ما من قديس, إلا ونبتت قداسته من أرض مصر, حتي لو لم يطأ أرضها, فمصر هي التي صنعت القداسة, ووهبتها للعالم, كي يتعلم القديسون كيف يهبون أنفسهم لله الواحد القهار.
فالرهبنة الحقيقية بدأت علي أرض مصر, وأب الرهبان جميعا, هو الراهب المصري أنطونيوس الذي لم يكن أكثر من مجرد مصري بسيط, لكنه في لحظة واحدة, اكتشف جوهر الحياة, فخرج من العالم, ليؤسس القواعد الأولي للرهبنة, ليتعلم منها العالم كيف يصبح راهبا.
يقول الأنبا موسي: إن الرهبنة كانت قبل القرن الرابع الميلادي تقتصر علي متوحدين يسكنون الصحراء فرادي, يعبدون الله آناء الليل وأطراف النهار, إلي أن جاء الأنبا الأب انطونيوس المصري وعاش مثلهم, إلا أن آلافا اجتمعوا حوله, فأسس لهم ديرا ووضع لهم أسس الديرية والحياة الرهبانية.
ولما نفي بطريرك الكنيسة القبطية البابا أتناسيوس الرسولي إلي أوروبا قام هذا الأخير, بنشر سيرة الأنبا أنطونيوس في كتاب ذاع صيته, فتأسست جماعة رهبانية مشابهة في جميع أنحاء العالم ولهذا دعيت مصر أم الرهبنة ودعي الأنبا انطونيوس أب جميع الرهبان.
لكن من هو القديس انطونيوس؟
يقول التاريخ إن القديس انطونيوس ابي الرهبنة في العالم كان قبطيا غنيا من منطقة الواسطي, وكانت له أخت شقيقة, ومات والداه تاركين لهما مساحة شاسعة من الأراضي الزراعية, وكان من الممكن بل من الطبيعي أن يعيش القديس حياة الأغنياء, كشخص عادي ولكن السماء كانت تعد له أمرا آخر, حيث إنه في يوم وفاة والده, نظر إلي الجثمان المسجي علي الأرض وشعر بقشعريرة ما, وقال: ها أنت يا أبي تخرج من هذا العالم بغير إرادتك, أما أنا فسوف أخرج منه بإرادتي
وبعد6 أشهر, وفي أحد أيام الآحاد, دخل الكنيسة وسمع الآية الواردة في الكتاب المقدس( متي19:21) إن أردت أن تكون كاملا فأذهب, وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني.
وكانت هذه الآية هي الأساس الأول لرهبنة القديس الذي وبكل بساطة وزع كل ما له علي الفقراء وأودع أخته في بيت للعذاري ومضي ليبدأ تنسكه علي شاطيء النيل.
ثم حدثت خطوة كبيرة في رهبنة القديس, فبينما كان يصلي علي الشاطيء, جاءت امرأة لتغسل قدميها في النهر, فانتهرها قائلا: كيف تفعلين ذلك أمام راهب؟
فأجابته: الراهب لا يسكن في المدن, بل يذهب إلي عمق الصحراء.
واعتبر القديس هذه النصيحة صوتا من الله, فخرج من وادي النيل, ودخل الصحراء وعلي شاطيء البحر الأحمر, بدأت حياة الصلاة الدائمة لكنه شعر بالملل من كثرة التنسك, فظهر له ملاك يلبس الرداء الأسود والقلنسوة, يصلي قليلا, ثم يضفر الخوص بيديه قليلا, ثم نظر الملاك إلي القديس قائلا: افعل هذا فتطرد الملل ومن وقتها صار الرهبان يلتزمون بالحياتين معا؟ الصلاة والتأمل, وعمل اليدين لسد رمق الحياة, وظهر المفهوم الحقيقي الأصيل للرهبنة حيث الرهبنة في جوهرها: الانحلال من الكل للارتباط بالواحد.
وكان القديس انطونيوس لما دخل الصحراء قد التقي بالأنبا بولا, الذي عاش في عزلة صارمة لمدة ثمانين عاما, علي نصف رغيف خبز كان يحضره له غراب في كل يوم.
