الميلاد والأسرار والكنيسة ”وفي السنة الخامسة عشرة

لقد كان التاريخ في أيام بيلاطس البنطي، الذي كان حاكماً على اليهودية، وهيرودس الذي كان رئيس رُبع على الجليل، وقيافا وحنَّان رئيس الكهنة؛ كان تاريخاً مكفهراً، تاريخاً ينذر بهلاك عام، إلاَّ أن ميلاد رب المجد بين الناس غيَّر مسار البشرية جمعاء، فانتقل التاريخ من طريق الدمار والموت إلى طريق السلام والحياة.
كانت كل خطوة في مسيرة البشرية قبل الميلاد تحمل مناجاة لـ ”يوم الرب“ المنتَظَر، والذي قال عنه بلعام: «يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل» (عد 24: 17)، وقد عرفه رؤساء الآباء - بالروح - الذين رقدوا على رجاء الوعد: «إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي، فرأى وفرح» (يو 8: 56). كذلك يُعلن حزقيال النبي عن الراعي الذي سيأتي ليرعى الخراف، والذي يمثِّل داود الجديد: «وأُقيم عليها راعياً واحداً، فيرعاها عبدي داود. هو يرعاها، وهو يكون لها راعياً» (حز 34: 23)، أما إشعياء النبي فيُعلن صراحةً: «لأنه يولَد لنا ولد ونُعطَى ابناً، وتكون الرياسة على كتِفِه، ويُدعى اسمه: عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام... ومفديُّو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنُّم، وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يُدركانهم، ويهرب الحزن والتنهُّد.» (إش 9: 6؛ 35: 10)

فالأنبياء لم يتوقفوا، إذن، عن إعلان ”مجيء الرب“. ووعودهم وإعلاناتهم كانت تقوِّي إيمان الشعب وتحثُّه على انتظار المخلِّص الذي هو مجد إسرائيل. ولقد أصبحت إعلاناتهم - التي كانت قبلاً مُبهمة العنوان - تحمل الآن اسم ”يسوع المسيح“. فالرب يسوع، إذن، هو ”الاستجابة الإلهية الملموسة لحنين الإنسان إلى الله“. وهذا الحنين هو الذي كان يدفع الإنسان في كل زمان ومكان إلى التقرُّب من ”غير المُدرَك“، لذا نسمع إشعياء النبي يقول لله: «ليتك تشق السموات وتنزل.» (إش 64: 1)

ولقد تحققت كل آمال الإنسان بنزول ”يسوع المسيح“ إلينا بل وفينا. لقد نزل ليبحث عنا ويضمَّنا إليه. وهذا لم يحدث مرةً واحدة في ليلة الميلاد، وإنما يحدث في كل وقت، لأن الزمن عند الله هو ”اليوم“ و”الآن“. فالله يتمم وعده في خليقته، لأنه يحبها حبًّا لا يُنطق به.

حب الله اللانهائي لخليقته:

في المسيح يسوع كشف الله لي وجهه الإلهي، ولكن بطريقة شخصية، كما لو كنتُ وحدي في هذا العالم. فهو يدعوني على اسمه كابنٍ له، والشركة التي بيني وبينه هي شركة كاملة حتى إلى نخاع العظام، فليس فيَّ شيء لا يعرفه الله، أو كما يقول القديس أوغسطين: ”الله أقرب إليَّ من نفسي“! فهو هناك في أعماقي، هو بالنسبة لي كل الحياة، وحياتي ليست إلاَّ حياة شركة معه؛ لذا فهو السبب، وهو الهدف من وجودي. أما ميلاد الرب يسوع في بيت لحم، فكان بغرض كشف أسرار هويتي الداخلية. فالمذود هو الآن قلبي، والمسيح يستريح فيه، أي في داخل كياني، مثل بذرة يجب أن تنمو وتنمو حتى تصل بي إلى أن ”نكون مثله“ (1يو 3: 2). لذلك فإنني لن أستطيع أن أعيش بطريقة صحيحة إلاَّ عندما أعيش من الداخل حيث هو موجود، وعندما أجد شبهي في المسيح الذي فيَّ. وسيصبح العالم بالنسبة لي ”عالم شركة“. فالمسيح في الحقيقة قد نزل إلى العالم كله، لذلك فالخليقة كلها هي بالنسبة للإنسان مائدة كبيرة أعدَّها الله لكي يجتمع عليها معه.

