الضمير أمام الضباب أحياناً

هناك أمور كثيرة تكون واضحة جداً أمام الضمير، لا يجد في الحكم عليها أيَّة صعوبة على الإطلاق ... بينما أمور أخرى يحيط بها ضباب كثيف، يقف أمامها حائراً جداً لا يدري بماذا يحكم، ولا يرى أين الخير وأين الحق؟ وأين النافع وأين الضار؟!



وفي هذه الحالة، رُبَّما لا يكتفي الضمير بذاته، فيستعين بضمير أحد المرشدين، وقد يقف هذا المُرشد أيضاً في حيرة، لأنَّ الخير ليس واضحاً أمامه، فيقول: " نُصلِّي وننتظر، لعل الله يكشف الأمر لنا "...



لذلك يُخيَّل إليَّ أن الطريق الروحي يحتاج أحياناً إلى عسكري مرور يقف فيه وبيده عَلَمان، أحدهما أخضر والآخر أحمر، فيسمح لهذا الأمر أن يمر، ولا يسمح لذاك بالمرور، واضعاً حدوداً بين الحلال والحرام، وبين الجائز وغير الجائز ... نقول هذا، لأنَّ أسئلة عديدة تدور حول بعض أمور منها:



«« ما هى الحدود الروحية بين الصمت والكلام؟ متى ينبغي للإنسان أن يصمت، ويكون في صمته حكمة، ويقول " أنا مالي، خلِّيني في حالي "؟! ومتى يجب عليه أن يتكلَّم، لأننا في بعض الأحيان ندان على صمتنا؟ متى يرى الخطأ في غيره، فيوبخ وينتهر؟ ومتى يقول " لا جدوى من التوبيخ غير فقدان سلامنا مع الآخرين"؟!



«« أيضاً متى يُسمَح بالمزاح مع الآخرين؟ ومتى لا يجوز ذلك؟ وما هو الحد الفاصل بين المزاح المقبول، والمزاح غير المقبول؟ وأيهما أفيد الروح الجادة أم المرحة؟ وما حدود هذه وتلك؟



«« كذلك ما حدود الشكوى؟ وما حدود العتاب؟ ومتى يجوز للإنسان أن يشكو ويُطالب بحقه؟ ومتى يجعل الشكوى للَّه وحده، ومتى يتنازل عن حقه ولا يُطالب به، ولا يدخل في نزاع مع آخرين؟



ومتى يرى العتاب مفيداً، يصفي به حساباته مع المسيئين؟ ومتى يبعد عن العتاب لئلا تسوء الأمور بالأكثر، حسبما قال الشاعر:



ودَعْ العتابَ فربّ شرٍّ .. كان أوله العتابا



«« وما الحُكم على المُنتحر؟ هل نعتبره قاتل نفس، لأنه لا يملك نفسه ليقتلها؟ أم نقول عنه إنه لم يكن يملك قواه العقلية أثناء انتحاره؟ وإلى أي حد؟ ... وبنفس المنطق ما مدى الأحكام على الأطفال إن أخطأوا: هل هم لا يدرون ماذا يفعلون؟ أم نحاسبهم على تصرفاتهم؟ وفي أي مرحلة من العمر؟ وإن حاسبناهم، هل نحاسب معهم البيئة التي عاشوا فيها، ونوعية التربية والتوجيه؟ ...



«« هناك أسئلة أخرى قد تقف أمام الضمير: ما هى الحدود الفاصلة بين الراحة والكسل، وبين الحزم والقسوة، وبين الحُب والشهوة، وبين الحرفية والتدقيق، وبين الحرية والتَّسيُّب، وبين النقد والتجريح، وبين الحب والتدليل، وبين التواضع وصِغَر النفس؟؟ كلها أسئلة تحتاج إلى إجابات فاصلة، وإلى مزيد من الشرح والتوضيح. وسنحاول أن نتناولها أو بعضها بشيء من التفاصيل.



«« إنَّ مسائل الصمت والكلام والتوبيخ والعتاب والشكوى وما أشبه، كلها تحتاج إلى حكمة من الضمير في حكمه. فليس كل صمت أو كلام يكون فضيلة أو خيراً في ذاته. إنَّما يتكلَّم الإنسان حين يجب عليه ذلك، ويصمت حين يحسن الصمت ...



فحين يكون الكلام لازماً لإنقاذ إنسان، أو لتحذيره من كارثة يمكن أن تحدث له، فمن الخطأ الصمت في هذه الحالة. وإن صَمَتنا نُدان على صَمْتِنا. كذلك يُدان الإنسان إن صَمَتَ في الإعلان عن هويته، أو في الدفاع عن الحق. وأيضاً يكون موضع اللوم، مَن ينطبق عليه المَثَل القائل: " سكت دهراً، ونطق كفراً ". ومعه مَن يتكلَّم بلا هدف وبلا معنى...



