مدخل الى العقيدة المسيحية

مدخـل إلى العقيدة المسيحي


الفصل الأول
-------------------

فى دستور الإيمان
+++++++++++++++

دستور الإيمان النيقاوى القسطنطينى:
الإيمان: با لحقيقة أؤمـن.

الله الآب: بإله واحـد, الله الآب, ضابط الكـلّ.

الخـلق: خـالق السماء والأرض, ما يرى وما لا يرى,

يسوع المسيح: وبرب واحد يسوع المسيح, ابن الله الوحيد, المولود من الآب قـبل كل الدهور, نور

من نور, إله حق من إله حق, مولود غـير مخلوق, واحـد مع الآب فى الجوهـر, الذى به كان كل

شئ, الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء,

التجسد: وتجسّد من الروح القـدس ومن مريم العـذراء, وتأنّس,

الفـداء: وصُلِب عـنّا عـلى عهد بيلاطس البنطى, وتألّم, وقُـبر, وقام من بين الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب, وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب,

الدينونة: وأيضًا يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات, الذى ليس لملكه إنقضاء,

الروح القدس: نعم أؤمن بالروح القدس, الرب المحيى, المنبثق من الآب قبل كل الدهور,

الثالوث القدوس: نسجد له ونمجده مع الآب والابن, الناطق فى الأنبياء,

ا لكنيسة: وبكنيسة واحدة, مقدسة, جامعة, رسولية,

المعمودية: واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا

القيامة: وأنتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى.


هـذا الدستور ( القانون ) للإيمان وُضع عـلى مراحـل حسب ظهـور الهرطقات واضطـرار الكنيسة للدفاع عـن إيمانها...
وقـد سُمّى بالنيقاوى القسطنطينى لأن قسمـًا منه وُضع فى المجمـع المسكونى الأول الذى انعـقد السنة الـ 325 فى نيقـية...

ثم اُكمـل فى المجمـع المسكونى الثانى الذى انعـقد السنة الـ 381 فى القسطنطينية...


منذ العـهد الرسولى تضمنت العبادة المسيحية الاعتراف العـلنى ببعـض عـناصر مقـومات الإيمان وخاصة عـند الاستعـداد لسرّ المعـمودية وإقامته...

وفى شرقنا المسيحى دخـل دستور الإيمان النيقاوى القسطنطينى خـدمة القـداس الإلهـى كجـزء رئيسى منه فى القـرن الرابع, وتصـدّر الكـلام الجـوهـرى...

يُستهـل دستور الإيمان بكلمـة " أؤمن" وليس " نؤمن" ليظهـر للشعب المسيحى قيمـة الالتزام الشخصى لكـل عـضو فى الكنيسة...

لذلك يجب أن لا نتلو دستور الإيمان تلاوة هامشية أو أن نوكـل ذلك إلى أى كان دون اشتراكنا الفعـلى بذلك إذ المطلوب من كل مؤمن قبل اشتراكه فى تناول القدسات أن يتبنّى إيمان الكنيسة وأن يلتزمه شخصـيًا...

" أؤمن" هذا يعنى أنّى أنا فـلان الحاضر فى هذه الكنيسة أؤمن أى أتبنى لا بشفتى فقط ولكن بكـل كيانى هـذه الكلمات التى وضعـها آباء الكنيسة وسكبوا فيها الحقيقة المعـلن عـنها, جاعـلينها بعـملهم هذا فى متناول كل عـقل مستنير بالإيمان بيسوع...

ولقـد قال المطـران " فيلاريتوس", مطـران موسكو فى القـرن الماضى, فى هـذا الصدد:

" ما دام إيمانكم محفـوظـًا فى الكتاب المقـدس وفى دستور الإيمان فهـو مِلْكٌ لله وأنبيائه ورسله وآباء الكنيسة, إنه ليس لكم ولن تبدؤوا فى اكتسابه إلا عـندما يتملك عـلى أفكاركم وذاكـرتكم ..."...

ومن أجـل الوصـول إلى حـالة كهـذه عـلينا أن نسعى جهـدنا لفهـم الحقـائـق المُعـبّر عـنها فى دستور الإيمان ونسمح لها بالتغـلغـل فينـا فتـؤثر الكلمـات التى نرددها ونسمعها فى القـداس الإلهى فينـا عـميقـًا وتحـولنا إلى أعـضاء راشدين واعـين لكنيسة المسيح...

وهـذا ما هـدفنا إليه فى الكتاب الذى بين أيديـكم...

ولكن لا بـدّ قبل الغـوص فى ثنايـا الكتاب من إبـداء بعـض الملاحظـات التى نعـتبرها هامة لفهـم صحيح للعـقائد المسيحية ولدستور الإيمان:



أولاً: تلاوة دستور الإيمان جزء لا يتجزأ من القداس الإلهى:
إن تلاوة دستور الإيمان جـزء لا يتجـزأ من القداس الإلهـى...

هى تعـبير عـن قـبول الجماعـة للكلمة الإلهية وإعـلان إيمانها بهـذه الكلمـة التى سمعـوها عـبر الرسالة والإنجيل فى القسم الأول من القـداس ( قـداس الموعـوظين )...

وهى كذلك تأكـيد لإرادة الجماعـة فى أن تصبح جسدًا واحـدًا بتناولها الكلمـة الإلهية فى سرّ الشكر...

إذن, فتلاوة قانون الإيمان عـمـل ليتورجى, نشيد من أناشيد التسبيح فى الحـياة الطـقسية...

العقـدة والتسبيح مشدودان إلى بعضهما بعُـرى لا تنفـصم:

" من يصـلى فهـو لاهـوتى, واللاهـوتى هـو الذى يصـلّى" قال الآباء قـديمـًا...

إذًا لا يمكننا أن نتعـرّف عـلى الحقـيقة الكامنة فى عـقيدة ما بالتحليل العـقلانى الصـرف ـ فالعـقـل لا يمكنه أن يحصـر الألوهـة وأسرارها...

ولكن يمكننا ذلك بالتسبيح والتـأمّـل...

بالرجـاء الكـلّى فى رحمة الله وهـو يكشف لنـا حينـئذ ذاتـه ويساعـدنا عـلى فهـم سرّ محـبّته...

يقـول أحـد الآباء:

" ليس المهـم أن نتكـلّم عـن الله أو عـن حقـيقـة الله, بلّ المهـم الأهـم هـو أن نـدع ذواتنا تتطهّـر بالله فتمتلئ منه ومن حقـيقـته"...

اللاهـوتى الحق, فى المفهـوم الشرقى, هـو القـديس, لأن القـديس قد حقـق شركته مع الله...

السعى إلى الله أساس الدين المسيحى...

ودراسة دستور الإيمان ليست دراسة ميـتافـيزيقـية, بل هى سعى صامت محـبّ ودؤوب يعـبق بالتسبيح...

سعى إلى الحقـيقـة المعـلنة من الله والمُعَـبّر عـنها بالمسيح يسوع ابنه والمحـيية لنا فى الكنيسة بروحـه القـدوس...

ثانيًا: دستور الإيمان يؤكد وحـدة الكنيسة:

دستور الإيمـان يؤكـّد أن وحـدة الكنيسة هى, فى الأساس, وحـدة فى الإيمـان...

والجماعـة التى يشدّها إيمان واحـد إنما تعـبّر عـن إيمانها جماعـيًا مما يؤدى إلى صـون وحـدتها وإعـلانها للمـلء...

وهنا تجـدر الإشارة إلى أن المؤمنين فى القـرون الثلاثة الأولى لم يكونوا فى حـاجة إلى التعـبير عـن إيمانهم بواسطة دساتـير للإيمان...

ولكـن دفعـهم إلى ذلك ظهـور الهـرطـقات...

يقـول هيلاريوس فى القـرن الرابع:

" إن شر الهـراطـقة والمجـدّفين يدفعـنا إلى القـول بالمحـرّمات, كأن نتسلّـق القمم التى لا تُـطال ونتكـلّم فى أمـور لا يُنـطـق بها ونلجـا إلى تفاسير ممنـوعـة. كان عـلينا الاكتفـاء بأن نتمم بالإيمان وحـده ما أمـرنا به السيد: أن نسجد للآب ونكـرم الابن معـه وأن نمتلئ من الروح القـدس. ويا للأسف فنحـن الآن مضطرون لوصف الأسرار الفائقـة الوصف. أن خطـيئة الآخـرين تسقـطـنا نحن فى هـذه الخطـيئة: أن نُعَـرّض الأسرار إلى متناقضات " قصـور" لغـة البشر, بينما هـى وجـدت لنخـدمها فى سكون قلوبنا"...

هـذا يعنى أن تشويه الهـراطـقة للحقيقة المسلّمة إلى الرسل فـرض عـلى الكنيسة وضع معـتقـداتها فى قـوالب بشرية مع إدراكها تمام الإدراك أن الكلمات عاجـزة كل العـجـز عـن إحـتواء الحقيقة كلها والتعـبير عـنها كليـًا...

هـذا الوضـع جـعـل العـقائد المسيحية تحـوى ـ حسب الظاهـر ـ تناقضات لا حـصرلها...

فمثـلاً نقـول بأن الله واحـد وإنه فى الوقت ذاته مثلث الأقانيم...

ونعـترف بأن الله لا يُـدنى منه وندعـو فى الآن ذاته إلى حـياة الشركة مع الله...

ونٌقـرّ بأن المسيح إله وإنسان فى آن...

ونقـول عـن الكنيسة أنها منظـورة وغـير منظـورة كذلك إلخ...

كل هـذه التناقضات ـ ظاهـريًا ـ تعـبّر مجتمعـة عـن الحقيقة...

لكن الجمع بينها لا يتم عـلى المستوى العـقلى بلّ عـلى مستوى الخـبرة الروحـية...

وهـذا هـو معنى السر فى المسيحية...

إنه ليس نظـرية صعـبة الفهم والادراك, ولكنه حـياة نحن مدعـوون لاختبارها فى جماعـة المؤمنين الواحـدة, أعنى بها الكنيسة...

وكلما ازداد اختبارنا لحـياة الكنيسة وجـدناها أكـثر وأعـمـق...

ثالثًا: وحدتنا فى الإيمان ملتصقة بالمحبة:
وحـدتنا فى الإيمان ملتصقـة بالمحـبة وملازمة لهـا...

وهـذه الوحـدة تؤهـلنا للوصـول إلى وحـدة الحـياة الحقـة فى اشتراكنا بالمسيح فى سرّ الشكر...

وهـذا واضح فى القـداس الإلهى إذ ياتى دستور الإيمان مباشرة بعـد دعـوة الكاهن جميع المؤمنين لممارسة المحبة قائلاً:

" لنحب بعضنا بعضًا, لكى بقلب واحـد, نعترف مقرين بآب وابن وروح قدس ثالوثًا متساوى الجوهـر وغـير منفصل"...

وهـذا يعنى أن جماعـة المسيحيين المتحـدة بالمحـبّة عـلى صورة الثالوث القـدوس هـى وحـدها مؤهـلة ومدعـوة لإعـلان الإيمان الواحـد...

المحبة الحقيقية توأمان لا ينفصـلان...

لا حقيقة معـاشة دون المحـبّة وخارجها...

ولا محـبّه حقـة خارج الحقيقة...

رابعًا: الالتزام الشخصى " أؤمن":

أخـيرًا, يذكـرنا الالتزام الشخصى المنوه عـنه فى كلمة " أؤمن" بدعـوة دستور الإيمان لنا إلى الالتصـاق بهـذا التـدبير الإلهى الذى يسرد أحـداثه وإلى تغـيير ذواتنا لكى نصبح سفـراء للمسيح وشهـودًا له فى هـذا العالم...

وبذلك تصبح الكنيسة الجامعـة خـادمة للعالم الحـاضر كما كان سيدها...

وهـذا جـلىّ فى تسلسل القـداس الإلهى:

v وحـدتنا فى المحـبة تؤهـلنا لأن نعـبّر عـن إيماننا الواحـد..

v تعـبيرنا عـن إيماننا الواحتد يؤهلنا للاشتراك فى الكـأس الواحـدة...

v اشتراكنا فى الكـأس الواحـدة وسكنى المسيح فى قـلوبنا يؤهـلنا للتفتيش عـن المسيح وخـدمته فى كل مواضه سكنه, أى أيضًا فى الإنسان الآخـر وفى العـالم, مؤكـدين بذلك أن سرّ الشكر لا يكتمـل فـعـله فينا إلا إذا أوصـلنا إلى المنـاولة فى " سرّ القـريب" كما يقـول القديس بوحنا ذهبى الفم...
==================================

الفصل الثانى
----------------------

الإيمان بالله الخـالق
+++++++++++++

" أؤمن بإله واحـد.."

