أحداث محاكمة يسوع وبطلان المحاكمة


الأهتمام بقضية صلب الرب يسوع على مر الأجيال :
إن بعض الكتاب الغربيين أمثال فرانك موريسون وهو محامى انجليزى ومن كبار رجال القانون الأنجليزى بالقرن التاسع عشر كتب عن السبعة أيام الأخيرة من حياة السيد المسيح ، وتعرض لملابسات محاكمة السيد له المجد نعرض بعضا مما كتبه – من كتابه : ( من دحرج الحجر ) : -
+ لقد جاءت كتابات كتاب البشائر الأربعة لهذه الفترة متفقة اتفاقا يسترعى الأنتباه ، كانت محاكمة يسوع وموته حادثة تاريخية مدوية تؤيدها بطريق غير مباشر كثير من الوقائع السياسية وسيل زاخر من المؤلفات التى دارت حولها .
لقد مات السيد له المجد ميتة قاسية على أيدى السلطات الرومانية ، كيف سلك فى تلك المحنة القاسية .
لعل الباحثون حول موضوع محاكمة السيد المسيح يتساءلون عن موضوع التهمة التى قامت حوله .... ما الذى أقامه المدعون عليه من التهم ؟ وإن كانت التهم متعددة ، كما هو الحال فى القضية التى نحن بصددها ، يسألون عن التهمة الحقيقية ضد المتهم الذى حكموا عليه .
أجمع المؤرخون – من نصوص ماورد بالكتاب المقدس – على أن وقت إلقاء القبض على يسوع فى بستان جثسيمانى جرى فى ساعة متأخرة من الليلة السلبقة ليوم الصلب . وهناك ما يحملنا على الأعتقاد أن ساعة القبض لم تكن قبل منتصف الساعة الثانية عشرة .
وهذا التقدير أساسه حساب الزمن الذى استغرقته الحوادث بين الفراغ من حفلة العشاء فى العلية ، وبين وصول شرذمة الجند المسلحة إلى البستان فوق منحدرات جبل الزيتون . هناك ثلاثة أشياء تدل على أن القبض كان فى ساعة متأخرة :
+ كان التلاميذ تعابى منهوكى القوى . وختى بطرس الصياد المخشوشن الذى ألف الصحو واليقظة والسهر فى البحر لم يقدر على مغالبة النوم .
+ يشير كل من متى ومرقس إلى ثلاث فترات متقطعة من النوم ، كان يوقظهم فى كل مرة مجىء يسوع إليهم من صلواته الحارة تحت الأشجار المتعانقة .
+ كان الوقت ظلاما حالكا ، واستطاع يسوع عند رؤيته المشاعل أن يميز القادمين للقبض عليه من بعيد ( مر 14 : 42 ) : " قوموا ننطلق ، هوذا الذى يسلمنى قد اقترب " .
ومن يقرأ تفاصيل هذه القصة الرائعة ، لا يسعه إلا التسليم أن – الرب وتلاميذه -  هذه المرة وهو فى البستان تختلف عن سابقاتها التى أشار إليها البشير يوحنا ، فإن هؤلاء الرجال كانوا قد بقوا ، نزولا على إرادة سيدهم ، بعد الوقت الذى كانوا يأوون اليه عادة إلى مضاجعهم فى قرية بيت عنيا . وترقبوا شيئا كان يترقبه هو ، ويعرف تماما أنه حادث . وإذا افترضنا أنهم فرغوا من العشاء فى منتصف الساعة العاشرة ، وأنهم بلغوا البستان فى العاشرة تماما ، فلا يمكن أن يكون القبض عليه وقع قبل منتصف الساعة الثانية عشرة . وهذا يحدد لنا -  بشىء من اليقين – الساعة التى بدأت فيها المحاكمة التمهيدية .
لقد أجمع علماء طبوغرافية أورشليم القديمة أنه كان هناك درج نازل من المدينة العليا إلى أحد أبوابها يؤدى إلى بركة سلوام ، فى الزاوية الجنوبية الشرقية من سور المدينة . وقد أشار إليه نحميا فى سفره ( ص 3 : 15 )بقوله : " الدرج النازل من مدينة داود " وأيضا ( ص 12 : 37 ) " وعند باب العين الذى مقابلهم صعدوا على درج مدينة داود عند مصعد السور " .
كان أمام الجند الذين ألقوا القبض على يسوع طريقان ، إما أن يسيروا بمحاذاة وادى قدرون الى أسفل الدرج ، ومنه إلى دار رئيس الكهنة ، وإما أن يتتبعوا طريق بيت عنيا الرئيسى إلى المدينة الجديدة ، ومنها إلى حى الكهنة . ولو أن التقاليد لم تشر الى اتخاذ الطريق الأول ، إلا أن السير بيسوع وسط الحى الغاص بالسكان فى المدينة السفلى لا يبدوا ملائما لأغراض القوم ، إنه يحتم عليهم أن يلفوا دورة طويلة تضيع عليهم وقتا طويلا ، والوقت عامل له خطورته فيما هم بصدده من عمل حاسم فى الليل .
وعلينا أن نتصور ونحن نقف فوق نقطة مرتفعة من أسوار أورشليم القديمة ، حوالى منتصف الليلة المأثورة ، لنرى فريقا من الجند والغوغاء يدفعون أمامهم بإنسان هادىء لا يقاوم ، من المنطقة الصخرية التى أحاطت بالناحية الشرقية من جدار الهيكل ، إلى الطريق التاريخى فى الجهة الجنوبية الشرقية من سور المدينة ، ثم إلى معسكر أعدائه الألداء الحاقدين .

ماهى التهمة التى أقيمت ضده ؟

وما هو الأساس الذى بنيت عليه محاكمته ؟
يستنتج الباحث فى أدوار القضية كلها أن هناك مظاهر تغاير الشريعة اليهودية مغايرة فاضحة . وهذا واضح من الكتب اليهودية مثل : المشنة العبرانية ، والتقاليد اليهودية القانونية القائمة فى ذلك العصر .
فمثلا كان غير قانونى فى الشريعة اليهودية :
+  أن يقوم حرس الهيكل بأمر رئيس الكهنة بإلقاء القبض على أى انسان ، فإن هذا كان يترك عادة إلى الشهود المتطوعين .
+ وكان غير قانونى أيضا أن يحاكم إنسان على تهمة تستوجب عقوبة الأعدام فى أثناء الليل
+ ولم يكن جائزا محاكمة متهم بعد غروب الشمس إلا فى التهم المدنية المالية .
+ كذلك كان غير قانونى أن يتقدم القضاة لأستجواب المتهم بعد أن تناقضت أقوال الشهود وثبت كذبها ، وكان واجبا إطلاق سراحه ، ومعاقبة الشهود بالأعدام رجما – طالما ثبت كذب شهادتهم .
يعلم كل من درس رواية المحاكمة – كما وردت فى الأنجيل الكريم – أن هناك ثلاث تهم أصلية أقيمت ضد يسوع فى أدوار المحاكمة المتعاقبة :
1- هــدد بنقض الهيكل وهدمه .
2- أدعى أنه ابن اللــــــــه .
3- أثار الشعب ضـــــد قيصر .
ويمكن إبعاد التهمة الأخيرة لأول وهلة . فإنها لم تكن موضع شكوى اليهود ولا علة ثورتهم عليه ، ولكنهم حاكوها لأغراض سياسية . ولم يكن القانون الرومانى يقيم وزنا للتهم التى حكم من أجلها على المسيح بالموت ، ومع ذلك لم يكن مستطاعا تنفيذ هذا الحكم دون مصادقة بيلاطس الوالى الرومانى . لذلك رأى اليهود أنفسهم مضطرين إلى انتحال تهمة سياسية ليبرروا موقفهم أمام الوالى الرومانى فى طلب الحكم على المتهم بعقوبة الموت ، التى كانوا قد بيتوا النية عليها . فاتخذوا لهم ذريعة تهمة التآمر ضد قيصر ، وهى التهمة التى تجد أذنا صاغية عند الوالى الرومانى أو أى ممثل للسلطة الرومانية ، وحتى هذه التهمة قد طاش سهمهم فيها ، وكان فى الأمكان تفنيدها والقضاء عليها لو أن الولاية كانت فى ذلك العهد فى أيد حازمة غير مسترخية .
كان من العادات القديمة المأثورة فى اجراءات الشريعة اليهودية أن الشهود هم الذين يقيمون الدعوى فى المحاكمات الجنائية . ولم تكن الشريعة تبيح إجراء غير هذا فكان أول عمل قام به القوم فى مأساة منتصف الليل بعد إحضار المتهم إلى ساحة القضاء ، أن دعوا الشهود كما يقضى بذلك القانون ، وقد ألمح إلى هذا صراحة كل من البشيرين مرقس ومتى ،
فقال الأول  :
" لأن كثيرين شهدوا عليه زورا ، ولم تتفق شهادتهم "
وقال الثانى : " جاء شهود زور كثيرون "
ويؤيد البشير مرقس أن أقوال أولئك الشهود لم تتفق فلم يؤخذ بها .
ويتضح من هذا أن الشهادات التى أشار إليها البشيران ، مهما كان مضمونها ، هى من النوع الذى يقبل احتياطيا فقط . ومعنى هذا أن أقوال الشهود إما كانت مناقضة لما ألفه وعرفه قضاة المحكمة ، أو كانت باطلة لأسباب فنية قانونية . وقول البشير مرقس : " لم تتفق شهادتهم " يحملنا على الأخذ بالرأى الثانى .
وهنا تقدم إلى المحكمة رجلان بدليل معين عرضى . وفى هذا يقول البشير مرقس :
" ثم قام قوم وشهدوا عليه زورا قائلين : نحن سمعناه يقول إنى أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادى ، وفى ثلاثة أيام أبنى آخر غير مصنوع بأياد "
ويؤيد هذا القول البشير متى ، فيقول : " ولكن أخيرا تقدم شاهدا زور وقالا : هذا قال إنى أقدر أن أنقض هيكل الله ، وفى ثلاثة أيام أبنيه "
ومهما يكن من أمر ما حدث فى تلك الليلة المأثورة ، فإن اثنين تقدما إلى المحكمة واتهما يسوع ، الذى كانت أنوار المصابيح تنعكس على وجهه الطاهر بأنه قال كلاما أشبه بهذا . وهذه حقيقة هامة ، ينبغى التنبه لها . ذلك لأن الشهادة التى أدلى بها هذان الرجلان كانت تشويها وعكسا لشىء قاله المسيح نفسه فى حفل عام . شهد الرجلان أنهما سمعا المتهم يتفوه بأقوال ، لو أمكن برهنتها ، لأستحق عليها عقوبة مزدوجة : عقوبة الشعوذة ، وعقوبة تدنيس الهيكل المقدس . وكانت عقوبة الشعوذة الموت ، كذلك كانت عقوبة تدنيس حرمة المعابد الموت رجما والتشهير بجثة الميت . ومن وجهة نظر أعداء يسوع ، كانت التهمة كافية لتنفيذ مأربهم فيه ، ومع ذلك فقد استبعدت الشهادة : " ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق " .
نلاحظ أن المحكمة على الرغم من عدم شرعية الجلسة فى ساعة متأخرة من الليل ، تضيع وقتا طويلا فى إجراءات قضائية لم تؤد بها إلى نتيجة ما . وبعد سماع أقوال الشهود وقف المسيح بين الجمع متهما بريئا لا سبيل إلى إدانته . وبدت الأجراءات كلها تتحطم لعدم انسجامها مع نقطة معينة فى الشريعة اليهودية .
