إنطلق من حب التعليم

إنطلق من حب التعليم
+++++++++++
مقال لقداسة البابا شنودة الثالث من كتاب
إنطلاق الروح - الطبعة الثامنة - فبراير 1993
++++++++++++++++++++++++


حب التعليم خطر كبير ... إبتعد عنه يا أخى حيثما وجد و أهرب منه على قدر ما تستطيع. إنك تريد أن تعلم الناس، و لكن أى شئ تريد أن تعلمهم؟

ألست معى يا أخى العزيز فى أننا لم ننضج بعد، و لم نتعلم بعد؟ هناك أشياء نفهمها من وجهة نظر واحدة فنسئ فهمها. و عندما ندفع بأنفسنا لتعليم الناس، لا لنعلمهم الدين كما هو، و إنما كما نفهمه نحن، و فى سن معينى، و درجة روحية و عقلية معينة. و قد نكبر فى السن و الروح و العقل، و نفهم الدين فهماً آخر غير فهمنا له اليوم، فماذا يكون من أمر الناس الذين علمناهم قبلاً؟!

لذلك و لغيره يقول القديس يعقوب الرسول فى رسالته "لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتى، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا فى أشياء كثيرة نعثر جميعنا" (يع 3 : 1 و 2). و هكذا نسمع أرميا يقول لله "لا أعرف أن أتكلم، لأنى ولد" (أر 1 : 6). و يقول إشعياء النبى عن نفسه إنه "إنسان نجس الشفتين" (إش 6 : 5). و نجد القديس باخوميوس يأتون إليه يطلبون كلمه تليق، فلا يتحدث إليهم، و كلنه يدفع بتلميذه تادرس فيتحدث روح الله على لسان هذا التلميذ القديس.

و أحد الآباء و هو شيخ، يأتى إليه أخ ليأخذ تعليماً فيقول له "أمكث فى قلايتك و هى تعلمك كل شئ" فيرجع الأخ منتفعاً .. قصص كثيرة، إقرأها يا أخى بنفسك، و أنظر أى درس يعطيك الله عن طريقها. و لى ملاحظة قبل أن أترك هذه النقطة و هى أن تعاليم كثيرة للآباء القديسين وصلت إلينا عن أحد طريقين: إما أن الأب الشيخ كان فى أثناء حديثه مع الأخوة، يتناول راهب ورقة و يدون ما يقوله الشيخ، و إما أن الأب كان يسجل تأملات له لمنفعته، فيجدونها فى قلايته بعد نياحته و ينتفعون بها.

هناك يا أخى الحبيب فرق شاسع جداً بين التعليم و حب التعليم: التعليم دعا إليه الكتاب المقدس، و عهد به إلى أشخاص معينين. أما حب التعليم ففيه خطر كبير، فى أحيان كثيرة يكون شيطاناً متنكراً ... مع حب التعليم يأتى فى كثير من الأحيان إحساس خفى أو ظاهر بالجدارة الشخصية، و بالامتياز عن الآخرين، و كلما يتسع عن الشخص نطاق التعليم كلما يكبر عنده هذا الاحساس، حتى ليدخل إلى الكنيسة أحياناً لا لينتفع بل لينتقد و يقيم من نفسه معلماً للمعلمين. إنه لا يأخذ أبداً، و إنما يعطى باستمرار، و مثل هذا الشخص الذى لا يأخذ يأتى عليه وقت يجف فيه، و لا يعد لديه شئ ليعطيه.

أما الآباء فكانوا على عكس هذا تماماً. كانوا يتعلمون باستمرار و يأخذون نفعاً من كل شئ. كان القديس أنطونيوس العظيم يأخذ تعليماً من إمرأة "لا تستحى أن تخلع ثيابها لتستحم أمام راهب". و القديس مكاريوس الكبير أب برية شيهيت كلها يأخذ تعليماً من صبر صغير. و أرسانيوس الذى درس حكمة اليونان و الرومان يتعلم من مصرى أمى. هؤلاء الآباء كانت أرواحهم تطوف كالنحلة النشيطة فتجنى من كل زهرة شهداً.

هناك خطورة أخرى فى حب التعليم، ذكرنى بها إنسان غيور شغله التعليم عن نفسه: كان يقرأ فى الكتاب المقدس لا لينتفع، و إنما ليحضر درساً. و يحسن إلى الفقراء لا لإنه يحبهم و إنما ليكون قدوة للناس. و يحترس فى تصرفاته لا لأنه يؤمن بما يفعله، و إنما لكى لا يعثر الآخرين. و يجلس إلى الناس لا ليقتبس من أرواحهم شيئاً، و إنما ليمتحن حديثهم "كأستاذ" ثم يلقى بحكمة شارحاً الأوضاع السليمة. بل قال مرة إنه كان يقف للصلاة فإذا ما إفتقده روح الله، و شعر فى الصلاة بشئ، أو سبحت تأملاته فى شئ يقطع صلاته و يجلس ليسجل هذه الاختبارات ليعلم بها الناس. لقد إنقلبت وسائط النعمة عند هذا الانسان، و أصبح التعليم عنده هو كل شئ.

همسة أخرى أريد أن أهمسها فى أذنك الحبيبة إلى قلبى و هى "أى شئ ستعلمه للناس؟ أهو الدين؟ هل تظن الدين مجرد معلومات يملأ بها الانسان عقله؟ أخشى ما أخشاه يا صديقى المجاهد أن طريق بعض الناس ستحول الدين إلى علم يدرسونه و يمتحنون فيه كسائر العلوم، و ما الدين إلا روح و حياة كما تعرف".

قال لى "و لكنى معلم فى الكنيسة فماذا أفعل؟!". قلت له "حية هى روحك يا أخى الحبيب. إنك لا تعلم تلك النفوس و إنما تحبها. و هذه الأرواح التى تراها منطلقة حواليك، لم تطلقها التعاليم و إنما المحبة، و المحبة التى "لا تسقط أبداً" لأنها الله.
إبحث داخلك أولا و أعرف لماذا بدأت تحضر للموضوع: فإن كنت تريد أن تستفيد شخصياً فهذا يعتبر أخذ و ليس عطاء فى التعليم و هو محبب لله. أما إن كان بغرض تعليم الآخرين أولاً فهذا هو حب التعليم الذى تكلم عنه يعقوب الرسول و شرحه قداسة البابا شنودة الثالث.

الاجابة داخلك فلا تبحث بعيداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010