المعرفة
أنواعها . منافعها . مضارها
بقلم مثلث الرحمات قداسة البابا شنوده الثالث
لقد أعطانا الله عقلاً يمكنه أن يعرف..
.. ولكنه أراد لنا أن نعرف ما يفيدنا وينفعنا. وأيضاً ما يفيد وينفع الآخرين. أفراداً كانوا أو جماعات..
غير أن المشكلة التي قابلت الإنسان منذ البدء. هي أنه أراد أن يعرف وحسب أياً كان نوع المعرفة.
كان الإنسان الأول يعرف الخير فقط. ولكنه -للأسف الشديد- بدأ يعرف الشر أيضاً. وبهذا أضر نفسه وأضر غيره.
إذن تأكد من سلامة كل معرفة تصل إليك
وتأكد من فائدتها. قبل أن تقبلها.
واعرف ان المعرفة ليست غاية في ذاتها. وإنما هي وسيلة للمنفعة. اختر إذن هذا اللون من المعرفة.
* * *
معرفة الله
يقولون إن أعلم الناس. هو من يعرف شيئاً عن كل شيء. كما يعرف كل شيء عن شيء ما "بلون من التخصص". وأري أن هذه العبارة مبالغ فيها جداً. فلا يوجد انسان يعرف كل شيء عن شيء ما. ولا أن يعرف شيئاً عن كل شيء.
أما الله -تبارك اسمه- فهو يعرف كل شيء عن كل شيء.
ومعرفته مطلقة ويقينية. وغير محدودة.
* الله يعرف الخفيات والظاهرات: يعرف ما في القلوب. وما في الأفكار وما في النيات. لجميع الناس. ويعرف ما في باطن الأرض. وما في علو السماوات. بينما الإنسان لا يعرف شيئاً من كل هذا.
* والإنسان -إن عرف- إنما يكون ذلك بوسائط متعددة. كالمقاييس والمكاييل. والأشعة والتحاليل. وأجهزة كثيرة جداً للوصول إلي ما يمكنه معرفته... أما الله فيعرف كل شيء بدون واسطة..
* والإنسان يجاهد لمعرفة طبائع الأشياء. أما الله فيعرفها لأنه هو الذي وضع لكل شيء طبيعته. الإنسان مثلاً يحاول بمجهودات ضخمة أن يعرف أماكن البترول في باطن الأرض. أما الله فمعرفته لذلك ناتجة عن كونه هو الذي وضع البترول في تلك الأماكن. وينطبق ذلك أيضاً علي مواضع الذهب وكافة المعادن. وأنواع الكائنات البحرية وغيرها..
* الله يعرف المستقبل والغيب. أما الإنسان فلا يعرف..
* * *
أنواع من المعرفة
* هناك معرفة حسية تأتي عن طريق الحواس. يعرفها الناس بالنظر. أو باللمس. أو بالشم. أو بالسمع. وما أضعف حواسنا. فلا تدرك كل شيء.
* وهناك معرفة عن طريق العقل. نعرفها بالدراسة أو بالاستنتاج.
* وهناك معرفة للروح. وليست لكل الناس.
* غير أن هناك معرفة أخري هي نوع من الكشف أو الإعلان الإلهي.
ويدخل في هذه: الوحي الإلهي الذي يصل إلي الأنبياء. وأيضاً استجابة من يصل إلي الله قائلاً: "عرّفني يا رب طرقك. فهّمني سبلك"...
* أما أسمي معرفة. فهي معرفتنا لله نفسه.
* * *
العالم شغوف أن يبحث عن المعرفة التي تعطيه فكرة عن القمر والكواكب. بسفن الفضاء التي تكلفه أموالاً طائلة...
ولكنه ليس بنفس الشوق اطلاقاً يسعي إلي معرفة الله...
إنه يسعد كثيراً إن أحضر بعض حجارة من القمر. أو بعض الصور. لأنها تعطيه بعض المعرفة عن الطبيعة التي هي من خلق الله. دون أن يسعد بمعرفة الله خالقها..!
ونفس الكلام يُقال عن كثير من الاكتشافات التي يقوم بها الإنسان...
والإنسان يفتخر باكتشافاته. ويمجد العقل البشري الذي وصل إليها. دون أن يمجد الله الذي خلق هذا العقل ووهبه امكانياته!
* * *
هناك معرفة تصل إلينا عن طريق الآخرين
عن طريق الكتب. أو الصحف. أو الأفلام. أو الإذاعة والتليفزيون. أو الانترنت. أو وسائل الإعلام المتعددة. أو ثورة المعلومات..
ومعرفة تأتي عن طريق الأصدقاء أو المعارف أو الأساتذة.