1ـ فى الإيمان

* تحـديد الإيمان:

عـندما يتحـدث الناس عـما يؤمنون به, فكـثيرًا ما يقـصدون أفـكارًا اعـتنقـوها أو مبادئ تبنّـوها أو معـتقدات انتموا إليها...

لذا فالسؤال المطـروح غـالبًا هـو:

بماذا تؤمن؟...

أمّا الإيمان بمعـناه المسيحى الأصيل, فليس, فى الأساس, تصديقًا لأفـكار أو اعـتناقًا لمبادئ, إنما ارتباط صميمى بشخص حىّ, هو الله...

فى منظـارٍ كهـذا, لم يعـد السؤال اللائق هو:

بماذا تؤمن؟...

بلّ, بمن تؤمن؟...

ليس الإيمان, فى الأساس, تصديق أمور عـن الله...

بل, الانتماء إلى الله, كإلى مصدر كياننا ومرتكزه ومرجعه...

إنه إدراك حىّ, كيانى, لوجود الله, لا كما تدرك حقـيـقة رياضية أو طبيعـية أو تاريخية...

بل, كما يُدرك وجـود كائن نحن مرتبطـون به فى الصميم, ومنه نستمد وجـودنا فى كل لحظة, وإليه تصبو, فى آخـر المطاف, كل أمانينا...

حتى إذا أدركنا وجـود هذا الكائن, ألفنا ويائنا, جعـلنا ثقـتنا به وألقـينا عـليه رجاؤنا...

عـبارة " آمن", فى العـربية, قريبة من " أمن"...

آمن به تعـنى أمن له...

أن نؤمن بالله يعـنى أن نأمن له, أن نثق به, أن نجعـل منه معـتمدنا ونسلم إليه ذواتنا مطـمئنين إليه أعـمق اطـمئنان...

* الإيمان يختلف عـن المعـرفة العـقلية البحتة:

الإيمان معـرفة لله...

وهـذه المعـرفة, ككل معـرفة, تفـترض مساهمة العـقـل...

ولكن الإيمان لا يـرد إلى المعـرفة العـقـلية...

الله لا يُعـرف بالعـقـل المجـرّد كما تُعـرف حـقـائـق الرياضيات أو نواميس الطبيعـة...

شأن الله فى ذلك شأن حـقـائـق بالغـة الأهـمية فى وجـود الإنسان, حـقـائق قـد يُكـرّس لها المـرء حـياته أو يمـوت فى سبيلها ولكنه لا يستطـيع أن يقـدّم عـنها براهـين منطـقية قاطـعة...

فمن أدرك روعـة الموسيقى أو سمو التضحـية, من اعـتنق مبدأ العـدالة والحـرية والإخـاء بين البشر, من وثق بصديقه إلى أبعـد حـدّ, من أدرك أن محـبوبه شخصٌ فـريد, وإن كان هناك من هـو أجمل وأذكى منه, كل هـؤلاء مقـتنعـون بصواب مواقـفهم وقـد يحاولون تعـليلها عـقـليًا لإقـناع الآخـرين بها, ولكنهم يعـرفون أنهم لا يستطـيعـون تقـديم البرهـان العـقـلى القاطـع عـن صحتها وأن لا سبيل لهم لتثـبيتها عـلى طـريقة 2+2=4, وأن من لم يخـتـبر بنفسه ما اختـبروه هـم غـير قـادر عـلى مشاركتهم قـناعـتهم ولو قـدّموا له أفضل ما لديهم من براهين...

ولكن ما هو صحيح بشأن تلك الحقـائق الإنسانية صحيح بشكل أخـص فيما يتعـلق بالله:

أ ـ لأن الله لا يحـويه العـقـل:

يقـول الكتاب:

[ اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَـدٌ قَطُّ . اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الّـَذِي هُـوَ فِي حِـضْـنِ الآبِ هُـوَ خَـبَّرَ ] [ يوحنا 1: 18 ]...

والمقصـود بذلك ليس أن الله لا يُدرك بالحـواس وحسب, بلّ أنه لا يُدرك بالعـقـل أيضـًا ولا يمكن أن يصـبح بداهـة عـقـلية عـلى طريقة حقائق الرياضيات...

هـذا أمـر طبيعـى إذا تذكّـرنا أن الله هـو الكـائن اللامحـدود...

فكيف للعـقـل المحـدود أن يُدركـه؟...

ذلك أنه لو أدركـه لاستوعـبه وحـواه وامتلكه...

ولكـن أنّى للمحـدود أن يسع غـير المحـدود...

أنّى لنقطة الماء أن تستوعب البحـر؟...

كيف للعـقـل, الذى هـو من الكـون, والذى من الكون يستمد أفكاره وعـلى نموذج أشياء الكـون يبنى تصـوراته, كيف لهـذا العـقـل أن يدرك من هـو متعالٍ عـلى الكـون؟...

ثم أنّى للعـقـل أن يحـوى الله ويمتلكه, طالما الله هـو مصـدر العـقـل نفسه, هـو قاعـدته وأساسه؟...

مفاهيم العـقـل البشرى أبـدًا محصـورة....

لذا, فتاريخ الفـكر البشرى كله, عـلى كل الأصعـدة, من عـلمى وفلسفى واجتماعـى وغـير ذلك, إنما هـو تاريخ محـاولة مستمرّة يقـوم بها العـقـل البشرى لتخـطّى محـدودية تصـوراته نحـو حقيقة أغـنى وأكمـل...

إنه بذلك التخـطّى المستمر لمكاسبه ومواقفه يشير إلى الكائن اللامحـدود الذى منه يستمد انطلاقـته اللامتناهـية...

ولكن كيف لى, وهو الذى لا يملك أبـدًا سوى حقائق جـزئية, أن يحـوى ذلك المطـلق الذى يدفـعـه بلا هـوادة إلى تجـاوز حقائقـه الجـزئية كلها وأن لا يقف عـند حـد فى حـركته التى لا قـرار لهـا؟...

الله لا يُدركـه العـقـل, لا لأنه مبهم, غـامض بحـد ذاته...

بلّ عـلى العـكس, لأنه الحقيقة الساطعـة التى تفـوق ملؤها طـاقـة العـقـل عـلى الاستيعـاب...

فكما أن العـين عـاجـزة عـن الشخوص إلى الشمس, لأن نور الشمس يبهـرها, هكـذا العـقـل عـاجـز عـن إدراك الله...

هـذا ما عـبّر عـنه الكتاب بقـوله:

[ اَلَّذِي وَحْـدَهُ لَهُ عَـدَمُ اَلْمَـوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِـنْهُ، اَلَّـذِي لَـمْ يَرَهُ أَحَـدٌ مِـنَ اَلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، اَلَّذِي لَهُ اَلْكَرَامَـةُ وَاَلْقُدْرَةُ اَلأَبَدِيَّةُ. آمِينَ ] [ 1 تيموثاوس 6: 16 ]...

كما أن العـين, وهى لا تستطيع أن تحـدّق إلى قـرص الشمس, تشاهـد انعكاساتها عـلى الكائنات, هـكذا العـقل لا يُدرك الله إنما يستطيع أن يهـتدى إليه ـ كما سوف نرى ـ إنطـلاقـًا من آثـاره فى الكـون, لكن دون أن يُشكّل هذا الإهـتداء عـملية من نوع البرهان الرياضى أو العـلمى, إذ أن ذلك يتنافى, كما رأينا, مع طبيـعة الله...

تلك هى المفارقة التى عـبّر عـنها المفـكّر الشهير " باسكال":

{ لا شئ أكـثر عـقـلانية مـن اعـتراف العـقـل بعـجـزه عـن إدراك الله. ذلك أن العـقـل, لو استطـاع إدراك الله, لارتـفـع إلى مستوى الله, كما يشير مدلول كلمة " أدرك". ولكن, لو كان ذلك ممكنـًا, لما كان الله إلهـًا بلّ كائنـًا فى مستوى العـقـل. لا يمكن أن يكـون الله إلهـًا إلا إذا كان فـائقـًا كلّ إدراك }...

**********
ب ـ لأن حقيقة الله لا تفـرض ذاتها عـلى الإنسان:

لأن حقيقة الله لا تفـرض ذاتها عـلى الإنسان, شأن البداهـات الحسّية والعـقـلية, بلّ تتطلّب منه تقـبّلاً وانفـتاحـًا...

ومن جهـة أخـرى, إذا تأمّلنـا فى عـلاقة الإنسان بالحقيقة, نـرى أن الحقائق التى تفـرِض ذواتها عـلى حـواس الإنسان أو عـقـله قـليلة نسبيـًا...

فأكـثر الحقائق لا تكتشف إلا بجهـد, وبالتالى يتطـلّب اكتسابها, لا رؤية العـقـل وحسب, بلّ مجهـود الإرادة واستعـداد النفس لتقـبّـل حقيقة قـد تصـدم الأفكـار المألوفة وقـد تجـرح الكـبرياء وقـد تتصـدّى لهـذا أو ذاك من الأهـواء...

هـذا صحيح حتى بالنسبة للحقائق العـلمية...

فقد أثبت التاريخ أن كـثيرًا من النظـريات التى طـَوّرَت العـلم ودفعـته شوطـًا بعـيدًا إلى الأمام, كنظـرية " كوبرنيك" فى الفلك, ونظـرية لافـوازيبه فى الكيمياء, و .... , حوربت بشدّة من قـبل الأوساط العـلمية المعـاصـرة لها, وذلك لأسباب لا تمت إلى العـلم بصـلة, كتمسّك العـلماء بعـاداتهم فى التفكـير وتهـرّبهم من الإعـتراف بأن معـلوماتهم كانت خاطـئة أو ناقصـة, وما شابه ذلك من دوافـع نفسية كانت تتخـذ العـلم ذريعـة لها مع أنها غـريبة عـنه تمامـًا...

هكـذا كان هـؤلاء العـلماء يقـاومون عـباقـرة عـصرهم معـتقـدين أنهم بذلك يدافعـون عـن العـلم الصحيح ضـد مزيفـيه, فيما كانوا, من حيث لا يدرون, يدافعـون عـن عـاداتهم وكـرامتهم التى كانت تحـول دون رؤيتهم للحقيقة الكامنـة فى النظـريات التى كانـوا يناهضـونها...

فالحقيقة العـلمية ذاتها لا تنكشف إلا لذلك الذى يعـترف بتـواضع أن معـرفته ناقصـة ومعـرّضة للخطـأ, وأن طريقـته فى التفكـير, أيًـا كان رسوخها فيه, قابلة للنقـض وإعـادة النظـر...

فإذا كانت الاستعـدادات الشخصـية تلعـب هـذا الدور كلّـه فى رؤيـة الحقائق العـلمية نفسها, فكم بالحـرىّ يكـون دورها بالنسبة لحقائق أكـثر مساسًا بالشخص الإنسانى وبسلوكه, مثـلاً بالنسبة للحقائق الخـلقـية...

كيف السبيل مثـلاً لإقـناع إنسان غـارق فى الأنـانية بسمو التضحـية فى سبيل الآخـرين؟...

وكيف يمكن لإنسان تسكـره غـطرسة طـبقـية أو عـنصـرية أن يؤمن بمـبدأ الإخـاء بين البشر؟...

وكيف يستطيع إنسان بنى حـياته عـلى الاحـتيال أن يعـترف بقـيمة الصـدق؟...

إن خـبرة مـريرة تعـلمنا كـلّ يوم بأن الإنسان كـثيرًا ما يفـلسف أهـواءه ويبنى لنفـسه عـقـيدة تـبرّر انحـرافات سلوكه...

هكـذا فيقـدر ما تمس حقيقة ما كـيان الإنسان وليس مجـرّد عـقـله...

بقـدر ذلك يـتأثـّر قـبولها أو رفـضها باستعـدادات الإنسان الكـيانية, بموافـقـة الشخصية العـميقـة...

ولكن أيّة حقيقة تمس كـيان الإنسان كحقيقة وجـود الله؟ إنها تعنى الإنسان فى أعـماق شخصيته, إذ عـليها يترتب, فى آخـر المطاف, تحـديد رؤيته لذاته ولمصـيره, لمعنى حـياته ومـوته, ورؤيـته للآخـرين ولعـلاقته بهم, ونظـرته إلى الكـون وإلى مركـزه فيه...

وجـود الله يعنى أنه لا يسعنى أن أكـتفى بذاتى ولا بهـذا المجتمـع البشرى الذى أنتمى إليه ولا بهـذا الكـون الذى استمد منه عـناصر أفكارى ومقـومات حـياتى...

وجـود الله يعنى أن ذاتى والمجتمع والكـون, وكل ذلك ليس مُـغَــلّـقًا عـلى ذاته, مكتفـيًا بذاته, له غـايته فى ذاته, إنما أصـله ومـرجعـه, ألفـُه وياؤه, ما يقـيمه فى الوجـود ويرسم له غـايته ويعـطيه معـناه, هـو كائن متعـالٍ عـنه وحاضـر فى صميمه بآن, ألا وهـو الله...