وينبثق من هذه الحقيقة التاريخية الهامة شيئان : أولهما أن قيافا لم يكن قويا بالقدر الذى يمكنه من إملاء إرادته على هذا الجمع . فقد كان بين أعضاء غرفة المشورة هذه تيارات قوية تلح بمراعاة قواعد الشريعة مراعاة صارمة ، ولا سيما فيما يتعلق بالشهود
ونلاحظ أن حكم هذه الهيئة لم يكن نهائيا ، وكان لا بد من أن يصادق على قرارها مجلس السنهدريم الأعلى فى جلسة كاملة فى الصباح التالى . والظاهر أنه ثارت معارضة قوية من " نيقوديموس " احتج فيها على محاكمة بدون اجراءات قانونية منصفة . وكان من الميسور لهم أن يبرروا عدم شرعية المحاكمة الليلية بما اقتضته الضرورة السياسية الملحة وبسبب اقتراب موعد الفصح ، ولكن أى خطأ فى اجراءات اثبات التهمة كان كافيا لإرغامهم على إطلاق المتهم فى ساعة كان من المحتمل جدا أن تهرع حوله الجماهير وتنضم إلى جانبه .
ثم أن غربلة أقوال الشهود على هذا النحو ، والتدقيق فيها كان عاملا من العوامل التى تحمل الشهود أنفسهم على الحذر الشديد فى إبداء أقوالهم . وكان من أخطر الأمور على إنسان أن يكون شاهدا فى تهمة عقوبتها الموت ، لأن نظم الفقه اليهودى كانت تميل دائما إلى تأويل الأشياء فى صالح المتهم حتى تثبت إدانته ، وكانت عقوبة الشهادة الزور الموت ، لذلك كانت هذه المحاكمات قليلة جدا .
ما هو الحديث التاريخى الذى كان أساسا لهذه التهمة ؟ وما الذى قاله يسوع فعلا من أقوال اتخذها الشهود سندا لشهاداتهم ؟
جاء فى رواية القديس مرقس أن الشهود قالوا إنهم سمعوا يسوع يهدد بتدمير الهيكل وإعادة بنائه بطريقة سحرية فى ثلاثة أيام . فالألفاظ صريحة فى نصها : " إنى أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادى ، وفى ثلاثة أيام أبنى آخر غير مصنوع بأياد " .
أما البشير متى يعدل التهمة ويخففها كثيرا . وفيها نجد تلك الأعادة السحرية لبناء الهيكل ، ولكن ينسب إلى السيد المسيح قوله فقط إن لديه القوة على ذلك : " هذا قال إنى أقدر أن أنقض هيكل الله وفى ثلاثة أيام أبنيه " .
إن مضمون هذه التهم تشير إلى قدرة السيد المسيح على الأتيان بهذه الأعمال من خلال السحر والشعوذة !! ... ألم يقل اليهود عنه أنه ببعلزبول يخرج الشياطين !! ...
إذن يجب أن تبقى أقوال الشاهدين فى موضع الشبهات حتى تتوفر لدينا شهادات متفقة يحق أن تؤخذ حجة على المتهم ، ولكن الأدلة التى عندنا تقودنا إلى اتجاة آخر غير هذا . فإن الذى قاله يسوع ، حسب رواية البشير يوحنا هو : " أنقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه " ويضيف الكاتب إلى هذا : ( وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده ) .
إن عبارة " ثلاثة أيام " .... تكررت فى أكثر من حديث ، خذ مثلا الشواهد الثلاثة التى وردت فى بشارة مرقس الرسول :
" وابتدأ يعلمهم أن ابن الأنسان ينبغى أن يتألم كثيرا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل ، وبعد ثلاثة أيام يقوم " ( مر 8 : 31 ) .
" لأنه كان يعلم تلاميذه ويقول لهم أن أبن الأنسان يسلم إلى أيدى الناس فيقتلونه ، وبعد أن يقتل يقوم فى اليوم الثالث " ( مر 9 : 31 ) .
" ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الأنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة ، فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم ، فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه ، وفى اليوم الثالث يقوم " ( مر 10: 33 ) .
إن السيد المسيح هنا يؤكد على حتمية قيامته من الموت بعد ثلاثة أيام ، هذا هو جوهر حديث السيد المسيح عن انتصاره على الموت ، أما عدد الأيام الثلاثة – التى اتخذها الشهود الحانقين المعاندين – وجعلوا منها تهمة ، فهى ليست القضية فى تخطيط السيد المسيح فى عملية الفداء التى كان يستعد لها .
بقى أن نلقى نظرة على الظاهرة الغريبة الأخرى فى هذه المحاكمة ، فإن يسوع الناصرى قد حكم عليه بالموت ، لا بناء على أدلة المدعين عليه ، بل على اعتراف انتزع منه انتزاعا بعد أن استحلفه رئيس الكهنة .
ويبدوا لنا جليا أنه بعد استماع أقوال الشهود ورفض شهادتهم ، اتخذت اجراءات القضية اوضاعا شاذة غير قانونية ، وموضع عدم المشروعية أن رئيس المحكمة حاول بتوجيه الأسئلة مباشرة إلى المتهم ، أن يتلمس الأسباب اللازمة للحكم عليه مما عجز عنه الشهود أنفسهم .
وهذا يناقض تناقضا تاما حرفية القانون القضائى اليهودى وروحه ، وقد كان مرماه أن يحوط حياة المواطن اليهودى بكل أسباب الضمان . فإن إقامة الدعوى فى قضية عقوبتها الموت كانت موكولة بحسب الشريعة اليهودية إلى الشهود دون سواهم ، فكانت مهمتهم أن يلقوا القبض على المتهم ، وأن يجيئوا به إلى ساحة القضاء ، وكانت مهمة المحكمة أن تصون حقوق المتهم بكل الوسائل الممكنة ، وتبذل كل جهد فى تمحيص أقوال الشهود واصدار حكم عادل لا تحيز فيه على الأدلة التى يتقدمون بها .
ونظرة واحدة إلى نص الرواية فى هذه القضية تدلنا على أن المتهم فيها لم يفز بهذه الحصانة القضائية . ويبدو هذا من لهجة الحنق والغيظ التى وجه بها رئيس الكهنة سؤاله إلى المتهم بعد أن تهدمت أقوال الشهود :
" أما تجيب بشىء ؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك ؟ "
ولعل الأعتراض لم يكن على هذا السؤال فى حد ذاته ، فقد كان من حق المسيح كمتهم أن يدلى بأى أقوال أو حقائق دفاعا عن نفسه . كان من اللائق أن يسأل إذا كان لديه شىء يعلق به على أقوال الشهود . أما الذى يسترعى أنظارنا فهو العداء المكشوف نحو المتهم ، وهو نذير بما سيجىء بعد هذا السؤال ، فإن رئيس الكهنة كشف عن نواياه ، وأزال كل المظاهر التى تلبس القضية شكلها القانونى الظاهر على الأقل .
ذلك أن قيافا وهو واقف فى مكانه وسط المحكمة وجه إلى يسوع القسم الأعظم فى الدستور العبرانى : " أستحلفك بالله الحى " ( متى 26 : 63 ) ولم يكن بد أن يجيب يسوع وهو اليهودى التقى النقى المحافظ على الشريعة صونا لحرمة هذا القسم العظيم :
وقد جاء بكتاب المشنة اليهودى :
" إذا قال قائل : أستحلفك بالله القادر على كل شىء ، أو بالصباؤوت ، أو بالعظيم الرحيم ، الطويل الأناة ، الكثير الرحمة ، أو بأى لقب من الألقاب الإلهية ، فإنه كان لزامل على المسئول أن يجيب " .
وكان السؤال الذى وجهه قيافا رئيس الكهنة إلى المسيح مباشرا صريحا ، مجردا عن المصطلحات العبرانية الخاصة :
" أأنت المسيح ؟ أتدعى أنك أنت هو الآتى ؟ "
ولم يكن المتهم بأقل صراحة من سائله ، وهذه هى النصوص الثلاثة لاجابته :
" أنا هــــو " ( مرقس 14 : 62 ) .
" أنت قلـــت " ( متى 26 : 64 ) .
" أنتم تقولون إنى أنا هـــو " ( لوقا 22 : 70 ) .
لقد نطق يسوع بإجابته فى شىء كثير من التصميم والحزم . ونرى قيافا قد سر بعد أن حصل من المتهم نفسه على هذا الإقرار الهائل الخطير . ويكاد المرء يسمع رنة الفوز والظفر فى صوته وهو يلتفت إلى الأحبار وشيوخ الشريعة قائلا : " ما حاجتنا بعد إلى شهود ؟ قد سمعتم التجاديف ! أبصروا أنتم "
والقارىء اليقظ المتنبه لما يسمى بالحقائق الخفية الدفينة فى القصة ، يرى لذة ومتاعا فى تطور القضية هذا التطور الفجائى وبلوغها هذه الذروة المفجعة .
المعروف أن جماعة الصدوقيين الأقوياء الذين ينتمى إليهم رئيس الكهنة كانوا قد وطنوا العزم على إبعاد يسوع من طريقهم . ولا تتحقق أغراضهم هذه إلا بعقوبة الموت . ومن الغريب أنه مع هذا التصميم ، لم يسعهم الأكتفاء بقضية ثبت فيها التجديف أو الشعوذة ، لأن قيافا كان عليه أن يبتعد بنظره الثاقب إلى آخرين من غير طائفته ، إلى جماعة المعارضين فى مجلس السنهدريم ، وإلى أحكام الشريعة الموسوية ، وإلى ذلك الحاجز المنيع الذى أقامته روما من قوتها وتسامحها .
ولم يكن أحد أكثر من قيافا يعرف النتائج السياسية والشخصية التى تترتب على مجىء المسيا الذى ترقبته الأمة اليهودية . فإن هذا معناه ظهور نوع من الملكية يكون مقامها فى أورشليم والمقادس الأخرى . ومعناه أيضا تحدى السلطات الرومانية فى كل البلاد ، وثورة الشعب عن بكرة أبيه ، وقيلم حملة تأديبية مريعة على يد قائد رومانى أشبه بتلك الحملة المريعة التى حدثت بعد هذا التاريخ بأربعين عاما ودمرت المدينة تدميرا . وقد كان قيافا رئيس الكهنة سياسيا أريبا وداهية ماكرا حين قال لقومه : " خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها " ( يو 11 : 50 ) .
أما النتائج الشخصية التى قد تصيب قيافا على أئر مجىء المسيا المنتظر – ( مع الأخذ فى الأعتبار نظرة اليهود لدور المسيا المنتظر بأنه مخلصهم الأرضى وليس سماويا ) – لم تكن أقل خطورة من تلك النتائج السياسية ، لابد أن يطرأ تغيير على دستور مجلس السنهدريم الأكبر عند حلول النظام الميساوى ، وأن سيادة رئيس الكهنة لا بد أن تزول ، ولا بد أن الحاكم الحقيقى سيكون هو المسيا ، وسيكون مطلق التصرف فى توجيه سياسة أمته كمنقذ قومى وكمندوب سام لإله إسرائيل !!! ....لهذا فإن ظهور المسيا قد أزعج كثيرين ممن يهمهم بقاء الأحوال الراهنة ، ولعلنا نذكر مذبحة أطفال بيت لحم عندما علم هيرودس بميلاد يسوع الطفل .
