التعب المقدس

من بين أصناف التعب نوعان: تعب شرير وتعب مقدس: أما التعب الشرير فهو مثل تعب الشيطان فى إغراء الناس وفى محاولة إسقاطهم. ومثل تعب الأشرار والمتآمرين فى كل تدابيرهم للإضرار بالآخرين. ومثل تعب الفاسدين لكى يصلوا الى متعتهم فى تحقيق الفساد، وما أشبه من هذه الأمور...



** أما التعب المقدس فهو الذى يتعبه الانسان فى إراحة غيره، أو فى تنفيذ وصايا ربه، أو فى جدية القيام بما عليه من واجبات ومسئوليات وهو فى كل هذا التعب، يشعر براحة فى ضميره، ويفرح بنتائج تعبه وثماره. كما أنه ينال أجراً من الله حسب كل ما بذله من جهد وتعب، وينال أيضاً مديحاً من الناس...



** ولعل من الأمثلة الأكثر شهرة وشيوعاً فى هذا التعب المقدس: تعب الوالدين فى تربية الأبناء. من حيث العناية بالصغير منذ طفولته، والاهتمام بصحته وغذائه واحتمال الكثير من طلباته وضعفاته، واستمرار العناية به حينما يكبر. والتعب فى الصرف عليه فى كل مراحل تعليمه. وأيضاً تقويمه فى مراحل الشباب واحتمال، ما قد ينشأ من انحرافاته وانفعالاته...



ولا ننسى تعب الأم فى تجهيز ابنتها للزواج، والعمل على استقرارها فى بيت، والاطمئنان عليها فى رعاية رجل يسعدها. والإنفاق عليها فى هذا السبيل لكى تبدو فى أجمل صورة يوم زواجها.



والوالدان فى كل تعبهما من أجل تربية ورعاية الابناء، وفى العمل لضمان مستقبلهم لا يباليان بما يبذلانه من جهد ومن مال. وقد يضطران الى الإستدانة، أو الالتحاق بعمل اضافى يزيد من إيرادهما للإنفاق على أبنائهما. ولا يؤلمهما ذلك بل يفرحان به... إنه تعب مقدس.



** ومن أمثلة هذا التعب أيضاً كل العاملين فى خدمة المجتمع فى شتى المجالات: مثل الطبيب الذى يبذل كل جهده لشفاء المريض ولإنقاذه من آلامه بقدر إمكانه. ونذكر فى هذا المجال أيضاً الطبيب النفسانى الذى يحتمل كثيراً لكى يشفى مريضه من القلق أو الاضطراب أو الخوف أو الوهم أو الشك... مهما كلّفه ذلك من جهد مضنى بسبب تعامله مع شخص غير طبيعى. ولكنه بكل صبر يتعب فى احتماله، فهذا تعب مقدس... وينضم الى هؤلاء العاملون فى جمعيات الإسعاف، وفى الهلال الأحمر والصليب الأحمر، والمعالجون لمرضى الدرن ومرضى الجزام وغيرهم.



** ومن أبرز الذين يتعبون لأجل غيرهم رجال المطافئ الذين يقتحمون النيران والدخان لانقاذ الأنفس والمبانى من الحريق. وما أنبل رجل المطافئ الذى يدخل فى بيت يحترق، ليحمل طفلاًَ أو امرأة أو عجوزاً، مضحياً بنفسه لينقذ اولئك الضعفاء، وينقلهم من الموت الى الحياة.. إن تعبه هو اكليل يُوضع فوق رأسه. إنه تعب مقدس.



ينضم اليه فى نفس العمل منقذو الغرقى، الذى يرمى أحدهم بنفسه فى البحر، ويكافح الأمواج والدوّامات لينتشل شخصاً مشرفاً على الغرق ويحمله على ظهره الى شاطئ النجاه.



** ومن الأمثلة البارزة فى التعب المقدس رجال الجيش الذين يتعبون لحماية أوطانهم ويعيشون على الحدود فى قسوة الحر والبرود، وفى خطورة الجو والبحر... ولا ننسى اطلاقاً ما بذله جنودنا فى بسالة نادرة وفى تضحية بأرواحهم فى حرب اكتوبر، حينما عبروا القناة وحطموا خط بارليف، وهم معرّضون للموت، حتى استرجعوا أرض سيناء من أيدى المحتلين لها، ورفعوا علم بلادنا فى زهو وفخر. وسجّل لهم التاريخ كل تعبهم. إنه تعب مقدس...



** ومن أمثلة التعب المقدس فى أعلى قممه، الشهداء. اولئك الذين ذاقوا كل أنواع الألم، ثم سفكوا دماءهم وبذلوا أرواحهم من أجل الوطن أو الدين أو مبدأ تمسكوا به. إنهم لم ينالوا تمجيداً لهم فى حياتهم، لكنهم نالو ذلك بعد رحيلهم فمجدتهم الشعوب ومجدّهم التاريخ. وصار لهم مركز عظيم فى السماء.



