الرجل الذي أطعمته الغربان
القمص تادرس يعقوب ملطي
زواج مختلط
قبل مجيء السيد المسيح بحوالي 875 عامًا مات عمري ملك إسرائيل، وكان رجلاً شريرًا، وجاء من بعده ابنه أخآب، وكان أشر منه.
أحب أخآب إيزابل ابنة أثبعل ملك صيدون، الذي كان هو وابنته كاهنين للبعل، صنم يحسبونه إله العواصف والأمطار. وكان أهل صيدون (الفينيقيون) رجال بحر ماهرين يجولون العالم كله كتجار ناجحين، كما كانوا ماهرين في البناء وفي كثير من الصناعات. كانوا يظنون أن الإله "البعل" هو الذي يحميهم من العواصف أثناء إبحارهم، وهو الذي يهبهم الأمطار للزراعة والشرب. لذلك كانوا يختارون الأماكن المرتفعة ذات المناظر الجميلة فيبنون عليها معابد فاخرة مزخرفة لهذا الإله.
وكانت النساء يلقين أطفالهن في نيران المذابح كذبيحة له! إنهم أشرار!
أُعجب أخآب بإيزابل لجمالها الفائق فتزوجها، وصارت ملكة على إسرائيل.
قالت الملكة إيزابل:
"عزيزي أخآب، لقد أحضرت معي عددًا قليلاً من الكهنة من صيدا ليعبدوا معي الإله بعل. وسنبني له هيكلاً صغيرًا وجميلاً هنا بجوار القصر على قمة التل، فما رأيك؟!"
أجاب أخآب وقد سحره جمالها وأناقتها بملابسها الجميلة وجواهرها الثمينة: "حتمًا، كل ما تقولينه هو عين الصواب!" لقد عرف أخآب شريعة الله التي تمنع العبادة لغير الله، لكنه لأجل جمال زوجته عصى الوصية.
قالت إيزابل لكهنتها:
"عملنا الأول والأخير هو أن نحطم عبادة إلههم تمامًا.
لنبذل كل الجهد في بناء الهيكل بأقصى سرعة، وفي أجمل صورة.
وإذ يتعبد الملك أخآب معنا للبعل فسيشترك الكثير من الشعب في عبادة البعل جنبًا إلى جنب مع العبادة لإلههم.
أما القلة التي ترفض ذلك فسنقتلها ونستريح منها!".
حققت إيزابل خطتها بكل مهارة، وقتلت كثيرين، حتى بدت مملكة إسرائيل مملكة وثنية تتعبد للبعل...
إرسالية جريئة
"يهوه هو إلهي" هكذا فكر إيليا النبي، قائلاً في نفسه: "هذا ما يعنيه اسمي. لهذا فإن دوري هو الدفاع عن الإيمان بالله الحقيقي ضد عبدة البعل مهما كلفني الثمن!"
عاش إيليا النبي على مرتفعات جلعاد، شرق نهر الأردن. كان يعيش في عزلة، يتعبد لله ويفكر فيه. كانت ثيابه بسيطة، عبارة عن ثوب خشن من وبر الغنم، وقد شده بحزام من الجلد.
لقد أرسل الله إيليا النبي إلى السامرة ليوبخ الملك أخآب على شره، ويطلب منه أن يكف عن عبادة البعل، ويرجع إلى الله بالتوبة.
تطلع إيليا من بعيد إلى بوابة القصر الضخمة القائمة على قمة تل عظيم، وقد أحاط بها جند مسلحون. فجأة سمع أصوات الأبواق الفضية تضرب، وخرج من "البوابة" موكب ضخم من رجال ونساء يرتدون ملابس ناصعة. إنه موكب كهنة وكاهنات البعل، تحت قيادة إيزابل الملكة. فقد خرجت تتقدمهم بثوبها الأرجواني والقرمزي الجميل، وقد وضعت طوقًا ذهبيًا على صدرها يحمل صورة إنسان يجلس على ثور، وقد حمل حزمة من الصواعق على رأسه.
