‏إظهار الرسائل ذات التسميات اللاهــوتيـــات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اللاهــوتيـــات. إظهار كافة الرسائل

الشفيعة المؤتمنة

سلام الرب لكم :

الشفيعة المؤتمنة
نيافة الأنبا رافائيل

"طوبى للبطن الذى حملك والثديين اللذين رضعتهما... بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 27:11،28).

"طوبى التى آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 45:1).

طوبى لمريم العظيمة التى "كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها" (لو 19:2).

طوبى لمن تكلمت بالروح القدس معلنة "فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى" (لو 48:1).

نطوبك يا ذات كل التطويب لأنك بالحقيقة ارتفعت على كل السمائيين وصرت سماء ثانية تحمل القدوس كالشاروبيم وأبهى.

يا للعجب.. الأم الأعجوبة.. الأم والعذراء.. الأم والأمة.. الملكة العبدة كيف لعقلى الصغير أن يستوعب هذه الأعجوبة.

فتاة صغيرة يهودية تحمل فى حضنها (يهوه).. إخبرنى يا أمى كيف استوعب الخبر.. وكيف احتملت الخبرة.. من تخافه الملائكة وترتعب أمامه القوات.. من يقف الكهنة أمامه بكل احتشام ويتطهرون عندما يكتبون اسمه.. كيف حملتيه أنت فى بطنك وحضنك وكف رضع من لبن ثدييك.

أخبرينى يا عروس المسيح الباهرة كيف كان (يحبو) يسوع.. ومتى تكلم.. وكيف نطق الحروف الأولى.. أخبرينى عن أسرار الملك إذا أنه (شابهنا فى كل شئ) وكان مثلنا "يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 52:2) ولكنه كان "ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو 40:2).

أحكى يا أم النور عن النور والهاء الذى كان يحيط بطفلك العجيب.. وخبرينا عن المجد والوقار والرزانة والنعمة المنبعثة من شخصه القدوس طوباك يا مريم لأنك عاينت ما لم تره عين.. وخبرت ما لم يختبره إنسان وصدقت
ما يفوق العقل.. وعقلت ما يصيب بالذهول.

إننى أقف من بعيد يحجبنى الزمان السحيق والمكان البعيد... أقف مذهولاً من الأمر نفسه الذى استوعبته أنت وعشته.

قلبى ولسانى وعقلى وحواسى يتيهون.. وقلمى يسبق الكلمات.. ومشاعرى مختلطة ولا أستطيع الكلام أن أرتب العبارات.. لأننى مأخوذ ومشدود بسبب بهائك الكامل يا أم كل طهر واصل البتولية.
العذراء عروس الله.

"هاأنت جميلة يا حبيبتى. ها أنت جميلة عيناك حمامتان" (نش 15:1)، "كلك جميل ياحبيبتى ليس فيك عيبة" (نش 7:4)، "قد سبيت قلبى ياأختى العروس.. قد سبيت قلبى ما أحسن حبك ياأختى العروس.. شفتاك يا عروس تقطران شهداً، تحت لشانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان، أختى العروس جنة مغلقة عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 9:4-12).

لم تكن العذراء فقط أم الله "طوبى البطن الذى حملك والثديين اللذين رضعتهما" (لو 27:11)، بل هى أيضاً عروس الله وصديقته التى كانت "تحفظ كلامه فى قلبها" (لو 51:2)، لذلك فقد نالت الطوبتين "إن القديسة مريم استحقت التطويب من اجل إيمانها بالمسيح أكثر من ونها حبلت به، إن صلة أمومتها بالمسيح لم تعطها أى ميزة.. الميزة الحقيقية التى للقديسة مريم، هى فى كونها حملت المسيح فى قلبها ولى فى بطنها" أغسطينوس.

لقد خضعت العذراء فى حى وفرح "هأنذا أمة الرب ليكن لى كقولك" (لو 38:1). واحتملت سيوفاً كثيرة "وأنت يجوز فى نفسك سيف لتعلن أفكا من قلوب كثيرين" (لو 35:2).

ولكنها فى هذه لكها كانت أنموذجاً رائعاً للاحتمال والهدوء والوداعة.. صم صاغت هبرتها هذه فى عبارة نصيحة لكل الأجيال "مهما قال لكم فافعلوه" (يو 5:2).

نعم يا أمى الطاهرة سأطيع أبنك واخضع لتدبيره.. هوذا أنا عبد للرب ليكن لى كقولك وكتدبيرك لحياتى وكخطتك لى قبل أن أولد وليتمجد اسمك القدوس فى وفى كنيستك.

وأنت يا أمى المحبوبة..

أتوسل إليك يا حبيبتى العروس.. اسنيدينى بعطفك لكى أتمم مشيئة ابنك فى.. ولكى اخضع لصوته الإلهى. دون تردد أو تذمر أو إحجام.

وأتمم عمله فى دون عائق أو مانع.. مجداً وإكراماً للثالوث القدوس وسلاماً وبنياناً لكنيسة الله. العذراء صديقة الإنسان.

لقد فشلت حواء أن تكون "أم كل حى" (تك 20:3) لأنها جلبت علينا حكم موت فصار كل مولود منها ومن نسلها ابناً للموت ووقوداً للهلاك، ولن مريم العذراء صارت وسيلة وسلماً ينزل عليه الله الحى.. لكى يحيى جنس البشر.. يحينا عندما نتحد به فى تجسده بواسطة المعمودية والافخارستيا فنصير أيضاً أعضاء فيه.. ونصير أيضاً أبناء لمريم بسببه.. وهكذا تصير العذراء مريم (أم جميع الأحياء) وتصير بالحق (حواء الثانية) ورفعت من شأن جنسنا (أنت بالحقيقة فخر جنسنا) وصارت لنا شفيعة ترفع احتياجاتنا لابنها الحبيب، "ليس لهم خمر" (يو 3:2) وتتوسط لديه لغفران خطايانا ولكى يسندنا فى جهادنا وتوبتنا وفى خدمتنا ونمونا.

إن العذراء عندما رفعت احتياج الناس لابنها (ليس لهم خمر) لم تكن تلفت نظره إلى حدث فاته ولم تكن تحاول الحصول على موافقة صعبة ولكن وساطتها تكون بسبب اتحاد قلبها الرقيق برحمة ابنها وشفقته وموقفها النبيل يعبر عن محبة ابنها وحنانه غير المحدودين إنها وهى الأم التى تعرف قلب الابن تفجر فيه ينابيع الحب تجاه البشر وتشفع فينا لتستجلب مراحم الله الصادقة ولكنها أيضاً فيما تشفع فينا توجهنا أن نطيعه "مهما قال فافعلوه" (يو 2:5). فرسالة العذراء لنا أن نطيع ونخضع وننفذ مشيئة الله فيا ونحن دائماً الرابحين لأن إرادة الله لحياتنا هى دائماً للخير والبنيان.

"ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو28:8).
فطوبى للنفس التى تخضع للمسيح، ستستفيد بشفاعة العذراء. وطوبى للقلب الذى يعشق المسيح، ستكون العذراء سنده. وطوبى لمن جعل المسيح منتهى أمله، ستحضر العذراء إليه عند انفصال نفسه من جسده.

لقد صارت العذراء أماً لكل البشرية عندما قرر المسيح على الصليب مخاطباً إياها بخصوص يوحنا الحبيب "يا امرأة هوذا ابنك" (يو 26:19) وليوحنا "هوذا أمك" (يو 27:19) لم يكن يوحنا هنا إلا نموذجاً للبشرية المخلصة المحبوبة والتى ترافق السيد حتى فى آلامه.. إن كل نفس تشارك المسيح صليبه وترافقه فى آلامه تنصير ابناً للعذراء إن مكان لقاء العذراء مع يوحنا وارتباطها برباط الأمومة والبنوة كان أمام الصليب يا سيدى هبنى صليباً يجعلنى ابناً لأمك.. إن كل آلام الصليب تهون واستخفت بها... فى مقابل أن أكون ابناً لأمك البتول آخذها إلى خاصتى (يو 27:19) وتصير معى فى مسكنى تشاطرنى الأكل والصلاة... النوم والسهر الخدمة والخلوة... كأم معينة ومنقذة فى الشدائد.

العذراء نموذج للكنيسة :

"هؤلاء كلهم (الكنيسة) كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء ومريم أم يسوع ومع اخوته" (أع 14:1) إن العذراء مريم هى عضو أساسى ومشارك مع الكنيسة حتى اليوم فى الصلاة والطلبة وإقتبال الروح القدس ولكن عضوية أم النور عضوية متميزة فهى نموذج ومثال رائع لما ينبغى أن تكون عليه النفس البشرية التى هى اللبنة الصغيرة فى بناء الكنيسة الكبير.

1- فكما أن العذراء ولدت المسيح الذى هو رأس الكنيسة فإن الكنيسة فى كل يوم تلد أعضاء جدداً للمسيح فى الجسد بالمعمودية "أما أورشليم العليا فهى حرة وهى أمنا جميعاً فهى حرة" (غل4:26).

2- وكما أن ولادة العذراء للمسيح كانت بالبتولية بسبب اتحادها بالروح القس فكذلك تلدنا الكنيسة بفعل الروح القدس بالأسرار.

3- وكما أن العذراء بقيت عذراء بعد الولادة كذلك الكنيسة تحفظ عذراوية كيانها المقدس بالرغم من وجودها فى العالم بكل أغراء أته فالكنيسة للعالم هى نور وملح ولكنه نور لا ينبغى أن ينطفئ وملح لا يجب أن يفسد.

4- والعذراء وقد صارت أماً لله نظرت إلى نفسها كأمة متواضعة وكذلك الكنيسة تسلك بروح الوداعة والاتضاع والمسكنة بالروح والأسرار التى كثرة المواهب والأسرار التى تمتلكها بقوة وفعل الروح القدس.

5- والعذراء فى هدوء "آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (يو 45:1) وسلمت أمرها للرب "ليكن لى كقولك" (لو 38:1) وكذلك تمسكت وحافظت بالإيمان السليم وحافظت عليه وحياتها فى قلبها وطقسها وحياتها مسلة كل المشيئة لله الذى يقود ويدبر الكنيسة بحكمته وعين رعايته الساهرة.

6- والعذراء مريم جاز فى نفسها سيف الألم عندما شك يوسف فيها.. وعندما ظن اليهود فيها ظنوناً. وبالأكثر عندما رأت أبنها الحبيب الحنون معلقاً على الصليب "العالم يفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائى فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك، الذى أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابنى وإلهى" (الأجبية). وكذلك الكنيسة عاشت وتعيش مضطهدة ومتألمة ومرفوضة من العالم ، كحملان وسط ذئاب (لو 3:10) ولكما ازداد الألم والضغط على الكنيسة كلما نمت وتمجدت لأن الآلام دائماً معبرنا للمجد ولأن رئيس خلاصنا ورأس جسدنا هو المسيح المصلوب.

7- والعذراء خدمت البشرية واجتذبتها للخلاص بهدوئها وصمتها، "لأنك قدمت لله ابنك شعباً كثيراً من قبل طهارتك" (التسبحة اليومية).

وكذلك الكنيسة تعمل فى البشرية كمثل الخميرة التى يسرى مفعولها فى هدوء لتخمر العجين كله. فليست الخدمة الفعالة هى ذات الرنين العالى والشهوة الواسعة والدعاية الجوفاء.. ولكن الخدمة الفعالة هى خدمة العمق والهدوء والرزانة تلك التى خدم بها انطونيوس وأبو مقار وغيرهم فربحوا نفوساً كثيرة للملكوت وكان النموذج الرائع لهذه الخدمة الأم العذراء بطهارتها وعمقيها وزانتها المؤثرة.

إن مجرد ذكر اسم العذراء يبعث النفس على الخشوع والصلاة ويملأ القلب بهجة ووقار ويشيع فى الجسد قداسة ونقاء.. إنها كأم تجمعنا حولها.. وتقدمنا لابنها.. فلنهتف إذاً مع اليصابات "مباركة أنت فى النساء" (لو 42:1).

الله و وحدانيته

الفصل الأول

الأدلة على وحدانية الله


الترتيب الطبيعي لبحثنا هذا يلزمنا بالتحدث عن وحدانية الله قبل التحدث عن صفاته، ولكن استصوبنا أن نرجئ البحث في وحدانيته إلى هذا الباب، لاتصالها بموضوعات الأبواب التالية له إتصالاً وثيقاً وطبعاً ليس هناك اعتراض على أن اسم الله بأل التعريف يدل على أنه تعالى لا شريك له ولا نظير ولكن خشية أن يظن أحد أن هناك أكثر من إله واحد للعالم رأينا من الواجب أن نتحدث فيما يلي عن الأدلة التي تثبت وحدانية الله، وتفرده بالأزلية

1 - الأدلة العقلية

" أ " الكثرةلا توجد في الكائنات إلا حيث يوجد الضعف والانقراض فيها، ليحل واحد من أفرادها عوضاً عن المنقرِض، حفظاً لكيانها وبما أن الله أزلي أبدي، ولا يضعف أو يتغيّر على الإطلاق، فلا يمكن أن يكون هناك سواه

" ب " لو فرضنا أن هناك إلهين، لكان كلٌ منهما متحيزاً بمكان وبما أن المتحيز بمكان لا يكون أزلياً بل حادثاً، فلا يمكن أن يكون أيٌ منهما هو الله، لأن الله لا يتحيز بحيّز فلا يمكن أن يكون هناك إلا إله واحد غير متحيز بمكان وهذا الإله هو الله

" ج " ولو فرضنا أيضاً أن هناك إلهين، لكانا إما قد اتفقا على خلق العالم أو اختلفا فإن كانا قد اتفقا على أن يقوما معاً بهذه المهمة، لما كان كلٌ منهما مستقلاً في عمله وهذا يتعارض مع الألوهية، لأن من مستلزمات الألوهية الاستقلال بالعمل وإن كانا قد اتفقا على اقتسام المهمة المذكورة بينهما لكانت سلطة كل منهما محدودة وإن كانا قد اتفقا على أن أحدهما يعمل دون الآخر لكان أحدهما عاطلاً، وهذا ما يتعارض مع الألوهية كذلك، لأن من مستلزمات الألوهية الحياة والعمل أما إذا كانا قد اختلفا، لما كانت هناك وحدة أو انسجام في العالم، ولكان قد تلاشى وانعدم تبعاً لذلك منذ تأسيسه ولذلك ليس من المعقول أن يكون هناك إلا إله واحد، وهو الله

2 - الأدلة الطبيعية :

مع اختلاف النباتات بعضها عن بعض الآخر، تتحد جميعاً في الأجزاء الرئيسية الخاصة بها وإذا نظرنا إلى البشر وجدنا أنه وإن كان كل جنس منهم يختلف عن الجنس الآخر في الشكل الخارجي، إلا أنهم يتحدون في جميع الأعضاء وخصائصها وإذا نظرنا إلى المادة بصفة عامة، وجدنا أنها على اختلاف أنواعها تتحد معاً في التركيب العام لذرّاتها، فجميع الذرات " كما يقول العلماء " تشبه المجموعة الشمسية التي نعيش في نطاقها وبما أنه لا يُعقل أن تكون هناك مثل هذه الوحدة العامة بين الكائنات، إلا إذا كان الخالق لها واحداً، فلا شك أنه ليس هناك إلا إله واحد، وهو الله

3 - شهادة الفلاسفة :

شهد معظم الفلاسفة بوحدانية الله، وعدم وجود شريك له، وللاختصار نكتفي بما يأتي :

" أ " فلاسفة اليونان : قال أكسينوفان : لا يوجد إلا إله واحد وقال أيضاً : لو كان لله شريك لما استطاع أن يفعل كل ما يريد وقال مليسوس : اللامتناهي واحد فقط، إذ يمتنع أن يكون هناك شيء خارج اللامتناهي وقال أفلاطون : الله واحد لا شريك له، وإلا لحَدَّ الشريك من سلطته، التي لا يثبت له الكمال إلا إذا كانت لا حد لها وقال أرسطو : مما يدل على وحدانية الله، انتظام العالم وتناسق حركاته

" ب " فلاسفة اليهود : قال موسى بن ميمون : الله واجب الوجود بالبرهان، وهو واحد لا شريك له وقال فيلون : الله واحد لا شريك له

" ج " فلاسفة المسيحية : قال فكتور كوزان : لما كان الله غير متناهٍ، كان هو الموجود الأوحد وقال توما الأكويني : لو كان هناك إلهان لوجب أن يتمايزا فيما بينهما، فيصدق على الواحد شيء لا يصدق على الآخر، ولكان أحدهما تبعاً لذلك عادماً كمالاً، فلا يكون إلهاً وقال ترتليان : إذا لم يكن الله واحداً لا يكون هو الله، لأن الله لا يكون إلا فريداً في العظمة ولا يكون فريداً في العظمة إلا من لا مساوي له، ومن لا مساوي له لا يكون إلا واحداً مفرداً

" د " فلاسفة المسلمين : قال الفارابي : الله واحد وهو واجب الوجود " أي ليس معلولاً بعلة " وقال ابن سينا : للكون إله واحد هو علة كل مَنْ عداه وما عداه من موجودات علوية وسفلية وقال ابن مسكويه : الصانع واحد وهو واجب الوجود

وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس وجدناه يشهد عن وحدانية الله بكل وضوح وجلاء قال الله : أَنَا الْأَّوَلُ وَأَنَا الْآخِرُ وَلَا إِلَهَ غَيْرِي " إشعياء 44 :6 " وقال أيضاً : أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي " تثنية 32 :39 " وقال للذين اتخذوا غيره إلهاً : أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلَا إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ لَيْسَ سِوَايَ " إشعياء 45 :21 " ولذلك خاطبه نحميا : أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ " نحميا 9 :6 " وقال موسى : الرَّبَّ هُوَ الْإِله فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَعَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ لَيْسَ سِوَاهُ " تثنية 4 :39 " وقال أيضاً : الرَّبُّ إِلهنَا رَبٌّ وَاحِدٌ " تثنية 6 :4 " وقال بولس : لنا إِلهٌ وَاحِدٌ " 1تيموثاوس 2 :5 " وقال يعقوب : اللّهَ وَاحِدٌ " يعقوب 2 :19 "

الفصل الثاني

الأدلة على عدم وجود أي تركيب في الله


تبيَّن لنا فيما سلف أن الله واحد لا شريك له ولنبيّن الآن أن وحدانيته ليست الوحدانية المركبة، مثل الوحدانية التي تتصف بها المخلوقات، بل بالوحدانية التي لا تركيب فيها على الإطلاق

1 - الأدلة العقلية

" أ " بما أن المركب من أجزاء لا يتكوّن إلا بعد وجودها " إذْ أن وجود الأجزاء يسبق وجود الكل " وبما أن الله لم يكن مسبوقاً بعدم أو وجود، لأنه هو الأزلي وحده، إذاً فهو ليس مركباً

