الرضيع والأميرة
القمص تادرس يعقوب ملطي
ملك مضطرب
وقف فرعون، رمسيس الثاني، في قصره العظيم يراقب إنشاء أبنية فخمة، تُستخدم فيها حجارة كبيرة وثقيلة. وفي خيلاء قال في نفسه:
"عملي هذا عظيم
كم أنا عظيم!
عبيدي بلا حصر! إنهم جيش من النمل!
هم نملي أنا!
يعملون بجديّة بفضل خطتي الناجحة!"
وسط هذه الأفكار المتشامخة، كان القلق يساوره. ففي غضب شديد كان كمن يلتهب نارًا أو كمن كاد أن ينفجر من الغيظ وهو يقول:
"عبرانيون هم!
جاءوا إلى مصر منذ حوالي 400 عامًا، وكان عددهم قليلاً جدًا. وها هو يتزايد عددهم جدًا.
حقًا إنهم عبيدي، ويعملون لحسابي بجدية، لكنني لا أستطيع أن أثق فيهم.
إن لم أكن حريصًا، فسيثورون علىَّ ويغتصبون مملكتي".
التقى فرعون برجال البلاط وقال لهم:
"لقد صار اليهود أكثر منا عددًا وقوة. هلُمَّ نتصرف بحكمة قبل أن يصيروا خطرًا علينا. لنسلبهم حريتهم، ونذيقهم المرارة؛ عندئذ يتركون مصر، فأصير في أمان! إنني محتاج إلى أعمالهم كعبيد لي ولكن..."
صدرت الأوامر مشددة بسحق اليهود بالضغط عليهم بالأعمال الشاقة في الحقول وبناء المدن العظيمة والهياكل والقصور والمقابر، يلتزمون بحمل الحجارة الثقيلة، وعمل اللَّبِن وحمله بكميات كبيرة. وقد أقيم عليهم رؤساء عمل مرَّروا حياتهم جدًا. ومع هذا كان عددهم يتزايد جدًا.
قي قسوة وأنانية أصدر الملك أمره إلى القابلتين اللتين كانتا تقومان بتوليد العبرانيات أن تقتلان كل طفل ذكر عبراني. إلا أن القابلتين خافتا الله فلم يسمعن للملك، وقام العبرانيون بإخفاء أطفالهن ليلاً ونهارًا، كما كانوا يُصلّون ويُصلّون حتى يعينهم الله بقوته ورحمته.
طفل في وسط البردي
في تلك الأيام كانت هناك سيدة تدعى يوكابد من سبط لاوي، قامت بمساعدة رجلها عمرام وطفليها هرون ومريم بإخفاء الرضيع لمدة ثلاثة شهور. كانوا يبذلون كل الجهد ألا يبكي الرضيع حتى لا يقتله الجند الذين كانوا دائمي الحركة يتصنتون على البيوت لعلهم يسمعون صوت رضيع ذكر.
أخيرًا جمع الكل بعض أعشاب البردي من حافة النهر، وقامت الأم المحبوبة بضفرها كسلة، طلوها بالحُمر والقار حتى لا يتسرب إليها الماء، فصارت أشبه بقارب صغير. ألبست الأم رضيعها، وقبلته، وقمطته بملاءة حوله لتحفظه في دفء وسلام وأمان.
كانت مريم تتطلع إلى ما تفعله أمها وهي في حيرة، وأخيرًا سألت أمها: "ما هذا يا أماه؟ ماذا تفعلين؟ ولماذا؟
أجابتها الأم ودموعها تنهمر من عينيها: "سترين يا ابنتي، سترين! انتظري في هدوء".
صارت الأم ترقُب من إحدى النوافذ الجنود وهم يعبرون ببيتهم، وإذ خلى الطريق منهم حملت رضيعها وطلبت من ابنتها الصغيرة أن ترافقها. وسار الاثنان معًا قرابة ميلٍ حتى بلغوا شاطيء النيل. عندئذ بدأت الفتاة الصغيرة تفهم ما تفعله أمها.
وضعت الأم السلة بين أعشاب البردي، وأَضجعت رضيعها فيها، ثم رفعت عينيها نحو السماء لتصلي لله في صمت... تكلمه بدموعها المنهمرة وتنهدات قلبها غير المنقطعة.
لم تدخل المياه إلى قارب الطفل الرضيع، أما هو فصار يتثاءب ثم نام في هدوء.