كان لا بد من اختلاق تهمة أخرى غير هذا التهديد البليد بنقض الهيكل وإعادة بنائه ، أو حتى بأن يسوع هو المسيح ، تهمة يرضى عنها بيلاطس الوالى الرومانى ويصدر فيها الحكم بالموت .
كان الأتهام كله على وشك أن ينهار لولا فطنة قيافا وذكائه – الشرير -  الذى استنبط فورا وسيلة لإنقاذ الموقف ، وكانت إجراءاته غير قانونية ، ولكنها كانت الضربة الأخيرة اليائسة من رجل كادت تطيش السهام كلها التى أعدها فاستنجد بقسم الشهادة ، الذى كان يعتبر حتى الصمت عنده تهمة لا تغتفر ، وقد أفلحت الحيلة أكثر مما قدر لها ، لأن فى الجواب الجرىء " أنا هــو " ! الركن القوى لإثبات تهمة شنيعة أمام الوالى الرومانى .
وقد يتغاضى قيصر عن أقوال داعية يسند لنفسه حقا دينيا يهتم به أبناء البلد المحتل ، ولكن لن يقدر أن يتغاضى عن شخص يطالب لنفسه بالعرش !! ... وبسرعة اقتحم قيافا فكر بيلاطس :
 " إن أطلقت هذا فلست محبا لقيصر ! " .
يالرياء ونفاق اليهود ، فى السابق أرادوا أن يوقعوا السيد المسيح فى مشكلة الجزية ، وهل يجوز أن تعطى لقيصر أم تمنع عنه ، محاولين استغلال أى إجابة بالموافقة أو النفى ، فإذا وافق السيد على الجزية اعتبروه غير وطنى ، وإن رفض أوشوا به لقيصر ... السيد المسيح بجانب حبه لرسالته إلى المنتهى ، فهو محب لبلده إلى أقصى درجة ، ولكنها ليست هى القضية التى جاء من أجلها ، إن قضيته الأساسية هى خلاص العالم ، وبعد ذلك كل شىء يمكن أن يجىء بشخصيات سياسية أو عالمية ، .... .
حوادث قبل منتصف الليل ...... ( ليلة الجمعـــــة ) .
إن اعتبارات الزمن لعبت دورا حاسما فى تقرير الحوادث التى سبقت موت المسيح  .... يتعين علينا ونحن ندرس تلك التفاصيل أن تكون عيوننا دائما ترقب الساعة .... لا سيما حينما نقترب من عنصرين هامين فى القضية وهما المفاوضات التى قام بها زعماء اليهود مع يهوذا ، ثم مباحثاتهم مع بيلاطس البنطى ......
لنبدأ أولا بقضية : يهــــــــــــوذا الأسخـــريوطى  :
ترى .. لماذا يظهر يهوذا فى القصة فجأة ؟ ويسوع بنفسه يقول : " إن أبن الأنسان ماض كما هو مكتوب ........! " وما الذى كان فى وسعه أن يقدم لرؤساء الكهنة مما كان عسيرا عليهم أن يفعلوه بحكم وظائفهم ؟ بل ما الداعى إلى انفاق هذا المبلغ الضئيل ثمنا للدم فى سبيل الحصول على خدمته ؟
من السخف أن نحسب يهوذا مجرد مخبر عام تطوع لإرشاد السلطات إلى المخبأ الذى آوى اليه من كان صديقا من قبل ، فإن يسوع لم يكن مختبئا ، ومنذ اللحظة التى وصل فيها إلى بيت عنيا عصر يوم الجمعة لم يفعل شيئا لإخفاء حركاته .. فحضر حفلة العشاء التى أقيمت تكريما له فى بيت سمعان الأبرص إما مساء السبت أو مساء الثلاثاء ، وانطلق إلى أورشليم على مرأى القوم فى ثلاثة أيام متتالية ( الأحد والأثنين والثلاثاء ) وكان يعود منها إلى بيت عنيا فى مساء كل يوم ليبيت هناك .
لم يخفى السيد المسيح شيئا من تحركاته سوى مكان أكل الفصح ، ليتمم الطقس حسب الشريعة بهدوء ويؤسس سر الأفخارستيا ... وبعد ذلك عاد إلى البستان وهو مكان معروف لكثيرين أن السيد المسيح يختلى فيه مع تلاميذه للصلاة أولتفسير الأمثال .
من السخرية أن نفترض أن زعماء اليهود جهلوا حركاته وانتقالاته بينما عرفت ذلك جماهير الشعب الذين أحاطوا به وزحموه فى طرقات أورشليم فى صباح يوم الأحد . ما من شك فى أنهم مقره جيدا ، وكان هينا عليهم أن يبعثوا رسلهم سرا وبسرعة إلى بيت عنيا لالقاء القبض عليه فى أى مساء من تلك الليالى الأربعة العصيبة . فلماذا لم يفعلوا هذا ؟ وما الذى حملهم على أنتظار معونة يهوذا ؟
جرت عادة الشراح أن يجيبوا عن هذه الأسئلة بما دونه الأنجيل بقولهم إن الخوف من الشعب هو الذى حملهم على هذا الموقف المحاذر ، وهذا حق ... فإن الخوف من الشعب كان له أئر كبير فى نفوس زعماء اليهود ، وما درى أحد كيف كانت تتطور القضية وأى عواقب كانت ستنشأ ، لو أن الزعماء ألقوا القبض عنفا وعلانية على شخص حسبه فريق كبير من الشعب المسيا الذى أعلنت عنه النبوات . لقد فعل الزعماء فعلتهم وهم يصوبون أبصارهم إلى الرأى العام الذى حسبوا له كل حساب .
 ولكننا نضيف سببا آخر .... إن وراء الخوف الظاهرى المعترف به من الشعب ، خوفا آخر أشد وأعمق – خوفا يعلل كل ترددهم وتذبذبهم ، حتى بلغت أسماعهم المذهولة رسالة رحبوا بها أيما ترحاب –
ونعنى بذلك الخوف من السيد المسيح .
لا نستطيع أن نضع شيوخ اليهود بمعزل عن القيود والخرافات التى شاعت فى عصرهم ، كما أننا لا ننكر أن شهرة يسوع كانت قد ذاعت بين الناس ، وعلا اسمه بين القوم وسمت شخصيته . وتناقلت الألسن قصص معجزاته فى إعادة البصر للعميان وشفاء المشلولين . وانتشرت هذه الأنباء على أورشليم من كل أجزاء البلاد ، وسلم بها الناس حتى فى الأوساط العليا . ويخيل إلينا أن معاصريه لم يرتابوا فى أن لديه بعض القوى الخارقة التى لم يألفوها فى جيلهم .
أن هناك هالة من الغموض الشديد قد انعقدت حول شخص يسوع ، إن ما كنا ننتظره من قوم يملكون زمام السلطة فى موقف خطير ، أن يقوموا بإلقاء القبض على يسوع وهو فى الهيكل ، من الحقائق البارزة فى هذه القصة أن السيد المسيح ظل مسيطرا على الموقف كله إلى النهاية .
أن زعماء اليهود قد خافوا أن تتدخل قوة غريبة فتأخذه من بين أيديهم ، فيعجزوا فى آخر الأمر عن إلقاء القبض عليه ، إلى أن حانت الساعة الحادية عشرة من ليلة يوم الجمعة . والظاهر أن لقاءهم بيهوذا قد هون عليهم الأمر ، إن يهوذا هو أقرب الأشخاص للسيد المسيح بحكم التلمذة ، ويستطيع أن يقدم لهم النصيحة فى حالة تعرضهم لأى شىء ممكن يحدث لهم من جانب يسوع ، لو استعمل معهم قوته الخارقة !!!
وقد قيل فى هذا : " لما سمعوا فرحوا ووعدوا أن يعطوه فضة ، وكان يطلب كيف يسلمه فى فرصة موافقة "( مر 14 : 11 ) .
ولو تتبعنا سير الحوادث كما دونت فى البشائر ، لرأينا أن هذه المقابلة تمت على أقرب تقدير يوم الثلاثاء بعد حفلة العشاء فى بيت سمعان الأبرص ، ومع ذلك لم يتمكنوا من القيام بأية حركة ، ولم يتبدل ترددهم عزما إلا فى يوم الخميس ليلا ، لما أسرع يهوذا من العلية إلى نقل الأنباء إليهم . عند ذلك قاموا بعملهم الحازم .
ولنفرض أن التفاهم بين يهوذا ورؤساء الكهنة قد تم على هذا النحو : " نحن قد اعتزمنا القبض عليه يوم الخميس ليلا ، فابق معه حتى تثق تماما من كل حركاته ، ثم تعال سريعا واخبرنا ، وعلينا بقية الأمر " . ... ولكننا نلاحظ أن بضع ساعات مضت بين الزمن الذى انسحب فيه يهوذا من العلية التى تناولوا فيها العشاء وبين وصول العسكر المجج بالسلاح إلى بستان جثسيمانى ، فما التعليل التاريخى لهذا الأبطاء ؟ فلنتأمل هذا الموقف مليا وننظر إلى غرابته ، لأنه حافل بالأشياء الغريبة حقا التى لا يمكن تعليلها بغير ذلك .
إننا لا نتصور مثلا أن يغرق التلاميذ على التو فى النعاس بمجرد وصولهم إلى البستان ، وهم يعلمون أن أحداثا خطيرة ستقع هذه الليلة ! لم نعهد الطبائع البشرية على هذا النحو من الجمود والأستكانة ، لا بد من تعليل لهذه الفترة الطويلة التى بلغ مداها ثلاث ساعات ، فى مأساة خطيرة متشابكة الحوادث كهذه . ولزام علينا أن نعرف ما الذى كان يفعله يهوذا طيلة هذه المدة ...
 إننا نثق أن يسوع قد أتى إلى العالم من أجل هذه الساعة ، لما خرج يهوذا من العلية للقيام برسالة بريئة فى ظاهرها ، عرف يقينا بأمرين : عرف أن يسوع ذاهب إلى بستان جثسيمانى ، وعرف أيضا أن روحه آخذة فى الجنوح نحو الصليب ، لقد نفذ السيد المسيح عزمه على تسليم نفسه بأسلوب بارع ودقيق ، وهو العالم بنفسيات البشر وميولهم ...!! إن يسوع لم يبد أى مقاومة أمام الجند واليهود ، لأن رغبته ومزاجه وقتئذ كان أميل إلى الأستسلام والخضوع لصالبيه ..... .
ومهما تكن ألفاظ الحديث ونصوصه الذى دار بين يهوذا ورؤساء اليهود ، فلا شك أنه كان فى شىء من هذا المعنى :
" هو يفكر فى الموت ويتحدث عنه ، وهو الآن ذاهب إلى البستان عند سفح جبل الزيتون ويبقى هناك حتى أوافيه . فهيئوا أمركم على عجل وأنا سآخذكم إليه " .
لابد أن نأخذ بهذا الأستنتاج فنحن نعلم أن يهوذا قاد الحملة المأمورة بالقبض على يسوع – إلى بستان جثسيمانى دون أن يخطىء الطريق على الرغم من الظلمة فى هذه الساعة المتأخرة من الليل ، ونعلم أيضا أن يسوع انتظر فى ذلك البستان على الرغم من إرهاق تلاميذه ، والظاهر أنه كان متأهبا لأن ينتظر هناك حتى مطلع الفجر .