" ب " بما أنه لا بد للمركَّب من مركِّب يضمّ أجزاءه بعضها إلى بعض حتى يصير كلاً " لأن الأجزاء لا ينضم بعضها إلى البعض الآخر دون علة " وبما أن الله لا علة له، لأنه موجود بذاته أزلاً، إذاً فهو ليس مركباً

" ج " بما أن كل مركَّب محدود بكمية أجزائه وقدرها، وبما أنه الله غير محدود، إذاً فهو ليس مركباً

شهادة الفلاسفة

شهد كل الفلاسفة الذين يؤمنون بالله، بعدم وجود أي تركيب في ذاته وللاختصار نكتفي بما يأتي :

" أ " فلاسفة اليونان : قال أكسينوفان : الله أرفع الموجودات السماوية والأرضية، وهو ليس مركباً وقال أرسطو : كل مركب صائر إلى الانحلال، ولذلك لا يكون الواحد " أي الله " إلا بسيطاً غير قابل للتجزئة

" ب " فلاسفة اليهود : قال فيلون : الله لايمكن وصفه ولا يمكن حدُّه وما لا يمكن وصفه أو حدّه يكون بسيطاً، لأن المركب يمكن وصفه وحده وقال موسى بن ميمون : يلزم من وجوب وجود الله أن يكون بسيطاً أو لا تركيب فيه

" ج " فلاسفة المسيحيين : قال أوريجانوس : يجب ألا نظن أن الله ذو جسد، إذ أنه من جميع جهاته عقل، أي أنه لا تركيب فيه بوجه من الوجوه وقال توما الأكويني : الله بسيط كل البساطة ومنّزه كل التنزيه عن أي نوع من أنواع التركيب، فهو ليس مركباً من هيولي وصورة، أو من ماهية وشخص حاصل عليها، أو من ماهية ووجود، أو من جنس وفصل، أو من جوهر وعَرَض، لأنه ليس جسماً وقال القديس أوغسطينوس : الله جوهر مجرد لا تركيب فيه

" د " فلاسفة المسلمين : قال الفارابي : الله ليس مؤلَّفاً من أي نوع من أنواع التألف الحسّي أو العقلي أو المنطقي وقال ابن سينا : الله منزّه عن التألّفات الخمسة، التي تعرض لكل من عداه وما عداه وهذه التألفات هي التألف المادي، والتألف الذهني، والتألف المنطقي، والتألف من الذات والصفات، والتألف من الماهية والوجود فهو بسيط لا تركيب فيه بوجه

وإذا رجعنا للكتاب المقدس رأينا أنه وإن كان لم ينبّر على تنزّه الله عن التركيب، كما نبّر على وحدانيته وتفرّده بالأزلية " وذلك لعدم ظهور اختلاف بين الناس من جهة عدم تركيب الله من أجزاء في العصور التي كُتب فيها " ، لكن ذُكر في سياق موضوعاته المتعددة آيات كثيرة تدل على أنه لا تركيب فيه فقد قال إن اللّهُ رُوحٌ " يوحنا 4 :24 " والقول الله روح لا يُقصَد به " كما يتبين من الآية الوارد فيها " أنه روح مثل الأرواح المخلوقة، بل يقصد به فقط أنه ليس مادياً أو مركباً أو محدوداً، وقيل عنه : غَيْرِ الْمَنْظُورِ " كولوسي 1 :15 " و لا يتحيّز بمكان " مزمور 139 :8-12 " وهذه الصفات تدل على أنه غير مركب، لأن المركب يتحيّز بحيّز، ومن الممكن أن يُدرَك أو يُرى إذ أنه محدود بحدود الأجزاء المركب منها - وأجمعت كل كتب العقائد على اختلاف مذاهب كتابها، على أن الله روح سرمدي، غير مركب أو محدود، أو متغير

مما تقدم يتبيّن لنا أن المسيحية نادت منذ نشأتها بوحدانية الله وعدم وجود تركيب فيه فإذا درسنا الكتاب المقدس وجدناه ينذر المشركين بالعذاب الأليم، ليس في الأبدية فقط بل وفي العالم الحاضر أيضاً فقد قال تعالى لهم : فَأُحَطِّمُ فَخَارَ عِزِّكُمْ، وَأُصَيِّرُ سَمَاءَكُمْ كَالْحَدِيدِ وَأَرْضَكُمْ كَالنُّحَاسِ، فَتُفْرَغُ بَاطِلاً قُوَّتُكُمْ، وَأَرْضُكُمْ لَا تُعْطِي غَلَّتَهَا,,, أُطْلِقُ عَلَيْكُمْ وُحُوشَ الْبَرِّيَّةِ فَتُعْدِمُكُمُ الْأَوْلَادَ، وَتَقْرِضُ بَهَائِمَكُمْ,,, أَجْلِبُ عَلَيْكُمْ سَيْفاً يَنْتَقِمُ نَقْمَةَ الْمِيثَاقِ " اللاويين 26 :19-26 " وقال أيضاً : وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي " رؤيا 21 :8 "

الفصل الثالث

الوحدانية المجردة والوحدانية المطلقة


يؤمن فلاسفة اليونان واليهود والمسيحيين والمسلمين أن الله واحد،لكنهم يختلفون فيما بينهم من جهة نوع وحدانيته فيقول فريق منهم إنها وحدانية لا تتصف بصفة أي أنها وحدانية مجردة ويقول فريق آخر إنها وحدانية مطلقة وهذه تختلف عن تلك

فالوحدانية المجردة لا تتصف بصفة، والقائلون بها ينزّهون الله عن الاتصاف بأية صفة من صفات الكائنات، بدعوى أن ذلك يجعله محدوداً مثلها ولذلك ينفون عنه حتى الوجود، بدعوى أن الوجود صفة من صفاتها وليتمشى هذا النفي مع اعتقادهم في عظمة الله، يقولون عنه إنه فوق الوجود، وفوق العلم، وفوق الإرادة، وفوق وفوق وإن كانت صيغة هذا الوصف تبدو إيجابية، إلا أنها في الواقع سلبية وكل ما في الأمر أنها سلبية بصيغة مهذبة، إذ أن مَنْ هو فوق الوجود هو في الواقع غير موجود، لأنه خارج عن دائرة الوجود وعلى هذا النسق : من هو فوق العلم غير عالِم ومن هو فوق الإرادة غير مريد ولذلك فإن إلهاً مثل هذا لا يمكن أن يكون إلهاً حقيقياً

والوحدانية المطلقة غير مقيدة، أو هي وحدانية لا حدَّ لها، ولم تُستعمل الوحدانية المطلقة بهذا المعنى عند جميع الفلاسفة، فقد استعملها بعضهم بالمعنى الذي يُفهم من الوحدانية المجردة فنرجو ملاحظة ذلك

والقائلون بهذه الوحدانية يؤمنون أن لله وجوداً واقعياً لكنهم ينقسمون من جهة صفاته إلى فريقين : فريق ينفي عنه صفة الإرادة وبعض الصفات الأخرى، كالاختيار والعلم بالجزئيات وحجتهم في ذلك أنه إذا كان الله يريد، فإنه يريد أزلاً وإرادته أزلاً تتطلب إما وجود كائنات أزلية معه كان يريدها، أو وجود تركيب في ذاته وبما أنه لا تركيب فيه ولا شريك له، إذاً فهو لا يتصف بالإرادة ولا بالصفات الأخرى التي تتطلب في ممارستها ما تتطلبه هذه الصفة

وفريق آخر يسند إلى الله جميع صفات الكمال اللائقة به، كالإرادة والعلم والقدرة والبصر والسمع والكلام ولكن يتعذر عليه التوفيق بين إسناد هذه الصفات إلى الله أزلاً، واعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة، لأن التوفيق بينهما محال " كما سيتبين بالتفصيل في الباب التالي "

والآن : بما أن الإيمان بالله يقتضي الاعتراف بأنه موجود بالفعل، وبما أن الموجود بالفعل يتصف بكل الصفات الإيجابية اللائقة به، فلا يُعقَل أن تكون وحدانية الله وحدانية مجردة من الصفات الإيجابية وبما أنه مع تفرّده بالأزلية وعدم وجود تركيب في ذاته، من اللائق بكماله أن تكون كل صفاته هي بالفعل أزلاً، إذاً فلا يُعقل أن تكون وحدانيته وحدانية مطلقة تتصف بصفات لم يكن لها عمل أزلاً

وإذا كان الأمر كذلك، فما نوع الوحدانية التي تليق بكماله؟

الجواب : هذه الوحدانية تسمو فوق العقل والإدراك، وليس لها نظير على الإطلاق، ولذلك نرى من الواجب قبل التحدّث عنها أن نتحدث أولاً عن الفرق بين الوحدانية الوهمية والوحدانية الحقيقية، ثم عن درجات الوحدانية الحقيقية وآراء الفلاسفة فيها، حتى يتسنى لنا إدراك شيء عن وحدانيته

الفصل الرابع

الوحدانية الحقيقية والوحدانية الوهمية


بما أن الله واحد ولا ينفي عنه الوحدانية إلا من ينكر وجوده، فإدراكنا لماهية الوحدانية يساعدنا على إدراك شيء عن وحدانيته مع العلم بأننا نقرّ أن وحدانية الله هي أدق وأسمى وحدانية في الوجود، وأنه ليس لها نظير على الإطلاق " كما سيتبين بالتفصيل في الفصل الرابع "

فما هي الوحدانية؟

الجواب : الوحدانية اسم معنى من الواحد، والواحد كما يقول الشيخ ابن الطيب : هو موجود لا يوجد فيه غيره، من حيث هو ذلك الواحد أو كما يقول ابن سينا : هو ما كان غير منقسم من الجهة التي قيل عنه إنه واحد

وما هي خصائص هذا الواحد أو مميزاته؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نتأمل أولاً في الحقائق المدرَكة لدينا، لأننا لا نستطيع إدراك خصائص الواحد أو مميزاته بدونها

فلننظر إذاً إلى أي كائن من الكائنات، وليكن الإنسان مثلاً، ثم تسأل : أليس بواحد؟ الجواب : نعم هو واحد، لأنه لا يوجد فيه غيره من حيث هو ذلك الإنسان الواحد لكن هل وحدانيته هي الوحدانية غير المركبة التي تساعدنا على إدراك شيء عن وحدانية الله؟ الجواب : طبعاً كلا، لأن الإنسان مركب من روح ونفس وجسد، وجسده هذا مركب من عناصر وأجزاء والله غير مركب

ولذلك لندع الإنسان وكل الكائنات المركبة جانباً، ولنأخذ مليجراماً من أي عنصر من العناصر، وليكن الذهب النقي مثلاً فهذه الكمية شيء واحد لأنه لا يوجد فيها غيرها من حيث هي هذا الشيء الواحد لكن وإن كانت شيئاً واحداً غير مركب من أشياء غير ذاتها، إلا أنها قابلة للتجزئة، ولذلك فوحدانيتها ليست الوحدانية المحضة التي تساعدنا على إدراك شيء عن وحدانية الله، لأنه تعالى لا يتجزأ على الإطلاق فلنقسم هذه الكمية إذاً لملايين الأقسام، حتى يصبح كل قسم منها غير قابل للتجزئة، فماذا تكون النتيجة؟ الجواب : إننا نحصل على ذرّة والكلمة المعروفة عندنا بالذرة، هي في الأصل Atemno ومعناها غير القابل للانقسام أو التجزئة، لأن الذرة لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء أصغر منها، وهي كما يقول العلماء توازي جزءاً من مائة بليون جزء، من أصغر شيء يمكن أن تراه العين البشرية أما تحطيمها فليس هو تقسيمها إلى أجزاء، بل هو ملاشاة كيانها، أو بتعبير آخر ملاشاة وحدتها لأنه بالتحطيم تفقد معظم خواصها وأهمها فالذرة إذاً هي أدق مثال يمكن أن نعرف به شيئاً عن الوحدانية غير القابلة للانقسام أو التجزئة

وما مميزات وحدانية الذرة؟

الجواب : إنها كما يقول العلماء مركبة من بروتونات ونيوترونات تدور حولها إلكترونات، أو بتعبير آخر قائمة بمميزات تنشأ بسببها نِسَب أو علاقات بينها وبين ذاتها ولذلك فإن وحدانيتها ليست أيضاً وحدانية محضة، أو وحدانية غير مركبة

مما تقدم يتبين لنا أن الوحدانية غير المركبة ليس لها وجود في العالم المادي على الإطلاق، وأن كل وحدانية، حتى وإن كانت غير قابلة للتجزئة تقوم بمميزات تنشأ بسببها نِسَب أو علاقات بينها وبين ذاتها وقد شهد بهذه الحقيقة كثير من الفلاسفة فقال فنت : الوحدة الجوهرية في كل موجود تتألف من ذرة وإرادة معاً ولعل فنت يقصد بكلمة الإرادة هنا القوة أو الطاقة أو بتعبير آخر : تقوم بمميزات تنشأ بسببها نسب أو علاقات بينها وبين ذاتها، كما قلنا وقال أرسطو : كل موجود تحدّه عشر مقولات، هي الجوهر والكمية والكيفية والإضافة والمكان والزمان والموضع والملك والفعل والانفعال وقال غيره : لكل موجود ثلاث نسب، هي الذات والصورة والقوة، أو الجوهر والشكل والنتيجة

وليست النسب أو العلاقات قاصرة على الكائنات المادية، بل إنها توجد أيضاً في الكائنات الروحية، لأننا إذا تأملنا النفس مثلاً وجدنا أنها تشتمل على مميزات أو ملكات خاصة، وهذه تنشأ بسببها علاقات بين النفس وذاتها، وهذه العلاقات هي التي تكوّن شخصية النفس التي تميزها عن غيرها من النفوس

ومع ذلك فإننا لا ننكر أن هناك وحدانية ليست قائمة بمميزات، وليست بينها وبين ذاتها نِسب أو علاقات، وهذه الوحدانية هي وحدانية النقطة الهندسية لكن هذه النقطة كما نعلم، ليست حقيقية بل وهمية وإن اتصفت بصفات، فإنها لا تتصف إلا بالصفات السلبية، الأمر الذي ينمّ عن عدم وجود كيان حقيقي لها ولذلك لا يصح اتخاذ وحدانيتها وسيلة لإدراك شيء عن وحدانية الله، أو أية وحدانية حقيقية في الوجود

الفصل الخامس

درجات الوحدانية الحقيقية


تبين لنا مما سلف، أن قيام الوحدانية بمميزات تنشأ بسببها بينها وبين ذاتها نسب أو علاقات، هو الشرط الأساسي لحقيقة وجودها، أو بالحري لصدق وحدانيتها لكن إذا تأملنا الكائنات المحيطة بنا، وجدنا أن بعضها يختلف عن البعض الآخر اختلافاً عظيماً، فهناك كائنات لا تقوم بمميزات واضحة، ولا تتميز حتى عن غيرها من فصيلتها ومن الفصائل الأخرى، فأي نوع من هذه الكائنات أرقى مكانة وأسمى وحدانية؟

للإجابة على ذلك علينا أن نتأمل أولاً كل نوع من هذه الكائنات لنعرف خصائصه ومميزاته، ولذلك نقول :

1 - إذا نظرنا لقطعة من الجماد كالحديد مثلاً، وجدنا أن لها وحدة، لأنه ليس فيها غيرها، من حيث كونها قطعة من الحديد لكن ما أتفه وحدتها هذه، وما أقل مميزاتها، لأنه ليس بينها وبين ذاتها نسب أو علاقات تجعل لها كياناً خاصاً يميزها من الناحية النوعية عن غيرها من الحديد الذي تنتمي إلى فصيلته ولذلك جرت العادة في اللغات الأوربية ألا يُنظر إلى أية قطعة من الجماد كوحدة خاصة فلا يقال في الإنجليزية مثلاً an ironأو a gold أي حديدة أو ذهبة بل يقال a piece of iron وa piece of gold أي قطعة من الحديد أو قطعة من الذهب

2 - وإذا انتقلنا لمملكة النبات ونظرنا إلى الطحلب مثلاً، وجدنا أنه لا يقوم بمميزات واضحة، لأنه لا يمكن التمييز بين كمية وأخرى منه، وبين مستعمرة وأخرى من فصيلته، إلا بالمجهر ولذلك كان الطحلب نباتاً دنيئاً " بالنسبة للنباتات الراقية " ووحدانيته تافهة أو غير ظاهرة أما إذا نظرنا إلى الأشجار فإننا نجد أن كل شجرة قائمة بمميزات واضحة، وأمكننا تبعاً لذلك أن نميز بين كل شجرة وغيرها من فصيلتها ومن الفصائل الأخرى بكل سهولة ولذلك كانت الأشجار نباتات راقية، وكانت وحدانية كل منها ظاهرة أو سامية

3 - وإذا تركنا مملكة النبات، ونظرنا إلى الأوبليا مثلاً، وجدنا أنه لا يقوم بمميزات واضحة، لأنه لا يمكن التمييز بين كمية وأخرى منه، وبين مستعمرة وأخرى من فصيلته، إلا بالمجهر ولذلك كان الأوبليا حيواناً دنيئاً ووحدانيته تافهة أو غير ظاهرة " الأوبليا حيوان بسيط من فصيلة الجوف المعويات، وهو لا يعيش إلا في البحار " أما إذا نظرنا إلى الحيوانات الكاملة فإننا نجد أن كل حيوان قائم بمميزات واضحة، وأمكننا تبعاً لذلك أن نميز بين كل حيوان وغيره من فصيلته ومن الفصائل الأخرى بكل سهولة ولذلك كانت هذه الحيوانات كائنات راقية، وكانت وحدانية كلٍ منها ظاهرة أو سامية

4 - وإذا تركنا الحيوانات ونظرنا إلى البشر وجدنا أن كل إنسان قائم بمميزات واضحة، وهذه المميزات نوعان : مادية ومعنوية فالأولى تبيّن وحدانيته الشكلية، وتميزه عن غيره من البشر من الناحية الجسدية والثانية تبيّن وحدانيته المعنوية أو بالحري شخصيته التي هي الجوهر الحقيقي لإنسانيته، وتميزه عنهم من الناحية العقلية والروحية ولذلك فإنه حتى إذا اتفق بعض الناس في المميزات الشكلية، تظل لكلٍ منهم شخصيته، أو بالحري مميزاته العقلية والروحية، التي لا يشاركه فيها غيره ولهذا السبب كانت الوحدانية الإنسانية أسمى من وحدانية أي مخلوق من المخلوقات