وجـود الله يعنى أنه باطـل أن يتعـبّد الإنسان لأفـكاره وميوله ومشاريعـه, فـردية كانت أو جمـاعـية, لأنه يبقـى عـند ذاك أسير الفـراغ والضـياع, وأنه, بالتالى, إذا شاء أن يحقق ذاته, وجـب عـليه أن يتخـذ من الله لا من ذاته محـورًا لوجـوده كـلّه...

ولكـنه يصعـب عـلى الإنسان ان يتخـلّى عـن محـورية ذاتـه...

يقـول لنا فـرويد أن الدافـع النفسى العـميق الذى حمل البشر عـلى مقـاومة نظـرية " كوبرنيك" هـو كـَوْن هـذه النظـرية نقـضت الاعـتقاد بأن الأرض ( وبالتالى البشر ) هـى مـركز الكـون, وجعـلت منها نقـطة فى الفـضاء اللامتنـاهى...

وبالتالى طعـنت الكـبرياء البشرى فى الصميم...

الإيمان بالله يتطـلّب انسلاخـًا أعـظم من هـذا بما لا يقـاس, لأنه يعنى التخـلّى لا عـن مـركـزية مكـانية وحسب, بلّ عـن مركـزية كـيانية, وهـذا أعـمق بكـثير...

من لم يكـن مستعـدًا للتخـلّى عـن محـورية ذاته, من لم يكـن مستعـدًا لمجـازفة تخـطـّى الذات وتخطـّى المجتمع والكون اللذين تجـد فيهما الذات استقـرارها وطمأنينتها, هـذا لا يمكنه أن يعـرف الله حقيقة, ولو اعـترف لفـظـيًا...

الإنسان المعـتدّ بنفسه, النشوان بأفـكاره وانجـازاته ومعـلوماته وممتلكاته, فـردية أو جماعـية, هـذا لا يستطيع أن يؤمن حقيقة بالله, كما ورد فى إنجـيل يوحـنا:

[ كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِـنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَـجْـداً بَعْـضُـكُمْ مِـنْ بَعْـضٍ؟ وَالْمَـجْـدُ الَّذِي مِـنَ الإِلَهِ الْوَاحِـدِ لَسْتُمْ تَطْـلُبُونَهُ؟ ] [ يوحنا 5: 44 ]...

من تعـبّد لأهـوائه رفـض الله, بالفـعـل إن لم يكن بالكـلام, لئـلا يضطـر إلى الاعـتراف بشره, كما ورد أيضـًا فى الإنجـيل نفسه:

[ وَهَـذِهِ هِـيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَـاءَ إِلَى الْعَـالَمِ وَأَحَـبَّ النَّاسُ الظُّـلْمَةَ أَكْثَرَ مِـنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْـمَـالَهُمْ كَانَتْ شِـرِّيرَةً.

لأَنَّ كُـلَّ مَـنْ يَعْـمَـلُ السَّيِّآتِ يُبْغِـضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْـمَـالُهُ.

وَأَمَّـا مَـنْ يَفْعَـلُ الْحَـقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْـهَرَ أَعْـمَـالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَـعْـمُـولَةٌ ] [ يوحنا 3: 19 ـ 21 ]...

**********

ج ـ لأن الإيمان اعـتراف بالوجـود الشخصى لله:


أخـيرًا يختلف الإيمـان عـن المعـرفة العـقـلية البحـتة, لأن الله موضـوعـه ليس فكـرة أو معـادلة رياضـية أو مـبدأ خلقـيًا أو نامـوسًا فائقـًا, إنما هـو شخص...

الإيمان بالله أساسًا اعـتراف بشخص واتصـال به, وذلك ما يتعـدّى مجـرّد عـمـلية عـقـلية, لأنه يتطـلّب موقـفـًا شخصـيًا, موقـف انفـتاح وتقـبّـل...

إذا كنت منهمكـًا بذاتى, فالبشر الآخـرون حـولى يكـونـون كأنهم غـير موجـودين بالنسبة إلىّ...

ذلك أننى لا أرى فيهـم سوى تلك الصـفـات التى تمكّـننى من تصنيـفـهم وفـق مصالحى وحاجاتى:

فهـذا طـيب المعـشر, وذاك ثقـيل الظـلّ, هـذا صادق فى معـاملاته وذاك كـذّاب, ملتوٍ, ..... وهلم جـرا...

أمّا وجـودهم الشخصى الفـريد, وجـودهم بالنسبة لهم, لا بالنسبة لى ولمشاريعى, وجـودهم كما يعـيشونه من الداخـل, ماذا تعـنى بالنسبة لهم خصالهم وعـيوبهم وما تعَـبّر عـنه مما يصـبـون إليه ومما يعـانـون منه, كل ذلك يبقـى غـَرِيبًا عَـنّى, وكأنه غَـيْر موجـود بالنسبة إلىّ...

شخص الآخـر لا يصـبح حاضـرًا حـقيـقة فى ذهـنى إلا إذا قبلت بأن أتخطـّى انهماكى بذاتى لأصـبح حاضـرًا لهـذا الآخـر, منفتحـًا إليه...

عـند ذاك أصبح بالحـقيـقة مدركـًا لهـذا الوجـود الفـريد ومتصـلاً به بآن...

عـند ذاك تقـوم بينى وبينه عـلاقة حقـة أخـرج بها من ذاتى لألاقـيه كما هـو ولأشارك وجـوده كما يحـياه هـو...

لكن ما هـو ضـرورى بالنسبة لعـلاقتى بشخص إنسانى آخـر, ضـرورى بصـورة أخص بالنسبة لعـلاقتى بالله...

فإذا كان تخطـى انهماكى بذاتى أساسى لأكتشف حقـيقـة وجـود الآخـر البشرى, فكـم بالحـرى يصبح هـذا التخطّى ضـروريًا لأكتشف وجـود من هـو آخـر بالكلية, من يفـوق بما لا يقاس أفكارى وتصـوّراتى ومشاعـرى ورغائبى...

فإذا كنت منهمكـًا بذاتى, وآمالى وأهـوائى, كيف يمكننى أن أتحسس وجـود ذاك الذى يعـلو عـلى أفكارى ورغـائبى كما تعـلو السماء عـن الأرض عـلى حـدّ تعـبير أشعـياء النبى؟...

عـند ذاك فـقـد لا أدرك وجـود الله, أو أعـترف بهـذا الوجـود لفـظيـًا دون أن يكون لهـذا الاعـتراف أى معنى لحـياتى, أو قد أرى فى الله مجـرّد صـورة لما أتمنّـاه أو أرهـبه, أى أننى أكـوّن لنفسى أصـنامـًا أقـيمها عـوض الله ( مثلاً صـورة إله " وظيفـته" أن يضمن صحّـتى ونجـاحى وسعـادتى ويوفـق أمـورى ويعـطينى الغـلبة عـلى أعـدائى ...) ...

أمّا إذا كان لـدى من الانفـتاح ما يمكّـننى من التطـلّع على خـارج حـدود ذاتى, عـند ذاك يسعنى أن أدرك وجـود ذلك الآخـر بالكلية الذى هـو مصـدر وجـودى ومـرجـعـه...

عـند ذاك يُمْكِـننى أن أتصـل به وأشاركه وجـوده وأدرك أنه, وهـو المتعـالى عـنى كل التعـالى, أقـرب إلىّ من ذاتى, لأنى به, وبه وحـده أجـد ذاتى عـلى حـقيـقتها وأحقـق معـنى وجـودى...

تخطـّى الذات للاتصـال بالإنسان الآخـر, تخطـّى الذات للاتصـال بالله:

ليس هـناك مجـرّد تشابه بين هـاتين العـمليتين, إنما يوجـد إرتباط وثيق بينهما...

فبقـدر ما انفـتح إلى الآخـر البشرى, أصبح أكـثر استعـدادًا للاتصـال بالله...

لذا ربط الرسول يوحـنا بين محـبة الله ( أى الاتصـال الصميمى بالله, الذى لا إيمان حقـيقى بدونه ) وبين محبة البشر أخواتنا, قائلاً:

[ فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ: { أَنَا أُحِبُّ اللهَ ! } وَلكِنَّهُ يُبْغِضُ أَخاً لَهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ، لأَنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي يَرَاهُ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يَرَهُ قَطُّ ؟ ] [ 1 يوحنا 4: 20 ]...

ولذا تدعـونا خـدمة القـداس الإلهى أن نحب بعضـنا بعضـًا لنستطيع الاعـتراف بالله الثالوث: " واجعـلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقـبل بعضنا بعـضًا بقبلة مقدسة. لكى ننا بغير وقوع فى دينونة من موهبتك غـير المائتة السمائية بالمسيح يسوع ربنا هذا الذى من قبله المجد والكرامة والعزة والسجود تليق بك معه ومع الروح القدس المحيى المساوى لك . الآن وكل آوان وإلى دهـر الدهور , آمين"...

* الله يكشف ذاته لنا فيجعـل الإيمان ممكنًا:
إذا كان الله, موضـوع الإيمان, يفـوق, كما رأينا, كل فكـر وتصـوّر وشعـور ورغـبة, فهـذا يعـنى أنه لا يمكننى أن أكتشفه من تلقـاء ذاتى...

ولكن الله يحـبنى...

ولذا أراد ان يكشف ذاته لى...

ذلك أن المحبة تدفـع المحـبّ أن يكشف ذاتـه للمحـبوب...

حسب قـول الرب:

[ الَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي ] [ يوحنا 14: 21 ]...

لو لم يأخـذ الله مـبادرة كشف ذاته للإنسان...

لمـا كان الإيمان ممكنًـا...

ولكنه آخـذ ابدًا هـذه المـبادرة...

إنه يخـاطب الإنسان, مظهـرًا له ذاته...

وداعـيًا إيّـاه إلى مشاركته حـياته...

وذلك بالوسائل التالية:

1 ـ من خـلال آثـاره فى الخـليقة وفى قلب الإنسان...

2 ـ بالوحى الإلهى وتاريخ الخـلاص الذى بلغ ذروته بتجسّد ابن الله...

تلك هى الطـرق التى يسلكها الله ليأتى إلىّ ويقـرع عـلى باب نفسى...

حتى إذا سمعـت صـوته وفتحـت له قلبى ( والقلب فى لغـة الكتاب هـو مركز الشخصـية, يلتقى فيه العـقـل والشعـور والإرادة )...

إخـتبرته بأعـمـاق كـيانى حضـورًا شخصـيـًا يملأنى ويمـلأ الكـون قاطـبة...

حضـورًا يفـوق كـلّ تصـوراتى ورغـائبى ولكـنه ينـير العـقـل ويستقـطب الشعـور...

حضـورًا لا أمتلكـه ولكننى به ومنه وله أحـيا...

هـذا هـو الإيمان فى آخـر المطاف...

* أسئلة:
1 ـ هـل الإيمان مجـرّد تصـديق أفكـار عـن الله, أم هـو أبعـد وأعـمـق من هـذا؟...

2 ـ هـل يُعـقـل أن يدرك العـقـل المحـدود الله اللامحـدود؟ ماذا يقـول الكتاب المقدس بهذا الصدد؟ [ راجع يوحنا 1: 18و 1 تيموثاوس 6: 16 ]...

3 ـ هـل هـناك حقائق لا تفرض ذاتها عـلى الإنسان فرضًا, بل تتطلب منه انفتاحًا وتقبلاً لها؟ أذكـر بعض هذه الحقائق. لماذا يصح ذلك, بنوع خاص, بالنسبة لحقيقة الله؟...

4 ـ ماذا يقول الإنجيل عـن المواقف الشخصية التى تحول دون الإيمان بالله؟ [ راجع يوحنا 3: 19 ـ 21 و يوحنا 5: 44 ]...

5 ـ هـل الاعـتراف بوجـود الشخص الآخـر والاتصـال به عـملية عـقـلية بحـتة, أم أنهما يتطلبان اتجاهـًا إلى الآخـر وتخطـيًا للذات؟ كيف يصحّ ذلك, بنوع خاص, بالنسبة للإيمان بالله؟...

6 ـ هـل من عـلاقة بين الانفتاح للبشر والاتصـال بالله؟ [ 1 يوحنا 4: 20 ]...

7 ـ إذا كان الله يفوق كل فكـر وتصـوّر, فكيف أستطيع أن أؤمن به؟...

8 ـ ما الذى يدفعنى إلى كشف ذاتى لإنسان آخـر؟ لماذا وكيف يظهـر الله ذاته لنا؟...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2 ـ الله يكشف نفسه لنا
* الله يكشف ذاته لنا من خـلال الخليقة:


لقـد كتب الرسول بولس:

[ إِذْ مَعْرِفَةُ اَلْلَّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اَلْلَّهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ . لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ اَلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ اَلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ اَلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْر ] [ رومية 1: 19, 20 ]...

