عبد يصير أميرًا
القمص تادرس يعقوب ملطي
عبد يصير أميرًا
في بيت فرعون
إذ كبر موسى أخذته يوكابد أمه إلى القصر، ليصير ابنًا لابنة فرعون، وترعاه ابنة فرعون بنفسها. لم يعُد بعد عبرانيًا بسيطًا يعيش في كوخ بل صار إنسانًا له تقديره في المجتمع في ذلك الحين.
تاج فرعون على رأس الطفل
قيل إن موسى كان طفلاً قوي البنية في الثالثة من عمره وضخمًا. وإذ كان جالسًا على مائدة الملك في حضرة أمراء ومشيرين كثيرين أخذ التاج من فوق رأس فرعون ووضعه على رأسه. انزعج الأمراء لهذا التصرف. وكان بلعام ويثرون حاضرين بين مشيري الملك؛ الأول نصح الملك أن يقتل الطفل فورًا، لكن يثرون أشار إنه يجب أولاً فحص الطفل إن كان يدرك ما يفعله. فوافق الكل على مشورة يثرون. قُدّم للطفل قطعة من ذهب وبجوارها جمرة نار، فمد يده نحو جمرة النار وصرخ، وعندئذ حكم الكل ببراءته.
حياة موسى كأمير اختلفت تمامًا عما كانت عليه في بيت والديه. نما في القامة والمعرفة، إذ تثقف بكل حكمة المصريين من كتابة وعلم وفلسفة وأيضًا ديانات. لكن موسى لم ينسى أنه عبراني، وأنه عاش في كوخ من الطين بين الأطفال العبيد. واختار أن يعبد الله الحيّ ولم يقبل عبادة الشمس ونهر النيل وعجل أبيس الخ...
مذلة شعبه
ذات يوم إذ كان موسى وحده في الحقول يلاحظ ما يعانيه شعبه أثناء العمل، رأى مرارة الذُّل الذي يعيشون فيه، فاحتدت نفسه فيه، وإذ رأى أحد أركان الحقل أحد رؤساء العمل المصريين يضرب عبدًا عبرانيًا بقسوة وعنف، احتدت نفسه فيه. لم يستطع أن يقف صامتًا وإنما ضرب الرئيس فقتله، ثم قام بإخفاء جثته في الرمل، وعاد إلى القصر ونفسه مُرَّة فيه.
هروبه إلى سيناء
عاد في اليوم التالي إلى الحقول، ووقف يراقب شعبه فرأى يهوديين يتشاجران. قال للمعتدي: "لماذا تؤذي أخاك من بني جنسك؟" في سخرية قال المعتدي: "من أقامك حاكمًا علينا أو قاضيًا أيها الأمير المصري الصغير؟ اقتلني كما قتلت المصري بالأمس!"
تركهما موسى وهو مرتعب إذ تحقق أن الخبر لم يعد سرًا بل عرفه الكثيرون، للحال ترك القصر الملوكي وحقول مصر. رافق مجموعة من التجار المسافرين نحو الشرق، إلى مناجم النحاس في سيناء.
هارب يُعدّ للقيادة
بلغ موسى إلى قبائل المديانيين المتجولة، وهناك جلس بجوار البئر. ربما كان يفكر ماذا يفعل لشعبه المُستعبد وها هو طريد في بلد غريب.
جاءت سبع أخوات إلى البئر، وملأن المساقي التي بجوار البئر ليسقين غنمهن الذي تجمع حول المياه. غير أن بعض الرعاة العنفاء جاءوا وأهانوا الفتيات ودفعوهن بعيدًا بغنمهن لكي يشرب غنمهم هم الماء الذي أخرجته الفتيات. تدخَّل موسى وألزم الرعاة أن ينتظروا حتى تشرب غنم الفتيات أولاً لأن الفتيات قد جئن أولاً وهن اللواتي أخرجن الماء وملأن المساقي.
عادت الفتيات مبكرات إلى البيت، فدُهش والدهن الكاهن الوثني يثرون، وكان ينتمي إلى قبيلة تُدعى "القينيون"، تعمل في النحاس. قال لهن الأب: "ماذا حدث؟ لماذا جئتن مبكرات اليوم يا فتيات؟" أجبن: "مصري عند البئر خلصنا من الرعاة العنفاء، فقد أعطانا الفرصة لنسقي الغنم، كما سحب لنا الماء من البئر وأسقانا نحن وغنمنا". أجابهم: "حسنًا، أين هو؟ هل تركتن إياه دون أن تدعوه إلى خيمتنا؟ اذهبن حالاً ودعوه ليأكل معنا".
ذهب موسى مع الفتيات إلى خيمة يثرون، وتكونت علاقة حب ربطتهما معًا. سُرَّ يثرون لما عرف أن موسى عبراني، وأن أجداده كانوا رعاة غنم يعملون في كنعان. دعى يثرون موسى أن يعيش معهم، وأعطاه ابنته صفورة زوجة له.