وقد شهد الفلاسفة أن لكل كائن مميزات تبيِّنه وتفصله عن غيره من الكائنات، وأنه كلما سمت هذه المميزات كان الكائن أقرب إلى الكمال وأقدر على الوجود فقال جون سكوت : بقدر ما يحوز الكائن من المميزات التي تعينه وتفصله عن غيره يشغل درجة عليا أو دنيا فوق سلم الوجود فالكائن الأكثر فوزاً بعوامل التعيّن هو الأعمق في الأحقية، وبالتالي هو الأقرب إلى الكمال وقال ديكارت : كلما كانت طبيعة الشيء حاصلة على حقيقة أعظم، كان أقدر على الوجود وقال ليبنتز : كلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً كانت أكثر حيوية وأعظم نشاطاً ويزداد هذا الإدراك قوة ووضوحاً كلما صعدنا إلى الإنسان وقال رينوفييه : إذا ظهرت الحرية في كائنٍ ما، فإنه يصل بفضل ما فيه من هذه الحرية لدرجة راقية من الوجود الذاتي فما كان من قبل يمكن تمييزه عن غيره فحسب، يصبح الآن منفصلاً ومستقلاً وما كان بالأمس نفساً فحسب، يصبح اليوم فرداً وأرقى أنواع الفردية، هو الإنسان أو الشخصية الإنسانية، لأنه يتميز بمميزات عقلية وروحية، قلما يتحد معه غيره فيها

مما تقدم يتبين لنا أن لكل وحدانية حقيقية مميزات تعينها، وأن أرقى أنواع المميزات هي العقلية والروحية وهذه المميزات لا توجد إلا في أرقى الكائنات وأسماها

الفصل السادس

آراء الفلاسفة عن الوحدانية الحقيقية


بحث كثير من الفلاسفة مميزات الوحدانية الحقيقية وفيما يلي أهم آرائهم عنها :

1 - فلاسفة اليونان : قال هيرقليطس : الواحد ليس إلا كثرة توحَّدت، والكثرة ليست إلا واحداً تكثَّر وقال ديمقريطس : الجوهر الفرد لا يمكن أن يكون وحدة بمعنى الكلمة، وإن الكثرة تقوم في وحدات لا مادية " روحية " وهي محكمة، ووجودية في نفس الوقت والجوهر الفرد " كما يُستنتَج من أقوال الفلاسفة " هو الذي لا يتميز بميزة تدل على أن له كياناً حقيقياً، فهو والنقطة الهندسية سواءٌ من هذه الناحية ولذلك لا يصح أن يُقال عن الله إنه الجوهر الفرد لأن الله مع وحدانيته وعدم وجود أي تركيب فيه، له مميزات تدل على أن له تعيناً أو كياناً خاصاً وإذا كان لابد من اسم يُسمَّى به الله كجوهر، فمن الممكن أن يسمَّى الجوهر الحقيقي مع ملاحظة أنه ليس مثل الجواهر المخلوقة التي تتكون من جوهر وعرض، إذ أنه من كل نواحيه " إن جاز التعبير " هو جوهر محض، لأن جوهره وتعينه واحد، كما سيتضح بالتفصيل في الباب الرابع

وكان أفلاطون يحمل على القائلين بالوحدة المطلقة فقال : إذا كانت الكثرة تقتضي الوحدة، فالوحدة بدورها تقتضي الكثرة لأننا إذا قلنا عن الماهيات إنها وحدة ثابتة، ولم نضف إليها شيئاً من الكثرة، فإننا نسلبها الحياة والحركة و الماهيات كائنات روحية تصّوَر أفلاطون أنها موجودة منذ الأزل، واعتبرها الوجود الحقيقي للكائنات المنظورة، والمثال الذي خُلقت عليه هذه الكائنات فمثلاً كان يعتقد أن الرجولة، " أي ماهية الرجال " سابقة في وجودها للرجال، وعلى مثالها خُلقوا وهكذا الحال مع باقي الكائنات وقال أفلاطون أيضاً : كل حمل يقتضي وجود شيئين فإذا قلنا مثلاً إن الوجود واحد، فإن هذا القول نفسه غير ممكن، لأننا قلنا بصفتين : هما الوجود والوحدة فلابد من القول بالكثرة وقال أيضاً : الوجود وحدة تتضمن الكثرة، أو هو كثرة تتضمن الوحدة لكن ليس كثرة مطلقة، وإلا لما أمكن العلم كما أنه ليس وحدة مطلقة، وإلا لما أمكن الحمل وليست مسألة الكثرة خاصة بالمحسوسات أو الوجود المحس فحسب، بل إنها أيضاً تتعلق بالوجود غير المحسوس أو وجود الماهيات علماً بأن أفلاطون، وبعض الفلاسفة الآخرين المذكورين في هذا الفصل يردّون على القائلين بوحدة الوجود، ولكن يُستنتَج أيضاً من أقوالهم، أنهم يرون أن كل وحدة قائمة بكثرة، وأنه ليست هناك وحدة حقيقية لا كثرة فيها

وقال أرسطو : لا يُستثنى من الكائنات إلا الجوهر الفرد أي أن الجوهر الفرد لا يُعتبر كائناً من الكائنات الحقيقية، لأنه لا يتميز بميزة تدل على أن له كياناً خاصاً وقال أيضاً : إن شيئاً واحداً بعينه، يمكن تماماً أن يكون واحداً وكثيراً أي لا يمكن الفصل بين الوحدة والكثرة فيه

2 - فلاسفة اليهود : يُستنتج من أقوال فيلون وموسى بن ميمون وغيرهما من فلاسفة اليهود، أن كل وحدانية " مهما كانت دقتها " لها صفات خاصة، واتّصاف الوحدانية بصفات خاصة هو شمولها على كثرة من نوع ما

3 - فلاسفة المسيحيين : قال هيجل : ليس الكثير والواحد طرفين متناقضين كما يُرى، بل هما وجهان لحقيقة واحدة يلتقيان في نهاية الأمر، لو أنك سَمْوت بتفكيرك إلى مرتبة فوق المستوى الضيّق المعهود فالكمية في معناها الصحيح هي كثير في واحد وواحد في كثير، ومن الخطأ أن تحاول التفريق بين هذين الوجهين فلن تجد واحداً لا يتكون من وحدات كثيرة، ولن تجد وحدات لا تأتلف في واحد ولو حاولت ذلك، لكنت كمن يريد أن يظفر بعصا لها طرف واحد

وقال هبهوس : لا غنى للوحدة عن كثرتها ولا غنى للكثرة عن وحدتها وقال ليبنتز : الوحدة ليست خالية أو مجردة، وإلا ما تميزت عن غيرها وقال بربراند : كل كلمة في الوجود تدل على شيء كلي أو جامع وقال رسل : لا يتعارض مذهب الوحدة مع مذهب الكثرة، فإن الوحدة هي وحدة في الكيف، على حين أن الكثرة هي كثرة في الجوهر

4 - فلاسفة المسلمين : قال ابن سينا : لا وجود للجوهر الفرد وقال أيضاً : الجوهر النفيس " أي الجوهر الحقيقي " مكوَّن من هيولي وصورة وقال غيره : قيام الشيء بذاته لا بد له من جزئين أو ثلاثة أجزاء، أو ثمانية أجزاء وقال الإمام الشيخ محمد عبده : الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة فعلاً ولا عقلاً ولا وهماً، لا حقيقة له ومعنى ذلك أن كل جوهر حقيقي قائم بكثرة بأي وجه من الوجوه

هذه هي آراء الفلاسفة والعلماء في الوحدانية ومنها يتبيّن أنهم يرون أن كل وحدانية في الوجود سواء كانت مادية أو روحية، هي وحدانية قائمة بكثرة - أو بتعبير آخر بمميّزات تظهر حقيقتها أو بالأحرى وحدانيتها، وتجعل بينها وبين ذاتها نسباً أو علاقات وأنه إذا شذَّت وحدانية عن ذلك فقدت مميزات الوحدانية الحقيقية، وكانت وحدانية وهمية لا وجود لها في عالم الحقيقة إطلاقاً، مثلها في ذلك مثل النقطة الهندسية تماماً وآراؤهم تتفق مع الحقائق المدركة لنا كل الاتفاق

الفصل السابع

الوحدانية اللائقة بالله، أو الوحدانية الجامعة المانعة


انتهينا إلى أن كل وحدانية، مادية كانت أو روحية، تقوم بمميزات تنشأ بينها وبين ذاتها نِسَب أو علاقات، وأن هذه المميزات هي التي تبيّن حقيقة وحدانيتها فإذا كان الله واحداً قائماً بذاته، ألا يكون أيضاً متميزاً بمميزات خاصة، تدل على حقيقة وحدانيته، وتنشأ أيضاً بسببها علاقات بينه وبين ذاته؟ أو بتعبير أدق، ألا تكون ذاته عينها مع وحدانيتها وعدم وجود أي تركيب فيها، تتميز بمميزات خاصة، تنشأ بسببها علاقات بينها وبين نفسها؟

الجواب : طبعاً نعم، لأن هذا هو ما يتوافق مع الحقيقة كل التوافق كما اتضح لنا، وكما سيتضح بأكثر تفصيل مما يلي

الأدلة على أن وحدانية الله تتميز بمميّزات خاصة

1 - لله " كما ذكرنا في الباب الأول " تعيّن خاص وكل كائن له تعين خاص له مميزات تبين حقيقته فمن المؤكد أن تكون لله مميزات " أو بتعبير أدق، أن يكون هو بذاته متميزاً بمميزات " تبيّن حقيقته

2 - بما أن صفات الله لم تكن عاطلة أزلاً ثم صارت عاملة عندما خلق، بل كانت عاملة أزلاً قبل وجود أي كائن من الكائنات " لأن هذا ما يتناسب مع ثباته وعدم تعرضه للتغير، كما ذكرنا في الفصل الثالث من هذا الباب "

وبما أنه لا يُعقل أنه كان يمارس صفاته في الأزل مع غيره، لأنه لا شريك له ولا يعقل أنه كان يمارسها مع جزء من ذاته لأنه لا تركيب فيه إذاً لا شك أنه كان يمارسها بينه وبين ذاته نفسها

وإذا كان الأمر كذلك كانت ذاته مع وحدانيتها وعدم وجود تركيب فيها متميزة بمميزات متكاملة، تجعل ممارسته لهذه الصفات بينه وبين ذاته أزلاً أمراً عملياً حقيقياً، لأنه لا سبيل لممارسة الصفات بين كائن وذاته إلا إذ كان متميزاً بمميزات خاصة

ولإيضاح ذلك نقول إن صفة العدالة مثلاً تدل " كما يقول أفلاطون " على التعادل، والتعادل في الكائن الفرد معناه التوافق والانسجام ولذلك فاتّصاف الله بالعدالة أزلاً يدل على وجود توافق أو انسجام بينهوبين ذاته ووجود توافق أو انسجام بينه وبين ذاته يدل على وجود علاقات بينه وبين ذاته كما أن صفة المحبة تدل على وجود روابط طيبة بين اثنين على الأقل، أحدهما محب والآخر محبوب ولذلك فاتّصاف الله بالمحبة أزلاً، يدل على وجود علاقات خاصة بينه وبين ذاته وهكذا الحال مع باقي الصفات فإذا تأملنا في اتّصاف الله بها أزلاً وجدنا أنها تدل على وجود علاقات بينه وبين ذاته وطبعاً لا مجال لوجود علاقات للهبينه وبين ذاته، إلا إذا كان متميزاً بمميزات خاصة يمكن أن تنشأ بسببها هذه العلاقات

3 - لو فرضنا أن الله لم تكن له علاقة بينه وبين ذاته أزلاً، وقلنا إن له علاقة بالعالم لأنه خالقه والمعتني به، لكانت النتيجة الحتمية لذلك أنه دخل في علاقة لم يكن لها أساس في ذاته أزلاً، فيكون قد تطّور وتغيّر! وبما أنه لا يتطور ولا يتغير، إذاً لا مفر من التسليم بأن له علاقة أزلية بينه وبين ذاته وبما أن الأمر كذلك إذاً فهو يتميز بمميزات خاصة يمكن بسببها أن تنشأ هذه العلاقة كما ذكرنا آنفاً

4 - هذا وقد شهد كثير من الفلاسفة بوجود علاقات لله بينه وبين ذاته قال تيلور : الحياة الإلهية في جوهرها هي فعل اتصال بين الذات والذات أي أن بينها وبين نفسها علاقات وقال ليبنتز : العلاقات التي ندركها بين الظواهر المختلفة في العالم الخارجي هي نتيجة لتدبير قديم يُطلق عليه الانسجام الأزلي ولا انسجام إلا إذا كانت هناك علاقات وقال محيي بن العربي : الذات لو تعرَّت عن النِّسب، لم تكن إلهاً وبما أن الله ذات إذاً فهو يتميز بنِسَب أو بتعبير آخر بعلاقات وقال أحد فلاسفة الفرس المسلمين : الوحدانية الإلهية تتضمن نسب الوحدانية وعلاقاتها ووجود نسب أو علاقات في الوحدانية الإلهية دليل على أنها تتميز بمميزات خاصة، تنشأ بسببها هذه النسب أو العلاقات كما قلنا فيما سلف

ويبدو لي أن ابن العربي قد استعمل كلمة النِّسب بالمعنى الذي استعملنا به كلمة العلاقات ولكن منعاً من حدوث لَبْس في فهم معاني الألفاظ، استصوبنا أن نستعمل كلمة النسب فيما يختص بالجماد، وكلمة العلاقات فيما يختص بالأحياء

والآن بما أن الله مع وحدانيته وعدم وجود تركيب في ذاته يتميّز بمميزات خاصة، إذاً فهذه المميزات لا يمكن أن تكون غير ذاته، لأنه لا شريك له ولا يمكن أن تكون عناصر أو أجزاء في ذاته، بل أن تكون هي عين ذاته، لأنه لا تركيب فيه ولا يمكن أن تكون مادية بل أن تكون روحية، لأنه لا أثر للمادة فيه ولا يمكن أن تكون محدودة بأي نوع من الحدود، بل أن تكون منزّهة عن الحدود، لأن ذاته لا يحدّها حدّ كما أن العلاقات الناشئة بسببها، لا يمكن أن تكون متوقّفة على وجود الكائنات، بل أن تكون أولاً وقبل كل شيء بينه وبين ذاته نفسها أزلاً، لأنه كامل كل الكمال منذ الأزل الذي لا بدء له، ولا يكتسب شيئاً من الأشياء، ولا يتغيّر أو يتطّور على الإطلاق

مما تقدم يتبيّن لنا أن وحدانية الله لا يمكن أن تكون وحدانية مجردة من الصفات الإيجابية، أو وحدانية مطلقة لا مجال لوجود صفاتها بالفعل أزلاً بل لابد أن تكون وحدانية تتصف بكل الصفات الإيجابية اللائقة بها، وأن تكون هذه الصفات ليس بالقوة بل بالفعل أزلاً أو بتعبير آخر لابد أن تكون وحدانية الله ذات كيان حقيقي، أو وحدانية لها مميزات خاصة بها، تنشأ بسببها بينها وبين ذاتها علاقات خاصة منذ الأزل إلى الأبد، بصَرْف النظر عن وجود المخلوقات أو عدم وجودها وإن كان لابد من اسم تسمَّى به فمن الممكن أن نسميها الوحدانية الجامعة المانعة أو الوحدانية الشاملة المانعة ، لأنها جامعة أو شاملة للمميزات المذكورة، ولأن الله بسبب هذه المميزات لم يكن يحتاج إلى شيء سوى ذاته، لوجود صفاته وعلاقاته بالفعل أزلاً ولذلك لا يُقصد بوحدانية الله الجامعة المانعة أن هناك آلهة مع الله، أو أن هناك تركيباً في ذاته، بل يُقصَد بها أن ذاته الواحدة التي لا تركيب فيها على الإطلاق، هي بنفسها جامعة مانعة، أو شاملة مانعة، أو بتعبير آخر أنها تتميز بالمميزات الروحية اللائقة بكمالها، واستغنائها عن كل شيء غيرها، منذ الأزل وإذا كان الأمر كذلك فليس في إسناد هذه الوحدانية إلى الله ما يُفهم منه أن له شريكاً أو به تركيباً

الاعتراضات والرد عليها


أما الذين لا يفهمون معنى كون وحدانية الله جامعة مانعة، ومعنى تميزه بمميزات له بها علاقات بينه وبين ذاته أزلاً، فيظنون أن تلك الوحدانية تتعارض مع عدم وجود تركيب فيه، وأن هذه العلاقات تتعارض مع تفرّده بالأزلية وفيما يلي أهم اعتراضاتهم والرد عليها :

1 - لا تقوم للعلاقات قائمة إلا بين اثنين على الأقل، والله هو الأزلي وحده فليس من المعقول أن تكون له أصلاً أو أزلاً أية علاقة من العلاقات وبناءً على رأيهم لا تكون لذاته مميزات خاصة بها

الرد : ليس للكائن العاقل علاقة مع غيره فحسب، بل له أيضاً علاقة بينه وبين ذاته فالأولى اكتسابية أو غير أصلية، أما الثانية فذاتية أو أصلية وليس هناك شيء في الوجود لا علاقة له بينه وبين ذاته، أو بينه وبين غيره إلا غير الموجود، لأنه لا يتميز بميزة تدل على أن له كياناً خاصاً وبما أن الله " وإن كان لا نهائياً " هو كائن عاقل له كيانه الخاص ووجوده الحقيقي الواقعي، إذاً فوجود علاقات بينه وبين نفسه أمر يتوافق مع حقيقة وجوده، بل ويتطلّبه هذا الوجود ذاته وبما أن له مثل هذه العلاقات، إذاً فهو متميز بمميزات خاصة، لأنه لا سبيل لوجود العلاقات في وحدانية مجردة من المميزات

هذا بالطبع مع مراعاة الفرق الذي لا حد له بين العلاقات الكائنة بين الله وذاته، والعلاقات الكائنة بين أي كائن عاقل وذاته فالعلاقات الكائنة بين الله وذاته هي علاقات أصلية فيه وملازمة أزلاً لذاته الواحدة التي لا تركيب فيها أما العلاقات الكائنة بين أي كائن عاقل وذاته فليست أصلية فيه، لأنها ناشئة عن الغرائز المتنوعة التي ورثها عن أجداده أو عن العناصر المختلفة المكّونة منها ذاته ولذلك فهي علاقات مكتَسبة أو حادثة ولكنها تُسمّى أصلية بالنسبة إلى العلاقات التي تتكون لديه بسبب وجوده في العالم واتصاله بما فيه أما علاقات الله حتى مع الكائنات الحادثة فليست اكتسابية، لأنه يعلم كل شيء عنها قبل خَلْقها

2 - يدلّ تميّز الله بمميزات خاصة على قيامه بكثرة، والحال أنه ليست به كثرة ما

الرد : ليست المميزات التي يتميز بها الله عناصر أو أجزاءً فيه، أو أموراً مقترنة به، بل هي عين ذاته المتميزة بكل ما هو لائق بكمالها واستغنائها عن غيرها، لأنه لا تركيب فيه فالمميزات المذكورة ليست كثرة بالمعنى المعروف في الكائنات، بل هي الخصائص الأصلية الذاتية لله، والتي بدونها لا يكون إلهاً حقيقياً بل يكون إلهاً وهمياً، أو إلهاً كانت صفاته عاطلة أزلاً، كما يقول الفلاسفة الذين يؤمنون أن وحدانيته مجردة أو مطلقة لأن هذه المميزات هي التي تعيّن الله، أو هي عين تعيُّنه فليس هو الإله المجرد من الصفات، أو الذي يتصف بصفات كانت بلا عمل أزلاً، بل الإله الذي يتصف بكل صفات الكمال، والذي كانت كل صفاته بالفعل أزلاً، أي قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه - الأمر الذي يتوافق مع كماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، وعدم تعرّضه للتطوّر والتغيّر

