الإنسان والجسد



الإنسان والجسد
=============

د. عادل حليم

الإنسان وحدة نفسية جسمانية، كما أنه يحوي داخله نفخة الحياة الإلهية (الروح الإنسانية) كما جاء في (تك 7:2). في اللغة اليونانية، وهي اللغة التي كُتب بها كتاب العهد الجديد، يستعمل الكتاب المقدس ثلاث كلمات مهمة تخص الإنسان:

SOMA أي جسم بشري.

SARX أي لحم، ويستعمل أيضاً بمعنى الإنسان كله نفساً وجسداً.

PNEUMA (بنفما)، أي الروح الإنسانية.

والجسم البشري SOMA باليونانية أو BODY بالإنجليزية هو أحد أعمال الله المعجزية، ولذلك هو يكشف عظمة الخالق وقدرته الجبارة، وقد خلقه الله نقياً، وأراد له أن يستمر في النقاوة.

وكلمة SARX تستعمل حرفياً بمعنى لحم FLESH أو تستعمل بمعنى الإنسان كله، لذلك فإن السيد المسيح اتخذ له SARX، أي أخذ طبيعتنا البشرية ما خلا الخطيئة وحدها.. لهذا نقول في القداس الإلهي: AAAAA أي أخذ طبيعتنا = تجسد.

وتُستعمل كلمة SARX استعمالاً غير حرفي (مجازي).. حيث يستعملها بولس الرسول بمعنى "الطبيعة الإنسانية الخاطئة"، أو "شهوات النفس ورغباتها الأنانية.

أما كلمة PNEUMA (بنفما) فتعني الروح الإنسانية، أو الجانب الروحي الإلهي من الإنسان.

يوجد أيضاً في الإنسان – إلى جانب الجسم والروح – عنصر مهم وأساسي في تكوينه هو النفس الإنسانية، وقد خلقها الله نقية، ولكنها أرادت أن تنفصل عن الله، وقد كان.. فصارت نفساً خاطئة مشوهة متغربة عن الله.

والنفس الإنسانية يمكن أن تكون صالحة، مثل النفس التي كانت لآدم قبل السقوط، أو مثل النفس التي اتخذها الابن الكلمة المتجسد، أو مثل النفس المتجددة بفعل الروح القدس لدى المسيحي الحقيقي.

والنفس أيضاً يمكن أن تكون شريرة خاطئة، مثل نفس الإنسان بعد السقوط، أو نفس الإنسان البعيد عن الله عموماً.

كلمة "جسد" في رسائل بولس الرسول
عند القديس بولس الرسول لفظان يُترجمان في الطبعات العربية للكتاب المقدس إلى كلمة "جسد"، وهما:

1- لفظ SOMA باليونانية (لغة كتاب العهد الجديد)، ويعني "الجسم البشري"، وتقابل بالإنجليزية كلمة BODY.

2- لفظ SARX وهو يعني حرفياً لحم، ويُستعمل مجازاً بمعنى الطبيعة الإنسانية سواء كانت في حالة قداسة، أو في حالة خطيئة وانفصال عن الله، وتقابل بالإنجليزية كلمة FLESH.

لكن بولس الرسول يستعمل SARX غالباً بمعنى الطبيعة الإنسانية وهي في حالة الخطيئة والبُعد عن الله.

ونلاحظ هنا أن كلاً من كلمتي SOMA أو SARX تترجمان في الطبعات العربية إلى كلمة واحدة هي "جسد"، مما يسبب كثيراً من الالتباس في المعنى عند القارىء للكتاب المقدس باللغة العربية، حيث تترجم SARX إلى "جسد" في الوقت الذي يقصد فيه بولس الرسول معنى "طبيعة خاطئة"، مما يجعل المعنى مختلفاً.. ومثال ذلك الآية: "الذين هم في الجسد SARX لا يستطيعون أن يُرضوا الله" (رو 8:8) فإذا تُرجمت SARX إلى "جسم" يصير المعنى: الذين لهم أجسام لا يستطيعون أن يُرضوا الله..!، إما إذا تُرجمت إلى "طبيعة خاطئة" يتضح المعنى المقصود وهو: الذين يسلكون حسب الطبيعة الخاطئة لا يستطيعون أن يُرضوا الله.

وفي اللغات الأخرى نجد ترجمات تفسيرية للكتاب المقدس، فيها توضيح للمعنى.. ففي اللغة الفرنسية نجد CORPS بمعنى "جسم"، ونجد CHAIR بمعنى "طبيعة خاطئة".. كذلك في اللغة الإنجليزية نجد BODY بمعنى "جسم"، ونجد HUMAN NATURE أو EARTHLY DESIRES بمعنى "طبيعة بشرية خاطئة".