كان الموكب يتحرك نحو هيكل البعل القريب من القصر وقد أحاطت به غابة من الأشجار.
أُصيب إيليا النبي باشمئزاز ونوع من الغثيان. لقد توقف يفكر، كيف يقدر أن يدخل القصر القائم على قمة التل لكي يوبخ الملك على تركه عبادة الله الحي. وكان إيليا مطمئنًا أن الله الذي أرسله يقدر أن يحقق به رسالته.
إذ عبر الموكب، صعد إيليا إلى قمة دون أن يلاحظه دون أن يلاحظ الجند، إذ كانت كل أنظارهم متجهة نحو الملكة ومن حولها. تسلل إيليا إلى الصالة المفتوحة وأسرع تجاه حجرة العرش. كان إيليا حافي القدمين، سريع الحركة، بلغ الحجرة قبل أن يراه الملك.
تطلع إيليا إلى الملك، وصار صوته يدوي في كل أركان القصر المصنوع من الرخام والمزين بالعاج والحجارة الكريمة: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه، أنه بسبب شرك أيها الملك أخآب إنه لا يكون طلٌّ ولا مطرُ هذه السنوات إلا عند قولي".
أعطى إيليا ظهره للملك وأسرع إلى خارج القصر، بينما كان الملك في حالة ذهول. فقد إحمر وجهه وثار، ثم قام من العرش، وصار يصرخ: "أيها الحراس، أيها الحراس، امسكوه!".
الرجل الذي أطعمته الغربان
عادت إيزابل من هيكل البعل إلى القصر، فوجدت رجلها في حيرة وارتباك. سألته عن السبب، فروى لها ما حدث مع إيليا. ارتجفت إيزابل وهي تقول: "إنه كالذئب يعيش وسط التلال، لكنه لن يفلت من يدي. إني سأقتله. لا تخف يا أخآب، أنا أعلم أنه مختفي وسط الصحراء بين الجبال والتلال، لكنني لن أهدأ حتى آتي إليك برأسه... أين يهرب مني؟ إني ملكة قوية!".
إذ عبر إيليا نهر الأردن إلى جلعاد لم يكن ممكنًا له أن يستقر في أية قرية، حتى لا يكتشف الجند مكانه.
قبيل الشروق بلغ إيليا إلى مجرى نهر صغير يُدعى كريث، وكان جائعًا ومرهقًا جدًا. إنه لا يخشى العزلة ولا حياة الصحراء أو الجبال فقد اعتاد عليها، لكنه من أين يأتي بطعام يقتات به والموضع معزول؟!
رفع إيليا النبي عينيه نحو السماء وصلى، قائلاً:
"أشكرك يا رب لأنك حفظتني حتى هذه اللحظة.
أنا واثق أنك تعتني بي.
سامحني لأنني أشعر بخوف لئلا لا أجد طعامًا.
ثَّبت إيماني فيك!"
شرب إيليا من مياه المجرى... وسرعان ما وجد الغربان تحوم حوله، وكأنها جاءت تحييه على أمانته في خدمة الله خالق الكل.
اقتربت بعض الغربان إليه جدًا. وقد أمسك أحدها بخبزة وآخر بقطعة لحم مطهية... فبسط إيليا يده وتقبل الطعام من الغربان بابتسامة لطيفة.
قضى إيليا النبي أيامًا سعيدة يشعر فيها أن الله قد أرسل له الغربان كأصدقاء له، تنزع عنه الشعور بالعزلة، وتقدم له طعامًا كل يوم.
استيقظ إيليا على صوت رعد شديد جدًا، فخرج من مغارته ليراقب بروق كثيرة، لكن سرعان ما حدثت عاصفة رملية... لم يسقط مطر.
كان الفلاحون في حزن شديد فقد حُرموا من الزراعة بسبب ما حلّ بالبلاد من جفاف، حتى الأشجار الخضراء بدأت تجف، وتساقطت أوراقها... والحيوانات ضعفت للغاية... الكل يحتاج إلى ماء، ولكن بلا جدوى، إذ توقفت الأمطار تمامًا.
