إكليل الشهداء
+ «إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا... لنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع» (عب 12: 2،1).
إكليل أيام الاضطهاد، وإكليل أيام السلم:
اهتم بعض آبائنا القديسين في عظاتهم بمناسبة أعياد الشهداء، بالحديث عن الاستشهاد وفضائل الشهداء من زوايا عديدة مختلفة. فالقديس أوغسطينوس مثلاً قال في عظته (المسيح: مجد الشهداء)(1): لقد سمعنا كلمات القديس الشهيد كبريانوس : "في أيام الاضطهاد ينال النضال إكليلاً، وفي أيام السلم يُكافَأ الثبات في الإيمان".
إذن، فلا يظن أي إنسان أنه تعوزه فرصة نوال الإكليل. قد تكون فرصة مكابدة الآلام أحياناً غائبة، ولكن فرصة الحياة التقوية دائماً حاضرة. ولا يظن أحد أنه ضعيفٌ في حين أن الله يزوِّده بالقوة، وذلك لئلا يكون خائفاً ليس بسبب ضعفه فحسب؛ بل إنه يفقد حتى ثقته في ذاك الذي يعمل في داخله: «لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة» (في 2: 13).
وقد شاء الله أن يُدرَج كِِلاَ الجنسين من جميع الأعمار ضمن الشهداء، فحصل الجميع حتى الأطفال على الإكليل. ولكن هل اعتمدت النساء بجسارة على قدرتهن؟ لقد قيل لكل إنسان: «أيُّ شيء لك لم تأخذه» (1كو 4: 7)؟ إن مجد الشهداء هو المسيح، كما نقول في مقدمة قانون الإيمان، إنه "إكليل الشهداء، تهليل الصدِّيقين". إنه يقتاد الشهداء ويُعطيهم قوة، ويُكافئهم بالإكليل. لذلك فشكراً لله الذي يُسلِّح النفوس بمثل هذا الاحتمال. وعندما أخبر الرب محبيه عن ضرورة القتال كان يُعدُّ مكافأة عادلةً للمنتصرين. لذلك قال: «طوبى للمطرودين (أو المضطهدين) من أجل البر، لأن لهم ملكوت السموات» (مت 5: 10).
ورغم أن السلام يسود في بعض الأوقات، إلاَّ أنه لا توجد أوقات خالية من اضطهاد خفي، فهو دائماً معنا. فعندما يكون هياج الاضطهاد ظاهراً لا يكون فخُّه مخفياً، وعندما يهيج كالأسد لا يزحف كالحيَّة؛ ولكن لأنه ليس أسداً ولا حيَّةً، فإن ملاحقته لنا دائماً هي ملاحقة معادية. وعندما لا يُسمَع زئيره، فاحترس من فخه، وعندما يُكشف عن فخه فابتعد عن زئيره. إنك تتجنَّب كلاًّ من الأسد والحيَّة إذا حفظت قلبك ثابتاً في المسيح. إن مرعبات هذه الحياة إنما هي حقاً عابرة؛ أما في الحياة الآتية، فإن ما يجب أن نحبه لا يزول ولا أيضاً ما يجب أن نخاف منه.
ويقول القديس سيزاريوس الذي من "أرلز": أيام السلم لها شهداؤها. فالتغلُّب على الغضب، ونبذ الحسد باعتباره سُم الأفاعي، ومقاومة الكبرياء والحقد من القلب، وكبح جماح الشهوات والشهية للطعام والشراب الزائدة عن الحد؛ كل هذا إنما هو جزءٌ كبيرٌ من الاستشهاد. إذا شهدتَ للحق حيث تدوسه الناس، تكون شهيداً، لأن المسيح هو الحق والعدل، فحيث يكون العدل أو الحق أو العفة في مأزق، فإن دافعتَ عن أيٍّ منها بكل قوتك تنال مكافأة الشهداء. وحيث إن كلمة "شهيد" تعني "شاهداً"، فإن الذي يشهد للحق يكون بلا شك شهيداً للمسيح الذي هو الحق(2).
منفعة الاحتفال بأعياد الشهداء:
يقول القديس سيزاريوس :إن غرض الاحتفال بأعياد الشهداء، يا أحبائي، ينبغي أن يُذكِّرنا بأننا نُصارع تحت سلطان نفس الملك الذي استحقوا أن يُصارعوا هم تحت سلطانه ويغلبوا. وعلينا أن نتأمل في أننا حصلنا على الخلاص بنفس المعمودية التي حصلوا هم عليها، وأننا ثبتنا في الإيمان بواسطة نفس الأسرار الكنسية التي استحقوا أن ينالوها، وأننا نحمل على جباهنا علامة نفس القائد الذي سعدوا هم بأن يحملوا أوسمته. وبذلك فإن الشهداء القديسين الذين نحتفل بهم يتعرَّفون فينا على بعض فضائلهم، وذلك لكي يسرَّهم أن يتوسلوا لأجل رحمة الله علينا! لأن «كل كائن حي يحب نظيره» (سيراخ 13: 19).
