الاستنارة فى حياة الآباء

" لا أزال شاكرًا لاجلكم ذاكرًا إياكم في صلواتي كي يعطيكم اله ربنا يسوع المسيح أبوالمجد روح الحكمة والإعلان في معرفته.مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين ". (افسس 1 : 16 – 18).

حقا إن كل الفضائل نافعة ويحتاج إليها كل الذين يطلبون الله ويريدون التقرب إليه ، إلا أننا رأينا كثيرين يهلكون أجسادهم بكثرة الصوم والسهر والانفراد في البراري والزهد ..
ومع ذلك رأيناهم حادوا عن الطريق المستقيم وسقطوا وعدموا جميع تلك الفضائل ، وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الإفراز .
فالإفراز هوالذى يعلم الإنسان كيف يسير في الطريق المستقيم ويحيد عن الطرق الوعرة .
والإفراز يحذر الإنسان من أن يسرق من اليمين بالإمساك الجائر المقدار ومن الشمال بالتهاون والاسترخاء .
" القديس أنطونيوس. بستان الرهبان"

نسمع كثيراً عن الاستنارة، وعن شخص مستنير،
ونتساءل في كل مرة عن ماهية الاستنارة ..
وكيف يستنير الانسان..
وما هي علامات الاستنارة في انسان ونتائجها.
وقد اتفق معي الأخوة الأحباء في مركز الدراسات الآبائية "فيلوباترون" أن أتحدث في موضوع: الاستـنارة في حياة آباء البـرية وذلك من خلال سيرة القديس أنطونيوس، وذلك في اطار المؤتمر الذي ُاقيم في ايبارشية المنيا وأبو قرقاص.

الاسـتنارة Enlightment: اصطلاح يعبر عن العين الداخلية القادرة على استقبال حقائق الله التى يكشفها الروح القدس للإنسان. كما تعنى الكلمة أيضا الفرح والمجد وتحول الشخص وتغيره بالكامل.

وعندما يقول القديس بولس:
" مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هورجاء دعوته وما هوغنى مجد ميراثه في القديسين " (أف1 : 18)
فإن الذهن المقصود هنا هو قدرة الوعي الداخلي على النظر الى الأمور التى يستعلنها الروح فيفرزها ويكشف مقدار الحكمة فيها ويستوعبها ويفهمها ويستذكرها. وفي حديثه يطلب القديس بولس من الله أن يهبنا روح الحكمة والإفراز ثم يعطينا قدرة داخليه لاستيعاب وفهم ما يعمله الروح داخلنا.



عندما ُسئل القديس انطونيوس عن روح الحكمة الذى يطلبه القديس بولس قال :
"روح الحكمة الذى يطلبه القديس بولس الرسول هوالذى سيضطلع بتعريفنا وتسليمنا، كل ما يخصنا من جميع أعمال الله العظيمة ،التى بطبيعتها تفوق ادراكاتنا والتى عملها في المسيح يسوع من أجلنا).



ولكن ما هي عيون الذهن ؟

بالعين العادية يرى الإنسان الأمور العادية ، ولكنه يستحيل على هذه العين أن ترى ما هوفائق عن الطبيعة..

العين الخارجية = ترى صـورة الأشياء

العين الداخلـية = ترى حقيقة جوهر الأشياء

لذلك يقول السيد المسيح لتلاميذه
" طوبى لعيونكم لأنها تبصر" (متى 13 : 16)
وعندما كان سائرًا مع تلميذي عمواس، احتاج الأمر أن يفتح ذهنهم ليفهموا الكتب
" فانفتحت أعينهم وعرفاه ثم اختفى عنهما " (لو 24 : 31).

كتب القديس أنطونيوس إلى القديس ديديموس الضرير مدير مدرسة الاسكندرية اللاهوتية، ُيعزيه عن فقد بصره قائلاً:
"لا تحزن إن كنت قد ُحرمت من حاسة البصر تلك التي يشترك فيها الحيوان والحشرات مع الانسان، فقد وهبك الله البصيرة الروحية تلك النعمة التي يفتقر إليها الكثير من الناس". ومن هنا يجب أن نفرق بين "البصر والبصيرة".



