حديث عن الروح القدس
للقديس سيرافيم صاروفسكي
كان اليوم الخميس، وكان الجو معبساً بالغيوم والأرض مغطاة بالثلوج حوالي ثمانية بوصات، وكانت السماء لا تزال تُسقط من جعبتها القطع الكبيرة من الجليد عندما بدأ الأب سيرافيم حديثه معي.
كان ذلك في بقعة جرداء وسط الغابة بالقرب من منسكه الصغير الذي يمر أمامه جدول مياه صاروفكا الصغير عند أسفل التل في نهاية ميل ضفة النهر. أجلسني بالقرب منه على جذع شجرة كان قد قطعه لتوّه، أما هو فافترش الأرض وابتدأ يقول: "الرب قد أعلن لي منذ صغرك وأنت تشتاق أن تعرف غاية الحياة المسيحية وأنك كثيراً ما طرحت هذا السؤال على أناس عدة، ومنهم أيضاً أناس روحيين في الكنيسة".
وهنا يجب أن أعترف فعلاً أن هذا الفكر كان يزعجني منذ سن الثانية عشر، وأنني فعلاً قد وجّهت هذا السؤال إلى العديد من رجال الإكليروس دون أن أحصل على إجابة شافية. لكنني كنت أظن أن الستارتز يجهل ذلك، ولكنه أردف قائلاً: "لكن لم يستطع أحد أن يعطيك جواباً محدداً، كانوا يوجّهون النصح إليك بالتردد على الكنيسة، بمداومة الصلاة، بتنفيذ الوصايا الإلهية، بعمل كل ما هو صالح. وكانوا يدَّعون لك أن هذا هو غاية الحياة المسيحية، بل أن بعضهم نهرك على هذا الفضول، وقالوا لك لا تبحث عما هو أعلى من قامتك، لأنك بذلك تتعدّى الحدود إلى حد الخطأ. ولكنهم كلهم قد جانبهم الصواب، أما أنا المسكين سيرافيم فسأشرح لك الآن ما هي الغاية الحقيقية لحياتنا المسيحية والهدف منها.
إن الصلاة، الصوم ، السهر، وكل الممارسات المسيحية، على الرغم من أنها فعلاً نافعة في حد ذاتها، ولكنها لا تشكّل هدف حياتنا المسيحية، بل هي ليست سوى وسائل تساعدنا على بلوغ الهدف. أما غاية ما تصبو إليه الحياة المسيحية فهي إقتناء الروح القدس. أما الصلاة والصوم والسهر والعطاء وكل ما عداها من أعمال صالحة والتي نعملها من اجل المسيح، فهي ليست سوى وسائط لإقتناء الروح القدس.
ولكن لاحظ يا إبني، أن العمل الصالح فقط المعمول باسم المسيح يجلب لنا ثمار الروح القدس. وكل ما لم يُعمل باسمه ولأجله، وإن كان صالحاً، فلا ثمر له ولا مكافأة لا في الأبدية، ولا حتى في هذه الحياة يستطيع أن يستجلب لنا النعمة. ولهذا يقول ربنا يسوع المسيح: "الذي لا يجمع معي فهو يفرّق" (لو 23:11). ومع ذلك فإننا مضطرون أن نسمي الأعمال الصالحة "جمعاً أو حصاداً" لأنها وأن كانت ليست معمولة باسم المسيح فهي تبقى صالحة. الكتاب يقول: "في كل أمة الذي يتّقية ويصنع البر مقبول عنده" (أع 35:10). وكما نفهم من قصة قائد المئة كرنيليوس، الذي كان يخاف الله ويسلك بالبر، كان سبب مسرة لله حتى أن ملاك الرب وقف به أثناء صلاته وقال له .. أرسل إلى يافا رجالاً عند سمعان الدباغ، ستجد هناك رجلاً يُدعى بطرس، ستسمع منه كلام الحياة الأبدية به ستخلص أنت وأهل بيتك (أع 10).
وهكذا نرى أن الله يستعمل وسائله المقدسة حتى لا يُحرم مثل هذا الرجل، في الأبدية، من المجازاة التي يستحقها بسبب أعماله الصالحة. ولكن يلزمه حتى ينالها هناك أن يؤمن ها هنا بالرب يسوع ابن الله، الذي جاء إلى العالم ليخلص الخطاة، والذي به (بالمسيح) ننال نعمة الروح القدس، الذي بواسطته يدخل ملكوت الله إلى داخل قلوبنا، ويمهّد فينا الطريق لننال بركات حياة الدهر الآتي.
أما قيمة الأعمال الصالحة – التي ليست معمولة من أجل المسيح – أمام الله، فتتوقف عند هذا الحد: أن الرب يعطي الإنسان الوسائل التي تفتح له طريق الحياة، وعليه أن يختار إمَّا الإستفادة منها أو إهمالها. ولهذا يقول مخلصنا الصالح لليهود: "لو كنتم عمياناً، لما كانت لكم خطية، ولكنكم تقولون أننا نبصر ولهذا فخطيتكم باقية" (يو 41:9).
عندما ينال رجل مثل كرنيليوس رضا الرب بسبب أعماله الصالحة، مع أنها ليست معمولة باسم المسيح، ثم يؤمن بابن الله، فإن أعماله كلها تُحسب أنها معمولة باسم المسيح بسبب إيمانه به. وعلى النقيض، فليس من حق المرء أن يتذمر أن عمله الصالح لم ينل المجازاة اللائقة، وهذا يستحيل لو كان معمولاً باسم المسيح، لأن تكميل كل ما هو صالح باسمه لا يجلب أكاليل البر في الدهر الآتي فحسب، بل يملأ الإنسان منذ الآن في هذ الدهر بنعمة الروح القدس، كما هو مكتوب "ليس بكيل يعطي اله الروح. الآب يحب الإبن وقد وضع كل شيء بين يديه" (يو 3: 34،35)
وهكذا يا صديق الرب، يتضح أن إقتناء الروح الله هو الهدف الحقيقي لحياتنا المسيحية، وأما الصلاة والسهر والصوم والصدقة وما عداها من أعمال الفضائل التي تُعمل لأجل المسيح فهي الوسائط التي توصَّلنا إلى غايتنا في إقتنائه".
