إنها عقول!!!



إنها عقول!!!
================


عقول تبتكر الخير... وعقول تبتكر الشر.. عقول تشوه الجمال.. وعقول تصنع الأصنام
إنها عقول!!!


في كل صباح كان موكب النساء يتجه إلى البئر الكبير في قلب الصحراء، وكل واحدة منهن تحمل جرتها لتستقي من ماء البئر. ولم تكن المهمة سهلة عليهن، فقد كانت البئر عميقة، وإلى جوار البئر دلو ثقيل مربوط بحبل غليظ، وكان على كل واحدة من النساء أن تحمل الدلو، وتقذفه إلى عمق البئر ليمتلىء، ثم تجذبه بجهد شديد إلى حيث تقف. ثم تحمل الدلو مرة أخرى لتفرغه في جرتها، وهي ترتعش تحت حمله الثقيل. وبعد ذلك كله تحمل الجرة المليئة إلى البيت لتعود ثانية وثالثة في ذات اليوم، لتفي بحاجات الأسرة، وحاجات البهائم. وظلت هذه المهمة الشاقة من نصيب النساء جيلاً بعد جيل، لا سبيل للفرار منها أمام مطلب حيوي هو الماء. ثم جاء أحد الفلاسفة، ووقف إلى جوار البئر، يتأمل هذا الجهد المبذول. والتأمل بالنسبة للفيلسوف ضروري كالماء والهواء، فهو غذاؤه اليومي الذي لا يستغني عنه. وعاد الفيلسوف إلى بيته، وهو يحمل في صدره إحساساً عميقاً بمسئوليته أن يخفف هذا العبء عن النساءالصابرات! ولعله لم ينم ليلته أو لياليه، حتى وجد الحل! ففي ذات صباح جاءت السيدات إلى البئر، فوجدن الحبل ملفوفاً حول بكرة، والبكرة معلقة في رافعة خشبية إلى جانب البئر!. ودهشت النساء وهن يشاهدن الفيلسوف يدير العجلة بسهولة فيرتفع الدلو محملاً بالماء، ويتأرجح في الهواء، فيمسكه الفيلسوف، وهو لا يزال معلقاً، فيميله ليملأ الجرار الفارغة بسهولة تامة! وكان هذا الابتكار البسيط هو أعجب ما رأت نساء البادية في القرن الخامس قبل الميلاد. وذكرت الموسوعات التاريخية هذا الابتكار العظيم للفيلسوف اليوناني "أرخيتاس" صديق أفلاطون، الذي ابتكر "بكرة الدلو"! ما أعظم الابتكارات التي تنبع من قلوب الرحمة والحب. ابتكارات أفادت البشرية: ليس في عالمنا من يستطيع أن ينكر فضل المبدعين في كل العصور. فنحن نستمتع في كل لحظة بأبتكاراتهم، ليس ابتكارات اليوم فقط، بل ابتكارات الأجيال المتعاقبة. وقلما يخطر ببالنا ونحن نتداول معطيات الحياة العصرية، تلك المعاناة التي عاشها المبدعون، وهم يتمخضون شهوراً أو سنيناً، حتى أخرجوا إلى النور إبداعاتهم المتميزة. هل يمكن أن ننسى ابتكارات الفنانين، والأدباء، والشعراء، والموسيقيين، الذين أبدعوا أعمالاً خالدة أسعدت ملايين البشر؟ هل يمكن أن ننسى ابتكارات العلماء والمهندسين الذين صنعوا عناصر الحضارة: السيارة والقطار والطائرة أو الهاتف والراديو والتلفاز، أو الآلة الحاسبة والحاسب الآلي.. إلخ؟! هل يمكن أن ننسى ابداعات الأطباء، الذين يبتكرون وسائل معالجة الداء، أو تخفيف الألم؟! إن عقول المبدعين تفاجئنا كل صباح بابتكارات رائعة تغير وجه الحياة!! وعقول تبتكر الشر: غير أن الابتكار غير قاصر على ما يفيد. فبعض الابتكارات ضارة، وتؤدي إلى إيذاء الناس! فأدوات الحرب مثلاً، وأسلحة الدمار الشامل، وابتكارات الفناء كالأسلحة البيولوجية، والأسلحة الكيماوية..إلخ. جميعها ابتكارات أدمت جسم البشرية، وأغرقت العالم في بحور الدم والدموع والعذاب واليتم والخراب! والحياة اليومية أيضاً مليئة بابتكارات شريرة، فهناك من يبتكرون وسائل الغش التجاري، والإعلاني. وتقوم العصابات الإجرامية بابتكار طرق التخفى وخداع الضحايا، بل وخداع الشرطة، وخداع الأجهزة الالكترونية بوسائل مبتكرة! وهناك من يبتكرون أساليب جديدة لتهريب الممنوعات عبر الحدود، أو إخفاء المخدرات وغيرها. ففي كل يوم يطلع علينا المحتالون بأساليب مبتكرة للنصب والاحتيال، فمنهم من يؤسس شركة تجارية وهمية يبيع أسهمها، ومنهم من يبيع أملاكاً أو عقارات أو