كان الأمير موسى سعيدًا جدًا بحياته في خيمة ورعايته غنم حميه، يجول في البرية كأجداده، وكان قلبه يزداد غيرة نحو شعبه المُستعبد في مذلة بمصر.
أنجبت صفورة طفلاً، دعاه موسى "جرشوم" ومعناه "غريب"، إذ قال "إنني غريب وأعيش في بلد غريب".
مات الملك رمسيس وتولى ابنه منفتاح الحكم، وصار الجو آمنًا لموسى أن يرجع إلى مصر حيث كان العبيد اليهود يئنون إلى الله يشتكون بؤسهم له.
العليقة المشتعلة
سمع الله صرخات اليأس الصادرة عن شفاة العبيد الملقيين في الوحل يُجرحون كل يوم ويموت بعضهم تحت وطأة ضربات سياط رؤساء العمل العنفاء.
وإذ كان موسى يرعى غنم حميه يثرون بالقرب من جبل سيناء، كان يفكر في شعبه. إنهم في حاجة إلى قائد يقف أمام فرعون ويُلزمه أن يطلقهم ليخرجوا، لكن أين يوجد هذا القائد بين شعب سحقه ذل العبودية؟!
بينما كان يفكر ويصلي بقلب ملتهب رأى منظر لهيب نار يصدر عن داخل شجرة عليقة، تبدو الشجرة نفسها ملتهبة لكن لايصيبها ضرر. لاحظ موسى المنظر وهو في دهشة: "يليق بي أن أقترب أكثر لأرى هذا العجب". وإذ بدأ يقترب سمع صوتًا يدعوه من العليقة: "موسى، موسى". أجاب موسى: "هأنذا!". قال له الله: "لا تقترب. اخلع نعليك، لأن الأرض التي أنت واقف عليها مقدسة. أنا هو إله شعبك. إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب. لقد رأيت مشقة شعبي في مصر، وسمعت صراخهم. إني أخلصهم من عبودية فرعون، وأجيء بهم إلى أرض تفيض لبنًا وعسلاً".
إذ سمع موسى ذلك أخفى وجهه، إذ خاف أن يتطلع إلى الله.
حوار مع الله
أكمل الله حديثه مع موسى من خلال العليقة الملتهبة:
"اذهب يا موسى إلى فرعون واخبره أن يترك شعبي يرحل إلى البرية مسيرة ثلاثة أيام ليقدموا ذبائح لي. أنا أعلم أن الملك لن يدعكم تخرجون بسهولة. لهذا أرفع يدي وأضرب مصر، بعد هذا سيترككم فرعون تخرجون".
ارتعب موسى: "من أنا حتى أقودهم وأذهب إلى فرعون وأخبره بهذا الأمر؟!"
أجاب الله: " سأكون معك!"
قال موسى: "لكن... لكن، ما هو اسمك؟ للمصريين إلهة كثيرة، يدعونها بأسمائها ويتقبلون منها قوتهم. لذا وجب عليّ أن أعرف اسمك. أيضًا كيف يصدق الشعب أنك تكلمت معي؟"
"أنا أهيه الذي هو أهيه (كائن)" أجاب الله: "أنا هو الله، يهوه، إله شعبك. سيدعونني "يهوه"، معناها "هو كائن". فاذهب وقل لشعبك إن يهوه يقودكم إلى كنعان".
ثلاث علامات
قال موسى: "افترض انهم لا يصدقونني؛ إن قالوا إن يهوه لم يكلمك قط..."
- "ماذا في يدك؟"
- "عصا الرعاية"
- "القها على الأرض"
ألقاها موسى على الأرض، فصارت تتلوى بعيدًا. لقد صارت حية، وتراجع موسى إلى الوراء.
- "الآن اقترب إليها وامسك بذنبها".
هكذا فعل موسى فعادت الحية وصارت عصا في الحال.
قال الله: "هذه العلامة تُقنع شعبي إنني ظهرت لك. انظر فإنني أظهر لك علامتين أخريتين".
- "الآن ضع يدك داخل ثوبك".
فعل موسى هكذا، وإذ أخرجها صارت يده بيضاء.
- "ضعها ثانية في ثوبك".
أطاع موسى وعادت يده كما كانت.
أما العلامة الثالثة التي أظهرها الله لموسى فهي أنه أمره بأخذ ماء من النهر وسكْبه على الأرض، فصار الماء دمًا.
مخاوف موسى
لم تنته مخاوف موسى، فقد ثارت في ذهنه أسباب كثيرة تمنعه من الذهاب إلى فرعون.
توسل موسى إلى الله، قائلاً:
"آه يا رب، لم أكن قط متكلمًا عظيمًا في حياتي.
إنني لست لَبِقًا كمن هم في قصر فرعون، يقدمون أحاديث طويلة شيقة.
إنني لا أستطيع ذلك.
أنا لا أعرف أن أتكلم قط!"