ولذلك يجد البعض صعوبة في التمييز بين الاستعمالين لكلمة "جسد"، وقد يختلط الأمر على البعض فيفهمون أن الجسم الإنساني بحد ذاته هو مصدر الخطيئة والنجاسة، وهذا – بالطبع – يسيء جداً إلى كرامة الجسم الإنساني الذي هو هيكل للنفخة الإلهية.

الكنيسة تكرم الجسد الإنساني
خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، ويرجع السبب في كونه على صورة الله إلى أنه هو المخلوق الوحيد الذي نفخ فيه الله نسمة الحياة الإلهية: "وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية" (تك 7:2).

فالإنسان إذن، هو الكائن الوحيد الذي يجمع داخله امتزاج المادة بالألوهية، إذ أنه يشترك مع الخليقة المنظورة في أصل تكوينها من مادة الأرض، بالإضافة إلى الإمكانيات الروحية التي وُهبت له بسبب كونه على صورة الله.. فالإنسان إذن، ملتقى ما هو مادي بما هو إلهي، وهو بهذا فريد بين كل الخليقة.

في الإنسان يجتمع العنصر المادي، ونقصد به الجسم بوظائفه الحيوية، والعنصر الإلهي ونعني به النفخة الإلهية التي وُهبت له فصارت له إمكانية الحياة والحضور، والتفاعل والتجاوب مع الله والارتباط به داخلياً.. فإن كان الله قد قبل أن ينفخ نسمة الحياة في الجسد الإنساني، فأية كرامة قد صارت لهذا الجسد؟

كرامة الجسد الإنساني:
على المستوى المسيحي نجد للجسد الإنساني أهمية خاصة:

+ فالجسد هو الوعاء الإنساني الذي يحوي داخله نسمة الحياة الإلهية (تك 7:2).

+ وجسد المسيحي المؤمن هو هيكل للروح القدس: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس." (1كو 19:6).

+ أجساد المؤمنين هي أعضاء المسيح: "أم لستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء للمسيح" (1كو 15:6)، فالكنيسة هي جسد المسيح (كو 24:1)، والمؤمنين معاً هم الكنيسة، ولذلك هم أعضاء جسد المسيح: "لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أف 30:5).

ينبغي إذن، أن نهتم بسلامة الجسد (أف 29:5)، بشرط ألا يطغي ذل على اهتماماتنا الروحية، وأن يكون هناك اتزان بين احتياجاتنا اليومية (الخبز اليومي)، وبين حياتنا الروحية، فلا نهمل العناية بأجسادنا ولا نُفرط في الاهتمام بها.. إنما ينبغي أن يكون "كل شيء بلياقة وحسب ترتيب" (1كو 40:14) و"إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما" (1تي 8:6).


تجسد الابن الكلمة والجسد الإنساني
لقد بارك الابن الكلمة الأزلي الجسد الإنساني، حينما اتخذه موحداً إياه بلاهوته، وشاركنا في حياتنا البشرية، وكان هذا يعني تدفق الحياة الإلهية إلى الكيان البشري من خلال الجسد الإنساني الذي اتحد به الابن الكلمة.

والابن الكلمة حينما اتخذ له جسداً، كان جسداً إنسانياً كاملاً، أي بكامل أعضائه، ووظائفه الفسيولوجية وإفرازاته، وظهر به في ملء الزمان، وعاش به بين البشر، وشابههم في كل شيء ما خلا الخطيئة وحدها، ومر بنفس مراحل النمو الجسدي والنفسي التي مر بها كل إنسان: "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لوقا 52:2).

أما ختان المسيح بالجسد فيدل على أن جسد المسيح جسد حقيقي كامل فيه جميع الأعضاء الجسدية بلا استثناء، وقد بارك الرب يسوع الجسد الإنساني والنفس الإنسانية حينما قبل أن يوحدهما بلاهوته.

وحينما صُلب الرب يسوع بهذا الجسد، ثم مات وقام به جسداً ممجداً، صعد به أيضاً إلى السموات، وجلس في يمين عرش العظمة، أي أنه مات وقام ممجداً وهو لابس طبيعتنا الإنسانية حتى تصل مفاعيل القيامة إلينا من خلال اتحاده بنا.. "ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع" (أف 5:2، 6).

هكذا نجد أنه من خلال اتحاد الابن الكلمة الأزلي بأجسادنا، تبارك الجسد الإنساني، كما أننا نلنا مفاعيل موت المسيح وقيامته وصعوده في حياتنا من خلال اتحاده بأجسادنا، بل وصارت لنا إمكانية أن نكون في النهاية شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 4:1).