وهناك معرفة تأتي عن طريق الشيطان
إما يلقيها في أذهان الناس. عن طريق فكر أو حلم. أو بواسطة أحد جنوده.. وغالباً ما تكون معرفة كاذبة أو مضللة... أو قد تكون صحيحة. ولكنه يستغلها لغرض سييء.
وربما يسعي الإنسان إلي الحصول علي معرفة من الشيطان. عن طريق السحر. أو استشارة الموتي أو الأرواح. وبطرق متعددة..! وقد نهي الله عن كل هذه الأمور..
* * *
وهناك من يلجأ إلي المنجمين. وإلي قاريء الكف أو الفنجان.
وإلي ضاربي الرمل أو الودع. أو إلي استشارة الأرواح بالتنويم المغناطيسي أو البندول. وما أشبه... أو ممن يأتون بنبوءات النجوم!
ما الذي نعرفه عن يقينية هذه الأخبار. أو استخدامها للضلالة. أو لمجرد التسلية. أو للعب بعقول البسطاء...
واعرف جيداً أن الشيطان إن أعطاك معرفة. لا يعطيها لك مجاناً
أو بدون مقابل. ولا يعطيها بدون هدف شيطاني يريد الوصول إليه للإضرار بك. أو لجعلك تحت سلطانه أو تحت ارشاده..
* * *
نوع آخر من المعرفة. هو أن تعرف نفسك
هذه الحكمة التي دعا إليها سقراط الفيلسوف: "اعرف نفسك"
وما أعظم الفوائد التي تحصل عليها من معرفة نفسك: تعرف انك مخلوق من تراب الأرض. لكي تتضع ولا تتكبر. وتعرف خطاياك. لكي تندم عليها وتتوب. وتعرف طبيعتك وما يحاربك به عدو الخير. لكي تنجو من تلك الحروب. وتعرف مواهبك لكي تستخدمها لتمجيد الله ونفع المجتمع..
وتعرف مدي قربك أو بعدك عن وصايا الله
وتعرف أيضاً ما يلزمك للوصول إلي الحكمة والتمييز
وتعرف انك مكشوف أمام الله. مهما حاولت أن تكون مستوراً عن الناس. فالله يعرف كل أفكارك وكل شهواتك... فتخجل من نفسك.
* * *
كذلك عليك أن تعرف غيرك. لكي تعرف كيف تتعامل معه:
تعرف نفسية غيرك. والمفتاح الذي تفتح به باب قلبه وعقله.
وكما ينطبق هذا في التعامل مع الأصدقاء. وفي محيط العمل والحياة الاجتماعية. كذلك ينطبق أيضاً في محيط الأسرة حيث ينبغي أن يعرف كل من الزوجين طبيعة ونفسية شريكه في الحياة. وبالتالي كيفية التعامل معه. وأيضاً معرفة نفسية الطفل وكيف يعامله. وفي الحياة الاجتماعية. يلزم معرفة نفسية المعوق. ونفسية العاقر. ونفسية المراهق وكيفية التعامل مع كل هؤلاء وغيرهم.
* * *
اهتم أيضاً بمعرفة الحق. وإن عرفته فاتبعه:
وحاول أيضاً أن تعرف احتياجات الناس. لكي تدبرها لهم. وأن تعرف طريق الله لكي تسير فيه وتدعو الناس إليه
واحترس من المعارف التي هي فوق مستوي البشر.
فكثير من الناس يبحثون في عالم الأرواح فيضلون. أو يبحثون في الميتافيزيقا "ما فوق الطبيعة" فيضلون الله. أو يبحثون في أمور إلهية فوق مستواهم. فيخطئون الطريق.
أما انت فابحث عن المعرفة التي تفيدك وتفيد غيرك
وابعد عن كل معرفة ضارة أو ضالة.
* * *
المعرفة الضارة
من المعارف الضارة: معرفة الشر. ومعرفة الأشياء التي تؤثر علي النفس تأثيراً شديداً وتقودها إلي الخطيئة. وكذلك معرفة أي شيء يضر الإنسان. ويجمع فكره في أشياء تؤذيه وتبعده عن روحياته.
ولقد صدق أحد الآباء الروحيين حينما قال:
أحياناً نجهد أنفسنا في معرفة أمور. لا نلام في يوم الدين علي جهلنا إياها.
فإن كنا نلام علي معرفة أمثال هذه الأمور. فكم بعدكم يحاسبنا الله علي الأمور التي تضرنا. وتكون نتائجها سيئة علينا؟!