والكثرة التي تقوم بها الكائنات هي عناصر أو أجزاء أما الكثرة التي يتميز بها الله فليست عناصر أو أجزاء، بل هي الخواص الأصلية للوحدانية غير المركبة التي يتفرد بها

ولا مجال للاعتراض على تميّز الله بهذه المميزات بدعوى أنها تدل على كثرة، لأن مجرد إسناد الصفات إليه معناه إسناد كثرة إليه فإذا أسندنا هذه الصفات إليه، وسلّمنا بوجودها فيه بالفعل أزلاً، ثم أنكرنا تلك المميزات بعد ذلك، نكون قد قلنا بوجوده نتيجة دون سبب، أو بمظهر دون حقيقة وكل ذلك باطل، لأن الصفات لا تكون بالفعل من تلقاء ذاتها، بل لابد لها من علّة وهذه العلة لا يمكن أن تكون سوى مميزات تتميز بها ذات الله عينها، لأنه لا تركيب فيه تنشأ بسببه علاقات بينه وبين ذاته، ولا شريك له يجعل صفاته بالفعل أزلاً فهذه المميزات هي إذاً " إن جاز التعبير " من مستلزمات حقيقية وحدانية الله المحضة، وتفرّده بالأزلية، واستغنائه عن كل شيء في الوجود، ولذلك لا سبيل لإنكارها على الإطلاق

3 - لا يصح اتّخاذ العلاقات الموجودة بين الكائنات العاقلة وبين ذواتها دليلاً على وجوب وجود علاقات لله بينه وبين ذاته، لأنه لا يصحّ تطبيق صفات المخلوق على الخالق

الرد : إننا لم نفعل ذلك إطلاقاً، بل استنتجنا وجود علاقات لله بينه وبين ذاته من حقيقة اتصافه بالصفات الإيجابية وممارسته لها أزلاً، قبل وجود أي كائن سواه، الأمر الذي يتطلبه كماله المطلق، واستغناؤه بذاته عن كل شيء في الوجود أما الأمثلة الخاصة بالكائنات وأقوال الفلاسفة عنها، فلم نذكرها إلا ليعرف القارئ أن وجود علاقات بينه وبين ذاته ليس أمراً غريباً، بل هو حقيقة ثابتة مُدرَكة لدينا تماماً، ولا سبيل لإنكارها

أخيراً نقول : لأن معظم الناس لم يألفوا التأمل العميق في ذات الله، يكتفون بالقول إنه واحد ولكن لو فطنوا لعلموا أن الواحد لا يكون واحداً إلا إذا كان متميزاً بمميزات تعيّنه وتُظهر حقيقته فالوحدانية الحقيقية هي إذاً وحدانية جامعة وبما أن وحدانية الله حقيقية، إذاً فهي وحدانية جامعة ومانعة أيضاً - هذه حقيقة لا شك في صحتها إطلاقاً، لكن نظراً لسموها فوق الإدراك، وكثرة الشكوك التي تساور بعض الناس من جهتها، نرى من الواجب قبل التحدّث عن كنهها أن نتأمل في المشكلات التي تترتب على اعتبار وحدانية الله وحدانية مجردة أو مطلقة، حتى إذا تبيّن لنا تعقّدها وعدم وجود أي حل لها، سهل علينا بعد ذلك أن نقتنع اقتناعاً تاماً بأن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة

سلام ونعمة ليكم :


شكرا كثير والرب يباركك
موضوع جميل جدا الرب يعوضك عن تعبك يادكنور حازم..وكمدخل لموضوع الأقانيم والثالوث ولكى يسهل فهمه ، ليسأل كل واحد فينا نفسه مع من كان الله يتكلم قبل أن يخلق الكون والملائكة وقبل أن يخلق البشر؟؟ ...هل كان لايتكلم قبل أن يخلقهم ثم أصبح يتكلم معهم بعد ذلك بعد أن خلقهم ؟؟..ان قلنا نعم..فهذا معناه أن الله يتغير وحاشا له أن يكون متغيرا ..فالله ليس فيه تغيير ولا ظل دوران فهو هو الأمس واليوم والى الأبد ...ونحن نعلم أنه أحب البشرية حتى بذل أبنه الوحيد يسوع من أجل فداء البشر ..فهل كان لايحب أحدا ثم أصبح يحب بعد خلقه للأنسان ؟؟؟؟!!!!!..السؤال أذن ..مع من كان يتكلم ؟ وكان يحب من ؟؟!!!!

الله بين الفلسفة و المسيحية

الفصل الأول

آراء الفلاسفة عن الله


انقسم الفلاسفة في آرائهم عن الله إلى خمس فرق رئيسية : الأولى فرقة الماديين التي أنكرت وجوده وقالت أنْ لا إله للعالم، وإن العالم وُجد مصادفة. والفرقة الثانية فرقة العقليين التي قالت إن العقل يفترض وجوب وجود إله للعالم، لكن هذا الإله أسمى من إدراكنا، ولذلك لا نستطيع أن نعرف عنه شيئاً. والفرقة الثالثة فرقة وحدة الوجود التي قالت إن الله والعالم جوهر واحد، فهو من العالم والعالم منه. والفرقة الرابعة اعترفت أن الله ليس هو العالم، ولكنه القوة المحرِّكة للعالم، وبذلك نفت عنه الذاتية وجعلته مجرد طاقة. و الذاتية هي الكيان الذي يتَّصف بالعقل والإدراك. أما الطاقة فهي مجرد قوة، لا عقل لها أو إدراك.

والفرقة الخامسة اعترفت أن الله ذات، ولكنها انقسمت فيما بينها من جهة ذاته وصفاته إلى أربع شيع رئيسية : فالأولى رأت أنه ذات له صفات زائدة عن ذاته، والثانية رأت أن صفاته هي عين ذاته، والثالثة رأت أن الصفات الإيجابية لا تتلاءم مع تفرُّده بالأزلية، فأسندت إليه الصفات السلبية وحدها، والرابعة رأت أن الصفات هي من خصائص المخلوقات، ولذلك نفتها عنه، رغبةً منها " حسب اعتقادها " في تنزيهه عن الاشتراك في خصائص هذه المخلوقات.

والذين أسندوا إلى الله الصفات السلبية وحدها قالوا إنه غير جاهل وغير عاجز وغير مرغم. والذين نفوا عنه الصفات قالوا إنه لا يعلم ولا يقدر ولا يريد.

ولا يتسع المجال أمامنا الآن لمناقشة هذه الآراء بالتفصيل، ولذلك نقول بكل اختصار :

1 - ليس من المعقول أن يكون العالم قد وُجد مصادفة، لأن كل شيء في الوجود لا بد له من موجِد، فلابد أن يكون للعالم أيضاً موجد، والموجد هو الذي يدعوه الوحي الله .

فضلاً عن ذلك فإن الأمثلة التي أتوا بها ليُدخلوا في روعنا أن العالم وُجد مصادفة، افترضوا فيها وجود عامل ساعد على حدوث المصادفة، وبذلك اعترفوا دون أن يدروا أن هناك عامِلاً نظَّم العالم ونسَّقه. وهذا العامل الذي يجهلونه أو يتجاهلونه، هو الله الذي نعرفه ونؤمن به.

ونحن وإن كنا لا نبني أسانيدنا في هذا الكتاب على أقوال الفلاسفة والعلماء، لكن استيفاءً للبحث نقول إن أشهرهم قد اعترف بوجود الله وبخَلْقه للعالم. فقال بيركلي وديكارت : إن الانسجام الوظائفي في الكون، يرجع الفضل فيه إلى الله . وقال كريسي موريسن رئيس مجمع العلوم في نيويورك : أسباب الإيمان بالحقيقة الإلهية يعرفها العلماء، وتأبى عليهم عقولهم أن يردّوها إلى المصادفة . وقال العلاّمة جيمز جينز : المشاهدات الرياضية في الكون تثبت أنه لم يوجد مصادفةً . وقال سير آرثر أدنجتون : تفسير الكون بالحركة الآلية أمرٌ لا يسيغه العلم الحديث . وقال كانت : ينبئني ضميري بوجود إلهٍ للعالم . وقال نيوتن : النظام الذي يتجلى في الكون يدل على وجود إله له . ومع أن لويد مورجان كان يقول بوجود عقل في المادة، إلا أنه كان يسأل : ما الذي يُخرج هذه الأطوار بعضها من البعض الآخر على هذا الترتيب العجيب؟ وكان يجيب : إنه تدبير الإله أو توجيهه . قال أينشتين : يشتمل ديني على الإعجاب المتواضع بتلك الروح العليا غير المحدودة التي تكشف في سرها عن بعض التفصيلات القليلة التي تستطيع عقولنا المتواضعة إدراكها. وهذا الإيمان القلبي العميق، والاعتقاد بوجود قوة حكيمة عليا، نستطيع إدراكها خلال ذلك الكون الغامض، يلهمني فكرتي عن الإله . وقال أيضاً : لا يمكنني أن أعتقد أن الخالق يلعب النرد بالدنيا أي أنه لم يخلق العالم فحسب، بل خلقه بحكمة وفطنة، ولغرض ثابت خاص " تاريخ الفلسفة الحديثة، والعالم وأينشتين، وكتاب الله " . فضلاً عن ذلك، فإن العلماء الذين يُشاع عنهم الآن أنهم كانوا ينكرون الله اعترفوا بوجوده تلميحاً أو تصريحاً. فقال سبنسر : المجهول هو تلك القوة التي لا تخضع لشيء في العقول، لكنها مبدأ كل معقول، وهي المنبع الذي يفيض عنه كل شيء في الوجود . وقال دارون : تفرَّعت الأنواع من جرثومة الحياة التي أنشأها الخالق . وقال ولاس زميله : لا يمكن أن يكون الكون قد وُجد بغير علَّة عاقلة، ولكن إدراك هذه العلة يعلو فوق إدراك العقل البشري " اقرأ تاريخ الفلسفة الحديثة، وأصل الأنواع، وعلم الحياة " .

2 - وليس من المعقول أن يكون هناك إله يرضى أن يكون مجهولاً منا، لأنه إذا كان هو الخالق لنا، فمن المؤكد أن يكون كائناً عاقلاً. وإذا كان كائناً عاقلاً، فمن المؤكد أنه لا يرضى أن نُحرم من معرفته. فإن كنا بسبب قصورنا الذاتي لا نستطيع أن نعرف شيئاً عنه من تلقاء أنفسنا، لكن يجب أن نتوقع بكل يقين أن يعرّفنا شيئاً كافياً عن ذاته.

3 - وليس من المعقول أن يكون الله والعالم جوهراً واحداً، وأن يكون من العالم والعالم منه، لأنه إذا كان هو الخالق للعالم. فمن المؤكد أن يكون كائناً قائماً بذاته. وعدم رؤيتنا له بعيوننا لا يقوم دليلاً على أنه ليس كذلك، فهناك أمور كثيرة في الطبيعة لا نستطيع رؤيتها بعيوننا، ومع ذلك نقرُّ بوجودها لمجرد وجود أثر يدل عليها. فالعين مثلاً، لا تدرك إلا حزمة ضيقة من الأشعة التي تقع بين اللون الأحمر والبنفسجي. أما ما دون الحمراء وفوق البنفسجية فلا تدركه إطلاقاً. كما أنها لا تدرك الأشعة الكونية أو السينية أو ماهية الكهرباء أو المغناطيس أو الأثير، وغير ذلك - هذا وقد ذهب أشهر علماء الطبيعة في الوقت الحاضر إلى أنه لا يمكن معرفة حقيقة أي شيء نراه في الوجود، الأمر الذي يغلق الباب أمام الذين ينكرون أن الله ذات، بسبب عدم إدراك الحواس له.

4 - وليس من المعقول أن يكون الله مجرد طاقة، لأن الطاقة لا تعمل عملاً من تلقاء ذاتها، بل لا بد من عامل يدفعها للعمل، ومن الواضح أن هذا العامل، لا يكون طاقة مثلها، بل يكون ذاتاً ذا قوة أو طاقة.

كما أننا إذا سايرناهم في ادّعائهم أن الطاقة خلاّقة، فإن عقولنا لا تلبث طويلاً حتى تنكر علينا مسايرتنا لهم، لأنها تعلّمنا أن الخالق لا بد أن يكون حاصلاً في ذاته على مزايا مخلوقاته بدرجة أوسع وأعمّ. فلا يخلق العقل مَنْ لا عقل له، ولا يخلق الشخصية من لا شخصية له، بل لا بد أن يتضمنهما ويمارسهما ليس أقل من ممارسة مخلوقاته لهما. ولذلك لا يمكن أن يكون الله مجرد طاقة.

5 - وليس من المعقول أن يكون الله بلا صفة، لأن لكل موجود صفة، وليس هناك شيء بلا صفة إلا غير الموجود. وبما أن الله موجود، إذاً فله صفات. ونحن وإن كنا لا نستمد أسانيدنا في هذا الكتاب من أقوال الفلاسفة، لكن استيفاءً للبحث نقول : إنه قد شهد بهذه الحقيقة كثير منهم، فمثلاً قال زينو : من المستحيل أن يخرج عالم مليء بالصفات والخصائص من أصلٍ لا صفة له ولا خاصية " قصة الفلسفة اليونانية ص 51 " .

6 - ليس من المعقول أن يتصف الله بالصفات السلبية فحسب، كعدم العجز دون القدرة، وعدم الجهل دون العلم، وعدم الإرغام دون الإرادة، وذلك للأسباب الآتية :

أ - هذه الصفات ناقصة. وإن كان الله لا يتصف إلا بها كان ناقصاً. وهو منّزَه عن النقص.

ب - الله بوصفه خالقنا هو مصدر سعادتنا وسلامنا، لكن الإله الذي يتصف بالصفات السلبية دون الإيجابية لا يستطيع أن يجلب إلينا سعادة أو سلاماً، إذ لا فائدة في إله يكرهنا ولكنه لا يعطف علينا، وفي إله غير عاجز لكنه غير قادر على مدّ يد العون لنا.

فآراء هؤلاء الفلاسفة لا نصيب لها من الصواب إطلاقاً. والحقيقة هي أن الله ذات يتَّصف ليس بالصفات السلبية فحسب، بل وأيضاً بالصفات الإيجابية اللائقة به. أما من جهة علاقة صفاته به، وهل هي ذاته أم غير ذاته، فهذا ما سنبحثه في الباب الثالث من هذا الكتاب.
الفصل الثاني

معنى الله ذات


لا نقصد بقولنا إن الله ذات أنه شخص كالأشخاص المحدودة، أو أنه ذو جوهر مماثل للجواهر المخلوقة، لأننا نؤمن أن الله لا شبيه له ولا نظير. ولكننا نقصد أنه كائن له وجود ذاتي، يستطيع التعبير عن نفسه بكلمة أنا وهو ليس مجرد طاقة أو معنى.

و الجوهر هو ما ليس في موضوع بل هو القائم بذاته، فلا خطأ في القول الله جوهر . وقد شهد بهذه الحقيقة كثير من الفلاسفة، فقال ديكارت : الله هو الجوهر الحقيقي " المدخل إلى الفلسفة ص 177 " . وقال توما الأكويني : يُطلق الجوهر على اللامتناهي بمعنى يختلف عن الذي يُطلق به على المتناهي. فجوهر المتناهي مفتقر في كشفه إلى أعراض، أما جوهر اللامتناهي فمستغنٍ في وجوده، ومستغنٍ أيضاً في كل شيء غير الوجود " الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط ص 75 " . وقال ابن سينا : معنى كون الله جوهراً، أنه الموجود لا في موضوع، والموجود ليس بجنس . وقال أيضاً : الجوهرية ليست من المقومات، لأنها عبارة عن عدم الحاجة إلى الموضوع " تهافت الفلاسفة ص 162 ، ولباب الإشارات ص 87 " . أما المعنى فهو ما ليس له وجود في الخارج، بل وجوده في الذهن فحسب.

أما الفلاسفة الذين يتحاشون إسناد الذاتية إلى الله، فيعللون ذلك بأنها إذا أُسندت إليه، دلَّت على وجود تعيُّن له. والله، حسب اعتقادهم، ليس له تعيُّن، لأنه يسمو فوق العقل والإدراك. و التعين هو الوجود الواقعي، الذي يتميز بمميزات تدل على أن له مثل هذا الوجود، ولا يشترط فيه أن يكون محدوداً أو مجسَّماً، بل أن يكون فقط موجوداً وجوداً حقيقياً.

ونحن وإن كنا نتفق معهم على أن الله يسمو فوق العقل والإدراك، إلا أننا لا نقرّهم على نفي التعيُّن عنه لهذا السبب أو لغيره من الأسباب، لأن الله ليس كائناً وهمياً، بل هو كائن حقيقي، وكل كائن حقيقي له تعيُّن، ولذلك فمن المؤكد أن يكون لله تعين. وليس هناك مجال لنفي التعيُّن عن الله، لأن مجرد اعتقادنا أنه واحد يلزمنا بالتسليم بوجود تعيُّن له، إذ لا يكون واحداً إلا من كان منفصلاً ومتميّزاً عن غيره. ولا يكون منفصلاً ومتميزاً عن غيره إلا من كان له تعيُّن خاص به. كما أن اعتقادنا أنه هو خالق العالم يلزمنا أيضاً بالتسليم بوجود مثل هذا التعين له، لأنه لا يمكن أن يكون قد خلقه، إلا إذا كان الله قائماً بذاته. والقائم بذاته له تعين يميزه.

نعم إننا نعجز كل العجز عن إدراك هذا التعين، وليس في وسعنا أن نختبر ماهيته، أو نضع له حدوداً. لكن بما أن حقيقة وجود الله ووحدانيته وخلقه للعالم يدل على وجوب وجود تعين له، فلا مناص من الاعتراف بوجود تعين لله، سواءً أدركنا هذا التعين أم لم ندركه. لأن ليس كل ما لا ندركه لا وجود له، فهناك أمور كثيرة في الطبيعة لا نستطيع إدراكها، ومع ذلك نقر بوجودها، لمجرد وجود أثر يشير إليها، كما ذكرنا في الفصل السابق. والذين يقولون بعدم وجود تعين لله لا يكرمونه أو ينزهونه كما يظنون بل ينفون وجوده نفياً تاماً، لأنه لا بد من تعين خاص لكل موجود يثبت وجوده، وإلا فقد خرج من دائرة الوجود إلى اللاوجود، لأن اللاموجود وحده هو الذي لا تعين له إلا اسمه، واسمه كما نعلم هو اسم على غير مسمى. ولذلك فمن المؤكد أن يكون لله تعين خاص به، ولو أننا لا نستطيع أن نسبر غور هذا التعيُّن أو نضع له حدوداً. فهو فقط تعين غير مُدرَك أو محدود. وتعيُّنٌ مثل هذا، يختلف كل الاختلاف عن اللاتعين، لأن الثاني يوصف به غير الموجود، أما الأول فيوصف به الموجود الذي يفوق العقل والإدراك.