وقراءة يوحنا 13 : 13 ، 28 ، 29 ، تزيد فى رجحان الصدق فى هذه القصة ، يبدو أن كل تلميذ من تلاميذ السيد المسيح كان يظن بأن يهوذا كان مكلفا من قبل باقى التلاميذ بشراء لوازم للعيد ، فاضطر إلى التغيب عنهم بعض الوقت . كان بستان جثسيمانى مكانا لائقا لموعد اللقاء ، لأنه يقع فى المثلث القائم بين الطريقين الرئيسيين على أكتاف جبل الزيتون إلى تلك الضاحية الصغيرة ، ويؤدى ذانك الطريقان الجبليان ، علاوة على الطريق الرئيسى المتاخم للبستان ، إلى بيت عنيا .
الأرجح أن يهوذا فضل أن يذهب إلى دار رئيس الكهنة لأنهاء الأتفاق معه ، ويؤجل مهمته الأخرى لشراء لوازم العيد ، لأنها مهمة قابلة للتأجيل .
ترى ماذا كان تأثير هذا التصرف من قبل يهوذا على قيافا والصدوقيين ؟ الذين كان همهم الأكبر القضاء على يسوع . إن أمرين جوهريين فى الموقف تغلبا على كل اعتبار آخر فى سياسة القوم :
الأول : أنه كان من أفدح النكبات لسمعتهم ومصلحتهم أن يبدأوا محاولة فاشلة للقبض على يسوع فى ذلك المكان . فإنه لو فشلت محاولتهم لعوامل خارقة للطبيعة ، لكان الخطب فادحا لا يمكن مداوته .
والثانى : أنه كان من الخطر عليهم أن يقبضوا على يسوع ثم يضطرون إلى تأجيل محاكمته مدة السبعة الأيام التى قررها عيد الفصح . ولم يكن فى وسعهم الأعتداء على هذا التقليد بأى حال من الأحوال . وكانت أورشليم فى أيام الفصح بسبب ازدحامها بالغرباء والزائرين ، تتهيج لأقل الأشياء وتعمد إلى الثورة والأضطراب لأتفه الأسباب ، وربما كان لهم أن يركنوا إلى الذهول المؤقت الذى يطرأ على الرأى العام على أئر حادثة خطيرة كالقبض على يسوع ، ولكن لا يلبث أن يعقب ذلك رد الفعل بعد بضع ساعات .
وبينما هم يواجهون هاتين المشكلتين ، جاء يهوذا الأسخريوطى فى ساعة متأخرة من ليلة الخميس بنبأ خطير أصلح موقفهم إزاء هذه المشكلة ، وزاد صعوباتها عشرة أضعاف ..! أصلح موقفهم لأنه أكد لهم إمكان القبض عليه ، ولكنه زاد صعوباتهم لأنه حمل النبأ فى ساعة متأخرة ، وكان عليهم أن يواجهوا أمر القبض بما انطوى عليه من أخطار قد يكون فيها القضاء على سمعتهم وكرامتهم وكيانهم فى الشعب .
السؤال الذى كان محل البحث : هل فى الأمكان القبض على يسوع ومحاكمته وضمان تنفيذ حكم الأعدام فيه قبل مغيب شمس الغد ؟ .
كان أمام رئيس الكهنة أن يتشاور مع زعماء الأحزاب المختلفة التى تألف منها مجلس السنهدريم ، .... وهناك شىء أخطر من هذا ، ما هو ؟
 لأبد أن مخابرة قد جرت بين زعماء اليهود وبين بيلاطس البنطى الوالى الرومانى ، قبل إصدار الأمر بالقبض عليه ، هل يمكن أن نصدق أن قضية خطيرة مثل هذه تعرض على بيلاطس فى صباح يوم الجمعة ، بدون سابق علمه ، وقبل التأكد من استعداده للنظر فيها ؟
بالنسبة لرؤساء الكهنة كان الأمر جوهرى جدا أن يضمنوا ، ولو فى ساعة متأخرة من الليل ، رضاء الوالى الرومانى وتعاونه معهم .
وبرغم أن البشائر الأربعة لم تذكر شيئا عن هذا الموضوع ، إلا أن هناك حالة صغيرة الحجم ولكنها كبيرة المقدار : عندما نرى أن بيلاطس عدل عن العادة المألوفة فى مثل هذه الأحوال ، وتقدم بنفسه إلى اليهود وذلك إرضاء لتقاليدهم الطقسية التى قضت عليهم بعدم دخول فناء الغريب فى ذلك اليوم . وعلتهم فى ذلك أن الوقت لم يعد يسمح بالتطهير الواجب قبيل الفصح ومعنى هذا لولا أن قضية يسوع عاجلة وخطيرة ، لما عقد بيلاطس مجلس الحكم فى ذلك اليوم ، فإنه من السخف فى سير الحوادث العادية ، أن يعقد مجلس الأحكام القضائية فى يوم تقضى طبيعة الأشياء أن يتغيب فيه كبار الموظفين والشهود . وكون بيلاطس لم يجلس على منصته فى ذلك اليوم ، ويتقدم بلا تردد ظاهر لسماع القضية فى الفناء خارج دار الولاية – يدل على أن بينه وبين الزعماء تفاهما من نوع ما ....
من جهة أخرى كانت الصعوبات القانونية هائلة – فانعقاد المحكمة فى هزيع الليل ، وانعقاد السنهدريم فى جلسة كاملة فى صباح الغد – كل هذه استدعت تفكيرا جبارا وتنظيما عاجلا ...
ثم .. أفى وسعهم إقناع بيلاطس أن يتمكن من تنفيذ حكم الأعدام قبل حلول العيد ؟ أيرضى بيلاطس أن ينظر فى القضية بالظروف والملابسات التى يفرضونها على هذا النحو ؟ أتراه يلح على إجراء محاكمة كاملة ، أم يكتفى بالتصديق على قرار أصدرته محاكمهم الخاصة ؟ وما هو المقابل المادى أو الفائدة الأدبيه لبيلاطس ( على أقل تقدير ) مقابل ذلك .
كما أن محاكمة المتهمين اليهود أمام الوالى الرومانى ، كانت تستدعى الحصول على موافقة بيلاطس الشخصية ورضائه قبل إعداد الجدول.
لم يكن فى أورشليم كلها غير انسان واحد يجرؤ بحكم وظيفته على مقابلة بيلاطس فى ساعة متأخرة من الليل فى الوقت المخصص لراحته ، سوى قيافا رئيس الكهنة ، والأرجح أنه هو الذى قام بهذه المهمة . فهو ، دون سواه ، يستطيع أن يدلى ، بحكم مركزه السامى وسلطته الرسمية ، بالأسباب التى تؤيد هذه المحاكمة .
إذا كانت هذه الزيارة – التى لم يذكرها الأنجيل – قد تمت ، فسيكون لها شأن فى تعليل بعض الحوادث الغامضة علينا أثناء محاكمة السيد المسيح ، ونقصد مسلك بيلاطس الغريب ( وكذلك زوجته )  فى يوم الجمعة الذى تقرر فيه مصير السيد المسيح  .

الجمعــــــة العظيمــــــــة

وأحداث الصـــــــــــــلب

يخطىء كل من يزعم أنه يواجه أمرا هينا عند بحث محاكمة يسوع الناصرى أمام بيلاطس الوالى الرومانى ، فإن الأمر غامض ودقيق ... والشىء الغريب فى هذه القصة ، لا نجده فى مسلك اليهود ولا فى مسلك المتهم نفسه ، بل فى مسلك بيلاطس ، وجدير بنا أن نقرأ ما كتبه الرسل فى البشائر الأربعة ، حول محاكمة رب المجد ، نقرأ ما كتب أكثر من مرة ، لنقف على أكبر مهزلة تاريخية نسجها الأطراف الثلاثة :
 يهوذا الخائن ، واليهود العميان ، وبيلاطس المهزوز .
ولنلق نظرة على بيلاطس ، ذلك الجندى الفظ غير المثقف ، تقول بعض التقاليد أنه تزوج من " كلوديا بروشلا " وهى حفيدة أغسطس قيصر ، وهذا الزواج كان له الفضل فى وصول بيلاطس واليا على اليهودية ، وبعد نيله هذه الوظيفة السامية طلب أن يؤذن له بامتياز أن يأخذ زوجته معه ، وهذا الأمر لم يكن مصرحا به لولاة الرومان .
كان المعروف عن بيلاطس أنه رجل خشن فظ ، تعوذه الحنكة والسياسة ، وتطغى على عقله عوامل العناد والقسوة ، أعطى سلطانا فلم يحسن سياسته ، تسبب فى مشاكل كثيرة مع الأمة اليهودية ، ولسنا هنا بصدد البحث فيها ... إنما يكفى الأشارة لبيلاطس وشخصيته من خلال تلك الكلمات القليلة التى دونها عنه المؤرخون .
قلنا أن هناك مقابلة – المفترض أنها تمت – بين رئيس الكهنة وبيلاطس ، كذلك فإن هناك شيئا آخر يؤيد تلك القصة ، ذلك أن كلوديا بروشلا زوجة بيلاطس كانت فى القصر الهيرودسى تلك الليلة ، ومما له مغزاه الخطير أن يسجل الأنجيل هذه الأشارة الوحيدة التى تناقلتها الأجيال عنها فى هذه المأساة ، فيقال عنها : " انها حلمت عن يسوع المسيح فى الليلة السابقة لموته " . وإذ نتتبع المحاكمة الرومانية سائرة حسب الأصول التقليدية التى بموجبها قدم اليهود -  يسوع المسيح – متهما فى صباح الجمعة دون تدبير سابق ، فإننا لا نجد معنى للأشارة إلى بروشلا .. وتبدو لنا القصة فى هذه الحالة عارية عن المنطق ، بعيدة عن كل احتمال ، أما حين نضع الأمور فى نصابها ونرتب الحوادث فى تسلسلها الطبيعى فتكون كالآتى :
كان بيلاطس ليلتها فى أورشليم ، للأقامة مدة العيد العشرة ، بحكم مسئوليته المباشرة عن الأمن العام فى مثل هذه المناسبات ، ومن المحتمل أن تكون كلوديا قد قدمت معه ، وكان من الطبيعى أن يقضى بيلاطس وزوجته وقتا طويلا معا للتحدث والتسامر وهما فى هذه المأمورية .....
فإذا أتفقنا أن زيارة يهوذا لقيافا تمت الساعة الثامنة أو التاسعة من مساء الخميس ، وأن القبض على يسوع كان فى حوالى الساعة الحادية أو الثانية عشرة من مساء الخميس ، فإننا نستنتج أن زيارة قيافا لبيلاطس كانت حوالى مابين التاسعة إلى الحادية عشرة من يوم الخميس مساءا ، وإلا فكيف تمكن رؤساء الكهنة من تقديم القضية إلى الوالى فى صباح اليوم التالى ، وحمله على النظر فيها يوم الجمعة صباحا ؟ .
لسنا ندرى كيف حصل اليهود على رضاء الوالى الرومانى للنظر فى القضية على وجه السرعة بعد إخطار قصير الأجل ، إلا إذا سلمنا أن قوة شخصية وسلطة يهودية عليا لعبت دورها فى الألحاح والأقناع .
لنفترض أن قيافا قد تعرض لموضوعين أئناء مباحتاته مع بيلاطس :
الموضوع الأول : أنه سيتم القبض على مهيج سياسى خطير ، ومن الصالح العام أن تتم محاكمته فى صباح اليوم التالى ، وأن يكون الحكم بأقصى عقوبة ، وتم اشتئذان بيلاطس أن تعرض القضية عليه فى صباح الجمعة ، حتى يتسنى إصدار الحكم وتنفيذه قبل مغيب الشمس وحلول العيد .