سر استنارة الكنيسة :

لا شك أن هبة المعمودية هي سر استنارة الكنيسة، أو بمعنى آخر أن الاستنارة هي هبة إلهيه ُتمنح لنا خلال هذا السر، والمرتبط بعطية الروح القدس في سر التثبيت. وهكذا فإن الإنسان الروحي الذي استنار بالروح القدس يصبح قادرا على التمييز بين ما هو جيّد وما هو رديء "الإنسان الروحي يحكم في كل شيء ولا ُيحكم فيه".
ويقول القديس باسيليوس الكبير، عن الروح القدس أنه مصدر القداسة والنور العقلي والذي يهب كل الخليقة الاستنارة لفهم كل شيء

انها إشراقة القلب والدخول بالإنسان إلى النور بعد ظلام طويل مع الخطية والموت
(الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا عظيما والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور (مت 4 :16).

لقد صرح السيد المسيح أنه نور العالم (يو8: 12) ثم عاد ليهبنا تلك العطية بأن جعلنا نوراً للعالم (متى 5 : 14) وما نور العالم الذى فينا، إلا انعكاس لذلك النور الإلهي الذى نحمله داخلنا،ويشرق فينا بفعل الروح القدس.

يقول القديس اغسطينوس:

(لنقترب إليه ونستنير لأنه هو النور الحقيقي "بنورك يا رب نعاين النور" وهو النور الذي ينير لكل إنسان" الآتي الى العالم، ولكونه النور فهولا ُيخزى ولا يسمح لمن يستنير به أن ُيخزى)

وبتحديد اكثر فإن سر الاستنارة يكمن في قيامة الرب، والتى هي -أي القيامة- العمود الفقري في إيماننا المسيحي، فان المعمودية ليست موت فقط مع المسيح ولكنها قيامة أيضا معه، (فالقيامة هي التى أكدت ان الذى مات هوالرب). ولقد قدمت لنا القيامة : الحياة الجديدة التى لن يغلبها الموت ولن تقدر الظلمة أن تغشاها أو يحتويها قبر:
لذلك يقول القديس بولس :" استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح " (اف 5 : 14)

ولما كان العماد هوالتمتع بقيامة الرب فينا لذا فقد ُدعى هذا السر: "استـنارة".

يقول القديس كليمندس السكندري:
" إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير ُنتبنى وأذ ُنتبنى ُنكمل ….
ويقول أيضاً:
" يدعى هذا الفعل – سر المعمودية - بأسماء كثيرة أعنى نعمة واستنارة وكمالاً وحميمًا، فهواستنارة به نرى نور القدوس الخلاصي أعنى أننا به نشخص إلى الله بوضوح ..

أما القديس غريغوريوس النزينزى فيقول:
"الاستنارة وهى المعمودية، هي معينة الضعفاء، واهبة النور ونقض الظلمة .. وهى - أي الاستنارة - مركب يسير تجاه الله برفقة المسيح أساس الدين. تمام العقل، مفتاح الملكوت، استنارة الحياة.

ويتغنّى القديس يعقوب السروجي بها قائلاً:
" المعمودية هي ابنة النهار ،فتحت أبوابها فهرب الليل ،الذى دخلت إليه الخليقة كلها .."



الاسـتنارة في حياة آباء البـرية

اتسمت حياة آباء البرية (أقصد: Abbots) بالاستنارة واتساع الأفق الروحى واللاهوتي، وكلما كان الأب أمينا في الطريق، وتكرس قلبه بمحبة الله ولها، منحه السكون الذى يعيشون فيه استنارة داخلية.