نَسَب المسيح:

عندما ينظر الإنسان إلى الأشياء نظرة سطحية فإنه حتماً يقع في خطأ عدم الإدراك الصحيح، ويقطع على نفسه الفائدة الكامنة خلف ظواهر الأشياء. وعلى ذلك، فالتجسُّد الإلهي ليس مجرد حادثة، إنما هو عمل فدائي، هو ميلاد جديد لكل الخليقة. فميلاد المخلِّص يُعتبر فصحاً، ومغارة بيت لحم يمكن أن تُقارَن بالجلجثة، وأقمطة الطفل الإلهي بالأكفان، وخشب المذود يُعلِن عن خشبة الصليب، والمُرّ الذي أحضره المجوس يُمثِّل الطِّيب الذي أعدَّته النسوة، ووليمة العُرس التي تكلَّم عنها المسيح في (مت 22: 2) تشير إلى عُرس الخروف الذي بذل نفسه عن أحبائه: «ليس لأحد حُب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» (يو 15: 13). أما القبر نفسه، فقد تحوَّل إلى خِدْر زيجي، حيث أعطى المسيح القائم لخليقته حياة دائمة معه.

لهذا فالمسيح المخلِّص قد نزل بميلاده إلى عمق كثافة الجسد، لكي يولَد فيَّ وأُولَد أنا أيضاً فيه. وهو لم يتوقف أبداً عن النزول إلينا؛ إذ لم يترك أحداً، أيـًّا كان، إلاَّ وجاء لكي يولَد فيه. والقديس غريغوريوس اللاهوتي يوضِّح أن المسيح لا يوقِفه أي شيء عن أن يدخل في قلوبنا ليُطهِّرها من كل شهوة، أو جوع، أو عطش، أو ضيق، أو حزن، أو عبودية... إلخ.

إذن، فكل معاناتنا وأوجاعنا، وحتى رائحة الخطية الكريهة، كل هذا لا يعوق مجيء المسيح وولادته في داخل القلب؛ ذلك لأن التاريخ المقدس يسرد لنا سلسلة نَسَب المسيح بما فيها من قَتَلَة وزناة وخطاة من كل صنف!! لذلك فلا يوجد مانع - أيـًّا كان - يمكنه أن يمنع ميلاد المسيح بداخل قلبي. فالمسيح لم يأتِ إلاَّ ليخترق ما فيَّ من ظلمة، وليضع مصباح نوره الإلهي فوق منارة ليلي المظلمة فليس ثـَمَّة مشكلة إلاَّ في عدم قبولي لعمله، لأنه هو «يُضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت» (لو 1: 79)، وهو «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان» (يو 1: 9). لذلك فكل مَن يتبعه «لا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة.» (يو 8: 12)

فالمسيح قد وُلِد بيننا، ورسم لنا بميلاده طريقاً جديداً لممارسة الحياة، وهو أن ”الحياة هي المسيح“ (في 1: 21). لذلك فلنركِّز نظرنا على المسيح ونحتضنه ونجعله يعيش فينا. والتركيز على شخص المسيح قد تعلَّمناه من حادثة التجلِّي التي جمعت بين الناموس ممثَّلاً في موسى، والأنبياء ممثَّلين في إيليا، وهذا لم ينته بعد، لأن المسيح الحي يحمل لنا كل طقس وكل تقليد حي، ويحمل لنا أيضاً كل نبوَّة تعطي روح حياة؛ ولذا قال عنه القديس يوحنا الإنجيلي: «كل شيء به كان... فيه كانت الحياة.» (يو 1: 3و4)

فلنبعد عنَّا، إذن، صغر النفس القاتل الذي يحجبني عن المسيح ويمنعه من أن يولَد فيَّ. ولنأخذ لأنفسنا حياةً وروحاً جديدة ورجاءً حيًّا من سلسلة أنساب المسيح التي احتوت على خطاة من كل صنف.

الميلاد والأسرار والكنيسة:

إن صورة النار المتحدة بالحديد التي يستخدمها التقليد المسيحي لكي يوضِّح بها اتحاد اللاهوت بالناسوت، يمكن لنا أن نستعيرها أيضاً لنُعبِّر بها عن علاقتنا بالمسيح. فنمو العلاقة بيننا وبين شخص المسيح تجعل - شيئاً فشيئاً - أفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا تتحد سريًّا به حتى نصير واحداً فيه وهو فينا (يو 15). والعشرة الداخلية مع المسيح هي رسالة الميلاد إلينا، كما أنها الحقيقة المرجوَّة من وراء المعمودية والإفخارستيا.

فبالمعمودية يصطبغ المؤمن بالمسيح، وبالإفخارستيا يتشبَّه به، والذي يحدث لنا فيهما هو نمو باتجاه حالتنا الأولى (قبل السقوط). وكَوْن المسيح فينا يعني أنه هو ”الأنا“ العميقة للإنسان، ومكانه هو كالكرمة بالنسبة للأغصان، وكالرأس بالنسبة للجسد (يو 15: 1، كو 2: 19).