سألت الأب سيرافيم: "ماذا تعني بالإقتناء؟ أنني لم أفهم جيداً ما تقصده!"،
فأجاب: "الإقتناء هو نفسه الحصول على الشيء، أنت تفهم طبعاً معنى إقتناء المال؟ إقتناء الروح القدس مثله تماماً. أنت تفهم بما فيه الكفاية ماذا يعني ذلك بحسب المفاهيم العالمية. لعامة الناس، إقتناء المال هدف لحياتهم، أما عُلية القوم فيضاف إلى المال إكتساب الكرامة والشهرة وما يميزهم عن الآخرين، وعموماً كل مجازاة عمّا قدّموه إلى الدولة. كذلك إقتناء الروح القدس، فهو إيضاً رئيسي وأساسي، ولكنه كنز أبدي، مصدر لكل نعمة. وإقتناؤه يكون بنفس طريقة إقتناء الكنز المادي الزمني الزائل.
الرب يسوع المسيح، الله الكلمة المتجسد، يشبّه حياتنا بالسوق وأعمالنا على الأرض بالتجارة، وهو يوصينا جميعاً. تاجروا حتى آجئ، وادخروا الوقت لأن الأيام شريرة. وهو يقصد أن يقول .. إعملوا جلّ وقتكم على إقتناء الخيرات السماوية من خلال البضائع الأرضية، هذه البضائع الأرضية ليست سوى أعمال الفضيلة المعمولة باسم المسيح والتي تستجلب لنا نعمة الروح القدس.
في مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، عندما فرغ زيت الأخيرات، قيل لهن: "إذهبن وابتعن من السوق"، وعندما عُدن وجدن منزل العُرس قد أغلق بابه، ولم يتمكنّ من الدخول.
الكثيرون يعتقدون أن نقصان الزيت عند العذارى الجاهلات كناية عن نقصان أعمال الفضيلة المعمولة طوال الحياة. هذا التفسير ليس صحيح تماماً، أي نقصان لأعمال الفضيلة إن كن إحتفظن ببتوليتهن – حتى وإن كن جاهلات؟! – إن البتولية في حد ذاتها فضيلة عظمى، إنها حالة ملائكية، وهي تجبُّ كل الفضائل الأخرى.
أما أنا المسكين فأظن أن الذي كان ينقصهن هو بالتحديد نعمة روح الله القدوس. لأن الشيء الأساسي ليس هو عمل الفضيلة بل إقتناء الروح القدس، الكنز الأبدي، الذي لا يفنى ولا يضمحل، الذي لا يساويه شيء على الإطلاق.
ظنّت أولئك العذارى الجاهلات روحياً، أن الحياة المسيحية تقتصر على هذه الممارسات، وفكّرن في أنفسهن قائلات: لقد سلكنا بالفضيلة، وعملنا أعمالاً تقوية، ولم يخطر على بالهن هل إقتنين نعمة الروح القدس أم لا ؟! ومثل هذه الحياة المعتمدة على ممارسة الفضائل المعنوية، ودون أن تُمتحن هذه الفضائل بدقة وحرص لنعرف مقدار ما تؤدي إليه من نعمة روح الله، تنتهي بنا كما يقول الآباء: توجد طريق تظهر للإنسان جيدة في البداية ولكن نهايتها تكون في قاع الجحيم.
في حديثه عن أولئك العذارى يقول القديس أنطونيوس الكبير في رسائله إلى الرهبان: "كثير من الرهبان والعذارى لا يدركون على وجه الإطلاق الفرق بين المشيئات الثلاثة التي تعمل داخل الإنسان .. الأولى مشيئة اللهن وهي كاملة ومخلّصة. والثانية هي مشيئتنا البشرية، وهي ليست مميتة ولا مخلّصة. أما الثالثة فهي شيطانية وهي مميته بالكلية. وهذه المشيئة الثالثة هي التي تدفع الإنسان إما إلى عدم ممارسة الفضائل نهائياً، أو ممارستها بكبرياء، ولأجل أرضاء الذات، أو على أحسن الفروض من أجل الخير ذاته وليس من أجل المسيح. الثانية – أي مشيئتنا الخاصة – تحثنا على إرضاء الدوافع البشرية، أو مثل التي لعدونا تحثنا على فعل الخير لذاته دون أن ننتبه للنعمة المذخرة لنا فيها.
أما المشيئة الإلهية أي المشيئة الأولى، المخلّصة، فهي تعلمنا وتحثنا أن نفعل الخير بهدف واحد هو إقتناء الروح القدس، الكنز الأبدي، الذي لا يفنى ولا يضمحل، الذي لا يساويه شيء على الإطلاق.
إنها إذا نعمة الروح القدس المكني عنها بالزيت، والتي كانت تنقص العذارى الجاهلات. إنهن دُعين "جاهلات" فقط لأنهن لم يدركن حقيقة الثمر الواجبة لأعمال الفضيلة التي هي نعمة الروح القدس، والتي بدونها لا يخلص أحد، لأن "كل نفس تحيا بالروح القدس وتتمجد بالنقاوة، وتستنير سرياً بإتحادها بالثالوث القدوس"
الروح القدس بنفسه ياتي ويسكن فينا، أي في أرواحنا، وهذا الحلول فينا للكلي القدرة، أي الوجود داخلنا لوحدة الثالوث وكينونتها مع أرواحنا، لا تُعطى لنا إلاّ بشرط العمل بكل إجتهاد. وبكل وسيلة تتاح لنا لإقتناء هذا الروح القدس، الذي يهيئ فينا موضعاً لائقاً بهذا الإلتقاء حسب قول الحق الذي للرب: "إني سأسكن فيهم .. وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً" (2 كو 16:6). هذا هو الزيت الذي ملأ مصابيح العذارى الحكيمات، الزيت الذي إستمر مشتعلاً ومنيراً، والذي وحده أهّل العذارى الحكيمات لمقابلة العريس، عندما أتى في نصف الليل، بل وأدخلهن معه إلى حجرة العرس التي هي الفرح الأبدي.
أما العذارى الجاهلات، فلما رأين أن مصابيحهن تنطفئ ذهبن إلى السوق، ولم يُسعفهن الوقت للعودة قبل غلق الباب. السوق هو حياتنا، والباب الذي يُغلق فيمنع وصولنا إلى العريس هو الموت البشري، أما العذارى الجاهلات والحكيمات فهي النفوس المسيحية. الزيت لا يعني أبداً أعمالنا الصالحة بل نعمة الروح الكلي القداسة، والتي تُقتنى من خلالها. وبواسطتها يملأ الروح القدس كياننا محوّلاً إيانا إلى أن يلبس المائت عدم الموت، والفاسد عدم الفساد. الموت بالجسد يتحول إلى حياة أبدية، والموت النفسي إلى حياة روحية، والظلمة تتحول إلى نور، الحظائر المربوطة فيها غرائزنا مثل الحيوانات إلى هياكل لله، إلى حجرات للعرس نتقابل فيها مع ربنا، خالقنا ومخلصنا، عريس نفوسنا السماوي.
