سفينتان في النهر
القمص تادرس يعقوب ملطي
شريف في البرية
بدأ الشريف يفكر في نفسه قائلاًً:
"إنني أسمع عن رهبان مصر، خاصة في منطقة الإسقيط بوادي النطرون إنهم يعيشون في قلالي بسيطة بلا أثاث، يسهرون الليالي في الصلوات، زاهدين في أكلهم وملبسهم.
هل يمكن لذاك الذي عاش في قصر الإمبراطور، ويشتاق كل رجال الإمبراطور أن يخدموه، أن يعيش في الصحراء الجرداء على الكفاف؟
هل يمكن لذاك الذي يشتهي الأمراء أن يجلسوا معه ويستشيروه في أمور المملكة وفي حياتهم الخاصة أن يعيش بين رهبان بسطاء؟"
أسئلة كثيرة دارت في ذهن الشريف، فقرر أن يذهب إلى الإسقيط ليرى بنفسه الأنبا أرسانيوس ويتعرف على سرّ خروجه من القسطنطينية إلى صحراء مصر.
التقى الشريف برئيس الدير الذي استقبله ببشاشة وترحاب.
غسل أحد الإخوة قدميْ الضيف كما كانت العادة في الأديرة إلى وقت قريب، ثم أُعدت المائدة لكي يأكل، لكنه رفض قائلاً لرئيس الدير:
"إنني لن أمد يدي إلى طعام حتى أرى أرسانيوس معلم هونوريوس وأركاديوس، ابنيْ الملك ثيؤدوسيوس".
أصر الضيف على طلبه، فأجابه رئيس الدير أنه سيحققه له.
قال له رئيس الدير:
"سأرسل معك راهبًا لتلتقي بالراهب أرسانيوس.
لكني أود أن أوضح لك أمرًا. الراهب أرسانيوس الذي علّم هونوريوس وأركاديوس، ابنيّ الإمبراطور، رقيق الطبع جدًا، محب للصلاة، يعشق الهدوء...
إنه إنسان محب للجميع. نجح في خدمته للإمبراطور، وقد جذب الكثيرين إليه بلطفه. لكنه كان يشتاق أن يضي بقية حياته في الشركة الخفية مع الله. بعد أن علم ابنيّ الإمبراطور وهذبهما شعر بالحاجة إلى الخلوة مع الله. طلب من الرب فأرشده إلى البرية، ليعيش في صمت وسكون. لهذا فهو يود الهدوء الكامل حتى لا يشغله أحد عن مناجاته مع الله مخلصه". سمع الضيف الكثير عن أنبا أرسانيوس فاشتاق بالأكثر إلى اللقاء معه، غير أن رئيس الدير أكد له أنه لا يهوه الحديث مع الناس، ليس لأنه لا يطيقهم، وإنما لأنه يخشى أن تتحول قلايته إلى مزار يأتي إليه الكثيرون من الشرق والغرب ليروا الفيلسوف معلم الملوك الذي صار راهبًا.
جو من الصمت الرهيب
التقى الضيف بالقديس أرسانيوس الذي حيَّاه في هدوء وصمت. لم يعط القديس أرسانيوس اهتمامًا للضيف بل صار يضفر خوصًا وهو يردد اسم ربنا يسوع في أعماقه.
ترقب الضيف أن يبدأ القديس معه لكن أمرًا كهذا لم يحدث. طال الوقت، فخجل الضيف من نفسه وشعر أنه قد أقحم نفسه بزيارته قلاية أنبا أرسانيوس.
استأذن الضيف وخرج دون أن ينطق القديس بكلمة.
روى الراهب لرئيس الدير ما حدث، فشعر بشيء من الحرج. ولكي يعالج الأمر طلب منه أن يأخذه إلى القديس أنبا موسى الأسود.
استقبلهما القديس أنبا موسى بحفاوة عظيمة، وجلس مع الضيف يروي له عن معاملات الله معه ومع من حوله... وكان يشرح له الكثير من عبارات الكتاب المقدس، وكان الضيف متهللاً جدًا.
حيرة!
إذ خرج الاثنان من قلاية القديس أنبا موسى صار الراهب المرافق له في حيرة: تُرى أيهما أصح: أنبا أرسانيوس الصامت أم أنبا موسى المتحدث بعجائب الله؟
في الطريق سأل الراهب الضيف: "تُرى من هو الأفضل: الرومي (أنبا أرسانيوس) أم المصري (أنبا موسى)؟"
أجابه الضيف: "حتمًا المصري... لقد استفدت منه كثيرًا!"
صمت الراهب، وازدادت حيرته جدًا: تُرى من هو الأفضل؟ وأي الطريقين هو الأصح؟
إذ عاد الراهب إلى قلايته أغلق الباب وصار يصرخ أمام الله طالبًا أن يرشده إلى معرفة الطريق الأفضل.
بعد صلوات طويلة بدموع رأى الراهب وهو نائم كأنه واقف على شاطيء النهر.
رأى من بعيد سفينتين عظيمتين تسيران... اقتربت الأولى نحوه، فسأل الراهب شخصًا كان يقف بجواره: "ما هذا؟" أجابه الشخص: "اصمت! فإن أنبا أرسانيوس مع الله، يعيش في هدوء وصمت لا يريد أن يسمع صوتًا!"
بعد قليل اقتربت السفينة الأخرى حيث سمع أصوات ترنيم وتسبيح وإذ سأل نفس الشخص عن المنظر أجابه: "إنه أنبا موسى يتحدث مع الناس عن الله إنه مع ملائكة الله يأكلون كعك عسل!"
قام الراهب من نومه وصار يشكر الله قائلاً:
" أشكرك يا رب لأنك أعطيت لكل إنسان موهبة خاصة به.
أنبا أرسانيوس، من أجلك لا يتكلم مع أحد لكي يتكلم معك وحدك.
وأنبا موسى، من أجلك أيضًا يود أن يتكلم مع كل أحد لكي يجتذبه إليك.
وأنت بحبك تمجد هذا وذاك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.