ها هو قديسنا الذي نفرح بعيد استشهاده كان عفيفاً، فكيف يمكن للسكِّير أن يكون مرتبطاً به؟ أية شركة للنفس المتواضعة مع المتكبِّرة، النفس الطيبة مع الحسودة، الكريمة مع البخيلة، الوديعة مع الغضوبة، العفيفة مع الزانية؟ وطالما أن الشهداء الممجَّدين قد وزعوا ممتلكاتهم على الفقراء، فكيف تمكَّن الذين ينهبون ممتلكات غيرهم أن يكونوا محبوبين لديهم؟ لقد اجتهد الشهداء أن يحبوا أعداءهم، فكيف يمكن للذين لا يرغبون أن يتبادلوا المحبة حتى مع أحبائهم أن تكون لهم شركة معهم؟ فلنتشبَّه بالشهداء القديسين، يا أعزائي، بقدر إمكاننا حتى نستحق أن ننال الحِلَّ من جميع خطايانا بواسطة صلواتهم!
إن لم نستطع أن نتشبَّه بالشهداء في كل شيء، فعلى الأقل نتشبَّه بالكثير من فضائلهم بمعونة الله. فإن لم يمكنكم أن تحتملوا النيران التي تعذَّبوا فيها، فيمكنكم أن تتجنَّبوا الخلاعة. وإن كنتم غير قادرين أن تتحمَّلوا براثن المخالب التي عذَّبت الشهداء ومزَّقتهم، فازدروا بالجشع الذي يؤدِّي إلى المعاملات التجارية الآثمة والأرباح المحرَّمة.
وقال القديس أوغسطينوس في عيد الشهيد لورنس (في عظته المذكورة سابقاً): إنه كان شماساً، أي أقل رتبة من الأسقف؛ إلاَّ أن إكليل الشهادة جعله مساوياً للرسل! هذه الذكرى السنوية للشهداء الممجَّدين قد تأسَّست في الكنيسة، وذلك حتى يذكرهم الذين لم يشاهدوا آلامهم ويتجهون نحو التشبُّه بثبات إيمانهم وصلابته. لأنه إن لم تتجدَّد الذكرى السنوية للشهيد، يفقد استشهاده تأثيره في قلوب الناس. وفي جميع الأماكن لا نجد يوماً واحداً يخلو من تذكار شهيد قد نال إكليله. ففي مناسبة عيد أي شهيد، ليتنا نعدُّ قلوبنا للاحتفال حتى لا نحرم أنفسنا من التمثُّل به. لقد كان الشهيد بشراً مثلنا، وقد صنعنا الخالق ذاته الذي صنعه، وقد افتُدينا بنفس الثمن الذي افتُدِي هو به. لذلك فعلينا أن نتمثَّل به.
ما هو سبب نوال الشهداء الإكليل؟
يُجيب القديس أوغسطينوس بقوله (في نفس العظة): أعتقد أن ذلك لأنهم حفظوا أنفسهم في طريق التقوى واحتملوا آلامهم بصبر، ولأنهم أحبوا أعداءهم وصلُّوا لأجلهم. فإذا أحببتم الشهداء وتشبَّهتم بهم ومدحتموهم، تكونون أبناء الشهداء. أما إذا كانت سيرتكم مخالفة لسيرتهم، فإنكم تنالون جزاءً مخالفاً.
أيها الأحباء، إن الشيطان يكون دائماً إما هائجاً، أو كامناً في فخ. لذلك فعلينا أن نكون مستعدين بحفظ قلوبنا مثبَّتة في الرب. علينا أن نجتهد إلى أقصى حدٍّ في التوسل إلى الرب لكي يحصِّنَّا في وسط تلك التجارب والضيقات المزعجة، لأننا من أنفسنا لسنا شيئاً سوى أطفال صغار.