الموضوع الثانى : هل يتنازل بيلاطس فى هذا الظرف الخاص ، ويخرج من ساحة القضاء إلى مقابلة الوفد الذى سيجىء اليه بالمتهم وبقرارات المحكمة اليهودية ؟ .
ربما يكون الحديث قد استغرق حوالى النصف ساعة ، عاد بعدها بيلاطس إلى مخدعه ، وهنا قص على زوجته موضوع زيارة رئيس الكهنة ، والأتفاق الذى تم لمحاكمة يسوع فى اليوم التالى ، ..... وحينما آوت كلوديا إلى مضجعها فى تلك الليلة وذهنها مشغول بحقد اليهود على يسوع البرىء  ..... فلما استيقظت فى الصباح بعد حلم أليم ومزعج ، ورأت زوجها قد غادر القصر ، عرفت أين ذهب ، وعرفت القضية الدقيقة التى تحتم عليه اليوم أن يفصل فيها ، وفى تلك اللحظة ، بعثت إليه برسالة – تكاد تكون أشبه برسالة برقية فى قصرها وسرعتها – نقلت فيها إليه أفكارها ومخاوفها ، وما ينبغى عليه أن يفعل فى القضية
" إياك وذلك البـــــــار ، لأنى تألمت اليوم كثيرا فى حلم من أجلـــــــه " . 
إن ما يلفت النظر ، هو أن الحلم ما كان ليزعج بروشلا على هذا النحو عند يقظتها فى الصباح الباكر لو لم تكن قد عرفت وأيقنت أن هناك اتفاقا قد تم بين قيافا وبيلاطس على الحكم على يسوع بأقصى عقوبة وهى الصلب ... !! ولو لم يضمن قيافا أن بيلاطس سينفذ الحكم أو يصدره ، ما كان قد أقدم على القبض على يسوع بهذه السرعة ، وآثر التربص إلى وقت آخر .
ولو وضعنا ماجاء فى روايات البشائر الأربعة فى صفحة واحدة ، ثم نقارن بينها ، نجدها مجمعة على واحد وهو أن بيلاطس سأل يسوع : " أأنت ملك اليهود  ؟ " .
والمهم فى الأمر هنا أن البشارتين المتقدمتين فى التاريخ لم تشيرا قط حتى إلى نوع التهمة التى أقامها اليهود أمام بيلاطس . فمتى ومرقس بما عهد فيهما من الأيجاز فى القول والبعد عن التبسيط فى الحوادث ذكرا أن بيلاطس سأل هذا السؤال الهام مباشرة ، دون أن تسبقه مقدمات تدعو إليه :
رواية متى الرسول
رواية مرقس الرسول
" ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء  الكهنة
وشيوخ الشعب على يسوع حتى  يقتلوه . فأوثقوه
ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطى الوالى
...... فوقف يسوع أمام الوالى فسأله الوالى قائلا :
" أأنت ملك اليهــــــــــــود ؟ " .
" وللوقت فى الصباح تشاور رؤساء
الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله ،
فأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه إلى
بيلاطس . فسأله بيلاطس :
" أأنت ملك اليهــــــــــــــــــود ؟ " .

رواية يوحنا البشير
رواية لوقا الأنجيلى
" فخرج بيلاطس إليهم وقال : أية شكاية تقدمون
على هذا الأنسان ؟ أجابوا وقالوا له : لو لم يكن
فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك . فقال لهم بيلاطس
: خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم . فقال
له اليهود : لا يجوز لنا أن نقتل أحدا . ليتم قول
يسوع الذى قاله مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا
أن يموت . ثم دخل بيلاطس أيضا إلى دار الولاية
ودعا يسوع وقال له " أأنت ملك اليهــود ؟ " .
" فقام كل جمهورهم وجاءوا به إلى
بيلاطس . وابتدأوا يشتكون عليه قائلين :
إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ، ويمنع أن
تعطى جزية لقيصر ، قائلا إنه هو
مسيح ملك . فسأله بيلاطس قائلا :
" أأنت ملك اليهود ؟ " .

من سياق ماورد ذكره بالبشائر الأربعة ، نستطيع أن نرتب تفاصيل المحاكمة مع الوالى الرومانى كالآتى :

عـــــرض لأفتـتـــــاح المحاكمـــــــة

" ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية لكى لا يتنجسوا فيأكلون الفصح " .
تقديم المتهم إلى بيلاطـــس  :
" فخرج بيلاطس إليهم وقال : أية شكاية تقدمون على هذا الأنسان " .
طلب بيلاطس إقامة الدعــوى :
" أجابوا وقالوا : لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك " .
تمنع اليهود عن إقامة الدعوى :
" فقال لهم بيلاطس خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم " .
رد بيلاطـــــــس         :               
" فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحدا . وابتدأوا يشتكون عليه قائلين : اننا وجدنا هذا يفسد الأمة ، ويمنع أن تعطى جزية لقيصر ، قائلا إنه هو مسيح ملك " .
جواب الكهنة تهمة مرتجلـة  :
" ثم دخل بيلاطس أيضا إلى دار الولاية ودعا يسوع وقال له : أأنت ملك اليهود ؟ .
سؤال بيلاطـــــس للمتهـــــم   :
أول الترتيبات للمحاكمة كان إحضار يسوع من دار رئيس الكهنة قيافا إلى باب القصر ... ، وعند الوصول للقصر ينتظر الجميع بالخارج لدقائق ريثما تبحث الوثائق والمستندات ، وبعد ذلك يقاد المتهم ، مخفورا بجندى رومانى ، إلى قاعة البلاط التى يجلس فيها بيلاطس ، أما الوفد والمرافقون له فيبقون خارجا .
وهنا نأتى إلى النقطة التالية ، خروج بيلاطس بنفسه إلى الوفد اليهودى وسألهم : " أية شكاية تقدمون على هذا الأنسان ؟ وقد كان هذا السؤال دليلا لا شك فيه على أن بيلاطس اعتزم إعادة النظر فى القضية ، مما أثار حنق رؤساء الكهنة – لأن جوابهم عليه كان خاليا من اللياقة : " لو لم يكن فاعل شر ، لما كنا قد سلمناه إليك " .
وكأن باليهود يودون أن يقولوا لبيلاطس : أما تكتفى بالتحقيق الذى أجرته محكمتنا التى اتضح لها أن هذا الأنسان فاعل شر ؟ ولماذا تريد البحث من جديد ما دمنا قد وجدناه مستحق للموت ؟ .
وقد أجاب بيلاطس جوابا ماكرا لبقا : " خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم " .
وأبتدأ اليهود يلفقون تهما سياسية للسيد المسيح لأحراج بيلاطس : إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلا إنه مسيح ملك ...! " .
حينئذ دخل بيلاطس إلى القصر ووجه إلى السيد المسيح هذا السؤال التاريخى : " أأنت ملك اليهود ؟ " .
المسيح أمام هيرودس :
عندما علم بيلاطس أن يسوع تابع لولاية الجليل حتى أرسله إلى هيرودس الذى كان هو أيضا فى أورشليم فى تلك الأيام ( لوقا 23 : 5 – 7 ) .
" ولما رأى هيرودس يسوع ابتهج ابتهاجا عظيما ، لأنه كان يتوق لأن يراه منذ زمن بعيد ، بسبب ما كان يسمعه عنه ، وكان يود أن يرى إحدى العجائب التى تجرى على يديه ، وقد سأله بكلام كثير ، ولكنه لم يجبه بشىء ...... " .
" فهزأ به هيرودس مع جنوده ، وسخر منه ، وألبسه ثوبا براقا ، ثم أعاده إلى بيلاطس ، فأصبح بيلاطس وهيرودس صديقين فى ذلك اليوم ، وقد كانت بينهما من قبل  عداوة " ( لو 23 ) .
" إننا لا نغفل هنا رسالة " كلوديا " زوجة بيلاطس العاجلة له ، ربما كان بيلاطس يريد إنهاء المحاكمة بالتصديق على حكم الأعدام حسب اتفاقه المسبق مع قيافا، ولكن تحذير زوجته له أدى إلى : محاولته إقناع اليهود أن ينفذوا الحكم بأنفسهم .....، وثانيا محاولته إطلاق المتهم ثلاث مرات .... ، وثالثا نراها فى إحالة القضية إلى هيرودس ، ونراها أخيرا فى اللحظة الخطيرة التى عجز فيها عن إسماع صوته وسط ضجيج الجماهير فأخذ ماء وغسل يديه معلنا أن لا يد له فى القضية .
وهكذا خار بيلاطس لدى سماعه التهديد بتدخل قيصر ، وهكذا انتهت المعركة بين اليهود وبيلاطس بهزيمة الوالى الرومانى ، وانتصار الأرادة اليهودية ، .... وفى داخل بيلاطس انكسار وغيظ من تسلط اليهود ، حتى أنه انفعل عندما أرادوا تغيير عنوان اللافتة : " هذا ملك اليهود " قائلا لهم : ما كتبت فقد كتبت – وانكشف فى النور بيلاطس الحقيقى بعد أن ولت ساعة السمو والأرتفاع فى أزمة شخصية لم تقو فيها نفسه على معاناة التجربة .
السيد المسيح يخرج للصلب :
كان من العادة أن ينصب القائم الرأسى للصليب فى مكان الصلب ، ويحمل المحكوم عليه بالصلب العارضة الأفقية للصليب ، من سجنه إلى مكان صلبه فى موكب يسبقه قارعو الطبول .. وذلك كنوع من تخويف الشعب ، ولقد كان الصليب والمصلوب عليه لعنة عند اليهود " ملعون كل من علق على خشبة " ( غلاطية 3 : 13 ) .... ولهذا كانوا ينزلون المصلوب من على الصليب ويخلعون الصليب من الأرض ، القائم الرأسى والعارضة الأفقية كليهما قبل حلول المساء : " فلا تبت جثته على الخشبة بل تدفنه فى ذلك اليوم . لأن المعلق ملعون من اللـه " ( تثنية 21 : 23 ) .
خرج السيد المسيح وهو حامل صليبه فى طريقه إلى هضبة الجلجثة أو الجمجمة التى يعتقد أن جمجمة آدم مدفونة تحتها وهذه الهضبة تقع خارج أورشليم عند بوابة جنات عند ملتقى الطريقين القادمين من أريحا والسامرة .
رافق السيد المسيح فى موكبه لصان .... كان قد حكم عليهما بالصلب من مدة ،
 أما السيد المسيح فلم تراع معه القاعدة القانونية التى تنص على أن يحجز المحكوم عليه بالأعدام فى السجن لمدة عشرة أيام يتم فيها الأعلان فى المدينة أن من لديه مايبرىء هذا المتهم فليتقدم به ، وكان هذا الأستعجال بالنسبة لتنفيذ الحكم فى السيد المسيح ناجما عن خوف رؤساء الكهنة من أن يعلم أتباعه فيحدثون شغبا ... أو على الأقل يتقدموا إلى بيلاطس بما يحمله على إطلاق سراح السيد المسيح أو إعادة محاكمته .