«« أمَّا عن المزاح، فيشترط فيه أن يكون بريئاً، ولا يتدنى ولا يهبط في أخلاقياته. وعموماً الشخص المَرِح يكون محبوباً من الناس لأنه يشيع جواً من البشاشة والفرح. وأنا باستمرار أقول: " اضحكوا مع الناس، ولا تضحكوا على الناس ". ولا مانع من المزاح بشرط أن المازح لا يتهكَّم في مزاحه على غيره، أو يجعله مجالاً للسخرية والتَّندّر. بل في كل فكاهاته، عليه أن يحتفظ باحترامه للغير...



«« وبنفس الوضع يكون العتاب بروح المودَّة والعَشَم، ولا يكون سبباً في إثارة الطرف الآخر بلومه على أخطاء تُنسَب إليه. فالذي يُعاتب في مودة، لا يجرح شعور مَن يعاتبه، لأنه بهذا قد يخسر صداقته. وكذلك ليكن العتاب في سرية فيما بينه وبين الآخرين. لأنَّ معاتبته على أخطاء أمام الغير، فيما كشفه أمامهم بما لا يليق، فيضطر للدفاع بالمثل. ويسوء الموقف.



«« أمَّا مُطالبة الإنسان بحقِّه ـ إذا لحقه ظُلم ـ فهذا من حقِّه تماماً، ولا يمنعه عنه دين ولا قانون ولا عرف. ولكن إن كان من الزاهدين وتنازل عن حقّه، فهذه درجة سامية، ليست في مستوى الجميع، ولا يمكن أن يُطالب الكل به. والدفاع عن الحق لازم إن كان الأمر يخص الجماعة وليس مُجرَّد فرد. فالذي يُمثِّل هذه الجماعة لا يحق له أن يتنازل عن حقوقها. أمَّا من جهة حقوقه هو، فإنه حُر أن يُطالب بها أو يتنازل عنها.



ونفس الكلام ينطبق أيضاً على الشكوى. فمن حق الإنسان أن يشكو لوالديه أو مرشديه أو رؤسائه، وحتى إلى المحاكم أيضاً. ولكني هنا أذكر قول أحد الرهبان في تأملاته الروحية " حينما أشكو يارب، لِمَن أشكو إلاَّ لك، وحينما أشكو، مَن أشكو إلاَّ نفسي ". إنها درجة روحية عالية، ولا يستطيع الكل أن يصلوا إليها...



« أمَّا من جهة الفرق بين الحُب والشهوة؟ فقد سئلت هذا السؤال منذ أكثر من 35 عاماً، فكان جوابي: " الشهوة تُريد دائماً أن تأخذ. أمَّا الحُب فهو يُريد دائماً أن يعطي وأن يبذل "...



فإن أحبَّ شاب فتاة وأصرّ على أن يشغلها. فضيّع بذلك وقتها، ورُبَّما ضيَّع دراستها أيضاً. وبكثرة اللقاءات ضيَّع سمعتها. ورُبَّما ضيَّع أيضاً عفتها. أترى نُسمِّي هذا حُبَّاً أمْ نُسمِّيه شهوة. لأنَّ الذي يحب فتاة حُبَّاً حقيقياً، إنما يحرص عليها حرصه على أخته ...



«« ما الفرق أيضاً بين النقد والتجريح؟ ليس كل تجريح يُسمَّى نقداً. فالنقد يقتصر على الناحية الموضوعية. أمَّا التجريح فيتناول إهانة الشخصية. والفارق الآخر أنَّ النقد هو لون من التحليل، يذكر النقاط التي تُمدَح. ومن جهة النقاط التي يعترض عليها فإنه يحللها ويشرح أخطاءها دون أن يمس صاحبها بسوء.



«« ومن جهة الفرق بين الراحة والكسل، فهو واضح جداً. ذلك أنَّ الراحة هى إعطاء الجسد ما يعوِّضه عن تعبه بغير زيادة ولا مبالغة. بعكس الكسل الذي هو تراخي الجسد غير المحتاج إلى راحة، وإعطاؤه فرصة يهمل فيها واجباته ومسئولياته.



«« أمَّا عن الفروق بين الحزم والقسوة، وبين الحب والتدليل: فالحزم هو الوضع المتوسط بين القسوة والتدليل. فهو لا يقسو بحيث ينفر منه الصغير. ولا يدلل الصغير بحيث يتلف بدون حريته. إنما حازم في رفق، ومُحب في حكمة.



ولعلَّ هذا يُذكّرني بالمَثل الفرعوني القائل " لا تكن يابساً فتُكْسَر، ولا ليِّناً فتُعْصَر ". إنها نفس الوسطية التي نطلبها أيضاً ما بين الحرفية والتدقيق، بحيث يُدقِّق الإنسان بالروح التي تتطلبها القيم والأوامر دون الخضوع لحرفيتها بدون حكمة وتصرُّف.

قداسة البابا شنودة الثالث



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010