مسحت الأم دموعها وهي تهمس: "لن يستطيع الملك أن يجده... إنه مخفي بين البردي؛ إنه محفوظ في يديْ الله!"
في صوت هاديء حزين قالت مريم لأمها: "أماه. سأبقى هنا مع أخي، أقضي معه النهار كله حتى لا تقترب منه الطيور، وإن جاء أحد أتظاهر باللعب".
قبَّلت الأم ابنتها الصغيرة، وحوطتها بحضنها، ثم فارقتها وهي تشعر بأن ابنتها إنسانة ناضجة بقلبها وفكرها، وإن كانت صغيرة بجسدها.
بقيت المسكينة مريم بجوار النهر وحدها تجلس على حجر إلى ساعات طويلة... وكانت بقلبها وكل مشاعرها تتطلع إلى أخيها... بين الحين والحين عندما تطمئن إنه لا يراها أحد تتسلل بين أوراق البردي لتقدم لأخيها شرابًا حتى ينام.
كانت السفن تبحر في وسط النيل، وجاءت بعض النساء يغسلن ثيابهن عند حافة النيل ولم يلاحظ أحد قط السلة حتى شاهدت موكبًا من النساء، فقد تقدمت واحدة الموكب كله... إنها ابنة فرعون، الذي يطلب أبوها قتل الأطفال الذكور، وقد جاءت تستحم. هذا ما أدركته مريم فاختفت بين الأعشاب بعيدًا، وحرصت ألا يصدر عنها صوت.
نزلت الأميرة بيثيه إلى الماء لتستحم فشاهدت السلة. طلبت من إحدى جواريها أن تأتي إليها بالسلة. فتحت الغطاء فبكى الطفل. صرخت الأميرة: لماذا؟ انظرن! إنه رضيع عائم! حتمًا إنه عبراني!... أخرجته الأميرة من السلة وهي متهللة: "كم هو جميل وحلو! إنني آخذه معي إلى القصر وليعيش معي!"
يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس إن الأميرة بيثيه كانت مصابة بالبرص؛ وما أن لمست السلة حتى برأت للحال. هذا ما جعلها أن تترفق بالطفل جدًا.
لم يلاحظ أحد أن مريم كانت مختفية، وإنما تسللت لتسير بجوار الأميرة وجواريها كمن لا تعطي اهتمامًا. اقتربت مريم منهن جدًا.
"سلام" قالت مريم: "أرضيع هذا؟!"
أجابت الأميرة: "نعم، لقد وجدته عائمًا هنا!"
قالت مريم: "أتحتاجين إلى مربية له ترضعه وتهتم به. فإنني أعرف سيدة يهودية يمكن أن ترعاه ليلاً ونهارًا". هذا ما قدمته مريم للأميرة وقد انحنت أمامها، بينما كانت الأميرة تحاول أن توقف بكاء الرضيع بكل وسيلة.
أجابتها الأميرة وهي شاكرة لها: أرجوكِ اذهبي واحضريها إلىَّ".
عودة إلى بيته
إذ جاءت الأم مسرعة انحنت أمام الأميرة، وقالت لها: "كل ما تأمرين به أنفذه". تطلعت إليها الأميرة بابتسامة عريضة وقالت لها: "خذي الرضيع واهتمي به، وأنا أدفع لك الكثير لتربيته. حبيه كأنه ابنك، وعندما يقوى احضريه إلىَّ في القصر". ثم قالت الأميرة: "إني أدعوه موسى"، وهو اسم مصري معناه: "مُنتشل من الماء".
امتلأت عينا الأم بالدموع، وقلبها بالفرح، وشكرت الله الذي ردّ إليها رضيعها وصار في أمان. وكانت مريم أيضًا سعيدة جدًا إذ شعرت أن الله هو الذي حفظ أخاها الرضيع.
حملت الأم رضيعها إلى البيت، حيث نشأ هناك في كوخ صغير مصنوع من اللَّبِن الأخضر (الطوب النّي) في مواقع صنع اللَّبِن. كبر الرضيع وصار يلعب هناك، وكان يسمع أصوات سياط رؤساء العمل المصريين وهي تنهال على العمال العبرانيين... كما سمع من والدته وإخوته عن القصص القديمة عن شعبه، قصص إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف الذي جاء إلى مصر. كما عرف إنه حتمًا سيترك عائلته ويذهب إلى القصر كابن لابنة فرعون.