ملاك في جب الأسود

القمص تادرس يعقوب ملطي


ملاك في جب الأسود

هل سمعتم عن رجل تمتع بأبهج ليلة قضاها في كل حياته، عندما أُلقى في جب الأسود؟! فقد ظهر له ملاك، وصارت الأسود الجائعة صديقة له؛ هذا ما أرويه لكم.




يوليو 1992 القمص تادرس يعقوب ملطي

شباب مأسورون

في عام 605 ق.م هاجم نبوخذ نصر ملك بابل (العراق)، مدينة أورشليم. لقد حاصر المدينة واستولى عليها، وأسر الملك وكثيرين من شعبه أخذهم معه إلى بابل.

لقد ترك الفقراء في المدينة يكدّون في فقر شديد.

استولى الملك على 5400 قطعة ذهبية وفضية من الأواني المقدسة التي كانت في هيكل الله، ووضعها في هيكل إله وثني ببابل.

دعا الملك رئيس بيته أشفنز، وقال له:

"بعض هؤلاء الفتيان الأسرى أمراء وأشراف. اختر من بينهم من هم وسماء وأذكياء، ليدرسوا لغة الكلدانيين وحكمتهم، فيتأهلون للوقوف أمامي.

ليأكلوا من أطاييب مائدتي وخمري، ولتأتِ بهم إلىَّ بعد ثلاث سنوات".

أطاع أشفنز الأمر، واختار من بين الفتيان دانيال وأصدقاءه الثلاثة: حنانيا وميشائيل وعزريا.

وُضع لهم برنامج مكثف لتدريبهم في قصر الملك نبوخذ نصر؛ وأُعطيت لهم أسماء كلدانية ليُنزع عنهم روحهم الوطنية الأصيلة.

وضع دانيال وأصدقاؤه في ذهنهم ألا يتنجسوا بأطاييب الملك وخمره، الذي يؤتى به من هيكل الوثن كتقدمات للآلهة الكاذبة إلى مائدة الملك.

صارت وجوه الفتيان بهيّة ومشرقة، وكانوا أكثر قوة ونضارة من الذين يأكلون من أطاييب الملك. كما منحهم الله مهارة ومعرفة في الأدب والفلسفة. بجانب هذا وهب الله دانيال قدرة على تفسير الأحلام.

عندما امتثلوا أمام الملك بعد ثلاث سنوات من التدريب سُرَّ بهم جدًا. وإذ حاورهم أعجب بهم، واختارهم أن يبقوا في قصره الملوكي.

دانيال الشجاع

مات نبوخذ نصر وتولى ابنه بيلشاصر المُلك، هذا الذي لم يكن ينشغل بشيء إلا بالملذات والحفلات، وقد استغنى عن مشيري أبيه الحكماء.

صنع بيلشاصر وليمة عظيمة، واستخدم للشرب الأواني المقدسة الذهبية والفضية التي لبيت الرب، وكان الحاضرون حوالي الألف يسخرون ويستهزئون.

فجأة حلّ الرعب بالملك وتغيرت هيئته، وتسمَّر كل الحاضرين في أماكنهم كأنهم حجارة جامدة.

صرخ الملك:

"فتشوا لي عن السحرة والحكماء.

من يقرأ ما قد كتبته اليد السرّية على مُكلَّس (بياض) الحائط أمامي، ويخبرني بمعناه، يلبس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه، ويتسلط ثالثًا قي المملكة بعدي أنا والملكة".

أخبرته الملكة عن دانيال صديق أبيه، فإنه بروح إلهه يفسر الأحلام والأقوال الغريبة.

أُستدعى دانيال وقرأ ما قد كتب على الحائط:

"مَنا مَنا تقبل وفرسيْن".

في حزن وبصراحة وشجاعة أخبر الملك أن مملكته ستستولي عليها دولة مادي وفارس.

دانيال الأمين

في تلك الليلة هاجم داريوس الماديّ مدينة بابل واستولى عليها.

غيّر الملك الجديد حكومة بابل؛ فقد قسَّم المملكة إلى 120 ولاية، وعين لكل ولاية حاكمًا "مرزبان"، واختار دانيال واثنين آخرين معه وزراء (رؤساء) على المرازبة. وكان دانيال ناجحًا جدًا يفوق الاثنين الآخرين جدًا.

في فترة قصيرة جدًا أدرك الملك أن دانيال هو الأحكم والأفضل بين كل مشيريه. شعر الوزيران الآخران أن دانيال قد صار الصديق المقرَّب جدًا للملك، وتوقعا أنه سيقام رئيسًا عليهما، ويكون هو الرجل الثاني بعد الملك.

امتلأ الوزراء والحكام والعاملون في القصر غيرة وحسدًا من جهة هذا الرجل المسبي، وبذلوا كل جهدهم لعلهم يجدون فيه خطأ من جهة تدبير شئون الامبراطورية.

قال أحدهم: "الطريق الوحيد للخلاص منه هو أن نتصرف من جهة شرعية إلهه الذي يتعبد له بكل أمانة... أنتم تعلمون جيدًا أنه يدخل حجرته ويصلي لإلهه ثلاث مرات يوميًا".

استصوبوا الفكرة، وصرخ أحدهم قائلاً: "لقد وجدنا الخطة، فلنسرع إذًا لتحقيقها!"، وأسرعوا لعلهم يجدوا الملك.

قال للملك:

"أيها العظيم داريوس، لتحيا فخامتكم إلى الأبد!

نحن نعلم كم أنت عظيم؟!

لقد اتفقنا أن يصدر فخامتكم مرسومًا ألا يطلب أحد من إله أو من إنسان شيئًا بل يطلب منكم. ومن يكسر هذا القانون يُلقى في جب الأسود.