حمل كل من اللصين العارضة الأفقية الخاصة به فى سهولة ، أما السيد المسيح ذو الجسد المثخن بالجراح ، والدماء التى تنزف من كل جزء منه ... كان فى حالة من الأعياء والتعب حتى أنه سقط تحت ثقل العارضة الأفقية ثلاث مرات ... ولما رأى الجنود أنه لا يسير معهم بالسرعة الكافية ، وربما خشوا من أن يموت قبل أن يتم صلبه ، سخروا أحد الواقفين على جانبى الطريق وأسمه " سمعان القيروانى " ( وهو أبو الكسندر وروفس المعروفين فى الدوائر الكنسية فى روما ( مرقس 15 : 21 ) ( رومية 16 : 13 ) وقد كان عائدا من الحقل لكى يحمل الخشبة بدلا من السيد المسيح .
وفى الطريق رأته نساء أورشليم فبكين إشفاقا عليه لمنظره المؤثر :" أخرجن يابنات صهيون وأنظرن الملك سليمان بالتاج الذى توجته به أمه فى يوم عرسه وفى يوم فرح قلبه ... " ( نشيد الأناشيد 3 : 11 ) فخاطبهن السيد المسيح ملمحا إلى خراب أورشليم : " يابنات أورشليم لا تبكين على ، بل أبكين على أنفسكن وعلى أبنائكن لأنه هى ذى أيام تأتى سيقولون فيها ما أسعد العواقر والبطون  التى التى لم تلد والثدى التى لم ترضع " وتقدمت واحدة منهن إسمها " فيرونيكا " تمسح وجهه الملطخ بالدماء والطين بمنديلها ، فكافأها بأن طبعت صورة لوجهه واضحة المعالم على المنديل ( وهى صورة إيجابية وليست سلبية كالمطبوعة على كفن السيد المسيح ، وكذلك هى للوجه فقط دون باقى الجسد ) .
وعندما وصل الموكب إلى مكان الصلب ألقى سمعان العارضة الأفقية ، وبدأت على الفور إجراءات الصلب ، وكانوا يقدمون مخدرا من خمر رخيصة ممزوجة بمر للمحكوم عليهم بالصلب حتى يتخدروا ولا يقاوموا أثناء عملية الصلب ، ولكن السيد المسيح رفض أن يشرب هذه الكأس لأنه لن يقاوم إذ جاء بإرادته إلى الصليب ... ولأنه يريد أن يشرب كأس الآلام إلى منتهاها . ( متى 27 ، مر 15 ، لو 23 ، يو 19 ) .
الصـــــلب :
كانت تتم عملية الصلب فى العادة بأن يعلق المصلوب على الصليب بربط يديه ورجليه بالحبال ، ويترك حتى يموت ، أما السيد المسيح فقد ثبت على الصليب بأن دقوا مسامير فى يديه ورجليه ، وقد عبر زكريا النبى عن هذا بعد أن رآه بروح النبوة " فيقول له ما هذه الجروح فى يديك ، فيقول هى التى جرحت بها فى بيت أحبائى " ( زكريا 13 : 6 ) – ولم يفهموا أن ما ربطه على الصليب ليس هو المسامير وإنما حبه لخلاصنا . صلبوه بين لصين كزعيم للأشرار " جعل مع الأشرار قبره " ( اشعياء 53 : 9 ) " أحصى مع أثمة " ( أشعياء 53 : 12 ) .
وضعوا على الصليب لافتة مكتوبا عليها باللغات العبرانية واليونانية واللاتينية " يسوع الناصرى ملك اليهود " .
وجلس عند الصليب أفراد الكتيبة ينتظرون موت السيد المسيح ويقتسمون فيما بينهم الأشياء التى كانت تخصه ... وأخذوا القميص أيضا ، وإذ كان بغير خياطة منسوجا كله من أعلاه إلى نهايته ، قال بعضهم لبعض " لا نشقه " بل نقترع عليه لمن منا يكون ، كى يتم قول الكتاب " اقتسموا ثيابى بينهم ، وعلى قميصى أقترعوا " . وهذا ما فعله الجند وهذا النص ورد فى المزامير " اقتسموا ثيابى وعلى ردائى ألقوا قرعة " ( مزمور 22 : 18 ) .
أحداث وقت الصلب :
بمجرد أن صعد السيد المسيح على صليبه ... حدثت فى الطبيعة ظواهر غير عادية ... فقد حصل كسوف للشمس وحدثت ظلمة على وجه الأرض التى بدأت تموج فى نبضات متتابعة من الزلازل إستمرت طوال فترة الصلب ، والمعروف علميا أنه لا يمكن أن يحدث كسوف للشمس حينما يكون القمر بدرا .... ولا يمكن أن يستمر الكسوف لمدة ثلاث ساعات ... الأمر الذى حير ديونيسيوس الأريوباغى العالم والفيلسوف اليونانى ابن قاضى قضاة أثينا .... وكان فى هذا الوقت يدرس الفلك فى مصر فلما رأى هذه الظاهرة انزعج وقال قولته الشهيرة " إما أن إله الطبيعة وضابط الكون متألم أو أن قوانين الكون قد اختلت ونهاية العالم قد أوشكت " .
ويقول الأنجيل للقديس لوقا : " فلما رأى قائد المائة ما حدث مجد الله قائلا " حقا كان هذا الأنسان بارا " . لقد أدرك قائد المائة ( لونجينوس ) من مظاهر الطبيعة غير العادية ، أن يسوع المسيح قد صلب غدرا وظلما ، ولذلك تحركت الطبيعة معلنة إحتجاجها على هذا الظلم فأعربت عن ذلك إعلانا وأحتجاجا على الظلم الذى وقع على يسوع المسيح فهتف معترفا ببراءة المصلوب . وهذا القول هو غير ما قاله فيما بعد بعدما رأى الدليل على ألوهية السيد المسيح فقال " حقا كان هذا الأنسان هو أبن الله " ( متى 27 ، مر 15 ) .
وأيضا " كل الجموع الذين احتشدوا عند هذا المشهد لما رأوا ما حدث رجعوا وهم يقرعون صدورهم " . 
حدثت هذه الظواهر غير العادية فى الطبيعة الجامدة مشاركة منها لربها فى الآمه ..... ومعلنة غضبها على صالبيه ، وبعدما تم الفداء أشرقت الشمس من جديد فى نحو الساعة التاسعة " ويكون فى ذلك اليوم إنى أغيب الشمس فى الظهر وأقتم الأرض فى يوم نور " ( عاموس 8 : 9 ) . " بل يحدث أنه فى وقت المساء يكون نور " ( حزقيال 14 : 7 ) .
وفى الظلمة أيضا إشارة إلى حجب الأب لوجهه عن السيد المسيح كذبيحة خطية وإثم ، وكذلك إشارة إلى الظلمة الروحية التى إلتحف بها اليهود " فإنى لا أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء وهو أن عمى قد حصل لجانب من إسرائيل إلى أن يكون قد دخل ملء الأمم ( رومية 11 : 25 ) .
كلمات السيد المسيح على الصليب :
نطق السيد المسيح وهو على الصليب بسبع كلمات :
+ ثلاث منها قبل تمام الكسوف .... أى فى المرحلة الأولى منه .
+ وأثنتان منها فى تمام الكسوف وتمام الظلمة .
+ وأثنتان منها بعد أن بدأ القمر يتحرك مبتعدا تاركا قرص الشمس .
فى المرحلة الأولى :
1- أعلن غفرانه لصالبيه : 
كان هلاك المتآمرين على السيد المسيح أشد إيلاما لنفسه من الآمه وعذابه . كل أعضاء جسمه مصابة ، كإنسان لم يكن يستطيع إلا أن ينطق وحتى لسانه يبس " يبست مثل شقفة قوتى ، ولصق لسانى بحنكى " ( مزمور 22 : 15 ) ومن المعروف أنه عند العطش الشديد وعندما يفقد الأنسان الكثير من السوائل فى جسده ، أن لسانه ييبس ويلتصق بسقف الحلق ، ويصبح ليس من السهل تحريكه ، وبهذا اللسان صلى من أجل صالبيه : " المحبة قوية كالموت . الغيرة قاسية كالهاوية ، لهيبها لهيب نار لظى الرب . مياة كثيرة لا تستطيع أن يطفىء المحبة والسيول لا تغمرها " ( نشيد الأناشيد 8 : 6 ، 7 ) . طلب من أجلهم ... وحيثيات طلبه أنهم لا يعلمون ما هم فاعلون هذا تبيان لحالهم فقط ، ولكن ليس عذرا لهم لأنهم وإن كانوا لا يعلمون شخصه فعلى الأقل أهدروا دما بريئا ... ولكنه صلى من أجلهم وقال :
 " يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما هم فاعلون " .
من استفاد من صلاته هذه ؟
كل من استجاب لعمل روح الله فى داخله وقدم توبة صادقة لله مهما كانت خطاياه وشروره السابقة .. اللص ... قائد المائة ... وكثيرون آخرون ....
أما اليهود الذين قالوا : " دمه علينا وعلى أولادنا .. " . ولم يقدموا توبة عن أعمالهم فهل أستفادوا ، وهل وثيقة الفاتيكان بتبرئتهم تنفعهم ؟
إن جرم صلب السيد المسيح يتحمله أطراف ثلاثة : الطرف الأول هو يهوذا الخائن ، الذى باع بكوريته مثل عيسو من أجل ثلاثين من الفضة !! ولم يكن من الممكن أن يتمتع بالعفو مثل بطرس الرسول الذى ضعف وأخطأ وأنكر المسيح ، هناك فرق بين من باع سيده وبين من أخطأ ، فالبيع خيانة عظمى أما الخطأ عن ضعف فهذا من طبيعة الأنسان ، وبطرس ندم وبكى بكاء مرا . أما يهوذا فقد ختم السيد المسيح على هلاكه ... ولا توجد سلطة دينية أو روحية على الأرض تستطيع أن تغير من الأمر .
 والطرف الثانى فى الجريمة هو قيافا ورؤساء الكهنة وأتباعهم الذين أسلموا السيد حسدا وحقدا ولأسباب ليست خافية على أحد ، فإن قيافا قد تعرض لضرر أدبى عندما أقام السيد المسيح لعازر من الأموات ، وهذا يتناقض مع عقيدته وهو صدوقى لا يؤمن بالقيامة أو وجود ملائكة أو أرواح ، وبهذا تغلبت عقيدة الفريسيين على عقيدة الصدوقيين ، والسبب الثانى الضرر المادى من جراء طرد السيد المسيح للغنم والبقر والمواشى من الهيكل ، وقلب موائد الصيارفة ، وكان قيافا ورؤساء الكهنة هم المحتكرين لهذه التجارة ، ويقومون بتأجير أروقة الهيكل للقادمين لزيارة الهيكل أو للتجار ، اما الطرف الثالث فهم الرومان الذين صدقوا على حكم رؤساء الكهنة بصلب السيد المسيح ، وقاموا بتنفيذ حكم الصلب ، علاوة على الجلد بالسياط والأستهزاء برب المجد ، وبيلاطس نفسه ( وكذلك زوجته التى حذرته ) يعلمان أن هذا المتهم برىء ، ولكن حبا فى الأحتفاظ بالسلطة والمكاسب الدنيوية أسلمه للصلب .
يبدو أن بابا روما استشعر جرم أجداده الرومان فى أرتكاب هذه الجريمة النكراء ، وأراد أن يبرىء أجداده فشمل بوثيقته هذه شركاء الأجداد وهم اليهود بالعفو .
ونحن نقول إن هذه الوثيقة لا تنفع اليهود شيئا ،انهم لم يستفيدوا من الخلاص الذى قدمه السيد المسيح للبشرية وهو على الصليب ، وطالما هم على معتقداتهم واصرارهم على عدم الأيمان بالسيد المسيح .. المسيا المنتظر ... فهم بعيدون عن ملكوت السموات .