ما أقسى الآلام التي يتحملها الرب بسبب شقاوتنا، أي بسبب إهمالنا لدعوته القائلة: "أنا واقف على الباب وأقرع" (رؤ 20:3)، ويُفهم من "الباب" سياق حياتنا التي لم يغلقها الموت بعد.
آه يا حبيب الرب كم أتمنى أن تكون دائماً وفي هذه الحياة في ملء الروح القدس، يقول الرب .. سأحكم عليكم في الحالة التي أجدكم فيها. فيالشقاوتنا إذا وجدنا مُثقلين بالهموم والأتعاب الأضية، لأنه من ذا الذي يستطيع أن يحتمل غضبه، أو من يستطع أن يقف أمام وجهه؟ ولذلك فقوله: "إسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" هذا، عوضاً عن النص الصريح بعدم التهاون في إقتناء الروح الله، لأن السهر والصلاة ما هما إلا وسيلة الحصول على النعمة.
من المؤكد أن كل عمل صالح معمول باسم المسيح يجلب نعمة الروح القدس، أما الصلاة فهي أكثر مما عداها في فاعليتها لإجتلاب النعمة، لأنها في متناولنا على الدوام. فقد يكون لكم رغبة في الذهاب إلى الكنيسة، ولكن الكنيسة بعيدة، أو أن موعد الخدمات فيها قد إنتهى. أو قد يكون لك الرغبة في التصدق على الفقراء لكن لا يوجد أمامك فقير، أو ليس لديك شيء لتعطيه. أو تتمنى أن تعيش بتولاً، لكن ليس لك القدرة على ذلك، سواء لتكوينك النفسي أو لمحاربات العدو، التي قد لا يستطيع كل إنسان أن يقاومها بسبب ميول الجسد الضعيفة. أو قد تكون لك رغبة في أي عمل صالح آخر تعمله باسم المسيح، ولكن قوتك تضعف عن إتمامه، أو أن الظروف غير مواتيه له لسبب أو لآخر.
أما الصلاة فلا شيء من كل ما سبق يستطيع أن يمنعها، فالمرء له على الدوام القدرة على الصلاة، الغني والفقير، العظيم كالعامي، القوي كالضعيف، الصحيح كالعليل، البار كالخاطئ ..
ويمكننا الحكم على قوة وفاعلية الصلاة، حتى صلاة الخاطئ إن كانت بعزم القلب، من هذه القصة التي توارثناها ونردها: (فقد مات إبن وحيد لأمه البائسة، وفي الطريق إلى القبر تقابلت مع إمرأة ساقطة كانت قادمة لتوها من بيت النجاسة، فما كان من هذه الأخيرة إلاّ أن رقّ قلبها لتلك الثكلى اليائسة، فتجرأت وصرخت نحو الرب، بالرغم من نجاسة الخطيئة التي كانت لا تزال تملأ حياتها وقالت: ليس من أجلي أنا الخاطئة المسكينة، لكن من اجل دموع هذه الأم التي تبكي وحيدها، وكلي ثقة في مراحمك واقتدارك فأقمه يا سيدي الرب! .. فأقامه الرب)
هذه يا صديق الرب هي قوة وفاعلية الصلاة. فهي تعطي أكثر من كل ما عداها نعمة روح الله. وهي في متناول أيدينا. فطوبى لنا إذا أتى الرب ووجدنا ساهرين، وفي ملء نعمة روحه القدوس، حينئذ يكون لنا الجراة أن نرجو ان نختطف على السحاب لملاقاة الرب في الهواء، الذي سيأتي بقوة ومجد ليدين الأحياء والأموات ويعطي كل واحد حسب أعماله.
أنت تظن يا حبيب الرب أنه لسعادة كبيرة أن تتحادث مع المسكين سيرافيم، معتقداً أنه لا يخلو من نعمة الرب. فكم يكون عندما تتحادث مع الله ذاته، ينبوع كل نعمة سماوية أو أرضية؟ بالحق أنه بالصلاة نؤهّل أن نتكلم معه، أي مع فادينا المحيي الرحيم، وهنا يجب الإحتراس، لننهي صلاتنا في الوقت الذي يحل فيه الروح القدس علينا، ويهبنا - بقياس ما يعرفه هو - نعمته السماوية. وعندما نحس بحضوره، فلنتوقف عن الكلام والصلاة.
في الواقع ما فائدة الدعاء: "هلمَّ تفضَّل وحلَّ فينا، طهرنا من كل دنس، وخلص نفوسنا، أنت الصالح وحده". فلماذا إذن نكرر الطلبة، متى حلَّ بالفعل فينا إستجابة لطلباتنا المملؤة حباً، ونحن واثقين فيه، وندعو بالحق باسمه القدوس، بهذا التواضع والحب ممكن أن نستقبل هذا المعزي في هيكل نفوسنا الجائعة والمتعطشة لحضوره؟
سأشرح لك ذلك، يا حبيب الرب، بمثال: إفترض أنك دعوتني لزيارتك، وأنا لبيت دعوتك للجلوس إليك والتحدث معك، ولكن بالرغم من وجودي عندك لم تكف عن تكرار الدعوة قائلاً: "هلم بالتفضل بالدخول عندي!" فحتما سأفكر في نفسي قائلاً: ماذا حدث؟! هل فقد عقله؟! إنني عنده وهو لا يزال يكرر دعوتي. وهذا تماماً ما يحدث مع الروح القدس، ولهذا يقول المزمور: "إبتعدوا عني واعلموا انني أنا الرب، سأرتفع بين الأمم، سأرتفع عن الأرض" (مز 46: 10، 11)
هذا يعني .. إنني أُظهر وسأظل أُظهر ذاتي لكل مؤمن وسأتحدث معه، كما كنت أتحدث مع آدم في الفردوس، ومع إبراهيم ويعقوب وبقية خدامي، موسى وأيوب ومن شابههم.
البعض يعتقد أن هذا "الإبتعاد"، إنما يكون بترك كل ما يختص بالأرض، أي أنه أثناء الحديث مع الله بالصلاة، فعلى المرء أن يتخلى عن كل ما هو أرضي، وهذا صحيح، أما أنا فأقول كما من الله .. إنه بالرغم من أنه ضرورى أن يجمع الإنسان فكره من الأرضيات ويتحاشاها، فإنه يلزم عند الإحساس بحضور السيد الرب، والروح القدس يتنازل إلينا في ملء صلاحه الفائق، يلزم الإبتعاد عن الصلاة، نعم التوقف عن الصلاة ذاتها.