وعند التقاء القديسين انطونيوس وبولا, أصبح الغراب يحضر رغيف خبز كاملا, دلالة علي قداسة الأنبا انطونيوس, الذي أصبح المؤسس الحقيقي والرائد لنظم الرهبانية, وإن كان القديس بولس أول من وضع نسق هذه الحياة, التي تفرعت إلي مدرستين, المدرسة الباخومية التي تنسب إلي الأنبا باخوميس, التي تركز علي حياة الشراكة حيث يجتمع الرهبان معا في الدير, ويعيشون حياة الشركة فيخدمون بعضهم البعض وهي المدرسة التي انتشرت في دلتا مصر, بينما كانت مدرسة القديس انطونيوس, تركز علي التوحد وعلي تجمع المتوحدين في دير يكون لكل متوحد فيه توحده الخاص, وفترات انعزاله التام عن الآخرين, وهي المدرسة التي انتشرت في الصعيد, ثم في مصر, ثم في العالم كله. وكما يقول الأب متي المسكين: إن مصر هي مهد الرهبنة المسيحية في العالم, فمع بداية تأسيس الكنيسة القبطية في الإسكندرية وبابلون مصر, قام بين اليهود المتنصرين ثم الأقباط نظام التبتل والعبادة المنفردة خارج المدن, وبالأخص في ظاهر الإسكندرية حول بحيرة مريوط كاستجابة عملية لوصايا الرب يسوع المسيح النسكية.
ولكن الرهبنة القبطية بوضعها المنظم ومبادئها الروحانية الملهمة, تبدأ قصتها العالمية الشهيرة بالقديس انطونيوس, كما قدمه البابا أتناسيوس الرسولي, للعالم الغربي والأقطار النائية في كتابه المشهور حياة انطونيوس.
وإن كان القديس انطونيوس قد سبقه في التوحد المطلق القديس بولا أول سائح مسيحي وعاه التاريخ, إلا أن الرهبنة مدينة في كل مالها من مثل إنجيلية ومباديء روحية ونظم إدارية للقديس أنطونيوس وباخوميس من بعده. وكان أول دير أنشأه القديس أنطونيوس علي نظام المتوحدين سنة305 م, وتبعه القديس باخوميس حيث أنشأ أول شركة ديرية في سنة318 م وبعد ذلك القديس مكاريوس بديريه المشهورين البراموس وأنبا مقار ما بين عامي360-340 م علي طقس تجمع متوحدين.
وهكذا تعتبر مصر هي مهد الرهبنة المسيحية في العالم, وعن مصر أخذت جميع الدول النظام الرهباني القبطي كمؤسسة شعبية وكنيسة, وكان لها التأثير المباشر العميق للغاية علي الحياة المسيحية في العالم كله, سواء من الوجهة الروحية الصرف لفهم الإنجيل, أم من الوجهة الفلسفية العملية في تطبيق الإنجيل علي الحياة اليومية, أو من الوجهة التنظيمية في تدبير الجماعة المسيحية وطرق قيادة الكنيسة.
نور مصر.. ونجمة الصباح
وأشرقت رهبنة مصر علي كل نواحي العالم في المشرق والمغرب, كما يقول الأب متي المسكين فالقديس هيلاريون الفلسطيني الذي أسماه القديس أنطونيوس نجمة الصباح لأنه أول من جاءه من الغرب وتتلمذ علي يديه, عاد إلي بلاده حاملا في قلبه الرسالة الرهبانية القبطية وأسس أديرته الأولي في غزة, ثم فلسطين كلها, وهكذا علمت مصر فلسطين مهد السيد المسيح الرهبنة, وانطلقت الرهبنة المصرية إلي بلاد ما بين النهرين, علي يد القديس أوجيه الذي تتلمذ علي يد القديس انطونيوس ثم رحل من الصعيد ومعه سبعون راهبا قبطيا وأقاموا في براري العراق وبنوا أديرة الموصل وجزيرة عمر وطور عابدين وسنجار وبشروا جميع النواحي بين الآشوريين وكانوا أعمدة نورانية في الشرق البعيد, أما في سوريا فقد انتشرت علي يد القديس أفزام الذي استقي رهبانيته الأولي في وادي النطرون. كما انتشرت رهبنة مصر في إنجلترا وأيرلندا وفي إيطاليا وفرنسا وجنوب ألمانيا واليونان وأسبانيا وآسيا الصغري وشمال إفريقيا.