لذلك فجوهر الميلاد لا يتضح إلاَّ من خلال ممارستنا لأسرار الكنيسة والتي تكشف لنا أن الله غير مرتبط لا بمكان ولا بزمان؛ ذلك لأنه كائن في عمق الوجود الإنساني بإنسانيته. فكَوْن الله كائناً، فالإنسان - بالتالي - كائنٌ؛ ولكن إن انتفى وجود الله من حياتنا، فلا وجود لإنسانيتنا. وعلى ذلك، فالإيمان بالله والعلاقة الحية به، لا يرتبطان بمادة أيـًّا كانت، وإنما ذلك كله يرتبط بالحياة معه والتفاعُل مع أسرار الكنيسة المحيية.

إذن، لم تَعُدْ الشعائر هي التي تجعلنا نقترب إلى الإله المُحِب، ذلك لأن الإفخارستيا هي التي تُقرِّبنا إلى الله وتحوِّلنا إلى إنسان ”جديد“. فكل مَحْفل ليتورجي هو نافذة نُطِلّ منها بكياننا الجديد على الحياة الجديدة، أي أننا من خلال الإفخارستيا نتقدَّم بأرواحنا وأجسادنا، بل وبالعالم كله، إلى الله، ليُحوِّلنا إلى إنسان ”جديد“. وبذلك يكون قد عاد الإنسان إلى مكانته الأولى. وهو بذلك يكون أيضاً مثل كاهن يرفع القدَّاس من خلال كل ما يعمله، ويُقدِّم في كل وقت ذبيحة ليتورجية من خلال النظر إلى كل ما حوله على أنه مجال للشركة والحب بينه وبين الله؛ حتى أن ”اليوم“ الزمني يتقدَّس ويصبح بكل ما فيه كأنه خبزٌ وخمرٌ، اللذَيْن هما أساس تقديس الكون والحياة بالنسبة لنا. فالمادة والمكان والزمان هي بالنسبة للمسيحي مادة العهد مع الله. فكل شيء له ثقله، له جوهره، لأن كل شيء يحمل مجد الخالق. فاللحظة الحاضرة في حياة المسيحي هي مادة الذبيحة؛ أما النار التي تلتهم الذبيحة فهي نار المحبة التي هي إعلان عن محبة الله لكل الخليقة.

فإذا كنا نبتغي حياة شركة مع الثالوث، فيجب أن ننظر إلى ”الآخر“ - أيـًّا كان - نظرة مقدسة، ونحجز له مكاناً بجوارنا على المائدة المسيَّانية؛ وحينئذٍ ستتحوَّل كل البشرية إلى بيت لحم أي ”بيت الخبز“، أي ستدخل كل البشرية في شركة حب مع المسيح، وهذه هي الكنيسة.

إذن، لم تَعُدْ الشعائر هي التي تجعلنا نقترب إلى الإله المُحِب، ذلك لأن الإفخارستيا هي التي تُقرِّبنا إلى الله وتحوِّلنا إلى إنسان ”جديد“. فكل مَحْفل ليتورجي هو نافذة نُطِلّ منها بكياننا الجديد على الحياة الجديدة، أي أننا من خلال الإفخارستيا نتقدَّم بأرواحنا وأجسادنا، بل وبالعالم كله، إلى الله، ليُحوِّلنا إلى إنسان ”جديد“. وبذلك يكون قد عاد الإنسان إلى مكانته الأولى. وهو بذلك يكون أيضاً مثل كاهن يرفع القدَّاس من خلال كل ما يعمله، ويُقدِّم في كل وقت ذبيحة ليتورجية من خلال النظر إلى كل ما حوله على أنه مجال للشركة والحب بينه وبين الله؛ حتى أن ”اليوم“ الزمني يتقدَّس ويصبح بكل ما فيه كأنه خبزٌ وخمرٌ، اللذَيْن هما أساس تقديس الكون والحياة بالنسبة لنا. فالمادة والمكان والزمان هي بالنسبة للمسيحي مادة العهد مع الله. فكل شيء له ثقله، له جوهره، لأن كل شيء يحمل مجد الخالق. فاللحظة الحاضرة في حياة المسيحي هي مادة الذبيحة؛ أما النار التي تلتهم الذبيحة فهي نار المحبة التي هي إعلان عن محبة الله لكل الخليقة. فإذا كنا نبتغي حياة شركة مع الثالوث، فيجب أن ننظر إلى ”الآخر“ - أيـًّا كان - نظرة مقدسة، ونحجز له مكاناً بجوارنا على المائدة المسيَّانية؛ وحينئذٍ ستتحوَّل كل البشرية إلى بيت لحم أي ”بيت الخبز“، أي ستدخل كل البشرية في شركة حب مع المسيح، وهذه هي الكنيسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010