روح الإنسان المصلي تتحادث مع الله وتنطق العبارات، اما عند حلول الروح القدس فالأفضل أن يظل الإنسان صامتاًن حتى تستطيع بالروح أن تسمع جلياً، وتتفهم إعلانات الحياة الأبدية التي يتنازل ليهبنا إياها. اليقظة الكملة للنفس والروح وطهارة وعفة الجسد، مطلوبين في هذه الحالة. هكذا كان الحال في جبل حوريب عندما امر موسى بني إسرائيل أن يمتنعوا عن المعاشرات الزوجية مدة ثلاثة أيام قبل حلول الرب على جبل سيناء، لأن "الله نار آكلة" (عب 29:12)، تلتهم كل ما هو غير طاهر، ولا يستطيع أن يدنو منه أي دنس جسدياً أو روحياً.
لكن ماذا يا أبي عن الأعمال الصالحة الأخرى التي تُعمل من اجل المسيح، لكي نقتني بواسطتها الروح القدس؟ إنك لا تتكلم إلاّ عن الصلاة.
"إقتناء نعمة الروح القدس يكون أيضاً بممارسة كل الفضائل الممكنة، من اجل المسيح. تاجر بتلك التي تعطيك أوفر الأرباح. رأس المال المكتنز من نعمة الله الغنية، والذي هو ثمرة الأرباح من الأعمال الصالحة التي تعود علينا، أودعه في بنك التوفير الإلهي الأبدي وسوف يعطيك فائدة روحية، ليس فقط 4% أو 6% بل 100% للروبل الروحي الواحد، بل وأكثر بما لا يُقاس.
فمثلاً إذا كانت الصلاة والسهر تجلب لك نعماً كثيرة، فاسهر وصلِّ. الصوم يجلب لك مزيداً، فصُم. المحبة تجلب لك باستفاضة، فاعمل أعمال المحبة. وهكذا أوزن (قيّم) كل عمل صالح يُعمل باسم المسيح.
سأتكلم عن نفسي أنا المسكين سيرافيم، فلقد وُلدت في عائلة من تجار مدينة كورسك، وقبل دخولي الدير كنت وأخي نشتغل بالتجارة بمختلف البضائع، وخاصة تلك التي تجلب لنا الأرباح الوفيرة. فأصنع أنت بالمثل، كما أن هدف التجارة هو تحقيق أكبر ربح ممكن، هكذا فإنه يلزم أن يكون هدف الحياة المسيحية ليس فقط ممارسة الصلاة والأعمال الصالحة، بل إقتناء كل النعم الممكنة.
وعلى الرغم من أن الرسول يأمر .. صلوا بلا إنقطاع، فإنه يضيف .. الأفضل أن أتكلم خمس كلمات بفهم عن ألف كلمة باللسان فقط. ويحذرنا الرب قائلاً: ليس كل من يقول لي يارب يارب يخلص، ولكن الذي يصنع إرادة أبي، وبتعبير آخر .. الذي يعمل عمل الرب بغيرة. وما هو هذا العمل إلاّ .. الإيمان بالله والذي أرسله يسوع المسيح. وإذا تفهمنا وصايا المسيح جيداً، كذلك تعاليم الرسل، فإننا نرى أن جهادنا المسيحي لا يقتصر على جمع الأعمال الصالحة، والتي هي لا تتعدى أن تكون وسائل للوصول إلى الهدف، بل إستخلاص أكبر فائدة منها، وبتعبير آخر: الحصول على المواهب الفائقة التي للروح القدس.
يطيب لي يا صديق الرب، أن تعثر على هذا النبع الذي لا ينضب من النعم، وأن تسأل نفسك على الدوام السؤال التالي: "هل أنا في نعمة الروح القدس؟" فإن كان الجواب بالإيجاب، مبارك الرب،فلا يوجد ما يُحزن حتى ولو كانت الدينونة الأبدية غداً، فإنك ستكون مستعداً للظهور أمام قضاء الله المرهوب. لأنه مكتوب: سأدينكم بحسب الحالة التى اجدكم عليها. وإن كان الجواب بالنفي، ونحن غير واثقين أننا في الروح القدس، فيلزمنا سرعة البحث عن السبب الذي بسببه تركنا وفارق الروح قلوبنا، فننشده بلا هواده حتى نجده ثانية، وبصلاحه يعود إلينا ويكون معنا. يلزم أن نتعقب الأعداء الذين يمنعوننا من الوصول إليه حتى نلاشيهم تماماً بمعونة الله. يقول المرتل داود: "أتعقب أعدائي وأدركهم ولا أعود حتى أفنيهم، أضربهم فلا يستطيعون القيام، ويسقطون تحت قدميّ" (مز 18: 38،39)
بالحق أنه هكذا يا ولدي، هذا هو السبب في أنه يجب ممارسة التجارة الروحية بالفضائل، وزّع هبات النعمة لكل من يحتاجها، وليكن أمامك دائماً المثال التالي .. الشمعة الموقدة، وإن كانت تحترق بنار أرضية، إلاّ أنها قادرة على إيقاد شموع أخرى لازمة لإنارة أماكن مختلفة، دون أن تفقد بريقها. فغن كان هذا عن النار الأرضية فكم يكون عن نار النعمة التي للروح القدس؟! الغنى الأرضي والثروات الزائلة إذا توزعت فإنها تتناقص، أما كنز النعمة السمائي فإنه يتضاعف على الدوام عند الذي ينشره. ولهذا قال الرب نفسه للسامرية: "الذي يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، أما الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، لأن الماء يصير فيه ينبوعاً ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 13، 14)
ثم سألته: يا أبي إنك تتكلم دائماً عن إقتناء الروح القدس كغاية الحياة المسيحية، فكيف وأين أتعرّف عليه. إن الأعمال الصالحة ظاهرة، لكن هل الروح القدس يمكن ان يُرى؟ وكيف لي أن أدرك إن كان يسكن فيّ ام لا؟ فأجاب الستارتز:
لقد وصلنا في هذا الزمان إلى حالة عامة من الفتور في الإيمان بربنا يسوع المسيح، إلى حالة من فقدان الحس بالإتصال بالله، والغفلة عن أعماله الإلهية في العناية بنا، لقد ذهبنا بعيداً لدرجة أنه يمكن أن يُقال أننا إبتعدنا تقريباً كلية عن الحياة المسيحة الحقة. إن بعض فقرات الكتاب المقدس تبدو لنا غريبة، فمثلاً عندما قال الروح القدس على فم موسى: وراى آدم الله يتمشى في الفردوس، أو عندما نقرأ أن الرسول بولس منعه الروح من الكرازة في آسيا، ولكنه رافقه إلى مكدونية. وفي كثير من المواضع الأخرى في الكتاب المقدس، يتحدث عن ظهو رالله للناس.