الكلمة الثانية للسيد المسيح :
2- وعد اللص اليمين بالفردوس .
الكلمة الثالثة للسيد المسيح :
3- أوكل العناية بأمه إلى يوحنا الحبيب
فى المرحلة الثانية من الكسوف :
1- أظهر حقيقة الآمه
2- أظهر عطشه

فى المرحلة الثالثة بعد أن أتم السيد المسيح عمل الفداء

1- أعلن اتمام عمل الفداء
2-  أسلم الروح : عادة يسلم الأنسان روحه فتميل رأسه ، وليس العكس أن تميل الرأس قبل أن يسلم الأنسان الروح ، ولكن السيد المسيح وهو الله متأنسا حدد الوقت الذى يموت فيه كإنسان " ما من أحد ينتزعها منى ، وإنما أبذلها أنا من وحدى من ذاتى ، لى سلطان أن أبذلها ولى سلطان أن استردها هذه هى الوصية التى قبلتها من أبى " ( يو 10: 18 ) .
صرخ بصوت عظيم ، أى أنه كان لديه قوة كبيرة ... من أين له هذه القوة ؟ روحه إذا لم تغتصب إغتصابا بل سلمها بمحض إرادته ، هو لم يمت ضعفا وإعياء " سكب للموت نفسه " ( اشعياء 53 : 12 ) . لقد ربط السيد المسيح قوة لاهوته حتى يتم الفداء ، هذا يذكرنا بكبش الفداء الذى رآه أبونا ابراهيم ( مربوطا بقرنيه – حتى لا يستعمل قوته ) ، حتى يتم الفداء .
اقتبل السيد المسيح  الآلام والموت فى ناسوته ، لم يسلم روحه إلا بإرادته ، " فى يدك استودع روحى ، فديتنى يارب " ( مزمور 31 : 5 ) ، هنا زاد عليها السيد المسيح كلمة : " يا أبتاه " – صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا " يا أبتاه فى يديك أستودع روحى " ... ثم أمال رأسه وأسلم الروح .
سلم السيد المسيح روحه للآب ، وليس للشيطان ، وهذه علامة الأنتصار .. والفرح للبشرية ، لأن رب المجد يسوع انتصر ونقل البشرية من حالة اليأس والظلمة إلى نور الفردوس .
أحداث بعد الموت : 
بعد موت السيد المسيح على الصليب حدثت عدة حوادث :
1- بمجرد أن أسلم السيد المسيح روحه البشرية فى يدى الآب ، حدثت زلزلة شديدة ، أى هزة أرضية شديدة أشد من الهزات سابقاتها التى رافقت عملية الصليب ، جعلت الصخور تتشقق ، ويقال أنه ظهر شق فى الأرض من عند هضبة الجلجثة وامتد هذا الشق إلى الهيكل ، وانشطر حجاب الهيكل ( إشارة إلى أنه بدم السيد المسيح فتح الطريق إلى قدس الأقداس ، ولم يعد هناك حاجز بين الله والناس ، وكذلك كرمز لزوال الكهنوت اللاوى الطقسى ) ، وكذلك عاد ضوء الشمس . كما قام عدد من أجساد القديسين ، ويقول البعض أن قيامتهم تمت بعد قيامة السيد المسيح لأنه البكر فى كل شىء ، ويرى آخرون أن قيامتهم تمت عندما أسلم السيد المسيح روحه الطاهرة ، ولكنهم لم يخرجوا من القبور إلا بعد قيامة السيد له المجد .
2- لما رأى الجموع الذين كانوا مجتمعين حول الصليب وأبصروا ما كان رجعوا وهم يقرعون صدورهم .
3- كان الرومان يتركون جثة المصلوب حتى تتحلل أو تأكلها الوحوش والطيور الكواسر ، أما اليهود فقد جاء فى شريعتهم " إذا كان على انسان خطية حقها الموت فقتل وعلقته على خشبة فلا تبت جسته على الخشبة بل تدفنه فى ذلك اليوم . لأن المعلق ملعون من الله . فلا تنجس أرضك التى يعطيك الرب إلهك نصيبا " ( تثنية 21 : 22 ، 23 ) ، فكم يكون الأمر حين يكون اليوم التالى يوم سبت ، " وإذا كان ذلك هو يوم الأستعداد ، ولئلا تبقى الأجساد على الصليب يوم السبت ، لأن يوم السبت هذا كان عظيما " . ولما كانت المدة التى قضاها المصلوبون على الصليب غير كافية لموتهم . " طلب اليهود إلى بيلاطس أن يكسروا سيقانهم ويرفعوهم ، فجاء الجند وكسروا ساقى أول اللذين كانا مصلوبين معه ، ثم كسروا ساقى الآخر ." " وأما يسوع فلما جاءوا إليه وجدوه قد مات ، فلم يكسروا ساقيه "
ومن المعروف أن من يموت يتحنط دمه ويكون فى القلب الدم متجلطا ومن فوقه بعض البلازما ، فإذا طعن الميت طعنة تنفذ إلى القلب فإنها قد تتسبب فى نزول بعض الدم المتحنط غير الحى وبعض البلازما .
يقول الكتاب المقدس إن الجند لما وجدوا السيد المسيح قد مات ، فلكى يتأكدوا من موته تقدم واحد من الجند " طعن جنبه بحربة " ، فنفذت الطعنة إلى قلبه فماذا حدث ؟ " فخرج منه على الفور دم وماء "  والترجمة الأنجليزية تقول : { FLOWED OUT } أى ليس خروجا عاديا إنما هو تدفق أو اندفاق بفيض ، تدفق وجريان لكل من الدم والماء .... دم حى خلافا لما قد ينزل من أى إنسان ميت حين يطعن فى قلبه . خرج دم حى وماء منفصلين . تدفقا بصورة واضحة وظاهرة ، وكان هذا الجندى هو " لونجينوس " قائد الكتيبة المكلفة بتنفيذ عملية الأعدام ، فصرخ على الفور " حقا كان هذا الأنسان هو ابن الله " وطبعا معروف المغزى اللاهوتى لعبارة ابن الله .
وصرخة لونجينوس هذه هى خلاف صرخته الأولى حين شاهد مظاهر احتجاج الطبيعة من كسوف للشمس فى موعد يستحيل حدوثه فيه وزلازل متعددة : حين قال " حقا كان هذا الإنسان بارا " ( لوقا 23 : 47 ) .
ويضع يوحنا اللاهوتى الذى كان واقفا عند الصليب شهادته ويوثقها ويقول : " والذى أبصر ذلك قد شهد وشهادته حق . وهو يعلم أنه قال الحق ، لتؤمنوا أنتم " ( يو 19 : 31 – 35) ، ( 1- يوحنا 5 : 6 – 8 ) .
يقول التاريخ الكنسى أن لونجينوس قد آمن بالمسيحية ونال أكليل الشهادة وتعيد له كنيستنا القبطية لذكراه فى الثالث والعشرين من شهر أبيب .
الموقف بعد ظهر يوم الجمعـــــة  
شخصيات وأدوار :
تمكن اليهود من تحقيق هدفهم وهو صلب السيد المسيح له المجد ، ولم يفطنوا إلى أنهم قد أكملوا النبوات .... " والرب يستهزىء بهم ..... " .
السيد المسيح مات ليقدم الفداء لجميع الناس على الأرض ..... ، أما أنه مات مصلوبا فكان ذلك ضروريا لليهود لرفع لعنة الناموس عنهم ، ...." لأنه ملعون كل من علق على خشبة " .
لم يبق على مسرح الحوادث إلا نفر قليل  هم: 
السيدة العذراء مريم أم المخلص .
يوحنا الحبيب .
مريم المجدلية ، وبقية المريمات .
أين بقية الأثنى عشر رسولا ؟

أين مريم ومرثا ولعازر ، حبيب السيد المسيح  ؟

وقد يصح أن نضيف إلى تلاميذ السيد المسيح رجلين آخرين من طبقة اجتماعية رفيعة ذات شأن ، لم يعترفا جهرا بتلمذتهما ليسوع خوفا من اليهود ، وهما : يوسف الرامى ، والمشير اليهودى نيقوديموس ، أحد أعضاء مجلس السنهدريم .
أولا : ماذا عن السيدة العذراء والدة الإله :
من الصعب جدا أن نتكلم عن سيدة عظيمة بهذا المقدار ، هل نتحدث عن دورها البطولى والآمها النفسية والجسدية منذ أن بشرها الملاك بحلول الروح القدس عليها ، لتحبل بالسيد المسيح .... ، لتجوز تجربة صعبة ومريرة أمام خطيبها البار يوسف النجار ، أم نتحدث عن ولادتها للطفل يسوع ومعاناتها لتجد مكانا للولادة ، أم نتحدث عن الرحلة الشاقة لها وللقديس يوسف النجار على ظهر حمار إلى أرض مصر ، هربا من هيرودس ...... .
ثم أخيرا نراها واقفة أمام الصليب لتنظر أبنها وحبيبها يسوع المسيح ، الغصن الرطب وهو ينفذ فيه الأعدام بين أثنين من عتاولة اللصوص .... !! فى وقت هرب فيه التلاميذ الرجال !!! .
كيف استطاعت هذه الأم العظيمة ، أن تظل واقفة لساعات على رجليها لترى أبنها مخلص البشرية وهو يتعذب دقيقة بدقيقة ، حتى أسلم الروح فى يدى الآب ؟
كيف تحملت تعييرات هؤلاء الأفاقين لأبنها الذى قدم الخير لكل الناس ، ولابد أن أستهزاء هؤلاء ليسوع قد نالت منه أيضا العذراء ومن هم حول يسوع من المريمات ؟
إن تنفيذ حكم الأعدام حاليا فى أى شخص مجرم ، لا يتم علنا حرصا على مشاعر الناس الغريبة ، ولو تم علنا سنجد أن الكثيرين لا يجرؤن على مشاهدته .
إن الكتاب المقدس لم يقدم لنا وصفا كاملا للموقف الصعب للعذراء والمريمات ، ولكن يستشف أن العذراء قد تحطمت أعصابها تحت ضغط الحوادث منذ لحظة القبض على يسوع المسيح له المجد فى بستان جثسيمانى ، وحتى أتمام تنفيذ الحكم .
من الطبيعى ألا تقوى على الوقوف صاحبة ذلك القلب المعذب التى ذاقت مرارة الكأس الرهيبة وهى تشهد متوجعة الآم ابنها وهو ينازع الموت على الصليب ، ولا شك أن تنهار قواها الجسمانية ويدركها الأعياء بعد أن وقفت ساعات عند قدمى المصلوب تشاهد ابنها المعذب المائت ، فيأخذها يوحنا الحبيب الذى أستلمها من مخلصنا لتكون فى رعايته وعنايته مسندا إياها وسط الجموع الخشنة الفظة إلى الدار التى اتخذها مقاما مؤقتا فى أورشليم .
ثانيا : دور المريمات :
يدون لنا البشير مرقس الرسول " وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى وسالومة ...." ( مر 15 : 40 ) .
وعندما وضع يسوع فى القبر كانت هناك " مريم المجدلية ومريم أم يوسى ..تنظران أين وضع "
وحذف اسم سالومة من مشهد الدفن لم يكن عرضا ، لابد أن سالومة كانت قد مضت فى مهمة عاجلة .
 كانت سالومة نفسها هى أم يوحنا الحبيب ، وكانت هى ومريم أم يعقوب بنات خؤولة – وكانتا تعملان فى هذه المحنة باتفاق وتعاون مع مريم المجدلية .