فالخـليفة كلها تحمل أثـر الله كما أن التمثال يحمل أثر النحات الذى صنعـه...

إنها كتاب نقـرأ بـين سطـوره عـظمة الله وحكمـته وجمـاله...

إنها تهجـئة لله تحـدثنا عـنه وتشير إليه...

لهـذا أنشدت المـزامير:

[ اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اَللهِ وَاَلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ ] [ مزمور 19: 1 ]...

فلنستعـرض بعـض آثـار الله فى الكـون وفى الإنسان...

أ ـ إرتباط كل ما فى الكون بأسباب:

كل ما فى هـذا الكـون مرتبط بأسباب أوجـدته...

إذًا, لا شئ فى هـذا الكـون موجـود بحـد ذاته, إذ لولا الأسباب التى أوجـدته لما وُجـد...

لا شئ, إذًا, فى الكـون موجـود بالضـرورة, أو, كما تقـول الفـلسفة, واجب الوجـود...

كـل ما فى الكـون ممكن الوجـود, لا يوجـد إلا بفعـل آخـر...

ولكن ما يصح فى جـزيئات الكـون يصح أيضـًا فى الكـون ككـلّ...

ذلك أنه لا يُعـقـل أن يكون كل عـنصر من عـناصر الكـون ممكن الوجـود, أما مجمـوعـة العـناصر فواجـبة الوجـود...

الكـون إذًا ممكـن الوجـود لأنه مجمـوعـة عـناصر كلها ممكنة الوجـود...

وإذا كان ممكن الوجـود, فمعـناه أنه ليس موجـود بحـد ذاته, بلّ بفـعـل آخـر...

إذًا, يستدعـى الكـون سببـًا خارجـًا عـنه...

وهـذا السبب الخـارج عـن الكـون ندعـوه الله...

ولنأخـذ الآن مثلاً يوضح ما قـلناه:

إذا أخـذنا حيـوانـًا وتساءلنـا:

لماذا هـذا الحـيوان حىّ؟, وما سبب إستمـراره فى الوجـود؟...

رأينا أن لذلك أسبابًا متعـددة منها المواد الغـذائية التى تحويها الأطعـمة. ولكن إذا تساءلنا من أين تأتى تلك المواد الغـذائية التى هى سبب إستمـرار الحيوان فى الوجـود رأينا أن لها بدورها أسبابًا. فمثلاً المواد السكرية, وهى التى تحرّك جسم الحيوان وتولد النشاط فيه, لا يمكن أن تأتى فى النهاية إلا من النباتات...

وهنا نتابع تساؤلنا فنفتش عـن سبب وجـود هذه المواد السكرية فى النباتات, فيتـّضح لنا أنها تتكـوّن من اتحاد الكربون بالمواد الكيماوية التى تمتصها النباتات من الأرض بواسطة الجذور...

وهنا نتساءل, ما هو سبب وجـود الكربون فى النباتات؟...

فيجيب العـلم أنه من تحليل الحامض الكربونى أو ثانى أكسيد الكربون الموجـود فى الهواء...

ولكن ما هى عـلة هـذا التحليل؟...

إنه يتم بفـعـل مادة الكلوروفيل الموجـودة فى النباتات...

ولكن ما هو سبب فاعـلية الكلوروفيل عـلى ثانى أكسيد الكربون؟...

هنا يظهـر البحث العـلمى أن فاعـلية الكلوروفيل ناتجـة عـن الطاقة التى تستمدها من الشمس...

فنتساءل: ما هى عـلة الطاقة الشمسية هـذه؟...

فتجيبنا إحـدى النظـريات العـلمية أنها ناتجـة عـن تفكـيك ذرات الهيدروجين فى الشمس...

وهنا لابـدّ للعـقـل أن يتساءل عـن السبب الذى يحـدث هـذا التفكـيك وهـذا السبب يستدعى بدوره سببًا آخـرًا .. وهلم جـرا...
وهـكذا حيثما انتقـلنا فى هـذا الكـون نجـد سلاسل مرتبطة حلقـاتها إرتباطـًا متينـًا...

وكـأن الكـون آلة مـركبة من دواليب كثـيرة يحـرّك أحـدها الآخـر...

فكـل من هـذه الدواليب يستمد حـركته من دولاب آخـر...

غـاية العـلم أن يكتشف دومـًا أسبابـًا جـديدة أى دواليب جـديدة وهـكذا يفسّر لنـا الكـون ولكن تفسيره ليس بنهـائى...

لأن السؤال النهائى ليس هـو ما هـى الدواليب وما هـو عـددها ولكن ما هـو سبب حـركة الآلة كلها...

ذلك لأنه مهما كـثر عـدد الدواليب, وحتى لو افـترضـنا أن هـذا العـدد غـير متنـاهٍ, فهـذا لا يمنع أن تكـون حـركة الآلة مستمدة فى النهاية من محـرّك أول...

فإذا ألغـينا هـذا المحـرّك الأول توقـفت الآلـة حتمـًا لأن الدواليب, مهما تعـددت, تصبح بدونه عـاجـزة عـن نقـل أيّة حـركة...

هـذا المصـدر الأول الذى تستمد منه كل الأسباب فاعـليتها, كما تستمد الدواليب كلها حركتها من المحرك الأول, هـو الله...

وكما أن الآلة تستمد باستمرار وفى كـلّ لحظـة حـركة دواليبها من المحـرك الأول, هكـذا ليس صحيحـًا أن الكـون استمدّ وجـوده فى لحظة معـينة من الله ثم أصبح موجـودًا بذاتـه, ولكنه لا يقـوم إلا عـلى الله, أن وجـوده مستمد فى كـلّ لحظة ممن هـو وحـده واجب الوجـود...

ب ـ نظـام الكـون:

فى الكـون نظـام وترتيب يبدوان لنا إذا تأملنا مثلاً الفلك والجسم الإنسانى أو غـرائز الحيوانات. يشير هـذا النظام إلى وجـود حكمـة فائقـة تتجلّى فى الكـون وتسيّره...

فالنظام الشمسى مثلاً, المكـون من الشمس ومن السيارات التى تدور حولها, يسير بموجب قـواعـد رياضية دقيقة بيـّنها الفلكى الشهير "كيبلر"...

هـذه النواميس لها من الدقـة والثبات ما يخـول عـلماء الفلك أن يعـينوا بالتدقـيق الزمن الذى سوف يحـدث فيـه خسوف وذلك قـبل حصـوله بألف سنة...

الجسم الإنسانى:
ولنأخـذ مثلاً وهـو تكـوين الجـنين...

المعـلوم أن الجنين لا يبـدأ إنسانـًا صـغـير الحجم ليس عـليه إلا أن ينمو ليصبح ذا حجم كـبير...

إنما الجنين يتكـون إنطـلاقـًا من خلية واحـدة, نتجت من اتحاد رأس الحيوان المنوى الذكـرى والبويضـة الأنثوية عـند إخـراقها فى وقت معـيّن وفى مكان محـدد وهو الثلث الخارجى من قناة فالوب, بعـد أن يقطع الحيوان المنوى رحـلة طويلة من المهبل إلى عنق الرحم, ثم التجـويف الرحمى منطـلقـًا فى اتجاه قناة فالوب ...

الجسم الإنسانى بتعـدد أعضـائه وأجهـزته يخـرج من تلك الخلية الواحـدة التى لا أعـضاء فيها ولا أجهـزة إلا فى الكود الجينى الذى تحمله الكروسومات الموجودة فى نواة هذه الخلية التى يطلق عـليها " الزيجـوت"...

وعـند تكاثر الخلية وانقسامها, ينتج خلايا عـديدة متخصصة لتؤلف كل فئة منها جهازًا من أجهـزة الجسم...

ويرافق هـذا التخصيص تنسيق بديع بين الأجهزة حتى تؤلف جسمًا متماسكًا منسجم الأجـزاء, متماثلة فى جميع الجنس البشرى, وكـان العـملية كلها موجهة بموجب تصميم رائع...

غـرائز الحيوانات:
غـرائز الحيوانات مدهشة خاصة إذا نظـرنا إلى الحشرات ورأينا عـند تلك الكائنات البدائية تصـرفات محكمـة الدقـة تفـوق ذكاءها بما لا يقاس...

فالنحـل يصنع الشمع من إفرازات غـدده فى شكل هـندسى ذو حسابات دقيقة ليتسنى إستغـلال المجـال المتاح عـلى أكمل وجه وفى تنسيق بديع...

وكذلك التنظيم المبدع لحياة النمـل وسائر الحشرات...

هـذا النظـام الذى يبدو فى مختلف مظاهـر الكـونه, كيف نفسره؟...

أنقـول أنه من المادة؟...

ولكن المادة ـ كما يدرسها العـلماء ـ هـى مجموعـة ذرات وطاقات...

فالسؤال هـو:

ما الذى يُوجِـد فى تلك المجموعـة نظـامـًا؟...

ما الذى يجـعـل منها كونـًا مرتبـًا ذلك الترتيب المنطقى الذى لولاه لما استطاع العـقـل أن يفهم الكـون وأن يبنى عـلمـًا؟...

البيت مؤلف من حجارة, ولكن المهم هـو:

ما الذى رصف الحجـارة عـلى شكل بيت؟...

الكتاب مؤلف من حـروف, ولكن المهم هـو:

ما الذى رتب الحـروف لتـؤدى معـانى رواية أو بحث؟...

إننا فى رصف الحجـارة نـرى فكـر المهـندس, وفى ترتيب الحروف نـرى فكـر المـؤلف...

كذلك فى ترتيب الكـون نـرى فكـرًا جبـارًا لا قيـاس بينه وبين الأفكـار البشرية...

لذا قال العتالم الكـبير " أينشتاين":

{ إن كل عـالم رصـين هـو فى حـالة ذهـول وانخطـاف أمام إنسجـام نواميس الطبيعـة الذى فيه يتجـلّى عـقـل فائـق بهـذا المقـدار حتى أن كـل أفكـار البشر الماهـرة وترتيبها ليست, إذا قورنت وقيست به, سوى إنعـكاس تافـه بالكـلية...} [ أينشتاين: كيف أرى الكـون ]...

هـذا الفكـر الجـبار هـو فكـر الله...

ج ـ عطش الإنسان المطلق:

ولكـن أثـر الله يبـدو أيضـًا فى إعـماق القلب البشرى...

إنه يتجـلّى مثلاً, فىعـطش الإنسان عـلى المطـلق...

يمكن أن يُعـرّف الإنسان بأنه " حـيـوان قـلق"...

هـذه مـيزة أساسية يخـتلف بها عـن سائر الكائنـات الحـية...

فللحـيوان رغـبات غـريزية محـدودة, سهـلة الإرضـاء, لذلك ليس فى حـياته مشاكل...

أما الإنسان فكلما حـاول إشباع رغـباته اشـتدت وقـويت فيه هـذه الرغـبات, وكأن هـناك شيئـًا فى أعـماق كـيانه يحـرّكه ويعـذبه ويوجهه ويدفعـه دون هـوادة...

فى الإنسان تباين دائـم, تفـاوت مستمـر بين ما يرغـبه وما يملكـه, بين إرادته ومقـدرته, بين ما يريد أن يكون وما هـو عـليه...

لذلك ينـدفع دون هـوادة لإزالـة هـذا التباين ولكـنه لا يتوصّـل أبـدًا إلى هـذه الغـاية...

فكلما حـاول أن يقـترب من مرغـوبه, ابتعـد هـذا عـنه موقـظـًا فى نفسه الخـيبة والحسرة...

هـذا ما يبـدو فى الخـبرة اليومية وعـلى كـل الأصعـدة...

نكتفى بذكـر البعـض منها:

1 ـ فالإنسان الساعـى إلى مـال أو مجـد لا يكتـفـى بما حـصـل عـليه. إنه كـلما بـلغ مأربـه يطـمع بالمزيـد. لـذا, لا يعـرف قلبـه راحـة أو إستقـرارًا " عـين الإنسان لا تشبـع" كما يقـول المثـل السائر...

2 ـ ولنأخـذ السعى إلى الجمـال. أمام منظـر طبيعى بديع أو قطعـة أدبية رائعـة أو ..., يشعـر الإنسان, إلى جانب نشوته, بشئ من الحـزن, ويزداد هـذا الحـزن بنسبة ما يكون جمال هـذا المنظـر أو هـذا الإنتاج الفنى الأخـاذ. كيف يفسّر هـذا الحـزن؟. ذلك أن الجمال الذى أدركناه أيقظ فينا حـنينـًا لا قـدرة لنا عـلى إطـفائه ومن هنا نشأ الألم. وما هـو صحيح بالنسبة إلى التمتع بالجمال ينطبق أكـثر عـلى الفنـان الذى ينتجـه. فكم من الأدباء والفنانين الخـلاقـين أفضـوا إلينا بالمـرارة التى كانوا يشعـرون بها عـندما كانوا يبدعـون تحفة فنية رائعـة. عـندما تخـرج تلك التحفة الرائعـة حقـًا, من أيديهم, كان الألم يحـز فى نفوسهم لشعـورهم بالتفاوت بين ما كانوا يحلمون به وما استطاعـوا أن يحقـقـوه...