فيقول البعض: "إن هذه الفقرات غير مفهومة، وهل يتقبّل العقل أن يرى بشر الله بهذه الطريقة العلنية؟!" هذا الإستغراب وعدم الفهم ناتج عن اننا تركنا بساطتنا المسيحية الأولى، وبإدعاءهم العلم والمعرفة دخلوا في ظلمة الجهل، حتى أنهم لم يتصوروا إمكانية حدوث ما كان الأقدمون يشعرون بوضوحه، حتى أنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم عن ظهورات الله للإنسان كما لو كان شيئاً مألوفاً وليس بمستغرب على الإطلاق.
وليس أدل على ذلك من موقف أيوب من أصدقائه، عندما إتهموه بالتجديف على الله، فأجابهم: كيف يكون هذا وأنا أشعر بنفخة القدير في أنفي. وبتعبير آخر .. كيف لي أن أجدف على الله إن كان الروح القدس معي؟! إن كنت قد جدّفت على الله لفارقني الروح القدس، لكن عجباً! فانا أشعر بنَفَسه في أنفي.
وبنفس الطريقة تماماً، إبراهيم ويعقوب رأيا الله وتحادثا معه مراراً، بل لقد صارعه يعقوب . موسى تكلم مع الله طويلاً حتى دعي كليم الله، بل وكل شعب إسرائيل معه، عندما تسلّم لوحي العهد على جبل سيناء. لقد كان عمود السحاب وعمود النار، كناية عن النعمة المرئية للروح القدس ليس في النوم ولا في الأحلام ولا في تصوّر خيال ضعيف، لكن في الواقع الحقيقي.
لقد صرنا غافلين جداً عن العمل على خلاص نفوسنا، ولم نعد نفهم كلام الكتاب كما يجب. كل هذا بسبب أننا عوضاً عن البحث عن النعمة، نعوقها بكبرياء عقولنا، عن الحلول لسكنى نفوسنا، وهذا هو السبب في أننا خاليين من الإستنارة الإلهية الحقيقية، التي يرسلها إلى قلوب الجياع والعطاش من كل قلوبهم لبر الله.
كثيرون يفهمون خطأ قول الكتاب المقدس: "فصنع الله الإنسان من طين الأرضن ثم نفخ في أنفه نسمة حياة" (تك 7:2)، وكأن آدم أول ما خلق لم تكن فيه نفس ولا روح بشرية، وإنما جسد مخلوق من الطين. هذا التفسير خاطئ، لأن السيد الرب خلق آدم من طين الأرض فعلاً وإنما بالحالة التي يقصدها الرسول بولس حينما يشدد: "لتُحفظ أرواحكم ونفوسكم وأجسادكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (1 تس 23:5)
هذه المكونات الثلاثة التي بها يكتمل كياننا، خلقت من طين الأرض. آدم لم يخلق ميتاً ولكن جسماً حيوانياً متحركاً وفاعلاً، مشابهاً بقية الخلائق الحية على الأرض التي تحركها المشيئة الإلهية. ولكن حدث ما يفوق مجرّد الخلقة. فلو أن الله ما نفخ في وجه آدم نفخة الحياة هذه (أي نعمة الروح القدس المنبثقة من الآب والمستقرة على الأبن وبسببه ترسل إلى العالم كله) أقول لولا هذه النفخة لبقى آدم محروماً من الروح المؤَلِّه، رغم أنه خُلق بصورة كاملة، ليسود على كل الخلائق الأخرى، وكتاج لكل الخليقة التي على الأرض. ولظلَّ على شبه كل الخلائق التي مع أن لها جسد ونفس، كل واحد كجنسها، ولكنها محرومة داخلياً من الروح القدس. ولكن أول ما نفخ الله في وجهه نفخة الحياة صار آدم – حسب قول الكتاب – "نفساً حية" أي مشابهاً لله في كل شيء، قابلاً للحياة الأبدية دون موت. كان آدم متسلطاً على كل العناصر الأخرى إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها الماء أن يغرقه، ولا النار أن تحرقه، ولا الأرض أن تبتلعه، ولا الهواء له سلطان أن يؤذيه. كل شيء كان خاضعاً لسيادته عليه كمختار اللهن وكأنه مالك وملك الخليقة كلها. كان هو الكمال ذاته، إكليل صنعه الله ومكرماً لذلك. نفخة الحياة التي تلقاها آدم من الله ملأته حكمة حتى أنه لم يكن – وغالبا لن يكون – على الأرض إنسان يضارعه في الإمتلاء من المعرفة والفهم. ولما أمره الله أن يعطي أسماء لكل الخلائق، أعطاها طبقاً لأوصاف ومواصفات وقوة وخصائص كل منهما المعطاة لها من الله.
وبسبب هذه الهبة التي وهبته إياها النعمة الإلهية الفائقة، والتي آلت إليه نتيجة لاقتباله نفخة الحياة، كان آدم يستطيع أن يرى ويفهم أن الله يتمشى في الفردوس ويعي كلامه، وكذلك محادثات الملائكة القديسين، بل ولغة سائر الخلائق، الوحوش والطيور والزواحف الحية التي تعيش على الأرض، وهو كل ما خفي عن أفهامنا نحن الخطاة منذ السقوط، والذي كان جلياً وواضحاً لآدم قبل سقوطه.
هذه الحكمة ذاتها، والقوة نفسها والقدرة عينها، وكذلك كل الصفات المقدسة والخيرّة كانت قد أعطيت من الله لحواء عندما خلقها، لا من طين الأرض ولكن من ضلع آدم في عدن، جنة الفرح والسرور، في الفردوس الذي زرعه في وسط الأرض.
وحتى يستطيع آدم وحواء أن يحتفظا على الدوام بما آل إليهما من الصفات غير المائتة، الكاملة والإلهية، والتي حازاها بنفخة الحياة، زرع الله لهما شجرة الحياة في وسط الفردوس، ووضع في ثمارها كل كيان وملء هبات نفخته الإلهية. ولو لم يخطئ آدم وحواء لأمكنهما وكل نسلهما أن يأكلوا من ثمار هذه الشجرة، فيحتفظوا بالقوة المحيية للنعمة الإلهية في داخلهم وكذلك بالملء غير الفاني، الذي يتجدد إلى الأبد، للقوى الجسدية والنفسية والروحية، ولظلوا على الدوام دون أن تتطرق إليهم الشيخوخة، وهي حالة فائقة مطوّبة يعجز خيالنا الآن عن إدراكها.