ولا شك أن هؤلاء النسوة الأمينات المتفانيات فى الخدمة كان شغلهن وقت الصليب أمران :
 الأول : الجزع على زعيمهن الروحى وهو يعانى سكرات الموت فى عذاب أليم وخانق .
والثانى : القلق على أم يسوع العذراء القديسة مريم ... وبعد أن أسلم يسوع له المجد روحه الطاهرة ، كان هم النسوة هو التهوين على العذراء مريم ، ولسنا نعرف مبلغ الجهود العقيمة التى بذلت فى ذلك اليوم لإبعاد مريم أم يسوع عن مشهد الصلب ، فهى لم تكن يومئذ شابة فى عنفوان الحياة ، ولم يكن هينا على من كان فى سنها أن تقف أمام هذا المشهد الدموى ، مشهد صلبان ثلاثة علق على أحدها ولدها وفلذة كبدها . كان ألمها على أبنها شيئا قاسيا ، ولابد أنها تألمت أيضا من أجل اللصين لأنهما بشر ، ولأن مشاعر العذراء مريم رقيقة وحنونة على البشرية جمعاء .
من يستطيع أن يبعد أما عن ابنها فى هذا المشهد المضنى القاسى ؟ ومن ذا الذى ينكر على الأم هذا الحق إذا هى أصرت وألحت ؟
إن غريزة الأمومة قوية جبارة تغالب الضعف والوهن وتستعذب الألم والضنى !!وما أخال الأم التى اقتادها يوحنا بعد أن أسلم المصلوب روحه إلا أما خائرة القوى ، محطمة القلب ، فاقدة الوعى ، لا تلبث طويلا حتى تهوى وتنهار تحت هذا العبء الذى لا يقوى عليه قلب الأم .
لقد كانت السيدة العذراء : ولا أعظم شهيد ....... فى يوم الحب الفريد !!
كانت النسوة الثلاث يراقبن يوحنا الحبيب المتألم وهو يقود الأم المحطمة القلب وسط الجموع الواقفة ، ثم إلى داخل المدينة وهو يسندها بذراعه فى بطء وألم . وعندئذ يتشاور ثلاثتهن ، ويقررن أن تذهب إحداهن لتكون إلى جانب الأم الثكلى ، وتبقى الأخريات على مقربة من جسد يسوع الميت -  الحى للأبد.... وتتطوع سالومة لهذه المهمة لأن ولدها يوحنا هو الذى تولى رعاية الأم الحزينة ومرافقتها إلى داره .
أما مريم المجدلية ، ومريم أم يوسى فكانتا تنتظران حتى تكفين جسد الرب يسوع ، ولتنظرا أين سيوضع .. !
دفن السيد المسيح :
وفى المساء جاء رجل غنى من الرامة اسمه يوسف وكان تلميذا للسيد المسيح ولكن خفية " وطلب إلى بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع " فتعجب بيلاطس أنه مات هكذا سريعا ، فدعا قائد المائة وسأله هل له زمان قد مات ، ولما عرف من قائد المائة . وهب الجسد ليوسف ، فأخذ يوسف الجسد " وجاء أيضا نيقوديموس الذى كان قد أتى من قبل إلى يسوع ليلا ، وكان يحمل حنوطا من المر والصبر يزن نحو مائة رطل . وأخذا جسد يسوع وكفناه بلفائف من الكتان مع الأطياب على عادة اليهود فى التكفين . وكان فى الموضع الذى صلبوه فيه بستان ، وفى البستان قبر جديد لم يوضع فيه من قبل أحد قط ( كان قد أعده يوسف الرامى لنفسه ) فوضعوا يسوع فيه بسبب الأستعداد عند اليهود ، لأن القبر كان قريبا " . " ثم دحرج حجرا كبيرا على باب القبر ومضى " .
يقول التقليد الكنسى إن نيقوديموس ويوسف الرامى حين كانا يكفنان السيد المسيح سمعا الملائكة تسبح قائلة : " قدوس الله ، قدوس القوى ، قدوس الحى الذى لا يموت " ( وهى التسبحة التى أخذتها الكنيسة وتستعملها فى صلواتها ) فمجد نيقوديموس ويوسف الرامى الرب ، بعد ما كانا يتأملان الجسد ويقولان فى نفسيهما كيف يموت من أحيا الموتى وشفى المرضى .
قام القديسان يوسف الرامى ونيقوديموس بتكفين جسد يسوع ، وكانا هاذان الرجلان غريبان عن النسوة ، لذا كان من الطبيعى أن تمتنع النسوة عن المشاركة فى عملية التكفين .
ولكن كان لهن دور آخر أحسسن أنه من الواجب القيام به تكريما للسيد الراحل ، وكان ذلك تحضير الأطياب لتطييب الجسد بعد مرور يوم السبت .
نلاحظ هنا أن مريم المجدلية كان لها دور بارز وكأنها زعيمة الجماعة ؟ والشخصية البارزة فيها ، ولعلنا نذكر الحديث الذى دار فى بيت سمعان الفريسى بينه وبين الرب يسوع له المجد ، ومفادة أن الذى سامحه الرب يسوع وغفر له خطاياه الكثيرة أحب أكثر ... !!
ثالثا : أين بقية التلاميذ ؟
الرسول يوحنا الحبيب كان مع العذراء مريم أم يسوع عند قدمى الصليب ، وقد غادر المكان بعد النزع الأخير ليعنى بالأم التى عهد أمر رعايتها إليه ، ويأخذها إلى مكان هادىء أمين بعد الذى أصابها من هول الكارثة وتحطيم الأعصاب .
أما بطرس الرسول فيمكن تعليل غيابه بما طغا عليه من موجة الحزن والندم والتحسر بعد إنكاره لسيده ، واضطراره إلى الأنزواء فى عزلة للتفكير الحزين النادم .
أما عن التسعة الرسل الآخرين الذين قيل عنهم أنهم هربوا بعد إلقاء القبض على يسوع ، وهناك أيضا الأختان مريم ومرثا وأخاهما لعازر فى بيت عنيا ، الذين نحسب غيابهم عن مشهد الصلب والدفن من الظواهر الغريبة الملحوظة فى القصة . فالأختان قد أخلصتا الأخلاص كله ليسوع ، وكان بيتهما الهادىء المريح ملاذه الوحيد حين كان يريد أن يحظى ببعض الراحة . والأرجح أنه من هذه الدار خرج فى صباح اليوم الذى كان آخر عهده بالحرية . ومع ذلك : تختفى الأختان المضيافتان الكريمتان من المشهد كلية ، ولا شك أن هناك تعليلا تاريخيا قويا يعلل هذا الأختفاء .
يجب ألا يغيب عن ذهننا أنه خلال الخمسة أيام التى سبقت القبض على يسوع ، كان يسوع وصحابته يبيتون فى بيت عنيا ، ولا نظن أن منزل لعازر كان يكفى لمبيت ثلاثة عشر شخصا هم يسوع وتلاميذه ! ربما بات يسوع وأثنان من كبار تلاميذه فى هذه الدار ، بينما حصل الباقون على مساكن مؤقتة قريبة منهم .
ثم أن التلاميذ ( ماعدا يهوذا الأسخريوطى ) كانوا يتوقعون العودة إلى بيت عنيا فى يوم الخميس ليلا على مألوف عادتهم كل يوم ، وأغلب الظن أن الأختان قد ساورهما القلق الكثير من إبطاء يسوع وتلاميذه فى العودة مساءا وأوشك الليل أن ينتصف .
ولا شك أن الشرذمة التى ذهبت لإلقاء القبض على يسوع كانت كبيرة ، سارت فى صفوف متوازية قد تتباعد عن بعضها حسب عرض الطريق ، أو تتقابل فى مناطق أخرى ، إلا أنه من المؤكد أن يهوذا الأسخريوطى الخائن كان يسير فى المقدمة يحوطه حرس الهيكل ، ولاشك أنه كانت هناك صراخ وجلبة حين أوثق جنود السنهدريم يدى يسوع وراء ظهره ، ونفهم أن بطرس كان واقفا بجوار يسوع وأن يكون قد ضرب عبد رئيس الكهنة قبل أن يعى مايحدث بالضبط ! فلما أخذت الجموع تحيط به أستطاع مع يوحنا الحبيب أن يمضيا وسط الجماهير دون أن يلحظهما أحد .
أما عن التسعة الأخرون الذين دهمهم الخطر فجأة ، وربما ظنوا أن بطرس ويوحنا ضمن المقبوض عليهم ، فلم يكن هناك من بد سوى التقهقر السريع فى اتجاه بيت عنيا ، وهناك أسباب أخرى ترجح ذهاب التلاميذ إلى بيت عنيا :
( 1 ) كانت بعض متعلقاتهم وحاجاتهم فى المقام المؤقت الذى اتخذوه فى بيت عنيا .. وطبيعى أنهم لا يسافرون إلى الجليل بدون أن يتزودوا ببعض هذه الحاجات .
( 2 ) كان على التلاميذ أن ينذروا مريم ومرثا بما تطورت إليه الحوادث ، ليلتمسوا عندهم المشورة والنصح ، أو ليتدبرا هما أيضا للهرب ، إذا لم يكن منه بد .
( 3 ) وإذا كانت النسوة فى أورشليم قد عرفن أيضا ما آلت إليه الحوادث ورأين من الحكمة الهرب من أورشليم ، فإنهن يهربن على الأرجح إلى بيت عنيا .
كان الموقف عصيبا على الجميع ، والبعيدون عن أورشليم من تلاميذ المخلص ، يتوقعون أن يأتى يهوذا ومعه مجموعة أخرى من الجنود لمطاردة بقية الرسل ! وستكون بيت عنيا هى المحطة الرئيسية له إن فعل ذلك ، وبناء على هذه الظروف أختبأ كل شخص بعيدا عن الأنظر وأنقطعت الصلة لفترة الليل بين أورشليم وبيت عنيا ، أما رؤساء الكهنة الذين فازوا بالقبض على يسوع ، لم يكن يهمهم أحدا من أتباعه فى هذه الساعات .
وأغلب الظن أن أحداث محاكمة يسوع وصلبه لم تصل إلى بيت عنيا إلا بعد صرخة يسوع :
" يا أبتاه فى يديك أستودع روحى .. !! " .
هذا هو الموقف كما نتصوره مع كثير من التحفظ والتوقير .... .
+   +   +
المراجع :
البشائر الأربعة : كما دونها الأباء الرسل القديسون :  متى ومرقس ولوقا ويوحنا .
الأسبوع الأخير : إعداد أناغنوستيس مهندس ليشع حبيب
                                 تقديم : المتنيح الأنبا غريغوريوس
من دحرج الحجر : للمحامى فرانك موريسون ( الأنجليزى ) .
الكنيسة المسيحية فى عصر الرسل : لمثلث الرحمات نيافة الأنبا يؤأنس .
محاكمة يسوع المسيح : للفقيه الأنجليزى فرانك جورج باول
                                          راجع الترجمة وقدم لها : المتنيح الأنبا غريغوريوس
طقس أسبوع الآلام حسب ترتيب الكنيسة القبطية .
        كنيسة القديس تكلا هيمانوت بالأبراهيمية بالأسكندرية .
الأفخارستيا : للشماس جرجس صموئيل عازر .
تأملات ودروس من العلية : للقمص أسحق صــــادق
                               اصدار  : كنيسة القديس مارمرقس بالمعادى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010