قال له الله: "من أعطاك فمك؟ أنا الذي أعطيتك، أليس كذلك؟ الآن اذهب، وأنا أُعينك أن تتكلم، وأخبرك بما تقوله".
توسل موسى: "أرجوك. أرجوك، أرسل آخر غيري كما تحب، أيّ إنسان، لا ترسلني أنا".
قال الله:
"حسنًا، يوجد هرون أخوك، فهو يتكلم حسنًا.
أنت تتحدث معه، وأنا أكون معكما، وهو يكلم فرعون.
الآن ها هو يترك مصر ليلتقي بك، لأن فرعون قد مات، وصارت عودته آمنة.
هرون قادم ليجدك. أنه يفرح إذ يسمع أخبارك، وهو يتكلم مع الشعب عنك. أخبره بما تقوله.
اذهب إذن، وتذكر أن تأخذ عصاك وتصنع العلامات التي أظهرتها لك".
أخذ موسى عصاه والغنم وعاد إلى يثرون حميه، وقال: "قد حان الوقت أن أعود إلى شعبي في مصر لأنظر إن كانوا لايزالون أحياء".
قال له يثرون: "اذهب بسلام".
أخذ موسى صفورة زوجته وطفلهما الصغير ورحل إلى مصر. وكما قال له الله التقى بهرون الذي كان قد خرج إليه، وعاد الكل إلى مصر، وأخبر هرون الشعب بكل ما قاله الله لموسى. وعرف الشعب أن الله قد سمع صراخهم، فسجدوا حتى الأرض، وعبدوا الله. لقد شعروا أن الله قد وضع نهايةً لمأساتهم ليقودهم إلى كنعان، الأرض التي وعد بها آباءهم منذ مئات السنوات.
لقاء مع فرعون
دخل موسى وهرون أمام فرعون وتكلما، قائلين: "دع شعبنا يذهب إلى البرية مسيرة ثلاثة أيام ليذبح لله ويتعبدون له".
لم يدع فرعون الشعب يخرج، إذ قال:
"من هو إلهكم يهوه؟ إني لا أعرف أحدًا بهذا الاسم.
لا تنتظر أن أطلق عبيدي هكذا. لماذا تستبعدان الشعب عن ممارسة العمل؟ ارجعا أنتما أيضًا إلى العمل".
طرد فرعون موسى وهرون من أمامه، واستدعى رؤساء العمل والمسخرين، وقال لهم: "ليوقف هذا الأمر غير المعقول. فإنه شعب كسول. أنكم لم تستطيعوا أن تقودوه للعمل بجدية كما ينبغي، لذلك صار لديهم وقت ليحلموا بإله من عندهم. وماذا عن آلهة مصر؟ اسمعوا لي؛ من الآن يلزمهم أن يذهبوا إلى الحقول ويجمعون القش الذي تقدمونه لهم لصنع اللبن؛ وعليهم أن يصنعوا ذات الكمية من اللبن كما كانوا قبلاً. بهذا لا يكون لديهم وقت ليصغوا إلى حديث غبي كهذا".
انتشر العبيد في كل جوانب حقول القمح ليجمعوا القش، وكان الرؤساء يضربونهم ليعجّلوا بالعمل.
ذهب بعض العاملين من اليهود إلى فرعون، وقالوا له: "لماذا تعامل عبيدك هكذا؟ إننا غير قادرين على ذلك. لا نقدر أن نصنع ذات الكمية من اللَّبِن إن كنا نجمع القش أيضًا.
أجابهم فرعون: "متكاسلون أنتم، متكاسلون. لهذا صار لكم الوقت لتنصتوا إلى كل ما هو غير معقول عن الله. ارجعوا فورًا إلى عملكم!"
إذ خرجوا من لدن فرعون التقوا بموسى وهرون وتحدثوا معهما بغضب شديد، قائلين: "اتركنا وحدنا. لينتقم الله منكما كما تستحقا. انظروا ماذا يفعلون الآن بنا! هذا كله بسببكما، وأنتما تقولان إن الله سيحررنا!!".
لم يُجب موسى بكلمة، إنما رفع رأسه إلى السماء، واشتكى إلى الله.
"ماذا تفعل يا رب؟
لماذا تقسو هكذا على شعبك؟
لماذا أرسلتني إلى هنا؟
فمنذ تحدثت مع فرعون عنك صار أشر مما كان عليه، وأنت لم تفعل شيئًا قط لتوقف هذا!"
عاد فتذكر موسى وعد الله لشعبه، وطلب من الله أن يسنده، فسمعه يقول له: "سترى ما أفعله بفرعون. إنه هو نفسه يطردكم من مصر. إني أحرر شعبي من العبودية. سأقودهم إلى الأرض التي وعدتهم بها".
وعرف موسى أن الأمر لابد وأن يتحقق. لقد أدرك أن الله القدير محب البشر هو الذي يتحدث معه. لقد شعر بحضرة الله، ووثق في وعوده وقدرته وحبه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.