ولكنهما إذ ذاقا من شجرة معرفة الخير والشر قبل الأوان، ومخالفةً لوصية الله، فميّزا بين الخير والشر، وصارا فريسة للأهوال التي لحقتهما بعد هذا التعدي على الوصية الإلهية. ففقدا العطية الثمينة التي هي نعمة الروح القدس. ولذلك حتى مجئ المسيح يسوع الإله المتجسد "روح الله لم يكن (في العالم) لأن يسوع لم يكن قد تمجّد بعد" (يو 39:7).
هذا لا يعني أن روح الله كان قد فارق العالم بالكلية، ولكن وجوده لم يكن مستعلناً كما كان في آدم، ولا كما هو فينا الآن نحن المسيحيين الأرثوذكس. ولكنه كان يبقى كخارجي عن الإنسان، على الرغم من أن علامات حضوره في العالم كانت معروفة للناس .. على سبيل المثال، فكثير من أسرار الخلاص المزمع أن يكون للبشرية كان قد أُعلن لآدم وحواء بعد السقوط. وبالرغم من إثم قايين، فقد إستطاع أن يسمع الصوت الإلهي موجهاً له اللوم. نوح تكلم مع الله، وإبراهيم رأى الله ويومه العظيم وتهلل برؤيته. كانت نعمة الروح القدس تتجلى خارجياً لجميع أنبياء العهد القديم وفي أبرار إسرائيل، حتى أن اليهود – فيما بعد – أنشأوا مدارس خاصة لأبناء الأنبياء، ليتعلموا كيف يدركوا ظهورات الله أو الملائكة ويميزوا بين أفعال الروح القدس وأعمال وأحداث الحياة العادية الخالية من النعمة.
سمعان الشيخ، ويواقيم وحنّة جدّي المسيح وكثيرون من خدام الله، كانت عيونهم مفتوحة وإنكشفت لهم بعض الأسرار الإلهية، فكانوا يسمعون أصواتاً أو يتلقون إعلاناً يتأكد لهم بعد ذلك بمعجزات أو أحداث فائة لكنها واقعية.
كان روح الله يُستعلن أيضاً للوثنيين، ولكن بصورة أضعف. بالرغم من عدم معرفتهم للإله الحقيقي، إلاّ أن الروح كان يجد في وسطهم بعض المختارين ممن هو مؤهل لذلك. فعلى سبيل المثال كانت هناك نبيّات عذارى، يعرفن بـ "السبليين"، كن نذرن بتوليتهن لإله مجهول، ولكنه إله على كل حال، كانوا يعتقدون أنه خالق الكون، كلي القدرة، ويحكم العالم كله، كما تخيله الوثنيين. ومع أن الفلاسفة الوثنيين أيضاً كانوا يتيهون في ظلمات الجل بالله، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يبحثون عن الحق، ولذلك إذ سرّ الله بهذه الغيرة للحق، استحقوا أن ينالوا بصيصاً من الروح القدس في حدود ولو ضيقة، كما هو مكتوب: الأمم الذين لم يعرفوا الله، ولكنهم سلكوا بالطبيعة بحسب الناموس، فقد صنعوا ما يسر الله.
الرب يقدّر جداً الحق، إلى الحد الذي جعله هو نفسه يعلن بالروح القدس، "الحق ينبع من الأرض أما البر فينزل من السماء" (مز 12:85 حسب النص).
وهكذا ترى يا صديق الله، حُفظت معرفة الله في كل من .. الشعب المختار، المحبوب من الله، وكذلك عند الوثنيين الذي لم يعرفوا الله. وهذا يا بني، بوضوح وعقلانية تامّين، كيف كان الروح القدس إلهنا يعمل في الإنسان. وبواسطة ما يشعر به داخلياً أو خارجياً يستطيع الواحد أن يتأكد أن هذا الفعل من الروح القدس وليس تضليل من العدو، وهذا ما كان منذ سقوط آدم وحتى تجسد ربنا يسوع المسيح.
بدون هذا الإدراك الحقيقي لفعل الروح القدس، والذي حُفظ دائماً في الطبيعة البشرية، لم يكن بإمكان الإنسان أن يتأكد من مجئ نسل المرأة، ذاك الذي وُعد له لآدم وحواء، لكي يسحق رأس الحية.
وفي آخر الأيام، أعلن الروح القدس لسمعان الشيخ عندما كان في سن الخامسة والستين، سر الحبل البتولي وميلاد المسيح من كلية الطهر الدائمة البتولية مريم. وفيما بعد، بعد أن عاش بنعمة الروح القدس 300 عام تقريباً وهو في سن ال365، جاهر في الهيكل أنه تأكد، بواسطة الروح القدس، أنه يرى المسيح مخلص العالم، الذي حبل به من الروح القدس بغير زرع بشر بخلاف الطبيعة، والذي سبق أن قيل له عن ميلاده منذ ثلاثمائة عام.
وهناك أيضاً حنة النبية، إبنة فنوئيل، التي منذ ترملها منذ أكثر من 80 عاماً كانت خلالها تخدم الله في الهيكل، وهي ممتلئة من النعمة والحكمة، خادمة طاهرة لله، من خلال مواهب خاصة أخذتها من النعمة. أعلنت هي أيضاً أن هذا هوالمسيّا المنتظر، المسيحي الحقيقي، الإله المتأنس، ملك إسرائيل الذي جاء من أجل خلاص آدم والجنس البشري كله.
عندما أتم ربنا يسوع المسيح عمله الخلاصي وقام من الموات، نفخ في وجه تلاميذه، مجدداً نفخة الحياة التي فقدها آدم، واعطاهم بذلك نفس النعمة التي كان يتمتع بها آدم. وليس هذا فحسب، ولكنه قال لهم .. أنه خير لهم أن ينطلق إلى الآب، لأنه إن لم يذهب لا يأتي روح الله إلى العالم. ولكن إن مضى (المسيح) إلى الآب سيرسله إلى العالم، وعندما يأتي هذا المعزي فإنه سيقتادهم وكل من يؤمن بتعليمهم نحو الحق الكامل، وهو سيذكرهم بكل ما قاله لهم عندما كان لا يزال بعد معهم في هذا العالم (يو 16). هذه هي النعمة التي كان يعدهم بها .. "نعمة فوق نعمة".