وإن كنا لا نستمد أسانيدنا في هذا الكتاب من أقوال الفلاسفة، لكن إستيفاءً للبحث نقول إنه قد اتفقت كلمة المؤمنين منهم على أن الله ذات له تعين خاص. فقال جرين : لله ذات شخصية . وقال ليبنتز : الله ذات . وقال ابن سينا : واجب الوجود ما لم يتعين لا يوجد، ولكن قد ثبت بالدليل وجوده، إذاً فهو متعيّن " فلسفة المحدثين والمعاصرين ص 44 ، والمدخل إلى الفلسفة ص 235 والإشارات ص 199 " وقال إدنجتون العالم المشهور في شئون الذرة : العالم غير المنظور يوحي بهيمنة الذات الإلهية عليه وذلك تمييزاً للإله أن يكون مجرد معنى، كما تصفه بعض النحل البرهمية القديمة، وإقراراً لعقيدة الذات الإلهية، كما يؤمن المتدينون " عقائد المفكرين في القرن العشرين ص 96 " .

ومع ذلك، فإننا لا نستطيع القول إن لله تعيُّناً محدوداً، كما لم نستطع القول أن لا تعين له إطلاقاً، لأن الذين قالوا بهذا الرأي أو ذاك، أدخلوا أنفسهم في مشكلات عويصة. فالذين قالوا بالرأي الأول، أسندوا إلى الله الأعضاء الجسمية، والذين قالوا بالرأي الثاني نفوا عنه الصفات، وقطعوا الصلة بينه وبين المخلوقات، كما سيتضح في الباب الثالث.

ولذلك نرى كثيرين من علماء الدين، قد احتاطوا لأنفسهم عند البحث في هذا الموضوع، فمثلاً قال التفتازاني : الله ليس جنساً، لكنه حقيقة نوعية بسيطة، ولذلك لا بد له من تعين يميزه... وقد يكون هذا التعين عدمياً " العقائد النسفية ص 244 " . أما من جهة كلمة عدمياً ، فالأرجح أنه يقصد الحذر من إسناد تعين لله، يمكن أن يعتبره الجهلاء تعيناً محدوداً، والحال أن تعين الله منزه عن الحدود. وقال الإمام الشيخ محمد عبده : يجب ألا يكون " في وصف الله " غلو في التجريد، ولا دنوّ من التحديد " رسالة التوحيد ص 100 " . ومعنى ذلك أن لله تعيناً خاصاً، لكنه غير محدود بالنسبة لنا، أو لغيرنا من الخلائق.

ولقد شغل موضوع تعيُّن الله عقول الفلاسفة زمناً طويلاً. فقال فريق : التعين يستلزم التحديد، والتحديد حصر، والحصر منافٍ للانهائية . فرُدَّ عليه بالقول : المراد باللانهائية هنا هو التعين الكامل المطلق، لأن هذا هو ما ينسجم مع خصائص الله كل الانسجام . وقال فريق ثان : اللامتناهي سلبي، والسلبي لا تعيّن له . فرُدَّ عليه بالقول : اللامتناهي ليس سلبياً بل هو إيجابي، إذ أنه يعبّر عن أكمل الحقائق جميعاً . أما الذين ظنوا أن اللانهائية لا تليق بالله فقالوا : الكامل هو ما كان تاماً من كل الوجوه، أو هو ما كان فعلاً محضاً وليس فيه شيء بالقوة. ولما كان اللامتناهي غير محدود، وبالتالي هو ما بالقوة، إذاً يكون الله محدوداً. وتبعاً لذلك يكون له تعين محدود . وعلى هؤلاء رُدَّ بالقول : المعنى الحقيقي للانهائية، هو الغنى إلى حد الجلال عن النهاية، وتجاوز كل حد من الحدود. فاللانهائية والكمال المطلق مترادفان " مشكلة الألوهية ص 117 ، 118 ، 111 وديكارت للدكتور عثمان أمين ص 137-141 " .

أخيراً نقول إن اللامتناهي كما يقول الأستاذ بارتلمي سانتهلير، ليس هو اللاموجود، لأن اللاموجود هو اللامتعين، وليس هو اللامتناهي. إذ أن اللامتناهي هو الموجود الذي لا بداية له أو نهاية. ولذلك فاللاموجود أو اللامتعين هو العدم، أما اللامتناهي فهو الموجود الأزلي الأبدي الذي لا حصر له ولا حدّ " الكون والفساد ص 303 " .
الفصل الثالث

مكان وجود الله


نتحدث عن مكان وجود الله، على فرض أن للمكان وجوداً خاصاً، لأن الفلاسفة اختلفوا في أمره اختلافاً عظيماً. فقال أرسطو : له وجود حقيقي . وقال كانت : ليس له مثل هذا الوجود، بل هو من فرض عقولنا " الفلسفة الإغريقية ج2 ص 48 ، ومعاني الفلسفة ص 109 " . أما جيمز فيقسم المكان إلى أربعة أقسام هي المكان العقلي، والمكان الحسّي، والمكان الطبيعي والمكان المطلق. فالأول هو الذي نتخيله في العقل عندما نتصور الأشكال الهندسية، والثاني هو الذي ندركه بالحواس، والثالث هو المكان العام الذي تقوم فيه الأجسام وتتحرك، وهو عام بالنسبة لنا، والرابع هو الذي يقول به نيوتن في تفسير نظرياته في الميكانيكا وحركات الأجسام السماوية، وهو مطلق من حيث أنه لا بداية له أو نهاية " معاني الفلسفة ص 106 " . وأخيراً قال علماء نظرية النسبية، وعلى رأسهم أينشتين : المكان المطلق والزمان المطلق ليس لهما وجود، لكنهما موجودان فقط إذا وُجدت الأشياء والحوادث، أي أنهما صور للإدراكات الحسية " قصة الفلسفة الحديثة ص 367 " . ومع كلٍّ، فالمكان موضوع نسبي يرجع الأمر في الحكم عليه إلى تقديراتنا البشرية، ونحن لا نعرف على وجه التحقيق معنى العبارة " كل مكان " ، لأنها تدل على نطاق لا ندرك له حدوداً.

ولقد انتهينا فيما سلف إلى أن لله تعيناً، لكن هذه الحقيقة تدخلنا في مشكلة من أدق المشكلات، لأن كل ما له تعين يوجد في مكان ما، فأين يوجد الله؟ إن قلنا إنه في السماء فقط فقد أخطأنا، لأنه هو الذي خلقها. وإن كان مقره فيها وحدها، فأين كان قبل خلقه إياها! وإن قلنا إنه في الأرض والسماء فحسب، فقد أخطأنا، لأنه هو الذي خلقهما، وإن كان مقره فيهما فقط، فأين كان قبل خلقه لهما؟!

الجواب : بما أن تعين الله لا يحدّه حدّ " كما مرّ بنا في الفصل السابق " إذاً فهو أسمى من أن يحده مكان من الأمكنة، أو كما كان يقول بعض علماء الدين : إنه أسمى من أن تحدَّه الفوقية أو التحتية، أو اليمينية أو اليسارية .

وقد شهد معظم الفلاسفة، على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها، أن الله لا يحدّه مكان، فقال أرسطو : المحرك الأول " أي الله " ليس في مكان ما، لأنه غير جسمي، ولأنه ليس في حاجة إلى مكان معين . وقال القديس أوغسطينوس : الله موجود في كل مكان بنوع خفي، وموجود في كل مكان بنوع ظاهر. فموجود بالحالة الأولى، لأنه لا يمكن لأحد أن يعرفه كما هو في ذاته، وموجود بالحالة الثانية، لأنه لا يقدر أحد أن يجهل وجوده . وقال اسحق بن العسال : كل متحيز متناهٍ، وكل متناهٍ محدث، فكل متحيز محدث، والباري ليس بمحدث، إذاً فهو ليس متحيزاً . وقال الإمام الغزالي رداً على سؤال الزمخشري عن معنى الآية الرحمن على العرش استوى : إذا استحال أن تعرِّف نفسك بكيفية أو أينية، فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الربوبية بأينية أو كيفية! " تاريخ الفلسفة اليونانية ص 236 ، وقصة الفلسفة اليونانية ص 320 ، واللاهوت النظري ص 16 ، وسلك الفصول ص 10 ، وحاشية الأمير على الجوهرة ص 65 " .

وقد أشار الله إلى عدم تحيزه بمكان فقال : أَلَعَلِّي إِلهٌ مِنْ قَرِيبٍ يَقُولُ الرَّبُّ وَلَسْتُ إِلهاً مِنْ بَعِيدٍ. إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلَأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقُولُ الرَّبُّ؟! " إرميا 23 :23 و 24 ، " والحق أن هذا النوع من الوجود يفوق العقل والإدراك. فإذا رجعنا إلى أقوال الأنبياء أنفسهم، وجدناه قد بهرهم وأعجز بيانهم. فقد قال داود النبي لله : أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ " مزمور 139 :7-10 " . كما خاطبه سليمانالحكيم، عندما بنى الهيكل : هَلْ يَسْكُنُ اللّهُ حَقّاً عَلَى الْأَرْضِ؟ هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لَا تَسَعُكَ!! " 1ملوك 8 :27 " . كما قال آخر : أَإِلَى عُمْقِ اللّهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ الْأَرْضِ طُولُهُ وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ " أيوب 11 :7-9 " . وقال أليهو : هُوَذَا اللّهُ عَظِيمٌ وَلَا نَعْرِفُهُ وَعَدَدُ سِنِيهِ لَا يُفْحَصُ " أيوب 36 :26 " . وبالطبع لا يقصد أيوب بهذا الوصف تصوير الله بحجم كبير، بل يقصد به فقط عدم إمكانية وضع أي حد من الحدود له. ومع كل، فهذا الوجود هو الذي يتوافق مع الله وخصائصه وأعماله كل التوافق، وذلك للأسباب الآتية :

1 - الله هو خالق كل شيء، الذي لا يمكن أن يحدّه مكان ما.

2 - الله لا أثر للمادة فيه ولذا لا يتحيَّز بحيز. ومهما كان تعريف العلماء للمادة إلا أنها حادثة، والله ليس بحادث، كما يتضح بالتفصيل في الفصل التالي.

3 - الله غير محدود ولا يحده حد من الحدود.

4 - الله خالق الكون وحافظه ومدبره والمتكفل بسلامته، حسب مقاصده الأزلية من نحوه، والقائم بهذه الأعمال لا يتحيز بحيز.

ولذلك لا سبيل للاعتراض على عدم تحيّز الله بمكان، كما أنه لا سبيل للاعتراض على عدم وجود حدّ لتعينه، كما ذكرنا في الفصل السابق.
الفصل الرابع

صفات الله


بما أن الله ذات، والذات لها صفات، إذاً فلله صفات. لكن نظراً لأن ذاته تفوق العقل والإدراك، كانت صفاته أبعد من أن نستطيع تحديدها أو تعيينها، ولذلك نكتفي هنا بالكتابة عما استطاعت عقولنا أن تدركه منها، وشهد الكتاب المقدس عن اتّصافه بها :

1 - وجوب الوجود : الموجود كما يقول الفلاسفة نوعان : ممكن الوجود و واجب الوجود . و ممكن الوجود هو الحادث الذي لا يوجد إلا بسبب ولا ينعدم إلا بسبب، ولذلك فهو لا يتقدم السبب ولا يلازمه، بل يكون بعده، ومن أمثلته الجماد والنبات والحيوان. أما واجب الوجود فهو وحده القديم الأزلي، الذي يحتاج في وجوده إلى موجد، لأن وجوده من مستلزمات ذاته، ولذلك لا يجوز أيضاً القول إنه أوجد ذاته، لأن قولاً مثل هذا يدل على أنه كان متقدماً على ذاته، وهذا محال. وهو ثابت إلى الأبد لا يزيد ولا ينقص ولا يطرأ عليه تغيير ما. ولذلك فالله دون سواه هو واجب الوجود " الفلسفة الإغريقية ج2 ص 62 والفلسفة الأوربية في العصر الوسيط ص 176 وسلك الفصول ص 28-30 وتاريخ الفلسفة في الإسلام ص 139 واللاهوت النظري ج2 ص 120-127 " . ولو فرضنا جدلاً أن واجب الوجود ليس له وجود كما يدّعي بعضهم، لقضى علينا المنطق بالتسليم بوجوده، لأنه لا بد أن ننتهي في بحثنا عن علل الأشياء، إلى علة أولى لا علة لوجودها، هي علة واجبة الوجود، وأصل ومصدر كل الأشياء. لأنه لو كان الأمر غير ذلك، لانتهى بنا بالبحث إلى التسلسل في الأزلية إلى ما لا نهاية له، وهذا ما لا يتفق مع العقل إطلاقاً.

فأي نوع منهما يتناسب مع الله؟

الجواب : بما أنه لو كان الله ممكن الوجود لكان مثله مثل العالم، وتبعاً لذلك لما كان في إمكانه أن يوجِده " لأن العالم لا يستطيع أن يوجِد من تلقاء ذاته، عالماً مثله " . فمن البديهي أن يكون الله واجب الوجود . والكتاب المقدس يعلن هذه الحقيقة. ففضلاً عن الآيات الكثيرة التي تشهد بها عنها " كما يتبين فيما يلي من هذا الفصل " فهو ينبئنا أن الله قد أطلق على نفسه باللغة العبرية " وهي لغة التوراة " اسم يهوه أي الكائن بذاته واجب الوجود.

وبما أن الله واجب الوجود، فهو لم يكن مسبوقاً بوجود أو عدم، وإذاً فهو ليس منذ الأزل فحسب، بل أنه أيضاً الأزلي . وبما أنه الأزلي فهو أبدي كذلك، لأن ما لا بداية له، لا نهاية له. وقد شهد الفلاسفة على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها، بهذه الحقيقة، فقال مليسوس : ليس لله مبدأ، وما ليس له مبدأ، ليس له نهاية . وقال القديس أوغسطينوس : لله الأزلية الحقيقية . وقال القديس غريغوريوس : الله ليس له ابتداء أو انتهاء . وقال الفارابي وابن سينا : الله واجب الوجود، ووجوده لذاته . أي أنه لم يكن مسبوقاً بعلة أو زمن.

والكتاب المقدس ينص على أزلية الله وأبديته بكل وضوح، فقد قال : إنه الأول والآخِر " إشعياء 44 :6 " وإنه مُنْذُ الْأَبَدِ اسْمُه " اشعياء 63 :16 " ولذلك خاطبه موسى النبي بالوحي : مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ الْأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ أَنْتَ اللّهُ " مزمور 90 :2 " 019 مزامير|90 :2",4.

2 - القدرة : بما أن الله هو خالق العالم وحافظه ومدبره، فهو قدير بقدرة لا حدَّ لها. ويقول الكتاب المقدس : عِنْدَ اللّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ " متى 19 :26 " . وقال أيضاً : اللّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ " تكوين 48 :3 " ولذلك خاطبه أحد الأنبياء بالوحي : لَكَ ذِرَاعُ الْقُدْرَةِ. قَوِيَّةٌ يَدُكَ. مُرْتَفِعَةٌ يَمِينُكَ " مزمور 89 :13 " .

3 - الإرادة : بما أنه ليس من المعقول أن يكون الله قد خلق العالم مُرْغَماً " لأنه ليس هناك من يرغمه على القيام بعملٍ ما " إذاً فهو مريد، ولذلك قال الوحي : كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، فِي الْبِحَارِ وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ " مزمور 135 :6 " وقال أيضاً عنه : الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ " أفسس 1 :11 " .

4 - العلم : بما أن صانع الشيء يعلم كل شيء عنه، وعمَّا يمكن أن يطرأ عليه، إذاً فالله على علم أزلي تام بجميع الأشياء التي في العالم. إذ فضلاً عن كونه خالق العالم، ويعرف كل شيء يمكن أن يطرأ عليه في كل الأزمنة تبعاً لذلك، فإنه لا يتأثر بالزمن على الإطلاق، لأنه أزلي أبدي. وينص الكتاب المقدس على علم الله بكل الأشياء، فقد قال : مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الْأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ " أعمال 15 :18 " . ولذلك خاطبه داود النبي بالوحي : يَا رَبُّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلَّا وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا " مزمور 139 :1-4 " . وقال بولس الرسول : يَا لَعُمْقِ غِنَى اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ!! " رومية 11 :33 " . وقال أيضاً : وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذ لِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا " عبرانيين 4 :13 " .

5 - البصر والسمع والكلام : بما أن المتَّصف بالعِلم يكون بصيراً، والذي له علاقة مع غيره يكون سميعاً وكليماً، وبما أن الله عليم وله علاقة مع خلائقه، إذاً فهو بصير سميع كليم، ولذلك قال الوحي منتقداً المعترضين على قدرة الله على السمع والبصر : اِفْهَمُوا أَيُّهَا الْبُلَدَاءُ فِي الشَّعْبِ، وَيَا جُهَلَاءُ مَتَى تَعْقِلُونَ؟ الْغَارِسُ الْأُذُنَِ أَلَا يَسْمَعُ؟ الصَّانِعُ الْعَيْنَ أَلَا يُبْصِرُ؟ " مزمور 94 :8 ، 9 " . أما عن كلامه بصوت مسموع، فقد نصَّت عليه آيات كثيرة يصعب حصرها، فاقرأ على سبيل المثال تكوين 3 :9 ، 22 وخروج 20 :1.

6 - الكمال : بما أن الله هو الذي أوصانا أن نعمل الخير ونتجنب الشر، وهو الذي أودع فينا الضمير الذي نميز به بين هذا وذاك، إذاً فهو كامل أيضاً في صفات القداسة والمحبة، والعدالة والرحمة، وغيرها من صفات الكمال. وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس وجدنا أن الإعجاب بكمال الله قد سبى عقول الأنبياء حتى عجزوا عن الإحاطة به عجزاً تاماً، فخاطبه داود النبي : ببِرُّكَ " أي استقامتك " إِلَى الْعَلْيَاءِ يَا اللّهُ الَّذِي صَنَعْتَ الْعَظَائِمَ. يَا اللّهُ مَنْ مِثْلُكَ؟! " مزمور 71 :19 " . وأيضاً : يَا رَبُّ فِي السَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ. أَمَانَتُكَ إِلَى الْغَمَامِ,,, مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اَللهُ!! " مزمور 36 :5-7 " . كما خاطبه موسى النبي : مَنْ مِثْلُكَ,,, يَا رَبُّ؟,,, مُعْتَزّاً فِي الْقَدَاسَةِ؟! " خروج 15 :11 " . وقال يوحنا الرسول عن اتصاف الله بالمحبة : الله محبة " 1يوحنا 4 :8 " . أي أنه ليس محباً فقط، بل إنه أيضاً محبة، أو بتعبير آخر إن محبته لا تنضب، أو تقل على الإطلاق.