وعلي سبيل المثال فإن الرهبنة المصرية انتشرت في فرنسا عن طريق يوحنا كاسيان435-360 م, الفرنسي الذي جاء إلي مصر, وتتلمذ علي رهبانها الذين كانوا يعيشون جنوب بحيرة المنزلة, عند بحيرة مريوط, ووادي النطرون, فلما تشبع بكل حكمة رهبان مصر, عاد إلي بلاده فرنسا, وأسس ديرين في مرسيليا علي نفس طريقة رهبان برية شيهيت وادي النطرون وكتب كتابين ضمنهما خلاصة التعاليم التي تلقاها من آباء مصر, وهما كتابا المؤسسات والمحاورات واللذان صارا المنهج الأساسي لكل التعاليم الرهبانية في الغرب.
ويمكن القول إن الرهبانية المصرية هي التي جعلت كل قديسي العالم يعرفون طريقهم للقداسة ويكفي أن القديس اغسطينوس,430-354 م أمير المتصوفين في العالم, أحد أعظم آباء الكنيسة الذين صبغوا فكر المسيحية في الغرب والشرق, وامتد أثره علي مدي التاريخ حتي يومنا هذا, يكفي أن رسالة الإلهام الأولي والعظمي أتته من مصر في صيف386 م, وذلك أنه قرأ حياة القديس انطونيوس وبعدها اعتزل العالم مباشرة, ودخل في صراع عميق مع نفسه ومع العالم وأخيرا انتصرت روح مصر وروح القديس انطونيوس, واستلم القديس أوغسطينوس الخلاص واعتمد في عيد القيامة سنة.387
وجه مضيء في الظلام
ومن أشهر الأديرة التي ارتبطت بالقديسين, والقديسين الذين ارتبطوا بالأديرة, القديس مكاريوس وديريه في البراموس وووادي النطرون.
وكان القديس مكاريوس من القديسين الذين ظهرت عليهم الحكمة في شبابه, فكانوا يسمونه الصغير صاحب حكمة الشيوخ, وكانت له قدرة علي استبطان الأمور, قبدت وكأنها روح نبوة فكانوا يدعونه النبي.. اللابس الروح أي حامل الروح القديس.
وكان وجهة يضيء بالنعمة, حتي أن آباء كثيرين شهدوا بأنه كان يضيء في الظلام, فأسموه المصباح المضيء, وهي الصفة التي انتقلت إلي ديره, فدعي كذلك, مصباح البرية المضيء أو الدير المضيء, فكان الحكمة العالية والصلاة الدائمة وتشتهر عن القديس مكاريوس الرؤيا الشهيرة باختيار الدير, حيث ظهر له ملاك الرب بمنظر نوراني بهيج يسير به في الصحراء, ووقف القديس في الصحراء حائرا يطلب من الله أن يريه مكانا لائقا يسكن فيه, فقال له الرب علي لسان الملاك,هذه الإرادة هي لك, هاكل البرية أمامك, لأنني أخشي لئلا أعطيك وصية أن تسكن هنا أو هناك, فيقاتلك الضجر أو الاضطهاد وتخرج من ذلك الموضع وتتجاوز الوصية فتخطيء, فليكن سكناك بسلطانك.
وإذا كان الأب انطونيوس هو أعظم الرهبان, فإن دير المحرق هو أعظم الأديرة والذي يقع علي سفح الجبل الغربي قسقام بأسيوط ليقع في منتصف أرض مصر تماما من جميع الاتجاهات وهو أهم المحطات التي استقرت فيها العائلة المقدسة ولذلك يسمي بيت لحم الثاني وفيه يوجد المذبح الحجر الذي نام عليه المسيح الطفل وهو أقدم مذبح حجري في التاريخ بعد أن ارتحلت العائلة المقدسة من الأشمونين وديروط إليه, ومن الدير بدأت عودة العائلة المقدسة حيث ظهر ملاك الرب ليوسف النجار في حلمه قائلا: قم, خذ الصبي, وأذهب إلي أرض إسرائيل, لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي.
ودير المحرق يضم كنيسة السيدة العذراء الوحيدة والفريدة في مصر والعالم كله التي دشنها وقدسها وباركها السيد المسيح بنفسه ورش المياه بيديه المباركتين في كل أركانها, وكان الملاكان ميخائيل وجبرائيل يحملان الوعاء الذي يحوي الماء الذي قدسه المسيح بذاته.
ولم يقدس السيد المسيح الكنيسة فحسب, بل قدس أرض مصر وشعبها, لذلك كان طبيعيا أن يخرج منها القديسيون الذي أضاء نورهم العالم كله, كما خرج منها أولياء الله والمتصوفة, والفقهاء, وأقام بها أهل بيت النبي صلي الله عليه وسلم, لتنال بهم شرف الدين والدنيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.