3 ـ ولننتقـل الآن إلى خـبرة الحب. فالحب, كما هو معـلوم, ينـزع إلى تأليه المحبوب. ألا يسمّى المحبّ الحبيب " معـبود"؟ إنه إذًا يطـلق عـلبه قيمة لا متناهـية وينتظـر منه سعـادة مطـلقـة. ولكنه يمنى بالخيبة, فالمحبوب, مهما سمت صفاته, بشر وليس إلهـًا, لذا لا يمكنه أن يقـدم لمحـبّه السعـادة الفـردوسية التى يحـلم بها. لذا دعـا الشاعـر الفـرنسى " كـلوديل" المـرأة المحبوب " وعـدًا لا يمكن أن يُـبَرّ به". وحتى إذا لم يؤلـه المحـبوب, فالحب يسعـى إلى شركة بين الحبيبين تامة وخـالدة, ولكنه يصطـدم بالسأم الذى تولـده العـادة وبالأنانية والمـوت...

مجمـل الكـلام أن للإنسان المحـدود أمـانى لا محـدودة...

ولذلك يعـيش فى توتّـر دائم...

ولكن ما هـو سرّ هـذا التفاوت الصـارخ؟...

من أين للإنسان هـذا السعى إلى اللامتناهى والمطـلق فيما لا تقـدم له خـبرته سوى ما هـو محـدود ونسبى؟...

التفسـير الوحـيد المـرضى لتلك الظـاهـرة الغـريبة هـو أن الإنسان المحـدود يحمـل فى ذاتـه صـورة كائن لا محـدود...

ويكـون هكـذا سعـيه إلى المطـلق تعـبيرًا عـن حـنين تلك الصـورة إلى أصـلها...

وتكـون خيبـته المتكـرّرة ناتجـة عـن كـونه يخطـئ المرمى فيفـتش عـن المطـلق واللامتناهـى بين المخـلوقات فيما لا يستطيع سوى الله أن يروى عـطش قـلبه...

فكما أن المـد يفتـرض وجـود القـمر الذى يجـتذب إليه مياه البحـر, ولو كان القـمـر مختفـيًا وراء السحب, كذلك مـدّ النفـوس فى سعـيها المتواصـل إلى المطـلق يستقـطبه الله ولو احتجب الله عـن نظـرنا وإدراكـنا:

{ يا رب لقـد خـلقـتنا متجـهين إليك ولذلك لن تجـد قـلوبنا راحـة إلا إذا استقـرّت فـيك } [ أوغسطين المغـبوط ]...

* الله يكشف ذاته لنا بالوحى الإلهى:

لكن الله شاء أن يكشف لنـا ذاته بشكل أوضـح وأكمـل من تهجـئة الخـليقـة له. لذلك شاء أن يحـدّثـنا عـن ذاته:

1 ـ بواسطة حـوادث الخـلاص: التى ترويها لنا الكتب المقـدسة الموحـاة منه والتى يظهـر لنا فيها كيف خـلق الله الإنسان واعـتنى به وكيف هـيأ الله إفـتداء الإنسان بتهيـئته للشعـب اليهـودى وعـنايته الخـاصة به وترتيبه له وكيف تمم الخـلاص أخـيرًا بتجسّده والحـوادث التى تبعـته من بشارة ومـوت وقـيامة وصعـود إلى السماء وإرسال الروح القـدس...

2 ـ بواسطة رجـال إخـتارهم ليحـدثوا الناس عـنه: فكشف لهـم ذاتـه لكى يُنـبئـوا النـاس عـنه وعـن حـبه وإرادتـه, ولذا دعـوا أنبياء, ليس فـقـط لأنهم تنبـاوا بما سوف يحـدث وخـاصة عـن المخـلّص المنتظـر, ولكن خـاصة لأنهم أنبـأوا البشر بقـوة وحـرارة عـن الله وما تنتظـر محـبته من الناس...

3 ـ وخـاصة بواسطة الابن المتجسّد:

[ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ،

كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ.

الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي،

صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ ] [ عـبرانيين 1: 1 ـ 4]..

أحبنا إلى حـد أنه أراد أن يعيش بيننا, كواحـد منـا, وأن يجـعـل نفسه منظـورًا وملموسًا منـّا فى الابن المتجسّد. وهكـذا نلنا أعـظم وأكمـل إعـلان عـن الله لأن:

[ كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَـيَّ مِـنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَـدٌ يَعْـرِفُ اَلاِبْنَ إِلاَّ اَلآبُ وَلاَ أَحَـدٌ يَعْـرِفُ اَلآبَ إِلاَّ اَلاِبْنُ وَمَـنْ أَرَادَ اَلاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ ] [ متى 11: 27 ]...

والابن نفسه حـدثنا عـن الآب وعـن نفسه وعـن الروح وكشف لنا أن الله ثالوث وأدخـلنا إلى سر حـياة الثـالوث...

4 ـ ومن خـلال المسيح بواسطة الروح القـدس فى الكنيسة: كـل هـذا الوحـى الإلهـى حـفظ فى الكنيسة التى أسسها الرب يسوع المسيح لتنقـل إلينـا بأمانة ما أوحـى الله به وتفسره حسب رأى الله بإلهـام الروح القـدس الساكن فيها لأن:

[ أَنْ مَـنْ مِـنَ اَلنَّاسِ يَعْـرِفُ أُمُـورَ اَلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ اَلإِنْسَانِ اَلَّذِي فِيهِ؟ هَكَذَا أَيْضـاً أُمُـورُ اَللهِ لاَ يَعْـرِفُهَا أَحَـدٌ إِلاَّ رُوحُ اَللهِ ] [ 1 كورونثوس 2: 11 ]...

* أسئلة:
1 ـ كيف يكشف لنا الله نفسه فى الطبيعـة؟...

2 ـ كيف يقـودنا إلى الله, إرتباط كل ما فى الكون بأسباب؟...

3 ـ هـل تعـرف مثلاً عـن النظام الذى يسود الكون: مأخوذا من الفلك؟ مأخوذًا من الجسم الإنسانى؟ مأخوذا من غـرائز الحيوانات؟...

4 ـ كيف يقودنا هذا النظام إلى الله؟...

5 ـ ها تعـرف معن المثل الشعبى :" إن عين الإنسان لا تشبع"؟ هل هنالك أمثلة فى حياتك أنت وحياة الناس عـامة تثبت حقيقة هـذا المثل؟ إلى ماذا يشير هذا التفاوت بين محدودية الإنسان وأمانيه اللامحدودة؟...

6 ـ كيف يكشف الله لنا ذاته فى الكتاب المقدس؟ فى حوادث هـذا الكتاب؟ فى أقـوال الأنبياء؟ فى الرب يسوع؟ فى الكنيسة؟...

* ملحـق (1)
حين يجـد الإنسان نفسه عـلى شـفـير الموت, قـد يشعـر, أكـثر من أى وقت آخـر, بمحـدودية كـيانه, وإن كـيانه هـذا, وبالتـالى كـيان جميـع المخـلوقات, إنما هـو مستمد من آخـر. فى تلك اللحظـات التى يحسّ فيهـا الإنسان أن الوجـود يفـلت منه, قـد يخـتير بقـوة أن هـذا الوجـود, وكـلّ وجـود, ليس قائمـًا بذاتـه, إنما هـو قائم فـقـط بإرادة آخـر. لذا فـقـد تكـون هـذه اللحظـات مناسبة للتـوجّـه إلى الله أو لتقـوية الصـلة به, وفيما يلى شهادتان عـلى ذلك:

النص الأول وُجـد فى إحـدى ساحات القـتال عـلى جـثة أحـد الجـنود, وقـد كتبه فى ليلة معـركة لقى فيها حـتفه, وكان النص موقـعـًا Pv.J.J.V.

{ إسمـع يا إلهى, إننى لم أكلمـك قـط قـبل الآن...

ولكننى اليـوم أريـد أن أقـول لك: " كيف حـالك؟"...

لقـد قـيل لى أنك غـير موجـود...

وأنا عـندئـذ, كأبْـلَه, صـدّقت ذلك...

فى الليلة الماضـية, من حـفـرة القنبلة التى كنت فيهـا, كنت أرى سماءك...

لذلك تحققت جـيدًا أنهم كـذبوا عـلىّ...

لو كلفـت نفسى أن أرى كـلّ ما صـنعـت...

لكنت فهمـت أنه لا يمكن أن يُنكـر وجـودك...

أتساءل إن كنت تقـبـل أن تصـافحـنى...

عـلى كـلٍ أشعـر أنك ستفهمنـى...

إنه لمؤسف أن أكـون قـد أتيت إلى هـذا المكـان الجهنمى...

قـبل أن يتيسّر لى الوقت الكـافى لأعـرف وجهـك...

لعـمرى, أفكّـر أنه لم يبق لى شئ كـثير أقـوله...

لكننى سعـيد لأننى صـادفتك هـذا المساء يا إلهـى...

أعـتقـد أن الساعـة ستأتى قـريبـًا...

لكنـى أخشى مـنذ شعـرت أنك قـريب بهـذا المقـدار...

ها هـى الإشارة! يجب أن أذهـب يا إلهـى!...

إننى أحـبك كـثيرًا وأريـد أن تعـرف ذلك...

أنظـر, سوف تحـدث معـركة هـائلة...

ومن يـدرى, يمكن أن آتى إليك فى هـذه الليلة!...

رغـم أن عـلاقاتى السابقـة لم تكـن حسنة...

أتساءل إن كنت ستنتظـرنى عـلى عـتبة بابك...

أنظـر إننى أبكـى! غـريب أن أزرف أنـا دموعـًا!

آه, ليتنى تعـرّفت إليك قـبل الآن بكـثير!...

آه, يجب أن أذهب الآن: الوداع...

إمـر غـريب! منـذ أن تعـرّفت إليك لم أعـد أخـاف الموت }...

* ملحـق (2)
أما النص الثانى فهـو مقطع من رسالة كتبها الكاتب الروسى الشهير " بوريس باسترناك" مؤلف كتاب " دكتور زيفاجو" والحاصل عـلى جائزة نوبل, يصف فيها لأحـد أصـدقائه أول ليلة قضاها فى المستشفى إثر أزمة قلبية كادت تودى بحياته...

{ فى تلك الليلة التى كانت تبدو لى آخـر لحظات حـياتى, كنت أريد, بأكـثر قـوة مما مضى, أن أخاطب الله وأقـول له: يا رب أشكـرك لأنك جـعـلت حـياتى ومـوتى عـلى هـذا المنـوال, لأن صـوتك جـليل بهـذا المقـدار, لأنك جـعـلت منّى فـنانـًا مبدعـًا تعـلم فى مدرستك أنت, لأنك هـيأتنى طـيلة حـياتى لإستقـبال هـذه الليلة. لقـد كنت سعـيدًا إلى حـد أننى بكيت }...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3 ـ الإيمان والحياة
* الإستعـدادات الضـرورية لإقتبال كشف الله:

كشف الله عـن نفسه لى هـو كشف شخص لشخص...

كشف شخص الله غـير المحـدود لشخصى المحـدود...

وهـذا الكشف لا يتم إلا فى لقـاء حبى بين الله وبينى...

واللقـاء يتطـلّب أن يسعـى الشخصـان أحـدهما إلى الآخـر...

الله يسعـى دومـًا إلىّ لأنـه يحبّنى...

ولكـنه لا يكـرهنى عـلى أن أسعـى إليه لأنه يحـترم حـرّيتى...

وكما أن الإنسان إذا أغـلق قـلبه دون إنسان آخـر, لا يستطيع أن يفهـمه ولا يحسّ حـقيقة بوجـوده...

هكـذا بالحـرىّ الإنسان الذى يعـظم نفسه ويكتفى بذاتـه, ولا يمكنه أن يعـرف الله...

إذًا, لا يكتفى أن يفـتش الإنسان بعـقـله عـن الله ليجـده...

إنما يطـلب منه أن يكـون قـلبه مستعـدًا للقـاء الله...

يقـول الرب يسوع:

[ طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ ] [ متى 5: 8 ]...

والنقـى القـلب هـو الذى لا غش فيه , أى الإنسان المستقيم, المخـلص, الذى يسعـى إلى الحقيقة بكل جوارحه والمستعـد إلى إقـتبال الحقيقة ولو كانت تخـالف كـبرياءه وأهـواءه...