ولا يُقصَد بالقول الله محبة أن صفة المحبة هي ذات الله، كما يقول بعض الفلاسفة إن صفات الله هي ذاته، بل يُقصَد به أن كيانه " إن جاز هذا التعبير " يفيض بالمحبة، وأن محبته لا حدَّ لها.

7 - الثبات أو عدم التغيُّر : بما أن الله أزلي أبدي، إذاً فهو لا يتغير في أية ناحية من النواحي. فمثلاً لا تتغير صفاته كالعدل والرحمة والقدرة، فيصبح يوماً ما متساهلاً أو قاسياً أو عاجزاً. ولا تتغير أقواله من نبوات ووعود وأوامر ونواهي، فيلغي بعضها ويأتي بغيرها، بل أنه يظل كما هو بذاته ومقاصده، إلى الأبد. وقد شهد بهذه الحقيقة فقال : لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لَا أَتَغَيَّرُ " ملاخي 3 :6 " . ولذلك كشف عن عيني بلعام، فقال : لَيْسَ اللّهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ، وَلَا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلَا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلَا يَفِي؟! " عدد 23 :19 " .

فالله " كما أجمع الفلاسفة المؤمنون بوجوده الذاتي " لا ينتقل من العدم إلى الوجود، لأنه لا علة لوجوده أصلاً. ولا ينتقل من الوجود إلى العدم، لأن وجوده واجب. ولا يتغير في أية صفة من صفاته، لأنه كامل في ذاته كل الكمال. وما أصدق ما قاله القديس أوغسطينوس في إحدى صلواته : كما نعرف أنك أنت الموجود الحقيقي وحدك، كذلك نعرف أنك أنت وحدك الموجود بلا تغيّر، والمريد بلا تغيّر .

8 - الحياة : بما أن الصفات السابق ذكرها لا توجد في الجماد بل في الحي، إذاً فالله حي. نعم، بل وهو رب الحياة لأنه خالق العالم وكل ما فيه، والشرط الأساسي في الخالق أن يكون حياً. ولذلك كان الأنبياء عندما يتكلمون عنه يقولون : حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ " 2ملوك 5 :16 " . كما قال أيوب الصديق عنه : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ " أيوب 19 :25 " . وقال بولس الرسول : رَجَعْتُمْ إِلَى اللّهِ مِنَ الْأَوْثَانِ لِتَعْبُدُوا اللّهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ " 1تسالونيكي 1 :9 " . كما قال يوحنا الرسول : يَسْجُدُونَ لِلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ " رؤيا 4 :10 " .

أخيراً نقول إن هذه الصفات لكونها صفات الله، فهي تمتاز بالآتي :

1 - إنها غير محدودة سواءً في قوتها أم في فعلها، لأنه تعالى لا يحدّه حدّ.

2 - إنها متوافقة معاً كل التوافق، لأن من دواعي كمال الله ألا تطغَى صفة فيه على صفة أخرى. فمثلاً صفة الرحمة فيه لا تطغى على صفة العدالة، وصفة العدالة فيه لا تطغى على صفة الرحمة، بل إنهما متعادلتان كل التعادل ومتوافقتان كل التوافق، وهكذا الحال مع كل صفاته المتقابلة كالقوة والصبر، والعظمة والوداعة، وغير ذلك.

3 - إنها أصلية فيه فهو قدير عليم مريد سميع بصير كليم أزلاً، قبل وجود أي مخلوق من المخلوقات، لأنه كامل في ذاته كل الكمال، ولا يكتسب شيئاً من الخصائص أو الصفات، لأن الاكتساب يدل على التغيُّر، وهو لا يتغير.

هذا بحث مختصر عن ذات الله وصفاته، وليس في وسعنا أن نكتب عنه أكثر مما كتبنا، لأنه ليس له شبيه حتى نستطيع وصفه وصفاً كاملاً، فقد قال لنا : بِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي وَتُسَوُّونَنِي وَتُمَثِّلُونَنِي لِنَتَشَابَهَ؟! " إشعياء 46 :5 " . والجواب : طبعاً، لا شبيه لك ولا نظير يا الله، لأنك القوي ولا حدَّ لقوتك، والكامل ولا نهاية لكمالك، والحكيم ولا آخر لحكمتك، ولذلك لا يمكن الإحاطة بك على الإطلاق!
الفصل الخامس

الاعتراضات والرد عليها


أجمع الفلاسفة الذين يؤمنون أن الله ذات على حقيقة إسناد الأزلية إليه، لأنه علة كل شيء في الوجود، والعلة تسبق المعلول. لكنهم اختلفوا في أمر الصفات الأخرى. فأسندها بعضهم إليه، ونفاها البعض الآخر عنه. وفيما يلي أهم حجج الفريق الأخير، والرد عليها :

1 - الله لا يتصف بصفة، لأنه لو اتصف بصفة لكان محدوداً من جهة معنى هذه الصفة، وهو غير محدود من أي جهة من الجهات. فالبشر هم الذين أسندوا إليه الصفات التي يتّصفون بها ويميلون إليها. ومما يثبت صحة ذلك أن الزنوج وصفوه بأنه أسود، والصينيين بأنه أصفر وهكذا .

الرد : الاعتراض بأن الله لا يتصف بصفة لا نصيب له من الصواب لأن كل موجود يتصف بصفة، وليس هناك بلا صفة إلا غير الموجود. وبما أن الله موجود، إذاً فمن المؤكد أنه يتصف بصفات. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الصفات التي يتصف بها الله ليست كالصفات التي تتصف بها المخلوقات المحدودة في قوتها أو فاعليتها، فصفاته غير محدودة من هاتين الناحيتين. فاتّصافه بها لا يدل على أنه محدود من أية ناحية من النواحي.

كما أن الجزء الثاني من هذا الاعتراض لا نصيب له من الصواب، لأن المتمسّكين بالإنجيل " مثلاً " يقومون بناءً على الوصايا الواردة فيه بأعمال لا تميل إليها الطبيعة البشرية الكامنة فيهم وفي غيرهم من الناس، فهم يحيون حياة القداسة في أعمالهم وأقوالهم وأفكارهم، كما يحبون أعداءهم ويحسنون إليهم ويصلّون من أجلهم، وليست لهم غاية من ذلك سوى أن يكونوا في حالة التوافق مع الله. وهذه الظاهرة وحدها تدل على أن الصفات المسنَدة إلى الله في الإنجيل، مثل القداسة والمحبة والطهارة والرحمة، هي صفات أصلية فيه، وليس المسيحيون هم الذين أسندوها إليه. أما عقائد الوثنيين في آلهتهم فلا يصح اتّخاذها حجّة لأنها مؤسسة على تصوراتهم الخاصة، وليس على حقيقة ثابتة.

2 - الإرادة انفعال وتغيُّر، والله منّزَه عن الانفعال والتغير، ولذلك فإنه يتنزه عن الاتصاف بالإرادة .

الرد : بما أن الله هو الذي خلق العالم وبعث الحياة إليه، وبما أنه لا يمكن أن يكون قد قام بذلك مرغماً، لأنه بوصفه الأزلي وحده ليس هناك ما أو من يرغمه على عمل شيء من الأشياء. إذاً لا شك في أنه قام بذلك بمحض إرادته واختياره. وقد شهد معظم الفلاسفة والعلماء بهذه الحقيقة، فقال توما الأكويني : يجب إسناد الإرادة إلى الله، لأنها تتبع العقل من حيث أنها الميل إلى الخير المعقول، ومحبة هذا الخير متى حصل. فالله يريد ذاته على أنه خير وغاية، ويريد غيره لأن من شأن الخير أن يُشرك الغير في خيره. على أنه يريد ذاته بالضرورة، لأنها الموضوع الخاص لإرادته. ويريد غيره بالاختيار، لأن هذا الغير لا يزيد الخيرية الإلهية شيئاً من الكمال " الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط ص 64 " . وقال الإمام الغزالي : أما الذي في الفاعل فهو أنه لابد وأن يكون مريداً مختاراً، وعالماً لما يريده " تهافت الفلاسفة ص 148 " . والله فاعل، إذاً فهو مريد. فضلاً عن ذلك فإن الإرادة " كما سيتبين في الباب الثاني " لم تنشأ في الله عندما قام بالخلق، بل كانت ملازمة له أزلاً. ولذلك فلم يحدث ولن يحدث بسببها انفعال أو تغير فيه.

3 - العالَم متغيّر. وتعلّق العلم بالمتغيّر يؤدي إلى التغيير في العالِم. ولأن الله لا يتغير، إذاً فهو يتنزه عن العِلم بالعالَم .

الرد : إن علم الله بالعالم لا يؤدي إلى طروء التغير عليه لسببين : " أ " لم ينشأ علمه بالعالم عند وجود العالم، بل كان لديه أزلاً، لأنه هو خالقه، والخالق يعرف كل شيء عن خليقته قبل خلقها. " ب " إنه لا يتأثر بالزمن، ومن لا يتأثر بالزمن، لا يطرأ عليه تغيّر بسبب علمه بشيء يحدث فيه. وقد شهد كثير من الفلاسفة بهذه الحقيقة. فمثلاً قال توما الأكويني : عِلْم الله ليس تدريجياً، بل حاصل دفعة واحدة لحضور الذات الإلهية لذاتها حضوراً تاماً . وقال أيضاً ما ملخصه : الله عالم للأسباب الآتية " أ " العِلم كمال، والله كامل. " ب " الله منّزه عن المادة تنزيهاً تاماً. ولذلك يقبل الصور المعنوية للأشياء قبولاً تاماً. " ج " الله هو العلة الفاعلة الأولى. ولذلك فلمفعولاته وجود سابق في علمه " الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط 181 " . ولذلك فإن علم الله بالعالم لم يحدث ولن يحدث بسببه، أي تغير فيه تعالى.

ولمجرد تقريب هذه الحقيقة إلى الذهن نقول إن الإنسان الواقف على الأرض لا يرى من الناس إلا من يمرّ عليه منهم، ولذلك يحسب في وقت ما أن بعضهم قد مضى عنه، وبعضاً آخر قد صار أمامه، وبعضاً غيرهم سوف يمرّ عليه. بينما الناظر من نافذة طائرة في الجو يراهم دفعة واحدة في لحظة من الزمن. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أن الله الذي لا يتأثر بالزمن، لا يكون أمامه ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، بل أن يكون كل شيء " مهما كان زمن حدوثه " ، حاضراً أمامه.

4 - الله يتنزَّه عن الاتّصاف بالبصر والسمع والكلام، لأن الاتّصاف بهذه الصفات يتطلب وجود أعضاء، والله لا أعضاء له. ولذلك فإن هذه الصفات وصفتي الإرادة والقدرة أيضاً، هي بعينها صفة العلم في الله .

الرد : لا يحق لنا أن ننكر اتّصاف الله بالصفات المذكورة للسبب الذي ذهب إليه المعترضون أو لأي سبب آخر، لأنه إذا كانت النفس البشرية " مثلاً " مع كونها حادثة ومحدودة ومقيّدة بكثير من القيود الطبيعية، هي عاقلة بذاتها بدون تعلقها بالمخ والأعصاب " كما يقول علماء الأرواح " لذلك ليس هناك مبرر لنفي هذه الصفات عن الله بدعوى عدم وجود أعضاء له، لا سيما وهو الذي لا بداءة له أو نهاية، وهو الذي لا حدّ لتعيّنه أو قدرته على الإطلاق.

أما رد هذه الصفات إلى العلم فغير معقول " كما قال معظم الفلاسفة " لأن اعتبار الإرادة في الله هي علمه بالفيض الصادر منه، وعدم كراهيته له يجعلها صفة سلبية، ونحن قد أثبتنا خطأ إسناد الصفات السلبية دون الإيجابية إلى الله. واعتبار القدرة فيه هي علمه بالأشياء الخارجة عنه، يجعل العلم صفة إبراز وتأثير، وليس صفة تكشف بها المعلومات، الأمر الذي لا يتفق مع حقيقته. كما أن اعتبار كلامه هو علمه، الذي تستقبله نفوس الأنبياء غير معقول، لأن نفوس الأنبياء وإن كانت أنقى من غيرها من نفوس البشر، إلا أنها ليست في درجة نقاوة الله وكماله، حتى تستطيع أن تستقبل علمه مباشرة. فلو أن الأنبياء كانوا قد تُركوا لاستقباله من تلقاء أنفسهم لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ولكن بما أنهم أدركوا ما أراد الله أن يعلنه لهم من علمه إدراكاً كاملاً، إذاً فمن المؤكد أنه كان يتكلم معهم بصوت واضح لهم.

والحق أنه ليس هناك ما يبرر نفي صفة من هذه الصفات عن الله بسبب عدم وجود أعضاء له، لأننا إذا نفيناها عنه لهذا السبب، وجب أن ننفي أيضاً عنه إمكانية القيام بأي عمل من الأعمال " لأنه ليس له مثلاً يدان أو رجلان " . وهذا ما لا يقوله إنسان يؤمن بكمال الله، أو خلقه للعالم، أو عنايته به.

5 - حياة الله هي وعيه بكل شيء، لأن الله لا يمكن أن تكون له حياة مثل حياتنا .

الرد : بما أن الوعي ليس هو الحياة، بل إنه الدليل على وجودها، إذاً فلا يمكن أن يكون هو إياها، وإذاً فمن المؤكد أن تكون لله حياة في ذاته. وطبعاً ليست هذه الحياة هي الحياة المادية التي تتجلى في الحركة والانتقال من مكان إلى مكان، لأن حياةً مثل هذه تدل على العجز وطلب الكمال، وهو قادر على كل شيء، وكامل كل الكمال، بل هي الحياة الروحية المحضة التي تتجلى في الإدراك والعلم والقدرة، لأن هذه الحياة هي التي تتفق مع كماله كل الاتفاق.

المسيحية و الدروشة

أحب أن نناقش قضية قد تكون شائكة عند البعض و هى: لماذا نهتم هذا الاهتمام الهائل بالمعجزات و الزيوت و الحنوط دون الاهتمام بالجوهر الإيمانى. حينما عاد التلاميذ إلى السيد المسيح منبهرين بالمعجزات التى صنعوها قال لهم السيد المسيح أن يفرحوا بالحرى بأن أسماءهم كتبت فى ملكوت السموات. لقد أصبحنا نتعلق بالمعجزات و نتحدث عنها أكثر ما نتحدث عن الايمان نفسه. لقد صار إهتمام البعض بأجساد القديسين و الحنوط أكثر من إهتمامهم بالتناول. لقد أصبحنا أقرب للدراويش منا للمسيحيين. هل هى عادات موروثة، أم منقولة من أديان أخرى؟! هل نحن ننظر للأيقونة لنتأمل فى إيمان صاحبها ناظرين إلى نهاية سيرته متثملين بإيمانه، أم نتمسح فيها فقط لنوال البركة. هل نحمل حنوط القديسين فى محافظنا لنتذكر كل حين صاحب الحنوط و كيف كان إيمانه و أعماله، أم نحملها مثل حجاب أو حرز يبعد عنا الشر و العين و الحسد؟! أرجو مناقشة هذا الموضوع بجدية و دون حساسية.
سلام ونعمة ليكم :
شكرا ليك ياأخ حازم موضوع جميل جداا ..
فى حاجة عندى تخص الموضوع داا ..
فى سنة الماضية كان صديق من أصدقائى مراقب فى الأمتحانات فى أحدى الجامعات ، لاحظ شىء غريب جددا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍ وهو طالبة تقوم بوضع صور القدسين على المكتب الخاص للأمتحان .
فى بعض الطلبة المسيحين يقومون بوضع صورالقدسين بس على الاقل بيبقى صورة واحده ودا شىء عادى أما الطالبة التى لفتت جميع أنظار المراقبين حتى فى اللجان الاخره وهى تقوم بوضع 5 أو 7 صور على الاقل وكمان كوب صغير بهى زيت متصلى علية شىء غريب المهم جاء شخص وسأل صديقى لية كل داا‍‍‍، قل لة صديقى معلش دى حاجات عندنا أحنا بنتبارك بيها يعنى لو اى حد كان مكان صديقى دا كان هيقول أية ......
أنا مش عارف أحنا بنضع نفسينا فى مواقف غريبة أوى
جميل قوى التشفع بالقديسين، و جميل قوى إيمان صديقك بالشفاعة. لكن ...
الوضع وصل بينا كمسيحيين لحالة من الدروشة و شئ لله يا ست و زيت بركة يمنع الحسد و يزيح المرض و ينجح فى الامتحان.

أنا مش ضد المعجزات، بل أنا أؤمن بها كإيمانى بوجود الله نفسه. و أنا مش ضد الشفاعة، بل أنا مجرب لشفاعة القديسين فى مواقف عديدة.

إنما أنا ضد الممارسات الخزعبلية و الدروشة.
ضد اللى بيتمسح فى صورة السيدة العذراء بدون ما يعرف هى الأيقونة محطوطة ليه.
ضد اللى شايل حنوط القديسين فى محفظته على سبيل الحرز أو الحجاب اللى يبعد عنه النشالين و شر العين.
ضد اللى بيروح الدير و يسيب القداس شغال و الذبيحة مرفوعة على المذبح علشان يلحق يقف فى الطابور ياخد بركة من جسد القديس فلان.
ضد اللى بيخترعوا معجزات إتذاعت فى برنامج (............) و تليفزيون الدولة العربية (................) و اللى حصلت مع مش عارف مين مشهور. لأن القديس اللى عمل المعجزة مش محتاج إننا مخترع له معجزة جديدة لأن معجزاته مالية الدنيا منها اللى نعرفها و اللى ما نعرفهاش.
ضد اللى بيألفوا معجزات لقديسين علشان يصبروا نفسهم من ضعف إيمانهم بوجود الله.
ضد اللى بيشيعوا خبر خطف بناتنا علشان يداروا على خيبتهم و إنهم ما عرفوش يربوا و بنتهم هربت مع شخص من الدين الفلانى.

لقد أصبحنا فريسيين نهتم بالظاهر و لا نهتم بالايمان. نهتم المخلوق دون الخالق. نهتم بجسد القديس أكثر من إهتمامنا بجسد الرب و دمه. و الموضوع تحول إلى ما يشبه الشعوذة و الدجل دون الدخول فى عمق مفهوم الشفاعة.
موضوع مهم جدا يا استاذ حازم و فعلا محتاجين من وقت لأخر نقف و نعرف ماذا فعلنا بإيماننا و ماذا جنينا على قديسينا الذين كانوا أمناء حتى الدم و لكن .......
ان الكثير من هذه الممارسات عندما تلتصق بالبسطاء من الناس-فهذا امر وارد- و لكن الكارثة عندما يمارسها الباقون بدون وعى بدون فهم و يكفى ان تذهب لأحد الموالد التى تقام اصلا للاحتفال باستشهاد قديس لترى و تسمع العجب العجاب .
إن مجرد وقفة لفهم ما نفعل و لماذا ربما تعيد البعض إلى ادراكه الصحيح و ايضا نحاول دائما ان نضع الفهم الصحيح للشفاعة امام اعيننا و عندما نكون صداقة مع احد القديسين فهذا يكون نتيجة فهم و حب لشخص جمعنى به حبنا المشترك للمسيح .