فليُصدر عظمتكم هذا المرسوم الذي لا يمكن أن يتغير!"

فكر الملك في نفسه قائلاً: "إنني بالنسبة لشعبي صالح كإله"، وفي غباوة وقَّع على المنشور.

علم دانيال عن المنشور الذي أصدره الملك ووقَّع عليه. ذهب دانيال إلى بيته حيث توجد فيه عُلية نوافذها تطل تجاه أورشليم المحطمة. وكعادته رجع هناك، والنوافذ مفتوحة، وصلى إلى الله ثلاث مرات في اليوم.

إذ راقبه الأعداء ووجدوه يصلي لم يضيعوا الوقت، بل ظهروا أمام الملك، وطلبوا تطبيق القانون على أحد المسبيين القادمين من يهوذا.

"أي رجل هذا ؟" سأل داريوس؛ وإذ سمع أنه دانيال اغتم جدًا.

"آه، دانيال!" قال الملك.

"إنه رجل صالح،

دانيال لا يصنع شيئًا رديئًا قط".

أجاب الرجال: "لكن كما تعلم أيها الملك إنه لا يمكن تغيير قانون أصدرته، إنما يلزم طاعته".

لم يجد الملك طريقًا ما ينقذ به دانيال.

أُستدعى دانيال حيث تحدث معه الملك بحزن، قائلاً:

"آسف. إنني أرى إنه قد وُضع لي شرك، لكنني لا أستطيع تغيير القانون الذي أصدرته. الله الذي تخدمه أنت بكل أمانة هو يخلصك الآن".

انطلق جند الملك بدانيال إلى جب الأسود. ووُضع حجر على مدخل الجب، وختمه الملك الحزين بخاتمه الملوكي.

عاد الملك إلى قصره كسير القلب. لم يستطع أن يأكل، ولا سمح للموسيقيين أن يعزفوا أمامه، وقضى اليلة بلا نوم، وكان يقول:

"دانيال صديقي الحميم، لم يصنع إلا كل ما هو خير لمملكتي".

جب أسود أم فردوس؟!

كان ذلك اليوم هو أسعد أيام أعداء دانيال؛ كانت بهجتهم فوق كل تصوّر. فقد نجحت خطتهم، وذهب دانيال بلا رجعة، كانت الفرصة سانحة لهم لإقامة حفل كبير، وقد أمضوا الليلة كلها يسخرون من دانيال وبالطريقة التي بها تمزَّق إلى أجزاء متصورين كيف افترسته الأسود الجائعة. إنهم لا يعودون بعد يواجهون ما يناله دانيال من نجاح وحظوة عند الملك.

إذ أنزل دانيال إلى جب الأسود، رفع قلبه إلى السماء وصرخ إلى الله طالبًا النجدة: فنزل ملاك إلى الجب وسدّ أفواه الأسود الجائعة.

وإذ اقترب دانيال جدًا من الأسود وجدهم ينتظرونه في هدوء شديد، وكأنهم أصدقاء مخلصون يتمتعون بصحبته العذبة. عوض أن يصير طعامًا للأسود الجائعة، شعر دانيال كأنه قد أُرسل إلى الفردوس ليقضي أبهج أيام حياته. صارت الأسود تسير حوله منحنية، تلحس يديه وقدميه، وكان يحتضنها كأصدقاء له، مما جلب إيه الدفء الليل كله.

قضى دانيال هذه الليلة مع الملاك والأسود، وتحوّل الجب إلى موضع للتسبيح لله.

شعر دانيال كأن كل الخليقة تُسبح الله إلهه، فترنم بالمزمور 148:

"هللويا.

سبحوا الرب من السموات...

سبحوه يا جميع ملائكته...

سبحيه أيتها الشمس والقمر.

سبحيه يا جميع كواكب النور.

سبحي الرب من الأرض يا أيتها التنانين...

الوحوش وكل البهائم...

الأحداث والعذارى أيضًا الشيوخ مع الفتيان،

ليسبحوا اسم الرب لأنه قد تعالى اسمه وحده".

الله الذي يخلص!

في الصباح المبكر جدًا، عندما بدأ الضوء يظهر، أسرع داريوس إلى الجب، وبقلبٍ مثقل وصوتٍ مملوء حزنًا صرخ، قائلاً:

"يا دانيال، عبد الله الحيّ!

هل إلهك الذي تعبده دائمًا قدر أن ينجيك من الأسود؟!"

تخيل كم هي سعادة الملك عندما سمع إجابة دانيال المملوءة فرحًا ونصرة من وراء الصخرة.

"أيها الملك عش إلى الأبد.

إلهي أرسل ملاكه وسَدَّ أفواه الأسود، فلم تضرني، لأني وُجدت بريئًا قدامه وقدامك أيضًا أيها الملك لم أفعل ذنبًا".

بفرح مع شكر لله أمر الملك الحراس أن يفكوا الختوم ويحرروا دانيال.

أصدر الملك أوامره بالقبض على كل الرجال الذين اتهموا دانيال، وإلقائهم مع نسائهم وأبنائهم في جب الأسود.

قبل وصولهم إلى أسفل الجب بطشت بهم الأسود. سحقت كل عظامهم.

عندئذ كتب داريوس مرسومًا جديدًا أرسله إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في الأرض كلها، جاء فيه:

"ليكثر سلامكم.

من قلبي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال...

هو يُنجّي وينقذ،

ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض،

هو الذي نجَّى دانيال من يد الأسود".

وأقام الملك احتفالاً لتكريم دانيال، الرجل الذي آمن بالله إلهه الذي يخلّص من الأسود، ويحول الجب إلى فردوس مُفرح! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010