هـذا الإنسان مستعـد قـلبه للقـاء الله...

كـثيرون يعـتقـدون بأنهم يعـرفون الله لأنهم يردّدون كلمات عـنه...

ليست هـذه سوى معـرفة سطحـية لا قـيمة لهـا...

المعـرفة الحقيقية لله لا تتم إلا فى لقـاء حـبى يكشف فيه الله ذاته لى...

معـرفة الله فى الإنجـيل تعـنى محـبّة الله...

أعـرف الله معـناه أحـبه...

لأن معـرفة الله لا تتم خارج محـبة الله:

[ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي ] [ يوحنا 14: 21 ]...

لذلك يقـول آبـاء الكنيسة أن اللاهـوتى هـو الذى يصـلّى...

إذًا أعـلى شهـادة فى اللاهـوت لا تكـفى وحـدها لمعـرفة الله...

المسيحى البسيط الذى يصـلّى حقيقة أى يناجى الله ويرفـع إليه روحـه يعـرف الله أكـثر من لاهـوتى كـبير لا يصـلّى بل يكتـفى برصف كـلام بديـع عـن الله...

لذا كتب القـديس " غـريغـوريوس النزينزى" :

{ الحـديث عـن الله العظـيم, ولكـن الأفضـل أن نطهّـر ذواتنا لله }...

* الإيمان لا يكتمل إلا بالحياة:

كما أن معـرفة الله لا تتم إلا بالإتصـال الحـياتى به...

هكـذا الإيمان لا يكتمـل إلا بالحـياة...

لا يُعـتبر مؤمـنًا ذاك الذى يعـترف بوجـود الله ولكـنه يتصـرّف كأن الله غـير موجـود...

المؤمن ليس ذلك الذى ينـادى بفكـر الله...

إنما هـو الذى يقـبل الله إلهـًا له, أى محـورًا لكـيانه كلّه وموجهـًا ومسيّرًا لحـياته...

بهـذا المعـنى يقـول الله عـن الذين سوف يقـبلونه:

[ سَأَكُـونَ لَهُم إِلَهـًا ] [ حزقيال 11: 20 ]...

إنـه موضـوعـيًا إلههم مـنذ الأزل, شاؤوا أم أبوا, إنما يصبح حـياتيـًا إلهم عـندما يسلّمون إليه حـياتهم كلها...

إبراهيم اعـتبر أبا المؤمنين ليس لأنه اعـتقد بالإله الواحـد وسط شعـب وثنى وحسب, بلّ لأنه أسلم حـياته لله...

فقـبل أن يتخـلّى عـن أهـله وعـشيرته وبيـئته ومصـالحه وعـوائده, وأن يخـرج متجهـًا إلى مكان مجهـول أعـدّه الله له...

جوهـر الإيمان, إذًا, أن يصبح الله إلهى,

أى المـرجـع المطـلق لكـل أمـورى وأن أطـيعـه ليس فقـط فى تصـرفاتى الخـارجـية بلّ وفى أفكـارى ورغـباتى...

هـذا ما تعـنيه كلمـة " أرثـوذكسية"...

إنها تعـنى فى آن واحـد " الاعـتقـاد المستقيم" و " التمجـيد المستقـيم"...

وبهـذا تعـلمنا أن الاعـتقـاد المستقيم لا يكتمـل إلا بتمجـيد مستقيم...

تمجـيد الله بحـياتنا كلها...

[ فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اَللهِ ] [ 1 كورونثوس 10: 31 ]...

[ فَمَجِّدُوا اَللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ اَلَّتِي هِيَ لِلَّهِ ] [1 كورونثوس 6: 20 ]...

بهـذا المعـنى أيضـًا يقـول " فيلاريتوس" مطـران موسكو:

{ لن يكـون دستور الإيمـان لكم إلا إذا عشتمـوه }...

** أسئلة:
1 ـ ما هى الاستعـدادات الضـرورية لإقـتبال كشف الله لـنا؟ ( أنظـر مثلاً متى 5: 8 )...

2 ـ هتل يكتمل الإيمان بدون الحـياة؟ هـل يعـتبر مؤمنـًا ذاك الذى يعـتقتد بالله ولكنه يعيش كأن الله غـير موجـود؟ هـل اعـتبر إبراهـيم أبـًا للمؤمنين لأنه اعـتقـد بالله وحسب؟...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

4 ـ الإيمان والعـلم
* هـل من تناقض بين الإيمان والعـلم؟:

هـذا ما يدّعـيه الكـثيرون من دعـاة الإلحـاد...

ولكـن هـذا الاعـتقاد خاطـئ من الأساس...

أ ـ لأن العلم والإيمان يعـملان عـلى صعـيدين مختلفين:

فالعـلم يهتم بربـط حـوادث الكـون بعضهـا ببعـض ولكـنه لا يبحث فى ما هـو أبعـد من ذلك, أى أصـل الكـون والإنسان ومصـيرهما ومعـنى وجـودهما لأن ذلك خارج عـن نطـاقه...

فالعـلم مثلاً يصـف لنـا تطـوّر الحـياة من أبسط الكائنات حتى الإنسان ولكـنه لا يبحث فى أصـل المادة التى تطـوّرت وفى مـوجّه هـذا التطـوّر وفى غـايته...

أمّا الإيمان فيعـلمنا أن الله أوجـد المـادة ووجّـه تطـوّرها وإن غـاية التطـوّر إيجـاد كائن عـلى صـورة الله, هـو الإنسان, معـدّ للإشتراك فى حـياة الله نفسها...

فالعـلم الذى ينـادى بالتطـوّر لايخـالف بذلك الإيمان الذى يـرى فى التطـوّر خطـة من خطـط الله لا يخـالف العـلم...

ب ـ لأن معظم بناة العـلم الحـديث كانوا مؤمنين:

ولنـذكر عـلى سبيل المـثال " نيـوتن" الذى كان يرفـع قبعـته إجـلالاً كلما ذُكـر اسم الله...

و" كـيبلر" و " فـاراداى" و " باستير" و " أمـبير" الذى كان يـردّد أمام صـديقـه " أوزانام" :

{ مـا أعـظم الله }...

ولنذكـر بين المعـاصـرين " أدينجتون" و " ماكس بلانك" و " لويس لبرنس رنجيه" من أعظم عـلما الذرة...

ولنذكر أيضـصا كاهنين يُعـتبران من أقطـاب العـلم الحـديث: " الأب جورج لومـيتر" صاحب نظترية مشهـورة فى نشوء الكـون هتى نظترية التمدد الكونى...

والأب " بيار تيار دى شردان" من أعـظم العـلماء والمفكـرين المعـاصرين وهـو متخصص فى عـلم التطـوّر نادى فى مؤلفـاته بأن التطـوّر لا يُفهم إلا إذا اعـتبرنا الله ألفـه وياؤه...

كل هـؤلاء كان عـلمهم مدعـاة لتغـذية إيمانهم بالله لأنهم تطـلّعـوا بالعـلم على عـجائب الكـون فرأوا فيها يـد الله:

[ مَا أَعْـظَـمَ أَعْـمَـالَكَ يَا رَبُّ! كُلّـَهَا بِحـِكْمَةٍ صَـنَعْـتَ. مَـلآنَةٌ الأَرْضُ مِـنْ غِـنَاكَ ‏] [ مزمور 104: 24 ]...

ج ـ لأن الاختراعـات الحديثة لا تـنفى سلطة الله:

لأن الإخـتراعـات البشرية الحـديثة وسيطـرة البشر المـتزايدة عـلى الطبيعـة لا تـنفـى كما يدّعـى البعـض سلطـة الله...

إنما هـى بالأحـرى إشارة إلى هـذه السلطـة...

ذلك لأن ما يخـوّل الإنسان ـ وهـو جـزء من الطبيعـة ـ أن يُدرك مكـنونات الطبيعـة ويسيطـر عـلى طاقـاتها بهـذا المقـدار العجيب, هـو كـون الله قـد خـلقـه عـلى صـورته وجـعـله مشاركـًا له إلى حـد ما فى سلطـته عـلى الكـون:

[ وَبَارَكَهُمُ اَللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاَكْثُرُوا وَاِمْلأُوا اَلأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ‏اَلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ اَلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى اَلأَرْضِ ‏] [ تكـوين 1: 28 ]...

فسلطـة الإنسان عـلى الكـون مستمـدّة من سلطـة الله...

لذا, يجب أن تقـوده ليس إلى الإنقتاح والتبجـح بلّ إلى التسبيح والشكـر لمن وهـبه إيّاها حـبًا...

هـذا ما تفـعـله الكنيسة فى كـلّ قتداس إلهى عـندما ترفـع إلى الله كذبيحـة شكـر الخـبز والخمـر اللذين يمثلان ليس فقـط الطبيعـة ولكن الصـناعـة البشرية كلّهـا التى بواسطـتها تمكـّن الإنسان من إخـراج النبات من الأرض وتحـويل القـمح والعـنب إلى خـبز وخمـر...

فيقـبل الآب كل ذلك محـولاً إيـّاه إلى جسد ودم ابنه...

*** أسئلة:
هـل من تناقض بين الإيمان والعـلم؟ هـل صحيح أن صعـود الإنسان إلى القمـر أو إرساله صـواريخ إلى الفضاء يناقضان سلطة الله؟ أليست سلطة الإنسان عـلى الكـون مستمدة بالأحـرى من سلطة الله؟ ( أنظـر تكوين 1 : 28 )...

** ملحـق (1)
شهادة إثنين من بناة العـلم الحـديث:

{ شاهـدت الله فى أعـماله وفى نواميس الطبيعـة التى تثبت أن هـناك حكمـة وقـوة مستقـلين عـن المـادة } [ نيوتن, فلكى ورياضى إنجليزى يُعـتبر من أعـظم العـلماء الذين برزوا فى تاريخ العـلم ]...

{ أيهـا الخـالق. أباركك لأنك سمحت لى أن أعجب بأعـمالك. لقـد أتممت رسالة حـياتى بالعـقـل الذى أنت وهبتنيه. أذعـت للعـالم مجـد أعـمالك. فإذا كنت بأعـمالى التى كان يجب أن تتجه نحوك طلبت مجـد الناس فاعـف عـنّى لصـلاحك وحـنوك. أيتها الانسجامات السماوية باركى الرب. يا نفسى باركى الرب } [ كيلبر ـ فلكى ورياضى ألمانى ـ لقب بمشترع السماء ]...

*** ملحـق (2)
شهـادة رئيس الأساقفة لوقـا الروسى الأرثوذكسى وهو الأستاذ والجـراح الشهـير الدكتور " فوينويا سنتسكى" حامل جـائزة ستالين فى الجـراحة والمذكور فى الموسوعـة الطـبية السوفياتية الكـبرى ...

وفيما يلى مقطـع من خطـاب ألقـاه سنة 1957 فى ذكـرى مـيلاده الثمـانين:

{ ... إنما أريد أن أحـدثكم عـن جـلائل أعـمـال الله التى ظهـرت فى حـياتى. وقـد عـلمت أن كـثيرين يتساءلون كيف... بعـد أن أدركت شهـرة العـلماء, استطعـت الانصـراف إلى التبشير بإنجـيل المسيح. إن من يفكّـر عـلى هـذا النحـو يرتكب خطـأ كـبيرًا, فهـو يفـترض أنه لا يمكن التوفـيق بين العـلم والدين. ومن كـان عـلى هـذا الرأى, فهـو فى ضـلال مبين. فإن شواهـد تاريخ العـلوم تدلنا عـلى أن عـباقـرة العـلماء أمثـال جـاليلي, ونيوتن, وكوبرنيك الذى أحـدث انقـلابًا فى المفاهيم الفلكـية باعـتباره الشمس لا الأرض مركـزًا للنظـام الشمسى, كان راهـبًا ألمـانيًا, ومانديل الذى اكتشف قوانين الوراثة وأسس عـلم الوراثة الحـديث كان راهـبًا تشيكوسلوفاكـيًا... كانـوا متدينين تدينـًا عـميقـًا. كما أنى أعـرف أن بين أساتذة الجامعـات من معـاصرينا كـثيرون ممن يؤمنـون, فالبعـض منهـم يسألوننى البركـة }...
=================================

الفصل الثالث
----------------------

الخـلق و السقوط
+++++++++++++

" ..خـالق السماء والأرض كل ما يُرى وما لا يُرى..."

1ـ الخـلق والتطـوّر
يقـول الكتاب المقدس:
[ فِي اَلْبَدْءِ خَلَقَ اَللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ] [ تكـوين 1 : 1 ]...

تلك عـقـيدة الخـلق

التى بمـوجبهـا نقـرّ أن كل المـوجـودات قـائمة فى الوجـود

بإرادة الله وبإرادتـه فقـط, ومُسْتَمِدّة منه وجـودها...