** نذكر أيضاً اولئك العلماء الذين يسهرون على الدوام، ويكدوّن أذهانهم وتفكيرهم، ليقدموا للعالم نتاج العلم، لا لكى يحصلوا على درجات علمية أو تشريفية، إنما لكى يريحوا الناس ويسهّلون لهم حياتهم. كالذين اخترعوا الفاكس والـ Mobile phone وتليفون السيارة. وكالذين يبذلون الجهد لاختراع أدوية لعلاج الأمراض المستعصية، أو لتخفيف آلامها أو لإيقاف انتشارها... هؤلاء لم يتعبوا من أجل نفوسهم، بل من أجل غيرهم. لذلك فتعبهم مقدس.



ومن أمثلة هؤلاء أيضاً: ذلك العالم الذى اخترع لأجل المكفوفين طريقة الكتابة والقراءة بالبارز، طريقة (برايل). فمنحهم اسلوباً للمعرفة. هو وكل الذين ينقلون اليهم المعارف بنفس طريقة برايل، ويتعبون فى سبيل ذلك. وتعبهم تعب مقدس.



** نضم اليهم المهتمين بالصم والبكم، الذين اخترعوا لهم طرقاً للكلام بالإشارة، ووضعوا لهم قاموساً لهذه الاشارات مزوداً بالصور. فأصبح الصم والبكم يتفاهمون مع بعضهم البعض بتلك الاشارات. حقاً، إن كل تعب لأجل هؤلاء هو تعب مقدس.



كذلك المهتمين بجميع طوائف المعوقين، وأيضاً المهتمين بخدمة المسنين، وبخاصة الذين فى حالة من الضعف والعجز لا يستطيعون خدمة انفسهم. فالذين يخدمونهم يتعبون كثيراً لاجلهم تعباً مقدساً...



** نضم الى هؤلاء، كل من هو فى مسئولية كبيرة أو صغيرة، ويبذل كل جهده للقيام بعمله بأمانة واخلاص، لا يلجأ الى الكسل أو الروتين، ولا يتكل على المساعدين والوكلاء. بل يباشر كل صغيرة وكبيرة لتتم المسئولية على أكمل وجه مهما تعب فى سبيل ذلك، محتملاً التعب فى أداء واجبه... كالراعى الذى لا يهتم براحة نفسه، بل يبذل جهده لأجل خرافه، فيأتى بها الى المراعى الخضراء والى منابع الماء، ويحميها من كل اعتداء أو خطر تتعرض له. وأيضاً كالزارع الذى يتعب فى حرث الأرض وزرعها وريّها، وتنظيفها من الآفات والحشائش المتطفله. حينئذ يفرح بثمرة تعبه فى موسم الحصاد.



** كذلك من الناحية الروحية: من يتعب فى اداء واجباته نحو الله فى أمور العبادة من صوم وصلاة وتسبيح وقراءة فى كتاب الله وترديد آياته. ويحرص على مواعيد الصلاة فى ساعات النهار وساعات الليل غير محتج بالراحة أو بالمشغوليات. إنه مهما تعب، يكون تعبه مقدساً ومقبولاً أمام الله. وأيضاً مثله من يحرص على صومه بكل طهارة، ويبذل فيه ما يستطيعه من اطعام الفقير والمسكين... كل هؤلاء يجدون فى تعبهم متعة روحية تعوضهم عما يبذلون، وتدفعهم الى الاستمرار فى عملهم الصالح مهما تعبوا...



** من الأمثلة الهامة أيضاً فى التعب المقدس: ضبط النفس، وما يحمله ذلك من قهر جميع الشهوات المحاربة للروح، مهما تعب الانسان وضغط على إرادته... لكى يتخلص من بعض العادات السيئة المسيطرة عليه. ولكى ينتصر على شياطين عدة تقاومه. وهو لا ينتصر عليها الا بجهاد مع الفكر والقلب والحواس، جهاداً قد يتعب فيه، ولكن نعمة الله تسند جهده وتعبه، وتمنحه الانتصار فى عمله الروحى.



ومن ضمن ضبط النفس: ضبط اللسان فلا ينطق بكلمة خاطئة أو كلمة زائدة. وضبط الاعصاب حتى لا يسيطر عليها الانفعال ويقودها الى ما لا يرضاه الضمير. وضبط الحواس فلا تطيش فى ما لا يليق.



** أخيراً أيها القارئ العزيز، أقول لك إن كل تعب تبذله ونفسك مستريحة، لا تشعر فيه بضيق أبداً بل بلذة. بعكس التعب الذى تبذله فى ضجر وسخط. وذلك لا يتمشى بلاشك مع رغبة الروح فى الصلاح وفى عمل الخير.

قداسة البابا شنودة الثالث



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010