وهكذا في يوم الخمسين، فقد أرسل لهم بمهابة، الروح القدس كريح عاصف، على شكل ألسنة نار إستقرت على كل واحد منهم وملأتهم من قوة النعمة الإلهية الملتهبة، وكأنها نسمة محيية ومفرحة لنفوسهم، والتي أشركتهم في قوتها وفعلها.
نفس هذه النعمة الملتهبة والمنسكبة للروح القدس، قد وُهبت لنا جميعاً، نحن المؤمنين بالمسيح، في سر المعمودية، وتُختم بالمسحة المقدسة (أي بالمسح بزيت الميرون المقدس على أعضاء الجسم الرئيسية كما تحددهم الكنيسة المقدسة). فننال إلى الأبد هذه النعمة. ولذلك يُقال: "ختم هبة الروح القدس" ولأنه بحق لا توضع هذه الأختام إلاّ على الأوعية التي تضم ما هو ثمين على وجه الخصوص، وأي شيء في العالم، أثمن وأقدس من هبات الروح القدس المرسلة لنا من الأعالي في سر المعمودية؟!
نعمة العماد هذه عظيمة وكبيرة الأهمية لحياتنا ولا غنى عنها، بل ومحيية للإنسان، حتى ولو إنزلق إلى الهرطقة، فهي لا تفارقه حتى الموت، أي إلى تمام فترة إختباره المؤقته المحددة من العناية الإلهية، وذلك حتى تعطيه فرصة التوبة.
لو لم نخطئ بعد المعمودية، لظللنا إلى الأبد قديسين للعلي، أطهاراً بلا لوم، متغربين عن كل نجاسات الجسد والروح. لذلك فمنتهى بؤس وشقاء الإنسان هي في عدم التقدّم في الحكمة والنعمة ومعرفة الرب يسوع المسيح مع إنصرام سنين العمر، مثلما كان يتقدّم ربنا يسوع المسيح. بل على العكس، فنحن إذ نتعمّق في حياة الفساد، نُحرم من الروح القدس، فنصير خطاة بدرجات مختلفة بل من أعاظم الخطاة ونجلب على أنفسنا الشقاء.
ولكن إذا تحرّك قلب الإنسان برحمة الله الذي يبحث عن خلاصنا، ويقبل كل أحد، وصمّم إكراماً له أن يكرّس الساعات المبكرة إلى الله وللسهر لكي يجد خلاصه الأبدي، حينئذ، في طاعة لصوته، يجب أن يسرع بتقديم توبة حقيقية عن كل خطاياه، ويمارس الفضائل المضادة للخطايا التي كان يفعلها. وهكذا من خلال الفضائل التي تُعمل من خلالنا ويؤسس فيه ملكوت الله. لأن كلمة الله لا تسقط أبداً .. ملكوت الله داخلكم (لو 21:17)، وملكوت الله يُغصب والغاصبون يختطفونه (مت 12:11)، ولن نصل إليه إلاّ بعنف الجهاد.
وإذا غصب الإنسان نفسه على الجهاد لتقطيع الأغلال، هذه التي تجعله أسيراً للخطية، وتمنعه بتوالي السقوط من الإتجاه نحو الله بعزيمة صادقة، فإنه يصل أخيراً إلى التواجه مع الله أكثر بياضاً من الثلج مطهراً بنعمته. "تعالوا إلي يقول الرب، إن كانت خطاياكم حمراء كالدودي أجعلها بيضاء كالثلج" (إش 18:1).
رائي سفر الرؤيا، الرسول القديس يوحنا اللاهوتي، رأى رجالاً هكذا لابسين حُللاً بيضاء (التي هي ثياب البر)، وممسكين بأيديهم سعفاً (علامة النصرة) ومرنمين ترنيمة رائعة لله "هلليلويا". التي لا يستطيع أحد أن يقّلد جمال هذه الترنيمة. ويقول ملاك الرب متحدثاً عنهم: "هؤلاء الذين أتوا من الضيقة العظيمة، وقد غسلوا ثيابهم وبيّضوها في دم الحمل" (رؤ 14:7)
إغتسلوا بآلامهم وتبيَّضوا بالتناول من الأسرار غير الدنسة معطية الحياة، التي هي جسد ودم الحمل بلا دنس ولا عيب، المسيح الذي بذل ذاته بإرادته قبل الدهور من أجل خلاص العالم، والآن أيضاً هو مبذول ومقسّم بالرغم من أنه لا ينتهي ولا ينقص، حتى يعطينا أن نشترك في الحياة الأبدية، ونتقدّم بجراءة لنتبرر في الدينونة الأخيرة. هذا هو السر الذي يفوق كل إدراك، الذي أُعطي لنا عوضاً عن ثمرة شجرة الحياة، التي أراد عدو البشرية إبليس – الساقط من السماء – أن يحرم منها الجنس البشري.
بالرغم من أن الشيطان أضلّ أولاً حواء وتلاها آدم، إلاّ أن الله لم يعطنا فقط مخلصاً من نسل المرأة ويدوس الموت بموته، ولكنه أعطانا أيضاً في شخص إمرأة والدة الإله مريم الدائمة البتولية، التي سحقت في ذاتها وفي الجنس البشري جميعه رأس الحية. وجعل لنا محامية لا تكل ولا تكف عن الشفاعة لأجلنا أمام إبنها الذي هو إلهنا، ومدافعة لا تقهر عن الخطاة والعتاة الأكثر قساوة. ولهذا فهي تُدعى بحق: "مُرعبة الشياطين"، لأنه يستحيل على الشيطان أن يقهر ويهلك إنساناً، طالما لا يكفّ هذا الأخير عن الإستنجاد بوالدة الإله.
يجب علي أنا المسكين سيرافيم، أن أشرح لك يا صديق الرب، ما هو الفارق الكبير بين عمل الروح القدس، الذي يسكن سرياً في قلوب الذين يؤمنون بربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، وأعمال الظلمة والخطيئة التي تدخل إلينا خفية كاللص وذلك بإيعاز من الشيطان، وتعمل على إفتراسنا.
الروح القدس يذكرنا بأقوال ربنا يسوع المسيح، ويعمل دائماً فينا منتصراً معه، أي مع المسيح، يمنح المسرة لقلوبنا، ويقود خطواتنا في طريق السلام. في حين أن أفعال الروح الكاذب إبليس، مضادة لطريق المسيح، وهي تستثير فينا الثورة والتذمُّر ومملؤة من شهوات الجسد والعين وتعظم المعيشة.