صار إيليا يراقب مجرى النهر "كريث"، فقد كانت مياهه تتبخر كل يوم بسبب شدة حرارة الشمس، وكان المجرى يجف... حتى حيوانات البرية بالكاد تجد ماءً لترتوي.
جف النهر تمامًا، فصرخ إيليا إلى الله يسأله:
"ماذا أفعل يارب؟"
طلب الله من إيليا أن يترك الموضع ويرحل نحو الشمال ليجد أرملة فقيرة عند قرية صرفة التي لصيدون تعوله.
لم يسأل إيليا النبي كيف يمكن لأرملة فقيرة وسط هذا الجفاف أن تعوله، لكنه بإيمان اتجه نحو الشمال، إلى قرية صرفة.
مخبأ في صرفة
كانت صرفة تبعد حوالي 100 ميلاً. سار إيليا النبي حتى وصل إلى باب المدينة، وقد شعر بالتعب والجوع والعطش.
رأى إيليا الأرملة الفقيرة التي كان يبحث عنها، وكانت تقش عيدانًا لتشعل به نارًا تطبخ عليها. سألها النبي: "أرجوكِ، أتسطيعين أن تعطيني قليل ماءٍ لأشرب". تطلعت إليه الأرملة، وقد لاحظ النبي على وجهها أنها جائعة.
إذ تحركت الأرملة نحو الباب قال لها إيليا: "أرجوكِ، عندما تحضرين ماء، أتستطيعين أن تقدمي لي كسرة خبز؟!"
صمتت المرأة إلى لحظات طويلة، ثم قالت له:
"إنني أعرف أنك خادم الله الحقيقي، وأنا أود أن أساعدك.
حيّ هو الرب، إنه ليس عندي خبز،
لكن ما عندي هو ملء كفّ من الدقيق في الكوار وقليل من الزيت في الكوز،
وهأنذا أقش عودين لآتي وأعمل كعكة لي ولابني، لنأكلها ثم نموت".
فقال لها إيليا: "لا تخافي، اعملي لي منها كعكة صغيرة أولاً، واخرجي بها إليّ، ثم اعملي لكِ ولابنك. لأنه هكذا يقول الله: إن كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يُعطي الرب مطرًا على الأرض".
اتجهت الأرملة نحو باب المدينة دون أن تنطق بكلمة. تبعها إيليا النبي وسار معها في حواري المدينة حتى بلغ منزلها الصغير الضيق. دخل إيليا من باب المنزل الخشبي حيث وجد أمامه درجات سلم صعد عليها حيث دخل الحجرة التي في أعلى المنزل. أما الأرملة فذهبت إلى فناء خلف المنزل، وأوقدت نارًا بالقش الذي جمعته، ووضعت إناءً خزفيًا على النار. دخلت المنزل لتصنع جزءً من الدقيق في إناء وتسكب بعضًا من الزيت لتعجن الكعكة، ثم قامت بطهيها. وفي صمت قدمت الكعكة مع كوب ماء إلى إيليا.
أحني النبي رأسه وشكر الأرملة الغريبة الجنس، ثم تطلع إليها فوجدها قد وقفت في مكانها كأنها تنتظر أن يفعل النبي شيئًا.
سألها إيليا النبي: "لماذا لم تصنعي كعكة لكِ ولابنك؟!" وكانت إجابتها عملية، إذ انطلقت إلى كوار الدقيق وكوز الزيت لتأخذ كل ما بهما وتصنع كعكة... فأخذت ما يكفي الكعكة وبقى في الكوار دقيقًا وفي الكوز زيتًا.
إذ طهت الكعكة عادت إلى النبي تقول له:
"إنك رجل الله،
وأنا أؤمن بإلهك مع إنني غريبة الجنس.
فإنه قد بارك في الدقيق والزيت..."
أجابها إيليا النبي:
"حيّ هو الرب،
إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يُعطي الرب مطرًا على وجه الأرض".