التسامح

طبيعة السيد المسيح



طبيعة السيد المسيح
=================




اكيد ربنا والهنا






اكيد ربنا والهنا
=================

بسم الأب و الابن و الروح القدس
اله واحد أمين
+++


قبل أى شىء لابد ان نتذكر كلام سيدنا المسيح
"طوبى لمن آمن و لم يرى"

من الاسئلة التى دائما تخطر فى أذهاننا هى
هل المسيح حقا هو ربنا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخوتى سنتناول الموضوع بمنتهى البساطة و بتدريج


1- رب بمعنى المعلم :

استخدم لقب رب اولا للسيد المسيح بمعنى " معلم" وذلك بسبب نظرة تلاميذه الذين هم فى الاصل يهود
وكذلك بسبب نظرة اليهود له كمعلم
وقد ذكرت هذه صراحة فى العهد الجديد
+"يارب علمنا أن نصلى"
+وقال لهم "انتم تدعونني معلما و سيدا و حسنا تقولون لاني انا كذلك (يو 13 : 13)"
وكانوا يدعونه أيضا ربى و ربونى ( 16- قال لها يسوع يا مريم فالتفتت تلك و قالت له ربوني الذي تفسيره يا معلم.
"يوحنا 20 :16) وأصلهما رب
وتعنى فى العبرية السيد العظيم و المعلم

2- يسوع هو الرب يهوه(رب الكون وسيده و خالقه و مالكه)
ترجمت يهوه فى العهد الجديد الى رب الكون وسيده و خالقه و مالكه للاب و الابن على السواء
الله الاب دعى رب و الابن دعى رب بنفس المعنى اللاهوتى و بوظيفة مساوية للتى لله الاب
وعلى الرغم من أن اللقب قد استخدم للمسيح سواء من اليهود أو من التلاميذ خاصة قبل الصليب و القيامة
و لكن ليس بمعناه اللاهوتى كاملا الا ان الوحى الالهى نسب اليه اللقب بمعناه اللهوتى الكامل خاصة فى الاعلانات السماوية عنه:

قيل عن يوحنا المعمدان انه يكون :

"عظيما امام الرب ....يهىء للرب شعبا مستعدا"-(لو 1 :17)
و الرب هنا هو السيد المسيح و اللقب ذكر هنا بمعناه اللاهوتى كامل اى يهوه
فقد جاء فى العهد القديم عن يوحنا المعمدان:
"صوت صارخ فى البريه أعدوا طريق يهوه"(أشعياء 40:3)
و جاء عنه أيضا فى العهد الجديد
"كانت كلمة الرب على يوحنا بن زكريا فى البرية.....صوت صارخ قى البرية أعدوا طريق الرب"(لوقا 3:2-4)
و المقصود فى الاية الثانية الرب يسوع المسيح , كما جاء فى الاية الاولى و هو نبؤة عنه
نبؤة عن يوحنا كصوت صارخ امام الرب يسوع المسيح الذى هو يهوه
و هذا ما بينه بصورة اكبر سجود المعمدان و هو جنين فى بطن أمه له ستة أشهر للرب يسوع المسيح
بينما الملاك لم يبشر العذراء بالمسيح سوى من أيام قليلة
"فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها و امتلات اليصابات من الروح القدس."(لوقا 1 :41)

و لكون السيد المسيح هو الرب (يهوه) قال عنه المعمدان:
+"الذى يأتى بعدى هو أقوى منى الذى لست أهلا ان احمل حذاءه"(متى 3 :11)
+"وأنا قد رأيت و شاهدت أن هذا هو ابن الله"(يوحنا 1 :34)
+الذى يأتى من فوق هو فوق الجميع.... الذى يأتى من السماء هو فوق الجميع"(يوحنا 3 :31)
+"الاب يحب الابن و قد دفع كل شىء فى يديه"(يوحنا 3 :35)
كما قالت امه اليصابات للعذراء "من أين لى أن تأتى أم ربى الى" (لوقا 1 :43)
وهذا يؤكد ان المسيح كرب هو يهوه الذى اتى من فوق من السماء مللك كل شىء ورب كل شىء و سيد كل شىء
و الذى هو فوق الجميع
و السيد المسيح نفسه يستخدم هذا اللقب بمعناه اللاهوتى المطلق فى كثير من أقواله:
+"ليس كل من يقول لى يا رب يدخل ملكوت السماء" (متى 7 :21 )
+"ابن الانسان هو رب السبت أيضا"" (مرقس 2 :28)
+وعندما سأل اليهود قائلا"ماذا تظنون فى المسيح؟ابن من هو؟ قالوا ابن داود
قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربا....فان كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه"(مت 22 : 43)
+ومتى جاء ابن الانسان فى مجده و جميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسى مجده....د
فيجيبه الابرار متى رأيناك..." (متى 25 :31-37)
وهذه الايه تدل على انه رب السموات و الارض ,رب الطبيعة و الارواح و سائر المخلوقات
,رب السبت,رب داود, رب الملائكة,رب المجد, رب العرش, رب الدينونة (الديان)
انه الرب اى يهوه بمعناه اللاهوتى الكامل . قال الملاك فى بشارته للرعاه "ولد لكم اليوم فى مدينة داود
مخلصا هو المسيح الرب"(لو 2 :88). و يتضح معن هذا اللقب كلاما بالاضافة لما سبق
فى مخاطبة توما له"ربى و الهى"(يو 20:28)
انه الرب و الاله (الرب الاله)

3- الرب بعد القيامه :

و ان كان السيد المسيح تعمد اخفاء لاهوته قبل الصلب و القيامة (لاتمام النبؤات فى العهد القديم)
برغم ما أعلنه عن الوهيته فى عدة مواقف و بالرغم من أن الكثير من أقواله و أعماله التى كانت واحدة منها تكفى لاعلان لاهوته
كما فهم اليهود وقالوا
"قال ايضا ان الله ابوه معادلا نفسه بالله"(يو 5 :18)
و "فانك وانت انسان تجعل نفسك الها"(يو 10 :33)
كما حاولوا رجمه عده مرات لذلك
الا ان الموقف تغير تماما بعد القيامه من الموت و لم يعد هناك ما يدعو لاخفاء لاهوته
فبدأ يظهر مجده و لاهوته امام تلاميذه بدون اخفاء او تحفظ و تحولت علاقة تلاميذه الودية الى الرهبة و الخوف المشوب
بهيبة النظر الى الاله رب المجد "يهوه"

وعند رؤية المريمتين له بعد القيامة "سجدتا له"(متى 28 :9)
و الشريعة تقول "ليهوه الهك تسجد و اياه وحده تتقى و تعبد"(تث 10 :20 و متى 4 :10)
ولما ظهر لتلاميذه عند بحيرة طبرية يقول الوحى الالهى "لم يجسر أحد من تلاميذه أن يسأله من أنت إذ كانوا يعلمون انه الرب"
(يو 21 :12)
و كان أقوى اعلان بعد القيامة هو اعلان توما الذى خاطبه "ربى و الهى"

أيضا اعلنها رب المجد يسوع المسيح بعد القيامة

+"دفع لى كل سلطان فى السماء و على الارض"(متى28 18)
+"وأن يكرز باسمه للتوبة و مغفرة الخطايا لجميع الامم"(لو 24 :47)
+"اذهبوا و تلمذوا جميع الامم و عمدوهم باسم الاب و الابن و الروح القدس"(متى 28 :19)
+"وها أنا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر"(متى 28 :19)
وهذه الايات ايضا تدل على انه رب السماء و الارض , رب الطبيعة, و بالرغم من صعوده الى السموات
فلان له القوة الالهية سيكون معنا الى انقضاء الدهر

لا نقول المسيح الها والاب الها و الروح القدس الها
بل نقول المسيح ابن الله هو ربنا هو روح الاب(روحه القدس)واحدا معه فى الجوهر
الها واحدا وليس ثلاث



لو لم يكن السيد المسيح رب و إله لتمنيت أن أتبع إنسان مثله معلماً و أعبد إله يكون مثله محباً.

خطوره استخدام كلمه كل فىاللا هوتيات


6 - محاضرات في مادة اللاهوت الطقسي الأنبا بنيامين

6 - محاضرات في مادة اللاهوت الطقسي الأنبا بنيامين
=================================


محاضرتي معهد الرعاية 2005م
----------------------------------------

الأعياد السيدية

حضرة صاحب النيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين

============================

عيد أحد الشعانين

---------------------------------

وهو عيد دخول السيد المسيح إلى أورشليم كحمل حقيقي تحت الحفظ من اليوم العاشر من نيسان إلى اليوم الرابع عشر حيث يذبح (مثلما كان يحدث مع خروف الفصح) وكلمة شعانين مأخوذة من كلمة هوشعنا أي خلصنا وهي كلمة عبرية يقابلها باليونانية أوصانا وكلها بمعنى خلصنا...



أسماء أخرى للعيد: أحد الأغصان أو أحد السعف أو أحد أوصانا حيث يطوفون البيعة وفي أيديهم أغصان السعف وأغصان الزيتون كما حدث في استقبال الرب لدخوله...

لماذا السعف؟ غشارة للنصرة كما ورد في (رؤ 7 : 9) حسبما رأى يوحنا الرائي المنتصرون...

لماذا أغصان الزيتون؟ غشارة للسلام والأمان والحياة الدائمة (مثلما حدث مع نوح)



مكانة العيد في الكنيسة: هو عيد سيدي كبير تحتفل به الكنيسة متذكرة هذا الحدث المهم الذي فيه تحققت النبوات وبدأت الأحداث الفعلية للخلاص الذي تم على الصليب... (1كو 5 : 7) "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا"... فخروف الفصح كان مجرد رمزاً للمسيح.

وللعيد بعد تاريخي: إذ كان يسمى أحد المستحقين (للعماد) فيغسلون رؤوسهم للتطهير وكان يتم التنصير (المعمودية) في يوم سبت النور... وفي ذلك تحقيق لمعنى الخلاص. وهذا يدل على تدقيق الكنيسة في أسرارها لمن يستحق وليس لكل أحد.....

مع ملاحظة إرتباط هذا بأحداث (خميس العهد والجمعة العظيمة وأحد القيامة) ومعناها للخلاص.

تظهر قيمة العيد هذا في حضور الجميع بالكنيسة (يكتظ الكنيسة بعدد المصلين أكثر من أي يوم آخر)



أولاً: البعد اللاهوتي للعيد: من أحداث ذلك اليوم يظهر ما يدل على لاهوت السيد المسيح...

1) معرفة السيد المسيح بالغيب: إذ هو الإله الحقيقي الذي يعرف المستقبل...

+ (مت 21 : 2 ، 3) " إذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتاناً مربوطاه وجحشاً معها فحلاها وإتياني بهما وإن قال لكما أحد شيئاً فقولا الرب محتاج إليهما فللوقت يرسلهما"... وقد تم كل ذلك.. مع ملاحظة تعبير (الرب) دلالة على لاهوته...

+ (لو 19 : 42 – 44) أعلن الرب ما سيحدث لأورشليم فقال (إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الآن قد أُخْفِيَ عن عينيك فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفِ زمان إفتقادك"... وقد حدث كل ذلك على يد تيطس القائد الروماني سنة 70 ميلادية... أي بعد حديث الرب بحوالي 40 عاماً...

2) تحقيق النبوات عن هذا اليوم: نبوة (زكريا 9 : 9) "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون إهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وجحش ابن أتان"...

وكما ورد في (لو 19 : 45 ، 46) عن تطهير الهيكل وقول الرب للناس (ان بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة للصوص... نرى نبوة (إش 56 : 7) "آتي بهم إلى جبل قدسي وأخرجهم في بيت صلاتي وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب".. وهكذا في نبوة (إرميا 7 : 11) "هل صار هذا البيت الذي دعي اسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم". وكذلك ما ذكر في (يو 2 : 17) عن عبارة أنه مكتوب أن غيرة بيتك أكلتني...

3) تطهير الهيكل: طرد الباعة والمشترين وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام مت 21 : 12 ولم يدع أحد يجتاز بمتاع (مر 11 : 16) وهذا سلطان غير عادي سأله الفريسيون عنه... وقد صنع الرب ذلك معلناً عن وجوده كذبيحة حقيقية فلماذا الرمز إذن؟!!!... كما قال أحد القديسين: إن طرد باعة الحمام يحمل عملاً رمزياً فقد جاء السيد المسيح فصحنا ليبذل نفسه فدية عنا لذا كان يجب إبطال الذبيحة الحيوانية الدموية فلا حاجة للبيع والشراء... وفي سؤال الفريسيين عن السلطان وإجابة الرب (مت 21 : 24 – 27) ما يؤكد أنه هو المخلص فقد شهدت السماء عنه من خلال معمودية يوحنا المعمدان ولم يستطيعوا انكار ذلك وهذا دليل آخر على لاهوت السيد المسيح...

4) حديث الرب عن نفسه: بيتي بيت الصلاة يدعى – من أفواه الأطفال والرضعان هيأت تسبيحاً – مملكتي ليست من هذا العالم (يو 18 : 26)... ان سكن هؤلاء لنطقت الحجارة (مت 21 : 16)...

5) كذلك شهادة الأطفال والرسل والناس: أوصانا لابن داود – أوزصانا في الأعالي – مبارك هو الآتي باسم الرب – مباركة هي مملكة داود أبينا – (مت 21 : 9)

6) شهادة من خلال طقس اليوم: إذ نقرأ البشائر الأربعة في أركان الكنيسة الأربعة شهادة أن ذبيحة المسيح كافية للعالم كله وأن الكرازة بالإنجيل وبالخلاص للعالم كله... وكفاية الذبيحة إشارة إلى لاهوت المسيح... (ملاحظة بناء القبة على 4 عمدان ورسم الأربع مخلوقات غير المتجسدين على أركان القبة بطريقة فيها ترتيب عكس اتجاه عقارب الساعة ومدلول ذلك لاهوتياً"...



ثانيا: البعد الروحي للعيد: المعنى الانتصاري للعيد في دخول الرب ليحقق النصرة على الموت وعلى الخطية... وهذا هو مفهوم الخلاص الذي ذُبح الرب من أجله... لذلك في التسابيح يذكرون مملكة داود لأنه رمز للسيد المسيح حين انتصر على الشيطان (جليات)... ويعلق ق. أغسطينوس على لو 19 : 10 قائلاً عن لأن إبن الإنسان قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك لقد جاء الرب يبحث عن المفقودين الذين اختفوا بين الأشواك وتشتتوا بين الذئاب لذلك حمل الأشواك في جبينه فخلصهم منها بذبحه لأجلهم...

والمعنى الثاني : التسبيح : دليل الفرح الحقيقي الذي ينتج عن الخلاص... ويقول الأنبا موسى: لا يقدر على التسبيح إلا مت تمتع بالخلاص والحياة الأبدية... أما من دخلوا في مملكة إبليس فلا يقدرون على التسبيح بل يرفضونه... ليس في الجحيم من يشكرك ولا في الهابطين إلى الجب... أما نحن الأحياء فنباركك إلى الأبد..

فكرة التطهير:التطهير من الخطية والشكلية والعبودية المرة للشر... يقول ق. امبروسيوس الله لا يريد أن يكون هيكله موضعاً للتجارة لأن هيكله مقدس مؤكداً على خدمة الكهنوت أنها لا تتم بالاتجار بالدين بل بالبذل الإرادي مجاناً... فالتجارة تشير إلى روح العالم (مغارة لصوص) والتطهير يتم بالتوبة والاعتراف والحل والتناول (الحياة السرائرية) بالمسيح من خلال خدمة الكهنوت... والتطهير له بعد الصلوات والعبادات لتقديس الهيكل وبالصوم كذلك.



ثالثاً: البعد الرعوي: صورة الرب وسط تلاميذه والجموع (الفرحين به كمخلص) هي صورة للرعاية من خلال عمل المسيح الخلاصي لكل من يؤمن به ويحيا معه من خلال الأسرار فقد جاء الرب ليعيد ملكية الله على الإنسان... وينقذ مملكته من يد الشيطان... إنها صورة الخدمة في كل الأجيال وهدف الرعاية السامي جداً... وبركات الرعاية في الآتي:

فرش القمصان: يشير لخلع المظاهر الخارجية لتكون الحياة مع الله من الأعماق... مو 129 : 1 ، 2 كو 10 : 5 مستأثرين كل فكر لطاعة المسيح ، مز 119 لصقت بالتراب نفسي...

مسك الأغصان: للإعلان عن الداخل الحي الأبيض النقي الدائمة الحياة من الرب... ودلي الإثمار الحقيقي نتيجة عمل الروح القدس في الداخل (غلا 5) ثمر الروح...

إرتجاج المدينة: إحساساً بقوة المخلص الذي ملك على خشبة منتصراً على الموت...

مظاهر هذه القوة: هدم الشر مثل الهرطقات والنجاسات كما رأينا في سير القديسين الذين سلكوا في العفة... النصرة على الخيانة... (ممثلة في يهوذا ورؤساء الكهنة والفريسيون)... والخيانة سمة في مملكة الشيطان... لقد بكى الرب (كأمانه) على أورشليم (التي خانته)... النفوس الأمينة تنتصر على الخوف (مثل ساكبة الطيب على تذمر يهوذا) (إنجيل عشية الشعانين).



رابعا: البعد الطقسي للعيد: يتميز هذا العيد بعدة أمور:

1. اللحن الشعانيني: الذي يحمل روح التهليل والفرح في كمال صورته (لحن افلوجي مينوس)

2. دورة الشعانين: والتي تشمل: باب الهيكل الكبير – أيقونات العذراء – البشارة – الملاك ميخائيل – مارمرقس – مارجرجس – شفيع الكنيسة – الأنبا أنطونيوس – الباب البحري – اللقان – الباب القبلي – يوحنا المعمدان... (12 صلاة وإنجيل) إرتباط دور الشعانين: بالخلاص – بالألم – بالعمل الخدمي والشركة مع الله في العمل – الحياة الأبدية (الأبواب إشارة لأبواب أورشليم السمائية). والاتجاه في الزفة (عكس عقارب الساعة)...

3. تلاوة الفصول الأربعة من البشاير الخاصة بالشعانين: (مت 21 : 1 – 17 ، مر 11 : 1 – 11 ، لو 19 : 29 – 46 ، يو 12 : 12 – 23)... مما يدل على أهمية حدث يوم الشعانين...