يقول الرسول بولس: «لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً» (2كو 1: 5). ويُعبِّر المرتل عن ذلك بقوله: «عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تُلذِّذ نفسي» (مز 94: 19). وهكذا يخبرنا كل منهما أنه إن لم يكن المعزِّي معنا فإننا نرضخ لمَن يضطهدنا. كما أن القديس بولس يذكر أنه حدث بينما كان في خدمته أنه جُرِّد من قوة الاحتمال، حيث قال: «لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في آسيا، أننا تثقَّلنا جداً فوق الطاقة» (2كو 1: 8). لقد فاقت هذه الضيقة قدرة الاحتمال البشرية، ولكن هل كانت هي أقوى من معونة الله؟ ثم يُكمِل قائلاً: «حتى أيسنا من الحياة أيضاً»(3). فكم كان خائراً بسبب كثرة المحن عندما كان الإعياء يكبحه، بينما كانت المحبة تدفعه كما بمنخاس!؟
يقول بولس الرسول: «كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متَّكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يُقيم الأموات، الذي نجَّانا من موت مثل هذا، وهو يُنجِّي، الذي لنا رجاء فيه أنه سيُنجِّي أيضاً فيما بعد» (2كو 1: 10،9). وهو يقصد بذلك أن يُخبر الكورنثيين أن المسيح يحافظ على حياته الحاضرة لأجلهم، لأنه نجَّاه من أنواع عديدة من الموت لئلا ينال إكليل الشهادة قبل أن يكفَّ رعاياه عن احتياجهم إليه.
الميلاد الحقيقي للشهداء:
ويقول القديس بطرس كريزولوغوس(4): ميلاد الشهداء الحقيقي هو من الأرض إلى السماء، من الكد والتعب إلى الراحة، من التجارب إلى السكينة والطمأنينة، من العذابات إلى المباهج التي لا تزول؛ بل إنها قوية وثابتة وأبدية، من المسرات الدنيوية إلى إكليل المجد. إن الذين يترجون الخيرات السماوية قد صمَّموا أن موطنهم هو في السماء، كما قال الرسول: «سيرتنا نحن هي في السموات» (في 3: 20).
على ذلك، فلتتجه قلوبنا إلى مسكننا السماوي، حيث تكون قلوبكم؛ بعد أن تكونوا قد وزَّعتم كنوزكم على الفقراء.
وفي عظة أخرى عن الشهيد اسطفانوس، يقول أيضاً القديس بطرس: لقد حصل الرسول بطرس على اسمه من "الصخرة"، لأنه برسوخ إيمانه كان هو أول مَن استحق أن يكون إيمانه بالمسيح ابن الله الحيِّ أساساً للكنيسة. هكذا أيضاً حصل الشهيد اسطفانوس على اسمه من "الإكليل" (فهو معنى اسمه)، لأنه كان أول مَن استحق أن يُقاسي لأجل اسم المسيح، أول مَن استحق أن يفتتح طريق الاستشهاد بواسطة دمه المسفوك الذي يميز جنود المسيح! فليكن هو قائد ذلك الجيش الأرجواني لأنه كان محارباً شغوفاً، فقد سفك دمه لأجل دم سيده الذي كان لا يزال ساخناً. لقد نال رداءً أرجوانياً مصبوغاً بدمه. وكان قد حصل عند ولادته على اسمه من "الإكليل"، حيث إن الله عَلِمَ مُسبقاً أنه سيكون أول مَن يأتي إلى مجد الاستشهاد(5).
ويقول القديس سيزاريوس: ولكن لماذا يُسلَّم القديسون ليد الأشرار؟ ذلك لأن «حياة الإنسان على الأرض إنما هي تجربة» (أي 7: 1 سبعينية).
في المباريات الدنيوية يُمتحن الذين يتسابقون لكي يتزكَّوْا ثم يحصلون على المكافأة. لهذا السبب فإن الشيطان أيضاً يجعل القديسين أحياناً تحت سلطانه، بسماح من الله، عندما يطلب ذلك. وليس الغرض من ذلك هو أن يؤذيهم في طهارة نفوسهم، بل لكي يزعجهم في ضعف أجسادهم. فإن لم يخضعوا بل قاوموا بإخلاص بمخافتهم للرب، تصير التجربة فرصةً لهم لنوال المجد.
إن الرب نفسه قد سُلِّم لأيدي الخطاة، كما أن القاضي الشرير قال له: «ألستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك، وسلطاناً أن أُطلقك؟ أجاب يسوع: لم يكن لك عليَّ سلطان البتة، لو لم تكن قد أُعطيتَ من فوق» (يو 19: 11،10). وهكذا، فإنه لكي يُعلِّمنا ويُشدِّدنا، تحمَّل نكبات هذا العالم المكدِّرة وتغلب عليها.
فلندرك أننا لا يمكن أن نتجنَّب شرور هذه الحياة، بل يمكننا أن نتغلَّب عليها بمعونة الله. لذلك فإن المؤمنين بالمسيح يكون لهم نصيب مع الشهداء، إن كانوا يتحملون بصبر وشجاعة وبمخافة الله، الأمور التي يفرضها عليهم هذا العالم. ولذلك يقول الكتاب: «كما أنتم شركاء في الآلام، كذلك في التعزية أيضاً» (2كو 1: 7)