"الحق الحق أقول لكم، الذي يؤمن بي فلن يموت أبداً" (يو 47:6) "وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد" (يو 26:11)، الذي بإيمانه بالمسيح يقتني نعمة الروح القدس، حتى ولو كان قد سقط في خطية ما بسبب ضعفه البشري تسبب له موت النفس، فهو لن يموت إلى الأبد، بل سيُقام بنعمة ورحمة ربنا وإلهنا يسوع المسيح، الذي حمل في ذاته خطايا العالم، وهو يعطي مجاناً نعمة فوق نعمة.
ويتكلم الإنجيل عن هذه النعمة التي تستعلن للعالم أجمع ولجنسنا البشري يواسطة الإله- الإنسان. فيقول ... كان هو الحياة لكل كائن، والحياة كانت نور الناس، ويضيف .. النور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه (يو 1). وهذا يعني أن نعمة الروح القدس التي ننالها في المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، وبالرغم من سقطاتنا المتتالية، وبالرغم من الظلمات التي تكتنف النفس، فهي تستمر في اللمعان داخل قلوبنا، هذا النور الأبدي الإلهي بسبب إستحقاقات المسيح اللانهائية.
أما الخاطئ القاسي القلب، فإن نور المسيح يقول للآب .. "يا أبّا الآب لا يحمو غضبك ضد هذه القساوة إلى الأبد (نهاية حياته)"، ثم عندما يستفيق الخاطئ من غفوته ويلتجئ للتوبة، فهي تمسح تماماً كل آثار الجرائم التي إرتكبها، وتستر الخاطئ السابق بلباس عدم الفساد الذي نسجته نعمة الروح القدس هذه، التي طالما حدثتك عن إقتنائها.
وينبغي أن أضيف أيضاً، حتى تدرك بوضوح أكثر ما الذي أعنيه بالنعمة الإلهية، وكيف نتعرّف عليها، وكيف تستعلن للإنسان الذي تنير قلبه: إن نعمة الروح القدس هي النور الذي ينير للإنسان. فكل الكتاب المقدس يشهد بذلك، وداود الذي أتى من نسله الإله المتجسد يقول: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 105:119). وأيضاً: "لو لم يكن ناموسك تلاوتي لهلكت حينئذ في مذلتي" (مز 92:119)، وبكلمات أخرى، فإن نعمة الروح القدس التي يعلنها الناموس في صورة الوصايا الإلهية هي سراجي ونوري. فإن لم يكن المقصود هو نعمة الروح القدس (التي أعاني الكثير لأحمل نفسي على إقتنائها، والتي أبحث بغيرة عن أحكام عدلك سبع مرات كل يوم (مز 164:119))، فكيف لي في وسط الهموم العديدة التي تحيط بطبيعتي الفاسدة أن أجد في نفسي قبساً من النور ليضيء طريقي في مسار الحياة التي أظلمتها أحقاد أعدائي وحسدهم؟!
في الواقع، إن الرب نفسه أوضح مراراً، وأمام شهود كثيرين، عمل الروح القدس في الإنسان، خاصة الذي أنارهم وعلّمهم بأعماله الباهرة. تذكر أيضاً موسى النبي بعد كلامه مع الله على جبل سيناء وكيف لم يستطع الشعب أن ينظر إليه، إذ كان وجهه يلمع بنور بهي عجيب. بل كان يلزمه أن يحجب وجهه ببرقع عندما يتكلم مع الشعب. وتذكروا أيضاً تجلّي الرب على جبل طابور وكيف كان يحيط به نور عظيم: "تغيرت هيئته أمامهم وصارت ثيابه بيضاء كالثلج .. فخاف تلاميذه وسقطوا على وجوههم". ولكن عندما ظهر موسى وإيليا معه في ذلك النور عينه: "جاءت سحابة وظللتهم" وحجبت ذلك النور الإلهي، حتى لا تعمى عيون التلاميذ (مت 17). وهكذا دائماً تظهر نعمة الروح القدس والله في نور بهي لا يوصف للذين يُعلن لهم الله عن عمله.
وسألت الأب سيرافيم: ولكن كيف؟ هل أستطع أن أعرف إن كنت موجوداً في نعمة الروح القدس؟! فأجاب:
هذا أمر بسيط جداً يا صديق الرب، "كل شيء بسيط لمن أقتنى الفهم" (أم 9:8 س). ومنتهى شقاوتنا أننا لا نجدّ في البحث عن هذه الحكمة الإلهيةن التي لا تنفخ لأنها ليست من هذا العالم.
هذه المعرفة الممتلئة محبة لله وللقريب، تُعد كل إنسان وتبنيه لكي يعرف خلاصه. ويقول الرب في حديثه عن هذه المعرفة: "الله يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون" (1تي 4:2)، ولما راى أن تلاميذه تنقصهم هذه المعرفة قال: هل أنتم أيضاً حتى الآن غير فاهمين! أما قرأتم المكتوب؟ (مت 16:15، لو 24: 25-27) والكتاب المقدس يقول مشيراً لهذه المعرفة أنه "فتح ذهنهم ليفهموا المكتوب" وقد كان الرسل يدركون دائماً بحق إن كان روح الله معهم أم لا، وقد ملئهم من كل معرفة ومن كل فهم وكل حكمة روحية، وقد رأوا حضور الروح القدس معهم وأعلنوا بوضوح وتأكيد أن عملهم كان بالكامل سبب مسرة للسيد الرب. وهذا يفسر لماذا كتبوا في رسالتهم: "أرتضى الروح القدس ونحن ... " (أع 28:15)
فقط على هذه الأرضية الصلبة قدموا رسائلهم كحقيقة مؤكدة نافعة لكل المؤمنين، وهكذا أدرك الرسل القديسين وتيقنوا من حضور الروح القدس وسكناه فيهم. وهكذا ترى يا صديق الرب أن هذا أمر هين.
فأجبت: بالرغم من ذلك، فأنا لا أستطيع أن أدرك كيف يتسنَّى لي التأكد من أنني في الروح القدس؟ كيف أكتشف من ذاتي إستجلاء وجوده؟! فأجابني الأب سيرافيم :
لقد سبق أن قلت لك أن هذا أمر هين، وشرحت لك تفصيلاً كيف كان الناس يوجدون في ملء الروح القدس، وكيف يمكن إدراك حلوله فينا .. فما الذي يلزمك أيضاً؟!
أجبت: يلزمني أن أفهم ذلك جيداً !
عندئذ أمسك الأب سيرافيم بكتفي وشدَّد قبضته عليهما وقال:
أننا كلينا الآن، أنا وأنت، في ملء الروح القدس، لماذا لا تنظر إليّ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.