هكذا أشرق الله عليهم بحبه منذ البداية فتركوا كل شئ وتبعوه
(أولئك الذين أشرقت عليهم بشعاع من حبك لم يحتملوا السكنى بين الناس- الشيخ الروحاني)

وعندما سئل القديس انطونيوس عن أدواته ولغته في حياته قال :
"إن لغتي هي السكون. لذلك أستطيع ان أقرأ لغة الله في أي وقت أشاء" (يقصد الاستنارة).



ويقول القديس موسى الأسود:
" كل الأمور الروحية يختبرها الإنسان بالإفراز ويميزها، ولن يأتينا الإفراز ما لم نتقن أسباب مجيئه وهى السكون، لأنه كنز الراهب. والسكون يولد النسك …..)

ومحبة الأباء لله جعلتهم يسمون فوق القانون ، فالقانون هو للمبتدئ ولكن الذين استنيروا تخطوا القانون ،وصارت لهم الحرية في التدبر.. ولقد درب الآباء أولادهم كيف يستنيرون ويأخذون من الله ويشرق بنوره فيهم، حتى يستطيعوا من ثمّ أن يرشدوا هم آخرين. فهي ليست مسألة تلقين ولكنها نقل الشعلة (ان كلمة تقليد في الأصل اليوناني تعني نقل الشعلة من شخص إلى آخر).

+ عندما سلم القديس يحنس القصير تاييس التائبة الى رئيسة الدير طلب منها قائلا(أفسحي لها المجال لتتدبر كيفما تشاء) ذلك بسبب الإشراقة العجيبة التى سطعت في قلبها فانتشلتها من الماخور الى البرية (بحسب تعبير الشيخ الروحاني في أنشودة التوبة)

فلم يكن الصوم في حد ذاته هدفا .. ولا الصلاة .. فيعاقب شخص بالصوم بينما ُيعاقب آخر بالأكل .. إذا كان ذلك على سبيل العلاج. كما نقرأ عن القديس باخوميوس أنه منع شخصاً من الصلاة لأنها لم تكن لحساب الله.
في ذلك يقول القديس يوحنا الدرجى:
" أحيانا يكون دواء أحد سما للآخر ،أحيانا يكون الدواء عينه شافيه للإنسان عينه في وقت دون الآخر"

وهناك أيضا ما يسمى بالثمرة الطبيعية، فقد ورد في سيرة القديس باخوميوس أيضاً، أنه اضطر للسفر وترك أحد الأخوة بتدبير احتياجات الآباء من الطعام، والذين شكوا له من عند عودته من اهمال الأخ، فما كان من القديس باخوميوس إلاّ أنه استدعى ذلك الأخ واستفسر منه عما حدث، فأخبره بأنه فكر في مساعدة الآباء على النسك وذلك بعدم تقديم الطعام المطبوخ لهم، بل الاكتفاء الخبز والقليل من الطعام البسيط، على أن يستسمر هو وقته في عمل القفف. وهنا أمره القديس باحضار جميع ما أنجزه وكان كثيراً جدا. جمع القديس كل الرهبان حول كومة القفف ثم قال للأخ: لقد أبطلت الثمرة الطبيعية للفضيلة ! (وكان يقصد بالطبع أن النسك يجب أن يكون اختيارياً).

لذلك فقد سعى الآباء لتدريب أبنائهم كيف يتدربون مع الوقت ليصيروا هم آباء، حسب قول القديس بولس :
" واما الروحي (المستنير) فيحكم في كل شيء وهولا يحكم فيه من أحد " (1كو 2 : 15).
وقد اجتهد القديس أنطونيوس كثيرا في تدبيره لتلاميذه لكي يجعلهم يعتمدون علي أنفسهم، فيحفرون لهم المغارات بعيدا عنه، ولا ينتسبون إليه بل إلى الله .. ويختبرون ذلك بأنفسهم.
فقد قال للقديس بولا البسيط:
" اذهب إلى البرية الجوانية وذق طعم الوحدة "
فكان يطلب لهم الاستنارة ويطلب بإلحاح من الله لأجلهم ويطلب إليهم الإلحاح هم أيضا إلى الله في ذلك ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010