* * *
ضع في ذهنك مدي نتائج تلك المعرفة الضارة:
ما يدخل في ذهنك من معارف. يؤثر علي حواسك ومشاعرك. وقد يؤثر علي علاقتك بالآخرين. بل والأكثر من هذا أنه يُخزّن في عقلك الباطن
ثم يخرج من عقلك الباطن. علي هيئة ظنون أو أفكار أو أحلام.. وإذا بهذه المعرفة التي أخذتها قد امتدت في داخلك وخارجك إلي نطاق أوسع. وقد لا تستطيع أن تحد انتشارها ومدي أضرارها.
حقاً كم من أناس ندموا جداً بسبب معارف خزنوها في أذهانهم.
وقالوا ياليتنا ما كنا عرفنا. سواء بالقراءة أو الحواس!
ويحتارون كيف يمكنهم أن يخرجوا ما في أذهانهم من معلومات رسخت فيها.. مثلهم في ذلك مثل الذين وقعوا في إدمان بعض المخدرات Drugs وأصبحوا عاجزين عن الخروج من سيطرة ما قد أدمنوا عليه...
* * *
وهناك ألوان من المعرفة. تغير نظرة الإنسان إلي كثير من الأمور. وتغيّر نظرته أيضاً إلي بعض الناس..
مثال آخر إلي المعرفة الضارة وهو "الشك". وكما قال أحد العلماء:
سهل أن يدخل الشك إلي عقل إنسان ولكن ما أصعب خروج هذا الشك من عقله!
فإن أملت اذنك إلي من يلقي في قلبك شكاً من جهة إنسان بإثباتات معينة قد تكون زائفة... أو إن سمحت لنفسك أن تقرأ قراءات تشكك في الإيمان أو العقيدة... فقد تبذل جهداً كبيراً للخروج من هذا الشك. وقد يبقي معك فترة طويلة. إلي أن تفتقدك نعمة الله لتخرجه منك...
كم كان عمق تأثير الشيوعيين في تحويل الناس إلي الإلحاد..
* * *
لذلك يلزم أن يدقق كل إنسان في اختيار مصادر معرفته
احتفظ بنقاوة فكرك. ولا تلوثه بمعرفة ضارة. ودقّق كثيراً في كل ما تقرؤه وكل ما تسمعه وكل ما تراه. وكن دقيقاً أيضاً في اختيار الأصدقاء الذين يصبون معلومات في أذنيك. أو ينقلون إليك خبرة أمور ضارة. أو أخباراً ضارة. أو أفكاراً متعبة..
ولا تسمح لكل تلك المعرفة أن تثبت في ذهنك. إلا بعد أن تتحقق منها تماماً. وتعرف الحق فيها من الباطل والزيف.
ولا تظن أن الأفكار عواقر. بل ما أكثر أن تلد أفكارا أخري كثيرة
بل ربما كلمة واحدة تصل إلي ذهنك. فتلد حكاية أو حكايات!
واعرف أن الوقاية من الفكر الخاطيء. خير وأفضل من قبوله ومحاولة التخلص منه.
* * *
واحترس جداً من نقلك لبعض الأفكار والأخبار
ربما تصل إليك معرفة ضارة. وتنقلها انت بدورك إلي غيرك فتضره. ثم بعد أن تقاسي من تلك المعرفة. تحاول أن تتخلص منها. وقد تعينك نعمة الله فتتخلص منها. ولكن ما نقلته إلي الغير لايزال ثابتاً فيه وتضره معرفته. وتكون أنت مداناً أمام الله عن ضرر غيرك. لأنك كنت السبب فيه. وحينئذ لا تتعبك خطيئتك بحسب في قبولك أولاً للمعرفة الضارة. بل تتعبك خطيئتك أيضاً في نقل تلك المعرفة إلي غيرك...
إنه ماضيك الذي يطاردك. أعني المعرفة الضارة التي نشرتها. سواء بالكلام. أو بالكتابة. أو بطرق أخري كثيرة...
* * *
كذلك الذين يقعون في التشهير بغيرهم:
الذين ينقلون أخباراً سيئة عن أخطاء الغير. أو ما يظنونه أخطاء. أو ما يخترعونها... ويل لهم إذا استيقظت ضمائرهم. وبدأت تلومهم علي ما كانوا ينشرونه من قبل عما يسيء إلي غيرهم.
ويدخل في هذا النطاق: الذين يطلقون الشائعات أو ينشرونها:
سواء بقصد الإيذاء بغيرهم. أو لمجرد التسلية الخاطئة بالتحدث عن أسرار الآخرين التي يلذ لهم التحدث عنها وهي نوع من الاستهزاء بالناس. أو نشر فضائح تنسب إليهم. سواء كان ما يتحدثون عنه أخباراً واقعية. أو بإضافة استنتاجات من خيالهم