وهذا هو نجد القديس يوحنا ذهبي الفم يقول عن صعود المسيح وجلوسه عن يمين الآب: (إنه بالمجد والكرامة يقيم ابن الله قبل الدهور، أما حينما تجسد في آخر الأيام فقد أصبح يقيم بصورة جسدية ممجدة بعد أن احتفظ الابن الكلمة بالجسد الممجد احتفاظاً دائماً.. وهذا يرفع جداً من قيمة الجسد، ويجعلنا نحرص على أن تظل أجسادنا هياكل لائقة بسكنى روح الله فينا.

الكنيسة جسد المسيح:
يرسم لنا بولس الرسول صورة الكنيسة باعتبارها جسد متكامل: المسيح هو رأسه، والكنيسة هي بقية الجسد، وكل عضو من أعضاء الكنيسة يمثل جزءاً من هذا الجسد، ولذلك يشعر كل عضو بالأعضاء الآخرين في كيان كنسي رائع متحد معاً ومع المسيح (راجع 1ك 12)، ولأن المسيح تألم من أجل الكنيسة فنحن مستعدون أن نتألم بعضنا لأجل بعض.

الرأس والجسد:
يرسم لنا بولس الرسول صورة رائعة للكنيسة، فهو يراها جسداً حياً نابضاً فعالاً رأسه المسيح، ونحن أعضاء جسمه من لحمه وعظامه (أف 30:5)، وكل عضو له دور فعال في هذه الكنيسة الجسد، ولا يمكن أن يستغني الجسد عن أي عضو من أعضائه، ولا يقوم عضو بدور عضو آخر، فلكل دوره الخاص المتميز: "لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد... فالآن أعضاء كثيرة ولكن الجسد واحد، لا تقدر العين أن تقول لليد: لا حاجة لي إليك.." (1كو 12:12).

لذا علينا نحن أعضاء جسد المسيح أن نثبت فيه، ونثبت في بعضنا البعض؛ فهو "رأس الجسد الكنيسة، الذي هو البداءة، بكر من الأموات، لكي يكون هو متقدماً في كل شيء" (كو 18:1) ولنكن "صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح" (أف 15:4).

نقائص شدائد المسيح..!!
لذلك يقول بولس الرسول لأهل كولوسي: "الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة" (كو 24:1).. ولكن هل يعني ذلك أن آلام المسيح ناقصة؟

إن الرب يسوع قد تألم من أجل فدائنا، ولكن آلامه لم تنته بالصلب والموت والقيامة والصعود، لأنه لما صعد إلى السماء ترك الكنيسة – التي هي جسده – في العالم، وفي العالم ضيق ومعاناة وشدائد (يو 23:16).. والكنيسة تسير في طريق آلام المسيح، ولكنها حتماً ستصل إلى نهاية طريق الألم حيث المجد الأبدي: "إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رو 17:8).

ومادامت الكنيسة هي جسد المسيح، وهو رأسها (كو 18:1) فهذا معناه أن آلام المسيح (الرأس) التي بدأت بالصليب لا تزال مستمرة في جسد المسيح (الكنيسة) الذي لا يزال يحيا في وسط العالم.. فالمسيح بدأ رحلة الألم لأجلنا، والمؤمنون يمتدون بهذه الآلام لأجل الآخرين (العالم)، ولذلك يقول يوحنا الرسول: "بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الأخوة" (1يو 16:3).

بنفس هذا المعنى يقول بولس الرسول: "الذي الآن أفرح في آلامي لأجلكم (أي مثلما تألم المسيح لأجلي راضياً هكذا أفعل أنا لأجلكم)، وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي SARX (أي لحمي)، لأجل جسده SOMA الذي هو الكنيسة" (كو 24:1).

وكأن بولس الرسول يقول: إن معاناتنا الجسمانية وشدائدنا هي في الواقع امتداد لآلام المسيح التي بدأت بالصليب، وكما تحولت آلام المسيح لفائدتنا وخلاصنا، هكذا تتحول آلامنا نحن – المؤمنين – لصالح كل الكنيسة التي هي جسد المسيح، بل لصالح العالم من حولنا أيضاً.. وكأن شدائد المسيح وآلامه "ناقصة" لا تكتمل إلا بآلامنا، بمعنى أن شدائدنا امتداد لشدائده ومكملة لها..

غير أننا ينبغي هنا أن نلتفت إلى أن تعبير "نقائص شدائد المسيح" لا يعني أن آلامه لم تكن كافية لخلاصنا، بل يعنى أن آلامنا هي امتداد لآلامه التي بدأها بالصليب.. لأنه ماذا بقي من آلام لم يذقها المسيح بعد أن ذاق آلام الموت؟ وماذا بقي من شدائد لم يكابدها بعد أن كملت شدائده بالموت؟.. ولكن هذا التعبير يعني أن آلامنا هي امتداد لآلامه التي بدأها بالصليب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010