4. الجناز العام: وفكرته انشغال الكنيسة بآلام المسيح.





طقس العيد:

العشية: إبصالية خاصة بالعيد من النوع الذي له 3 طرق فقط (سنوي – كيهكي – الفرايحي) مما يدل على ارتباط كيهك بالشعانين (الولادة أو التجسد لأجل اتمام الفداء ودخول أورشليم) فيها الربط بين بداية الخلاص بالتجسد وبدايته بدخول أورشليم...

والشيرات بالطريقة الشعانيني... وبداية العشية حيث الصلاة بالطريقة الفرايحي (الفرح بالخلاص) الشكر – أرباع الناقوس – أوشية الراقدين – الذكصولوجيات – إفنوتي ناي نان – أوشية الإنجيل ثم المزمور والإنجيل – ثم الأواشي – ثم التحاليل – ويلاحظ بعد افنوتي ناي نان يرتل الشعب كيرياليسون باللحن الكبير 3 مرات ثم بلحن افلوجي مينوس حتى صورة الشعانين وليس زفة كاملة ثم الطرح بلحنه ثم تكملة العشية كما ذكرنا... (ويقال لحن راشي أونوف سيون ثي فاكي) وترجمتها (إفرحي وتهللي يا ابنه صهيون – يا صهيون المدينة) في الختام ثم البركة والانصراف...



في تسبحة نصف الليل: توجد 3 ذكصولوجيات، ابصالية أيكوتي تقال باللحن الفرايحي ويقال الطرح (بكتاب دلال اسبوع الآلام)، اللحن الشعانيني لكل من يتأثر به في التسبحة.



في باكر: يصلى بالطريقة الفرايحي – إفنوتي ناي نان بصليب كبير بالسعف وكيرياليسون الطويلة -ثم دورة الشعانين كما ذكرنا- والدورة تشير على موكب المنتصرين في الأبدية... وفيه تنفيذ لدخول الرب أورشليم كتذكار لهم... ثم تكمل صلوات رفع بخور باكر...



في القداس الإلهي: تصلي الساعة الثالثة والسادسة – يقدم الحمل – لحن ني سافيف تيرو – طاي شوري – الهيتينيات – وبعد الإبركسيس يقال لحن افلوجي مينوس – أوشية الإنجيل فالمزمور بالحن السنجاري وإنجيل متى ومرقس ولوقا – ثم أوشية الإنجيل ثانية ثم مزمور وإنجيل يوحنا الحبيب.. ويكمل القداس ويصلى المزمور 150 باللحن الشعانيني... ثم صلاة الجناز العام...



الجناز العام: بعد التوزيع لا يرش الماء ولكن يصرف ملاك الذبيحة فقط....

مقدمة البولس (إزفيتي أناستاسيس) ثم قراءة البولس ثم أوشية الإنجيل ثم المزمور والإنجيل والثلاث أواشي الكبار ثم قانون الإيمان ثم أوشية الراقدين وأبانا الذي ثم التحاليل الثلاثة ثم قانون اسبوع الآلام في الختام ثم البركة والانصراف لتبدأ البصخة...

في مساء اليوم... يرش الماء المصلى عليه صلوات الجناز العام للشعب وليس للسعف...



قراءات العيد:

العشية : (مز 88 : 26 ، 27) (مبارك الآتي باسم الرب باركناكم من بيت الرب رتبوا عيداً في الواصلين إلى قرون المذبح)... وفي هذا إشارة لبيت عنيا التي بقرب أورشليم وسماها قرون المذبح (الذبيحة)... (الإنجيل يو 12 : 1 – 11) سكب مريم الطيب على السيد المسيح وتذمر يهوذا الخائن)



باكر: (مزمور 68 : 19 ، 25) (مبارك الرب الإله – مبارك الرب يوماً فيوماً – إله اسرائل هو يعطي قوة وعزاءاً لشعبه – مبارك هو الله)... يتضح نداءات الناس أمام خروف الفصح – البركة – قوة وعزاءً).

الإنجيل (لو 19 : 1 – 10) (لقاء المسيح مع زكا عند الجميزة التي تشير للصليب) حدث خلاص لهذا البيت.



القداس: مزمور الأناجيل الثلاثة: (مز 81 : 1 ، 2 ، 3) (بوقوا في رأس الشهر بالبوق – وفوا عيدكم المشهور – ابتهجوا بالله معيننا – هللوا لإله يعقوب – خذوا مزماراً واضربوا دفاً – مزماراً مطراً مع قيثار)

الأناجيل: مت 21 : 1 – 17 ، مر 11 : 1 – 11 ، لو 19 : 29 – 48 (أجداث الدخول لأورشليم)... ويلاحظ هتاف الجماهير: أوصانا لابن داود – مبارك الآتي باسم الرب ، أوصانا في الأعالي – مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب، سلام في السماء ومجد على الأرض)...

مزمور الإنجيل الرابع: (مزمور 65 : 1 ، 2) (لله ينبغي التسبيح يا الله في صهيون – ولك نوفي النذور في أورشليم – استمع يا الله صلاتي لأنه إليك يأتي كل بشر)

الإنجيل: (يو 12 : 12 – 19) (وهو الإنجيل الوحيد الذي ذكر الأتان والجحش إبن أتان كرمز لليهود والأمم... انه شمولية الخلاص المقدم للجميع)...

الرسائل:

البولس: (1 كو 15 : 1 – 27) (عب 9 : 11 – 28) يتكلم عن الخلاص بدم المسيح وليس بدم تيوس وعجول بسبب القيامة – فالذبيحة الحقيقية مرتبطة بقوة القيامة وليس بمجرد سفك الدم فقط والموت...

الكاثوليكون: (1 بط 4 : 1 – 11) (الخدمة كوكلاء صالحين على نعمة الله – فالمسيح مصدر الخلاص ونحن خدامه. فإذ قد تألم المسيح بالجسد فلنتسلح بهذه الآلام فنستحق عمل النعمة ونخدم بها كوكلاء صالحين)

الابركسيس: (أع 28 : 11 – 31) (وهنا يقدم الفارق بين قساوة الشعب الرافضين لخلاص المسيح طمسوا عيونهم وأصموا أذانهم لئلا يبصروا ويسمعوا فيرجعوا وأشفيهم يقول الرب)

وهكذا تقدم القراءات وصفاً تفصيلياً لتسابيح الفرحين ورفض الآخرين الخلاص في دخول الرب لأورشليم...



صلاة الجناز العام: البولس : (1 كو 15 : 1 – 27) القيامة ، المزمور (65 : 1 ، 4) (طوبى لمن اخترتخ وقبلته ليسكن في ديارك إلى الأبد – ستشبع من خيرات بيتك – قدوس هو هيكلك وعجيب بالبر) مختلف عن الجنازات العادية.

الإنجيل: (يو 5 : 19 – 29) ارتباط القيامة بالدينونة (وهذا تحذير وجب التنبيه إليه)

مجمل قراءات اليوم كحدث هو (الخلاص الذي قدمه الرب مبتدئاً بدخوله أورشليم) وفرح الأبرار به ورفض الأشرار له... وكأنها دينونة مبكرة...
عيد خميس العهد
-------------------------------

تحتفل الكنيسة بهذا العيد وسط آلام الرب المخلصة ليفدي البشرية كأحد أعياد ثلاث: عيد الشعانين (بداية أسبوع الآلام) – خميس العهد (منصف الأسبوع) وبداية العد التنازلي لإتمام الفداء – عيد القيامة (الحياة الأبدية المنتصرة على الموت)...

هذه الأعياد السيدية تظهر أن السيد المسيح ليس شخصاً عادياً يموت كبقية البشر وإنما هو الرب المتجسد لاجتياز الآلام ليتمم الفداء وليهزم الموت ويعلن الحياة... لقد دخل الرب الآلام وهو يحمل قوة القيامة وبسلطانه الإلهي على كل قوى الشر (الملك الذي دخل معركة يضمن النصرة فيها)...


مكانة خميس العهد: يوم قدّم فيه الرب يسوع جسده الحامل الحياة الأبدية وقوة القيامة (أنا هو خبز الحياة – هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت – أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد – والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم) يو 6 : 48 ، 50 ، 51). (مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق... من يأكلني يحيا بي) (يو 6 : 54 – 57)...

لقد تم في هذا اليوم ما وعد به الرب لذلك قال لتلاميذه حين أعطاهم الخبز: (خذوا كلوا هذا هو جسدي) مت 26 ، مر 14 ، لو 22 وحين أعطاهم الكأس قال: (اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمعفرة الخطايا) مت 26 وبذلك يكون قد قدَّم لهم دمه الكريم المسفوك على الصليب والذي به سَدّدَ ديون البشرية كلها منذ آدم إلى نهاية الدهور...

من هنا يعتبر هذا اليوم (خميس العهد) بداية العهد الجديد بدمه الكريم مقدماً خلاصه للكنيسة ممثلة في التلاميذ القديسين... من خلال جمعه بين ذبيحة الصليب والقيامة لذلك فيوم خميس العهد يمثل مركز الأحداث الخاصة بالآلام والموت والقيامة... فنحيا هذا اليوم في فرحة الخلاص والعهد الذي أبرمه الرب بدمه الكريم معنا... نحتفل في هذا اليوم بعهدِ جديدِ صنعه الربُ بدمه الكريم كفوله لتلاميذه في (لو 22 : 20): "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم"... وكقولنا في طلبة أسوع الآلام:"يا من ترك لنا عهده القدوس جسده ودمه حاضراً كل يوم على المذبح خبزاً وخمراً بحلول روح قدسه"... ودائماً الله هو البادئ بالعهد كما حدث في العهد القديم حين سقط آدم وحواء بحسد إبليس بدأ الله بعهد بينه وبين الإنسان الذي سقط إذ قال له "نسل المرأة يسحق رأس الحبة"... وكان ذلك طيلة العهد القديم حتى جاء الرب...وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد أي الذي ليس من هذه الخليقة (ليس من صناعة بشرية) وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً"... (عب 9 : 11 ، 12).. ويوضح خطورة هذا العهد بقوله:"مَنْ خالف ناموس موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة فكم عقاباً أشر تظنون أن يحسب مستحقاً مَنْ داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّس به دنساً وازدرى بروح النعمة" (عب 10 : 28 ، 29) من هنا يستمد هذا اليوم قيمته كبداية لعهدٍ جديدٍ... نحتفل فيه باستلام الكنيسة لجسد الرب ودمه الذي بهما تُغفر الخطية وننال الحياة الأبدية...

لماذاا يعتبر خميس العهد عيداً سيدياً صغيراً؟ رغم أن له مساس مباشر بخلاصنا؟ هذا لأن تسليم الرب جسده ودمه لتلاميذه القديسين مرتبط بأحداث الصليب والقيامة وليس حدثاً مستقلاً بذاته عنهما... تسلَّم دم الصليب قبل حدث الصليب وسَلَّمَ جسد القيامة قبل أن يقوم... ذلك لأنه فوق الزمن ولا يخضع لترتيب الأحداث لأن الزمن محدود ولكن الرب غير محدود... فقصور الزمن ومحدوديته أمام عمل الله جعلت الرب يحضر أي حدث في أي وقت لأنه يعيش في حاضر دائم بلا ماضي ولا مستقبل وتعلمنا الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية أن المسيح أكل الفصح مع تلاميذه يوم الخميس مساءً ثم أسس سر الافخارستيا ثم سَلَّمَ ذلته لليهود فقاموا بصلبه يوم الجمعة العظيمة الساعة السادسة (12 ظهراً) ثم سَلَّم روحه الطاهرة في يدي الآب (3 بعد الظهر) وضرب في جنبة بالحربة فخرج دم وماء... ثم أنزل من على الصليب ليدفن في قبر جديد في بستان بالقرب من أورشليم في غروب شمس يوم الجمعة العظيمة (كما في البشاير)

لقد صنع الرب عشاء الفصح مساء الخميس 14 نيسان وأبدله بالفصح الحقيقي بالخبز المختمر وعصير الكرم المختمر الممزوج بالماء...

البعد اللاهوتي: لقد ظهر لاهوت الرب الذي أعطى جسده ودمه لتلاميذه القديسين لأنه هو المخلص وفي (إش 43 : 11) يقول الرب (أنا أنا الرب وليس غيري مخلص)... كذلك ظهر لاهوت الرب في تحويل الخبز إلى جسد الرب والكأس إلى دمه الكريم... راجع يو 6 وظهر لاهوته أيضاً في بداية عهد جديد كما أوضحنا في عب 9 ، 10.

لذلك نصنع الخبز (القربانة) على شكل دائرة إشارة إلى اللابداية واللانهاية. ويكتب عليها قدوس الله – قدوس القوي – قدوس الحي الذي لا يموت ارحمنا... وظهر لاهوته أيضاً في كشف يهوذا الاسخريوطي وعدم السماح له بالتناول...


البعد الطقسي للعيد: الطقس يؤكد على عدة أحداث مهمة جداً هي:-

1) خيانة يهوذا ... وهذا تضعه الكنيسة في باكر العيد حيث يقرأ الابركسيس الذي ينص على فقد يهوذا الاسخريوطي مكانته كتلميذ لخيانته... وتؤدى الدورة المعكوسة استهزاء بيهوذا الخائن ويرددون (يهوذا يا مخالف الناموس)... وهذا ما أكده الرب يسوع في حديثه مع بيلاطس بقوله:"لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم"(مت 26 : 23 وفي قول الرب لتلاميذه عن يهوذا:"ان ابن الانسان ماض كما هو مكتوب عنه ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الانسان- كان خير لذلك الرجل لو لم يولد" (يو 19 : 11) من هنا كانت الدورة معكوسة – البرنس مقلوب – الناقوس أيضاً"...الخ صورة صارفة للخيانة لشخص يهوذا الاسخريوطي الذي جعل نفسه رمزاً للخيانة للأجيال.

2) غسل أرجل التلاميذ: وهذا هو طقس صلاة قداس اللقان... فنذكر ما قاله الرب لتلاميذه في هذا الحدث العجيب: أنتم تقولون أنني المعلم والسيد وحسناً تقولون لأني أنا كذلك. فكما غسلت أرجلكم هكذا اغسلوا بعضكم أرجل بعض" ولكن ما المقصود بغسل الأرجل هنا؟... التوبة والنقاوة ويتضح ذلك من قول الرب للقديس بطرس حين رفض أن يغسل الرب قدميه إذ قال له في حزم إن لم أغسلك فليس لك معي نصيب... مما دفع القديس بطرس أن يرجو الرب قائلاً لا يارب بل رأسي وجسدي كله... فرد الرب عليه قائلاً:"ان الذي اغتسل مرة لا يحتاج إلا إلى غسل قدميه... والغسل مقصود به المعمودية... وبذلك يكون غسل الأرجل هو التوبة والنقاوة التي نسميها المعمودية الثانية الدائمة...

3) تسليم الرب جسده ودمه للتلاميذ: وهذا ما نذكره في القداس الإلهي... وهو أصغر قداس على مدار السنة كلها... غذ يخلو من الأجزاء الآتية:

1- مرد دورة الحمل (لأن الخلاص لم يكن قد تم وقت أحداث هذا اليوم السيدي فلا يقال لحن هذا هو اليوم الذي صنعه الرب)

2- ولا مرد ما قبل التحليل ( خلصت حقاً - سوتيس آمين)

3- لا يقرأ الكاثوليكون: لأن فيه تذكار العشرة أيام التي بين الصعود وحلول الروح القدس.

4- لا يكون هناك تقبيل في دورة البخور إشارة إلى قبلة يهوذا.

5- لا تصلي صلاة الصلح... لأن الصليب لم يكن قد تم... ولا توجد قبلة في الكنيسة.

6- لا يصلى مجمع القديسين لأن الفردوس لم يكن قد فتح بعد... ولم تكن الرحمة قد أعطيت.

7- فلا يصلى الترحيم العام (أولئك يا رب)... بل كانت الأرواح كلها في الجحيم وتوصي القوانين أن يكون التناول في الساعة التاسعة حتى لا نشترك مع اليهود في فصحهم الذي كان بين العشائين (بعد الغروب).


طقس اليوم:

1- طقس باكر: وهو جزء من البصخة التي تبدأ من يوم الشعانين: النبوات – ثوك تاتي جو – رفع بخور عشية ويشمل: الشكر – أرابع الناقوس – ارحمنا يا الله – أوشية المرضى – أوشية القرابين – فلنسبح – الذكصولوجيات –دورة البخور بدون تقبيل – قانون الإيمان – افنوتي ناي نان – كيرياليسون باللخن الكبير – لحن فاي إتاف انف – قراءة الابركسيس الحزايني (لحن ابركسنتون) – قطعة تبكيت للخيانة يوداس – أوباراناموس ومعناها يهوذا مخالف الناموس – أجيوس الثلاثة (الأولى عن التجسد والثانية والثالثة عن الآلام) ثم أوشية الإنجيل وقراءة المزمور والانجيل باللحن الأدريبي ثم عظة – الطرح ومرده – الطلبة – الختام بطريقة البصخ.

2- السواعي: بطريقة البصخة المعتادة (الثالثة والسادسة والتاسعة)

3- قداس اللقان: اللقان يملأ بماء عذب – يلبس الخدام ملابس الخدمة (كل الدرجات) يبدأون بلحن إك اسمارؤوت ان كان الأب البطريرك أو الأسقف حاضراً.. ثم البداية: إليسون ايماس – صلاة أبانا الذي – صلاة الشكر – البخور – أرابع الناقوس – ارحمني – ثم النبوات – عظة للقديس الأنبا شنودة – لحن تين أو أوشت – رفع البخور – سر البولس – قراءة البولس – (الثلاثة تقديسات – أوشية الإنجيل – المزمور والإنجيل (سنوي) – افنوتي ناي نان – كيرياليسون الكبيرة 12 مرة – الأواشي السبعة الكبار (المرضى – المسافرين – الأهوية – رئيس أرضنا – الراقدين – القرابين – الموعوظين – ثم طلبة – ثم كيرياليسون 100 مرة – الأواشي الكبار الثلاثة – قانون الإيمان – الاسبسمس – أكسيون كاذيكيئون – رشم الماء بالصليب – آجيوس (بكل القطع السابقة واللاحقة) – بركة الماء بالصليب – أبانا الذي – التحاليل – الرشم بالماء في الأرجل فقط – البركة ... ثم الحمل.


القراءات تركز على الفصح الأخير: (Passover) Last Supper

النبوات : هزيمة عماليق (النصرة) – تحويل الماء المر إلى حلو (إشارة على خشبة الصليب – الصوم المقبول (إش 58) – قبول التوبة (حزقيال)

الرسائل: البولس: المصالحة مع الله بالصليب...

الابركسيس: نزع النعمة عن الخائنين...

ملاحظة أخيرة: يختم القداس (التناول) ومدائح عن العشاء السري وتؤجل الساعة الحادية عشر من يوم الخميس إلى المساء.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010