أرضاً ليست له! ومنهم من يروج العملة المزيفة، أو يبيع النحاس المشغول باعتباره ذهباً، وقطع الزجاج باعتبارها أحجاراً كريمة! إن كثيراً من المجرمين يحملون عقولاً جبارة قادرة على الابتكار، وهم يوظفون عقولهم في خدمة شرورهم! عقول تشوه الجمال: وهناك ابتكارات عظيمة، ابدعتها عقول مخلصة، لكن الناس يستخدمونها في أغراض رديئة! فهناك مثلاً "الديناميت"، هذا الابتكار جاء نتيجة جهد شاق بذله العالم السويدي "الفريد نوبل" الذي أفنى حياته في صنع المتفجرات لخدمة المناجم وأعمال التعدين، وقطع الأحجار، من أجل البناء. لكن العالم استخدم الديناميت بشراسة في الحرب العالمية الأولى، وقبل مرور ثمانية عشر عاماً على وفاة نوبل – الذي مات وهو يدعو للسلام! وحين اكتشف العالم الأمريكي "لونج" الأيتير المخدر لتخفيف آلام الناس، لم يدر بذهنه أن الناس سيستخدمونه يوماً في أعمال الجريمة! وحتى الابداعات الفنية الراقية، كالوحات عظماء الفنانين، تتحول بين أيدي التجار إلى سلعة للمزايدة والمضاربة والغش! ولعل هذا ينطبق على أغلب الابتكارات التي يبتدعها المفكرون لصالح البشرية، ثم تتداولها الأيادي الآثمة لتشويه وجهها، واستخدامها في الشر! عقول تصنع الأصنام: وأشر الابتكارات هي ابتكار أصنام عصرية، نعبدها، ونخلص لها..! وهي ابتكارات حديثة، لم يعرفها عبدة الأوثان في القديم، فالقدماء عبدوا حجراً أو خشباً أو شيئاً منظوراً، وعبدوها جهراً، لكن ابتكارات العصر آلهة معنوية، يصنعها الغافلون لأنفسهم، ويعبدونها سراً! كالمال أو الشهرة، أو المخدرات، أو الجنس أو العادات.. إلخ. والذين يبتدعون أصنام العصر يبذلون من أجلها العمر، ويزهقون الحياة في محرابها! وكما كنا ندهش حين نسمع عن إنسان يعبد حجراً صنعه بيديه، ونعجب سائلين: أين ذهب عقله هل نسى أنه هو الذي صنع الصنم؟! فإننا ندهش اليوم بالأكثر، حين نرى كثيرين من أصحاب العقول المبدعة، يبتكرون أصنامم التي تسيطر عليهم تماماً، فيكرسون أنفسهم لطاعتها! عزيزي القارئ.. هل عقلك يبتكر الخير أم يبتكر الشر؟؟؟ هل يشوه الجمال؟؟ هل يصنع الأصنام؟؟؟ إذا كنت لا تمتلك العقل الذي يبتكر الخير.. فلتصلي معي هذه الصلاة من قلبك: يارب.. أشكرك من أجل العقل، والفكر، والتأمل، والابتكار. أشكرك لأنك الخالق المبدع، صممت هذا الكون بحكمة بالغة، وصنعتني قادراً على الابداع؛ فروحك يرشدني، ونورك يهديني، وحكمتك تلهمني، لأصنع شيئاً جديداً. فأنا أؤمن أن ابتكارات العلماء هي هداياك المستمرة لنا. وابداعات الفنانين والأدباء، هي منحة السماء للبشر، وهي نسمات الحب والجمال والعزاء لعالم متألم. لكننا نشوه هداياك، نسيء استخدام المواهب – التي منحتها لنا، نجعلها وقود لشرورنا، نشعلها لنحترق فيها! فكلما أنبت الزمن غصناً، صنعنا منه رمحاً نتقاتل به! أصبحنا خبراء في ابتكار الشر، وابتداع الحيل! ونحن ندعي أننا نعبدك، لكن عبادتنا ليست خالصة لك، نعطيك الشكل والمظهر، أما القلب فتملكه الأهواء: المال – الشهرة – القوة – الجنس! أصنام مبتكرة من إنتاج العصر! نلبسها شكل العلم! أو شكل الدين! أو شكل الجنتلمان! نستودرها من أفلام الفيديو! نلبسها فوق جلودنا كالأزياء! موديلات الساعة! ونقول هذا شكل حضارتنا، هذا شكل العصر، هذا دين العصر. هل أصبحت الشهرة دين العصر؟ هل صار المال إلهاً؟ هل صار الزي إلهاً – في هذا الزمن؟ يارب سامحنا، واعدنا إليك، أكشف لنا زيف عبادتنا الجوفاء، بطلان الأشكال المبتكرة، ارشدنا للحق، فليعمل روحك فينا، فيبدد كل ظلام، ويحطم كل الأصنام، أغمر قلوبنا باليقين والثقة، وأشبعنا بالسلام الداخلي.. يا ملك السلام وصانع السلام... يارب. `17`



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010