هـذا ما نعـبّر عـنه فى قـانـون الإيمان بقـولنا:

" أؤمـن بإلـه واحـد, الله الآب, ضـابط الكـلّ, خـالق السماء والأرض, كل ما يُرى وما لا يُرى"...

* رواية الخـلق فى سفـر التكـوين ونظـرية التطـوّر:

عـندما يصف لنـا سفـر التكـوين عـملية الخـلق, فى فصـله الأول, فإنه يصـوّر لنـا الكائنات وكـأن كـلاّ منهـا أو كـلّ نـوع منها قـد أوجـده الله بشكله الحـاضـرة مباشرة...

ولكن نظـرة كهـذه تتعـارض مع نظترية التطـوّر التى يتـفـق عـليها معـظم العـلماء المعـاصرين والتى أصبحـت شبه مؤكـدة بالإستناد إلى العـديد من البراهـين...

وهـنا ينشأ تساؤل عـند الكـثيرين:

كيف يمكـن التوفـيق بين الوحـى الإلهـى ومعـطـيات العـلم؟...

للجـواب عـن هـذا السؤال الوجـيه, ينبغـى أن نتذكّـر, بادئ ذى بـدء:

أن الكتاب المقـدس كـتاب إيمان لا كـتاب عـلم, هـمّه أن يكشف لـنا عـلاقة الله بمخـلوقاته, وبنـوع خـاص بالإنسان, لا أن يقـدّم لـنا وصـفـًا عـلميـًا لتـاريخ الكـون...

لـذا فعـندما يصف سفر التكوين الخلق فى فصـله الأول, فإن الوحى الألهى ينسكب فيه فى قوالب بشرية, هى التقاليد التى كانت شائعـة فى المكان والزمان الذى ظهـر فيه هـذا الفصـل...

ولا قـيمة, إذًا, لتلك القـوالب بحـد ذاتها...

إنما قـيمتها فى المعـانى الروحـية التى تتجـلّى من خـلالها...

تلك المعـانى التى تلخـّص بأن الكـائنات كـلها تستمـد من الله الواحـد وجـودها وترتيبها...

هـذا ما فهمـه آباء الكنيسة اليونانيون خمسة عشرة قـرنـًا قـبل ظهـور النقـد الكـتابى الحـديث...

ففسروا رواية الخـلق فى سفـر التكـوين تفسيرًا رمـزيًا أكـثر منه حـرفـيًا...

نستنتج مما سبق أن إيماننا بالخـلق ليس رهـنًا بالقـالب الحضـارى الذى سكب فيه الإعـلان الإلهـى عـن الخـلق فى سفـر التكـوين...

وأنـه يمكـننا أن نعـبّر عـنه بالقـوالب الفكـرية التى يتمـيّز بها عـصرنا ومن جملتهـا نظـرية التطـوّر...

هـذا ما سنحـاول أن نبيّـنه, مذكّـرين أولاً باختصـار بمراحـل التطـوّر كما يصفهـا العـلم الحـديث , ثم متعـرضين لما يقـتضـيه واقـع التطـوّر من تعـليل أخـير عـلى ضـوء العـقـل والإيمان...

* مراحـل التطـوّر:
لقـد أثبت العـلم الحـديث أن التطـوّر لم يشمـل الكـائنات الحـية فحسب...

إنما هـو مـلازم لتـاريخ الكـون برمـته...

فالكـون الذى ننتمـى إليـه كـون متطـوّر...

وقـد بـدأ تطـوّره عـلى مستوى الطبيعـة الجـامدة حتـى أدى على ظهـور الحـياة التى تطـوّرت بدورها حتـى أبرزت ذلك الحـيوان المفكـّر, الإنسان...

أ ـ تطـوّر المـادة:
إن النظـرية المـرجحـة اليـوم بين العـلماء تقـول بأن الكـون, فى حـالته الحـاضرة, قـد بـدأ مـنذ مـدة تـتراوح بين العشرة مليارات والخمسة عشر مليارًا من السنين...

وأنـه كان فى البـداية مؤلـفـًا من سحب من ذرات الهـيدروجين ( وهى أبسط الذرات وأخفـها ) تسبح فى الفضـاء...

إنطـلاقـًا من تلك السحب تكونت الكـواكب...

ونشأت فيها بفـعـل الحـرارة الهـائلة تفاعـلات نووية حـوّلت ذرات الهيدروجين إلى ذرّات أثقـل من الهيليوم, وهـذه بدورها إلى ذرّات أثقـل من الكـربون, وهلم جرا...

هكتذا تكـثـفت المادة تـدريجـيًا بظهـور ذرّات تجمـع عـددًا أكـبر فأكـبر من الجسيمات فى نظـام شبيه بالنظـام الشمسى تدور فيه الإلكـترونات حـول النـواة المؤلفـة من البروتونات والنيوترونات, إلى أن تكـوّن, فى قلب الكـواكب, الإثنا وتسعـون نوعـًا من الذرات الموجـودة فى الطبيعـة...

ولمّا تكونت أرضـنا, منذ حـوالى أربعـة مليارات ونصف من السنين وانخفضت تدريجـيًا درجـة الحـرارة فيها...

أمكـن للذرّات أن تتفـاعـل لتتكـوّن منها مجمـوعـات أكـثر كـثافة, ألا وهى الجـزيئات...

ولكـن عـملية تكـثيف المادة لم تقف عـند هـذا الحـد...

فمنـذ ثلاثة مليارات من السنين عـلى وجـه التقـريب, بدأت الجـزيئات تتحـوّل, بفـعـل الأشعـة الكـونية, إلى بـُنى تفـوق الجـزيئات العـادية كـثافة, ألا وهـى الجـزيئات العـضوية التى تؤلف بين الجـزيئات العـادية فتجمعـها فى وحـدات ضخمـة, معـقـدة الترتيب, كالسكريات والحـوامض الأمينية والهيوليات PROTIDES, وغـيرها...

**********

ب ـ قـفـزة الحـياة:
تجمعـت تلك الجـزيئات العـضوية فى مياه البحـار الساخنة. وكان تجمعها هـذا تمهـيدًا لحـث بالغ الأهمية, لا يزال الغـموض يكتنف ظـروفه إلى الآن, حـدث منذ مليارى عـام عـلى وجه التقـريب, فغـيّر وجه الكـون, ألا وهـو بروز الخـلية الأولى...

إن حـركة التكثيف المنظم, التى رأيناها تدفع المادة منذ نشأتها, بلغـت هنا درجة فائقـة..

فالخلية الحـيّة تؤلف بين جزيئات عـديدة ضخمة من الهيوليات والشحميات والسكريات والفيتامينات وغـيرها, فى وحتدة متماسكة مركـزة أروع تركـيز, يتناسق فيها حـوالى مليار من الجـزيئات...

ولكـن الأمـر المدهش هـو خاصة فى كـون هـذا التعـقيد الفائق قـد أدّى إلى ظهـور نمـط جـديد من الوجـود, يختلف نوعـيًا بشكل جـذرى عـن الجـوامد, ألا وهو الحـياة...

فالخـلية الحـية تتمتع بمـيزات جـديدة بالكـلية:

فهى تحـوّل إلى موادها الذاتية المـواد التى تستمدها من الخـارج, وتجـدد باستمرار العـناصر التى تتألف منها مع المحـافظة عـلى بنيتها, وتنمـو من الداخـل, وتصلّح ذاتها إذا عـطبت, وتتكيّف مع البيئة, وتتكاثر منتجـة كائنات جـديدة شبيهة بها...

تلك هـى قـفزة الحـياة...

**********

ج ـ تطـوّر الحـياة:

من ذلك العـالم, الصـغير فى حجمه, الهـائل فى تعـقيده وتركـيزه, انطلقت الحـياة لترقـى سلّمـًا طويلة كان الإنسان قمتها...
وفى ترقـّيها هـذا, ابعت الحـياة السير فى الطـريق التى رأينا المـادة تسلكها, ألا وهى طـريق التعـقيد المـتزايد...
فبعـد الكائنات الحـية الأولى ذات الخـلية الواحـدة, ظهـرت كائنات تؤلّف بين خـلايا متعـدّدة فى وحـدة منسجمة تعـمل فيها العـناصر كلها لخـدمة المجموع...

وقـد ازداد التعـقيد بشكل ملحـوظ عـندما أخـذت مجموعـات من الخـلايا, ضمن الكائن الواحـد, تتخصص للقـيام بوظيفـة معـينة, فتكـونت الأجهـزة, وعـمل بإنسجام وترابط لصـالح الجسم ككل...

وكان لا بـد من جهاز يربط تلك الوظائف من جهة, وبينها وبين العـالم الخارجى من جهة أخـرى, فبرز الجهاز العصبى وتطـوّر تدريجـيًا نحـو تكثيف وتركـيز متزايدين, مما أدى إلى نمو الدماغ كمركز أساسى للجهاز العـصبى, وإلى سيطـرته التدريجـية عـلى المراكز العـصبية الأخـرى...

وبتطـوّر الجهاز العـصبى عـلى هـذا المنوال نمت قـدرة الكائنات الحـية عـلى التكيّـف مع بيئتها, وازدادت الغـرائز إتقـانًا وبرز الذكاء وتزايدت حـدته إلى أن بلغـت أوجها فى أعـلى مراتب القـردة, كالشمبانزى مثلاً, التى بلغ دماغها درجة ملحوظة من النمو...

ذلك الترقـّى فى سلّم الكائنات الحـية كان يتم, كما بيّن داروين وأوضح العـلم الحـديث, بواسطة تبديلات كانت تحصـل من وقت إلى آخـر فى المـيزات الوراثية التى تحملها الخـلايا التناسلية, وهـذا ما يسمّى بـ " التِغـيارات الإحـيائية" MUTATIONS , فتظهـر عـند الحـيوان المنحدر من خـلية من هـذا النوع صفـات جـديدة...

وقـد تخـدم هـذه الصفات فى الصـراع من أجـل البقـاء , فيعـمّّر وينقـل صفـاته الجـديدة بالوراثة إلى نسله, فيثبت هـذا فى الوجـود ويتكاثر...

أو قـد تعـيقه فى هـذا الصـراع, فـيزول هـو أو نسله, وتزول معـه صفـاته " الإصطـفاء الطبيعى" Natural Selection ...

وهـكذا بتراكم " التِغـيارات الإحـيائية" نشأت شيئًا فشيئًا أنواع جـديدة انتظـمت فى هـذا الخط التصـاعـدى الذى سبق وأوجزناه...

**********

د ـ قـفـزة الفـكر:

إن عـملية نمو الدماغ , التى أصبحت المحـور الأساسى لحـركة التعـقيد المـتزايد التى يتمـيّز بها التطـوّر, بلغـت ذروتها فى الإنسان الذى يتألف دماغـه من حـوالى أربعـة عشر مليارًا من الخـلايا ( أربعـة أضعـاف خـلايا الشمبانزى تقـريبًا ), مترابطـة بعضهـا ببعـض وبخـلايا المـراكز العـصبية الدنيا, عـلى صـورة شبكة إلكترونية هـائلة التعـقيد...

هكـذا تأمنت الشروط اللازمة لقـفـزة لا تقـل أهمية عـن تلك التى حقـقتها الحـياة, ألا وهى قـفـزة الفـكر...

تلك القـفـزة التى تمت عـلى مراحل منذ أكـثر من حـوالى مليون سنة, أوجـدت نمطـًا جـديدًا بالكـلية من الوجـود, وهـو الوجـود الإنسانى, وجـود كائن يتمـيّز عـن سائر الكائنات الحـية بكـونه, وحـده, يعـى ذاته, ويعـى الكـون كمتمـيّز عـن ذاته, ولـذا لم يعـد كالحـيوان, أسير أحاسيسه ودوافعـه الغـريزية, إنما أصبح كائنـًا ذا فكـر وحـرية, يُـدْرك التطـوّر ومكـانه فيه ويأخـذ عـلى عـاتقـه مسئولية متابعـته بوعـيه وعـمـله الخـلاق...

**********

* التطـوّر فى تعـليله الأخـير ومعـناه:

إن العـلم يثبت واقـع التطـوّر, كما أنه يوضّح العـوامل التى تفسّر مراحـله المختلفة...

لقـد توصّـل على اكتشاف العـديد من تلك العـوامل ـ وقـد نوهنا ببعضها ـ وسيتوصّـل بلا شك, بفضل جهـود العـلماء المتضافـرة, إلى إلقـاء المـزيد من الأضواء عـلى النقاط التى لا يزال يكتنفها الغـموض, فتتوضّح اكـثر فأكـثر...

ولكـن, إلى جانب التساؤلات التى يترتب عـلى العـلم أن يحيب عـنها, فهناك تساؤلات من نوع آخـر, لا تدخـل فى نطاق العـلم لأنها تُطـرح من منظـار يختلف عـن منظـاره...

