرة.
وفي وسط كل هذه المتاعب لم يفقد البابا أثناسيوس سلامه. كان يشعر أن ما يعمله إنما هو عمل المسيح، لهذا فالعمل ينجح حتمًا!
محبته للرهبان
مع الأنبا أنطونيوس
في دار البطريركية كان القديس أثناسيوس منكبًا منذ صباه على دراسة الكتاب المقدس؛ فأحب حياة الهدوء والتأمل جنبًا إلى جنب مع حبه لخلاص كل نفس بشرية، ومع غيرة متقدة على الإيمان الإنجيلي الكنسي.
كان الأنبا أنطونيوس أب الأسرة الرهبانية مثله الأعلى في حياة الهدوء، فكان يزوره ويتتلمذ على يديه. وفي نفس الوقت أحب أنبا أنطونيوس القديس أثناسيوس. عندما كرس الأريوسيون كل طاقاتهم لتحطيم الإيمان بالمسيح الله الكلمة، وضعوا أغاني شعبية بنغم عذب، يتغنى بها الناس في الأسواق العامة.
لم يترك الأنبا أنطونيوس البابا وحده.
فجأة نزل أنبا أنطونيوس إلى الإسكندرية، ودوى خبر نزوله في كل المدينة، وتسابق الوثنيون مع المسيحيين إلى الالتقاء به. وكان الكل يدعونه "رجل الله". وعاد كثير ممن التصقوا بالأريوسيين إلى الكنيسة عندما التقوا بهذا الأب الناسك المحب.
بين الرهبان
كثيرًا ما اضطر البابا أن يهرب من الإسكندرية، فيلجأ إلى الأديرة، ليعيش فيها لا كضيف بل كمن في بيته. كان يعيش كراهب بسيط يحب الحياة الهادئة، دون أن ينسى شعبه في صلواته، كما كان يبعث إليهم بالرسائل.
كان يشجع الرهبان على الجهاد في الصلوات كسند لهم في حياتهم الروحية، وكقوة تسنده هو في حفظ الايمان، وكمصدر بركة لشعب الله الذي يضطهده الأريوسيون.
في روما
في زيارته إلى روما صحبه القديس أمونيوس تلميذ القديس أنطونيوس.
خرج لاستقباله أسقف روما والكهنة والشمامسة وبعض الشعب في محبة شديدة وشوق، فقد اشتهى الكثيرون أن يروا القديس أثناسيوس حامي الإيمان في العالم كله.
لاحظ البعض ما اتسم به الراهب المصري أمونيوس من نسك شديد مع وقار وبشاشة وجه، فأحبوه جدًا. كالعادة طلب منه البعض في كرم ضيافتهم أن يشاهد عجائب روما، أما هو ففي هدوء كان يتسلل كل يوم إلى قبري الرسولين العظيمين بطرس وبولس، يلقي بنفسه أمامهما ليصلي إلى الله ساعات طويلة بحرارة شديدة عجيبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.