التوازن في الفضائل

قال بعض الحكماء في تعريف الفضيلة:

'إن الفضيلة هي وضع متوسط بين الإفراط والتفريط' أي التوسط بين الافراط في الزيادة، والتفريط الذي هو النقص أي ان يسلك فيها الإنسان بميزان الاعتدال. لا يبالغ حتي يصل إلي التطرف، ولا يتهاون فيصل إلي الاهمال..

فالمبالغة مرفوضة سواء كانت سلبا أو ايجابا..
*****
فما هو ميزان الفضيلة في التدين مثلا؟

التدين هو الوضع المتوسط بين المغالاة ايجابا إلي حد التطرف، والمبالغة سلبا إلي مستوي الاستهتار.

كذلك هي الوضع المتوسط بين التشدد في التطبيق إلي درجة التزمت، والمغالاة في التساهل إلي درجة الاستباحة.
*****
كذلك في التعامل مع الناس، ما أجمل المثل المصري القديم:

'لا تكن لينا فتعصر، ولا يابسا فتكسر' إنها نفس سياسة الاعتدال فلا يصح أن يكون الإنسان متساهلا في حقوق نفسه، حتي يدوس الغير عليه في امتهان ولا مبالاة. ولا يكون عنيفا في تعامله مع الاخرين، بحيث يصبح موضع بطشهم وانتقاما منه بسبب شدة تعامله.وأتذكر انني في شبابي، رثيت احد اساتذتنا الافاضل، فقلت في بعض أبيات من الشعر:

يا قويا ليس في طبعه عنف ... ووديعا ليس في ذاته ضعف

يا حكيما أدب الناس وفي ... زجره حب وفي صوته عطف

لك أسلوب 'نزيه' طاهر ... ولسان أبيض الالفاظ عف

وهكذا توجد حدود للطيبة فلا يبالغ فيها حتي تبدو وكأنها لون من ضعف الشخصية كما لا يبالغ في الحزم حتي يتحول إلي عنف.

وبهذا توضع قاعدة للتربية، يسلك بها الآباء نحو أبنائهم. يشعر فيها الابن بحب أبيه وعطفه، وفي نفس الوقت بكرامة أبيه وهيبته والأب في معاملة الابن، يحنو بغير تدليل، ويؤدب بغير قسوة. لا يهمل التأديب بسبب الحب، ولا ينسي الحب حينما يؤدب.
*****
نفس الوضع بين الاحترام والدالة:

ففي علاقة كل شخص برؤسائه وأولي الأمر منه: عليه أن يحترم رئيسه في غير خوف وان عامله رئيسه بدالة، لايستغل الدالة بحيث يفرط فيما يليق بالرئيس من هيبة وتوقير.

وتطبق نفس القاعدة بالنسبة إلي الطاعة:

فعلي الصغار أن يطيعوا الكبار، ولكن ليس بلون من العبودية أو صغر النفس. وعليهم ان يطيعوا الأوامر، لا بأسلوب يفقدون فيه شخصياتهم، أو يصبحون كقطع من الشطرنج يحركها الكبار..!انما يكون هناك توازن في الطاعة. بحيث يطيع كل شخص رئيسه، وفي نفس الوقت يطيع ضميره، ويطيع القيم السليمة. ولا مانع في سبيل ذلك من السؤال والحوار وابداء الرأي.ان عبارة 'الطاعة العمياء' تحتاج إلي تفسير ولا تنفذ الا في حدود معينة لا تتنافي مع القيم.
*****
مبدأ التوازن يطبق أيضا في موضوع الحرية:

بحيث تأخذ الحرية وضعا متوسطا بين الكبت والتسيب فلا تمنع الحرية في كبت واجبار، حيث يفقد الشخص الشعور بانسانيته، كما يفقد ارادته، وكأنه مسير رغم أنفه!

ومن الناحية الاخري لا تطلق الحرية بلا ضابط، حتي تصل إلي التسيب، ويتصرف فيها الشخص بلا رادع يردعه عن اخطائه!

والحل الأمثل هو الوضع المتوسط بين الضبط والضغط.

وحبذا لو حدث ذلك عن طريق التوعية والتربية والارشاد. بحيث يسلك الإنسان في طريق مستقيم، منضبطا بدافع من اقتناعه ونقاء قلبه، دون ضغط عليه من الخارج.
*****
التوازن ينطبق أيضا علي الوضع المتوسط بين الصمت والكلام:

فلا يبالغ الإنسان في الكلام حتي يصل إلي الثرثرة، أو التحدث في ما لا يليق، وما لا يخصه، وما ليس في معرفته. ولا يكثر من الكلام حتي يمل سامعوه. كما يحرص ان يتكلم دون ان يخطيء، ودون ان ينطبق عليه قول الحكيم 'ليتكم تصمتون صمتا، فيصير صمتكم لكم حكمة'.