فعـندما يقـول العـلم بالتطـوّر, يصف خطـًا تصـاعـديًا, ويظهـر كيف سلكت مادة الكـون هـذا الخط...

ولكنه لا يُبـدى, وليس من شأنه كعـلم أن يُبـدى, لماذا كان هـناك خط تصـاعـدى؟...

هكـذا يبقـى الباب مفتوحـًا أمام تساؤلين صـميمين, ألا وهما:

ماهـو التعليل الأخـير للتطـوّر؟...

هـل للتطـوّر مُـبَرّر ومعنى؟...

أ ـ التطـوّر لا يعـلّل بمجـرّد الصـدفة:

جـواب البعـض عـن السؤال الأول هـو:

أن هـذا التسلسل التصاعـدى مرجعـه الصـدفة وحـدها...

فبالصـدفة تجمعـت ذرات المادة بتعـقيد مـتزايد, وبالصـدفة تألّفـت الخـلية الحـيّة, وبالصـدفة تركب الدماغ الإنسانى...

كل ذلك سلسلة صـدف, تعـاقب أرقام رابحـة فى يانصيب كـونى يسـيّر دواليبه حظ أعـمى...

ولكن تلك النظـرة الفلسفية, التى يعـود أصـلها على فلاسفة إغـريقيين قدامى كـ " ديموقريطوس", لا تثبت أمام ما يكشفه العـلم الحـديث لنا عـن مدى التعـقيد والتنسيق الذى تتصـف به خـلية حـيّة واحـدة, لا بلّ جـزئية واحـدة من الجـزيئات العـضوية...

لذا نبذها معظم عـلماء اليوم, حتى من يديـن منهم بالمذهب المادى...

فمثلاً نرى العـالم البيولوجى السوفييتى الكـبير " أوبـاريـن" يدحض محـاولة تفسير ظهـور خـلية حية واحدة بفعـل الصـدفة بقـوله:

{ إن هـذا الإفـتراض شبيه بموقف إمـرئ يخـلط أحـرف طـباعـة تمثّـل ثمانية وعشرين حـرفـًا أبجـديًا ويحـرّكها, راجـيًا أنها بداعـى الصـدفة سوف تجتمع لتؤلف هـذه أو تلك من القصائد التى نعـرفها }...

فإذا كان ظهـور خـلية واحـدة بداعـى الصـدفة أمـرًا مستحـيلاً, كما يؤكـد عـلم يدين بالمادية, فكيف نفسّر بالأحـرى, بمجـرّد فعـل الصـدفة, تدرّج الحـياة المتواصـل نحو أشكال أرقى فأرقى...

إذا اعـتبرنا أن هـذا التدرج إنما هـو تتابع صـدف موفقة, فمن أين للصـدفة هـذا الاستمرار والترتيب فى فعـلها؟...

فكأننا نقـول أن تبديلات طرأت صـدفة عـلى نص مبادئ الهندسة التى وضعـها أقليدوس, أثناء نسخه من قبل ناسخين متتابعين ينقـل أحدهما عـن الآخـر, تعـاقبت بشكل متناسق من نسخة إلى نسخة حتى أوجـدت بالتوالى كل اخـتراعات البشرية فى عـلم الهندسة وأدّت فى النهاية إلى بروز نظـرية أينشتاين...

هـذا مع العـلم بأن خـلية واحـدة من الخـلايا إنما هى أكـثر تعـقـيدًا من نظـرية أينشتاين, لأن العـلم البشرى, بكـلّ جـبروته الحـالى, لم يتوصّـل حتى الآن, إلى إدراك سرّ تركيب واحـدة منها...


**********

ب ـ التطـوّر لا يُعـلّل بفـعـل " الطبيعـة":


إذا كانت نظـرية الصـدفة لا تثبت أمام معـطـيات العـلم الحـديث, رغـم محاولات " جاك مونو" لإحـيائها فى كتابه " الصـدفة واالضـرورة", فبماذا يمكن الإستعـاضة عـنها؟...

كـثيرون ممن يدينـون اليوم بالمذهب المادى, يقـولون بأن التطـوّر تفسره طـبيعة المادة نفسها...

فبنظـرهم كان لابـدّ للمادة, بالنسبة لطبيعـتها, أن تنتـظم وتتعـقـد أكـثر فأكـثر مجتازة بذلك كل مراحل التطـوّر...

ولكن السؤال الذى لا تجيب هـذه النظـرية عـنه هـو:

ما هو سر انتظـام المادة؟...

وما هـو سر سيرها نحو إنتظام مـتزايد فى خـط متواصل, مستمر؟...

من أين للمادة هـذا الانتـظام؟...

المادة مجموعـة من جسيمات ومن طـاقات, إنها كـثرة وتعـدّد...

فكيف يتاح لهـذه الكـثرة أن تتوحّـد وتنتـظم, وذلك بشكل مـتزايد, تصـاعـدى؟...

هـل نقـول أنها تنظـم ذاتهـا؟...

ولكن هـذا يفـترض أن المادة ذات, شخـص, يعـلو عـلى تعـدّد عـناصره ليوحّـد وينسّق بينها...

هـذا ما يضـمره, من حيث لا يـدرون, هـؤلاء الذين يقولون أن " المادة" أو " الطبيعـة" هى عـلة التطـوّر الأخـيرة...

إنهم بذلك يشخـصون " المادة" أو " الطبيعـة", ينسبون إليهما كـيانـًا خـرافيـًا, ذات طابع شخصى...

فلنـأخـذ مثـلاً يوضّح ما نحن بصـدده...

نحن نعـلم أن جسم كل من الكـائنات الحـيّة يتكـوّن إنطـلاقـًا من خـلية أولى...

لقـد انكبّ عـلم الحـياة الحـديث عـلى درس ذلك التحـوّل الذى يجعـل من البلوطـة سنديانة ومن خـلية إنسانية واحـدة جسدًا إنسانيًا مؤلفـًا من حـوالى ستين ألف مليار من الخـلايا, منوعـة وموزّعـة عـلى اجهـزة وأعـضاء متناسقة بشكل مذهـل...

وقد أوضـح العـلماء التفاعـلات الكيمائية العـديدة المعـقـدة التى تؤدى تدريجـيًا إلى هـذا التحـوّل, ولكنهم يقـولون أن تلك التفاعـلات موجّهة, مبرمجة, بفـعـل " تصميم موجّـه" كامن فى نواة الخـلية الأولى, وعـلى وجـه التخصيص فى جزيئات الـ D.N.A. بفضـل تلك البرمجـة تتنـاسق التفاعـلات الكيمائية لتـؤول على تكـوين كـائن حىّ يحمـل الصفـات التى يتمـيّز بها نوعـه...

فبالقـياس إلى ذلك نتساءل:

إذا كانت المادة قد سلكت, فى تاريخها الطـويل, تلك المسيرة التصاعـدية التى قادتهـا من سحب الهيدروجين الأولى إلى الدماغ الإنسانى, فقـد تم ذلك بلا شك بتـأثـير عـوامل فيزيائـية وتفاعـلات كيمائـية عـديدة, أوضحها العـلم وسيوضحها أكـثر فأكـثر...

ولكن يبقـى هـذا السؤال:

ما هـو سر انتظـام تلك العـوامل والتفاعـلات فى خـط تصـاعـدى؟...

ما هـو سر " برمجـة" المادة فى مسيرتها المتواصـلة نحـو كائـنات أكـثر فأكـثر تعـقـيدًا؟...

البرمجـة التى بموجـبها يتكـوّن الكـائن الحىّ والمرتسمة فى نـواة خـليته الأولى قـد أتـته بالوراثة من كـائن حىّ من نوعـه ( أو كـائنين ) وجـد قـبله...

فمـن أيـن لمـادة الكـون برمجـتها المذهـلة؟...

إذا كانت المادة هـى الكـائن الوحـيد, المكـتفى بذاتـه...

فمـن أيـن استمـدّت تصميمها المـوجّـه؟...

هـل نقـول أنها برمجـت ذاتهـا؟...

إننا عـند ذاك, كما قـلنا سابقـًا, ننسب لتلك الكـثرة من الجسيمات والطـاقات, كـيانـًا شخـصيـًا...

إننا ننسب إليها فكـرًا يفـوق الفـكر الإنسانى بما لا يقاس, لأنه لم " يخـترع" الحـياة وحسب, تلك الحـياة التى لم تستطع العـبقـرية البشرية و تقـليدها إلى الآن, بل أوجـد الفكـر الإنسانى أيضـًا...

إننا خـلافـًا لكـلّ منطـق...

ننسب لها القـدرة عـلى التحـوّل, بحـد ذاتها, من الأقـل إلى الأكـثر, ناقـلة ذاتها بذاتها من نظـام إلى نظـام أرقـى وحسب, بل من صعـيد وجـود إلى صعـيد وجـود آخـر مخـتلف عـنه بالكـلية, أى من مادة جامـدة إلى مادة حـيّة ثم إلى مادة مفكّـرة...

وبعـبارة أخـرى نجعـل من المـادة شخـصـًا إلهـيًا يخـلق ذاتـه باستمرار...

ولكن مادة مؤلهـة كهـذه لم تعـد المادة التى يعـرفها عـلماء الفـزياء والكـيمياء ويسخـّرونها لخـدمة الإنسان...

تلك المجمـوعـة الغـاشمة من الجسيمات والطـاقـات التى يسميها العـلم " مـادة"...

إنهـا صنم جـديد أقـيم عـوض الله...

*********

ج ـ نظـرة إيمانية إلى التطـوّر


هـذا النقـد الموجز للمذاهب المادية فى تعليل التطور يمهد لنظـرتنا الإيمانية إليه...

فالمؤمن لا يتعـبّد لصـدفة أو مادة تنسب إليهما صفات الخـالق...

ولكنه ينسب الفـكر الخـلاق الذى يتجـلّى عـمـله فى تطـوّر المادة إلى كائن متعـالٍ عـن المادة...

كائن يمكنه وحتده أن يوجّـه تلك الكـثرة من الجسيمات والقوى العـمياء فى الخـط التصـاعـدى الذى سارت بموجـبه...

كائن يملك الحـياة, كـلّ الحـياة...

ولذا, استطاع أن يبث الحـياة فى الكـون...

ويملك الفـكر, كل الفـكر...

ولذا, استطاع أن يشعـله فى الأرض بظهـور الإنسان...

إن ذلك الموقف الإيمانى, وإن كان, تحـديدًا, يفـوق معـطـيات العـقـل والعـلم, إلا أنه منسجم كـليًا, كما يتضـح مما سبق, مع متطـلبات المنطـق ومع المفهـوم العـلمى للمادة...

ولكن فعل الله هذا فى المادة يجب أن يُـفهم عـلى حقـيقـته...

ليس هـو, كما يتصـوّر العـديد من المؤمنين وغـير المؤمنين, فعـلاً يُضـاف إلى نواميس الطبيعـة ليكمـل نقـصها...

هـذا التصـوّر يتنكّـر بآن واحـد لتعـالى الله ولحضـوره فى صميم الكـون...

لذا, فمن الخطـا أن نتصـوّر تصميمـًا مضافـًا من الخـارج إلى العـناصر الطـبيعـية لتوجيهها وتقـويم مسيرتها, كما يوجّـه السائق سيارته...

فالله يعـمـل, لا إلى جانب نواميس الكـون, بل من خـلالها, لأنها منه ومنه وحـده تستمد, فى كل لحظـة, وجـودها وانتظـامها...

بهـذا المعـنى, الخـلق عـملية مستمرة, كما أشار الرب بقـوله:

[ أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ ] [ يوحنا 5: 17 ]...

والتطـوّر هـو المظهـر الحسّى لاستمـرار الخـلق...

الله, فى الطبيعـة, معلن ومحتجب بآن...

للعـلم أن يفتش إلى ما لانهاية عـن تفسير التطـوّر...

إنه لن يكتشف الله كما أنه لن يصطـدم به, لأنه, بموجب منظـاره الخـاص, لن يكتشف سوى النواميس الطـبيعـية التى يعـمـل الله من خـلالها...

ولكن, كلما اتضح لنا, بفـضل الاكتشافات العـلمية, الانتظام الرائع الذى يتجـلّى فى مسيرة التطـوّر المذهـلة, كلما انكشف لنا, من خـلاله, حضـور وفعـل ذاك الذى يغـمـر مجـده وبهاؤه الكائنات...


تلك النظـرة الإيمانية هى أيضـًا التى تستطيع أن تكشف لنا إن للتطـوّر مـبررًا ومعـنى...

فلو كان التطـوّر ولـيد الصـدفة وحـدها, لكان ظهـور الكائنات كلها, ومنها الإنسان, ظهـورًا عـبثيـًا ABSURDE , عـلى سبيل الاتفـاق الأعـمـى, لا تـبرير له ولا هـدف...

وكـذلك لو كان ا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010