ومن الناحية الاخري لا يبالغ في الصمت، حتي يحسب عيبا.. بل يتكلم حين يحسن الكلام، ويصمت حين يجب الصمت. ويحفظ التوازن بين صمته وكلامه.
*****
هناك توازن أيضا في معني الشجاعة وفي استخدامها:

الشجاعة لازمة في الدفاع عن الحق، وفي نصرة المظلوم، وفي رفض الظلم والاستبداد ولكن لها حدودا. فلا يجوز ان تصل إلي التهور واللامبالاة. كما لا تكون بأسلوب من الطيش والاندفاع وعدم التروي ولا يكون الدافع اليها بأسباب خاطئة انها شيء محبوب إذا مورست في حكمة، وبطريقة سليمة.
*****
نتكلم أيضا عن توازن في مفهوم القوة واستخدامها القوة لا يجوز ان تتطور إلي العنف أو البطش أو الاعتداء علي الغير. انما تكون أولا في قوة الشخصية وقوة الاقناع، وفي الحكمة وحسن التصرف، والبعد عن التجبر وتهديد الآخرين.
*****
التوازن يكون أيضا في المديح وفي النقد:

فالمديح المتزن يكون تعبيرا عن تقدير الغير في صفاتهم السامية، أو تصرفاتهم الحسنة. ولكن لا يجوز ان يبالغ احد في المديح، حتي يصل إلي التملق أو النفاق، ولا يكون برياء أو عدم صدق!

كذلك لا يبالغ احد من الناحية المضادة، بحيث لا يمدح علي الاطلاق! وإنما يجب ان يعطي لكل ذي حق حقه من التكريم بالنسبة إلي الكبار، ومن التشجيع بالنسبة إلي المبتدئين والصغار.

كذلك في النقد، لا يصح ان يصل إلي مستوي الذم والسب والاهانة والتشهير. فلك ان تنقد ­في مجال النقد­ ولكن ليس لك ان تجرح الناس أو تحط من كرامتهم فللنقد حدود.
*****
وفي هذا المجال، هناك فرق بين الصراحة والاهانة:

بدافع من الاخلاص، يمكن للصديق ان يتكلم في صراحة، لكن في مودة ولا تخرج الصراحة عن حدودها إلي جرح المشاعر. فهنا تعتبر اهانة، ولا تكون مقبولة..

وأيضا في غير مجال الصداقة، يمكن ان يكون الإنسان صريحا. إنما لا يكون هداما في صراحته. له ان يوضح الأمور، وقد يذكر الاخطاء، في أدب وبغير تحقير. وأيضا يكون عادلا، لا يتجني في صراحته. كما تكون صراحته ممتزجة بالصدق، مع ذكر نقاط المديح ان وجدت مختلطة بالاخطاء. كأن يمدح الهدف مثلا، وينقد الوسيلة.
*****
وفي الحياة الخاصة يكون هناك توازن في المتعة واللهو والمرح:

من حق الإنسان ان يتمتع بأمور جائزة ومحللة. ولكن لا يبالغ في المتعة بحيث تصل إلي الفجور. ولا يخرج المرح عن حدوده، حتي يصل إلي التهريج! أو ان يمتزج اللهو بأخطاء لا يرضي عنها الضمير. كذلك من حق الإنسان ان يفرح، بحيث لا يتبذل في افراحه.

أيضا من حق المرأة ان تتزين، دون ان تبالغ في زينتها حتي تصل إلي التبرج وإلي الفتنة واعثار الآخرين!
*****
الفن أيضا يجب ألا يخرج عن معناه، وان يحتفظ بتوازنه فلا يتطور إلي أساليب ومعان لا تليق..!

اننا لا ننكر جمال الفن ولزومه. ولكن تبقي أمامنا أسئلة: ما هو الفن؟ وهل كل ما يسمونه فنا، هو فن بالحقيقة؟ ثم ما هي أهداف الفن؟ وهل هو يحقق أهدافه؟

الرسم فن، والموسيقي فن، والغناء فن، والتمثيل فن، والتصوير فن، والنحت فن.. وما أجمل أن تكون للفنون أهداف سامية ورسالة نبيلة وحش هو لقب 'الفنون الجميلة'..

وحبذا لو وجد التوازن بين الهدف من الفن، والوسيلة في الاداء والتعبير.. وهذا الموضوع طويل.
*****
أخيرا نقول ان كل ما ذكرناه في موضوع التوازن، هو مجرد أمثلة بسيطة للتوضيح ويبقي المجال مفتوحا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010