الارثوذكسية خبرة كنيسة معاشة

الأرثوذكسية خبرة كنسية مُعاشة

للأب بوريس بوبرينسكوي

مقتطفات مما قدمه الأب بوريس بوبرينسكوي عميد معهد القديس سرجيوس للاَّهوت الأرثوذكسي في باريس، في يوم الأرثوذكسية الثاني في فرنسا الذي نظَّمه وحضره مجمع الأساقفة الأرثوذكس في فرنسا في أول نوفمبر الماضي 2003 في باريس



”تعالَ وانظر“. كيف يمكننا أن نتحدث عن هذه العروس الخاصة بالمسيح تلك التي تشترك في لاهوته وناسوته والتي اغتسلت بدم الحمل وتنسكب فيها أمواج الروح المضيئة؟

”ناظرين قيامة المسيح“:

لا يستطيع المرء أن يتكلم إلاَّ عمَّا رآه وما عاشه وما أحبه، وإلاَّ فإن الكلمات الباردة والجافة تغش وتُشوِّه السر. وتنبع لغتنا اللاهوتية ووعظنا الطقسي والتبشيري من العمق السرِّي للخبرة الروحية التي هي الأكثر عمومية والأكثر شخصية وحميمية بآن واحد. إنها خبرة اللمس مثل توما، وخبرة رؤية القائم من بين الأموات التي ليوحنا: «الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة... نكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.» (1يو 1: 1-4)

يتساءل القديس سمعان اللاهوتي الجديد عن هذا ويوضح لنا:

[إن العبارة المقدسة التي يجب أن نتكلَّم بها دائماً ليست هي فقط أن نكون ”مؤمنين بقيامة المسيح“، ولكن ”ناظرين قيامة المسيح“. ولكن كيف يدفعنا الروح القدس إذاً لأن نقول: ”ناظرين قيامة المسيح“ كما لو كنا قد رأيناها بالفعل ونحن لم نرَها بالتأكيد؟! إن قيامة المسيح تدفعنا على العكس للشهادة للحق؛ ذلك الحق الذي يعيد قيامة المسيح داخل كل واحد منا نحن المؤمنين. ويحدث ذلك لا مرة واحدة، بل في كل ساعة عندما يُظهِر المسيح القائم فينا نفسه وهو مبيض الثياب ولامعاً ببهاء عدم الفساد الإلهي. المجيء المنير الذي للروح يجعلنا نلمح قيامة المعلِّم كما في النهار، بل ويمنحنا بالأحرى نعمة رؤيته هو ذاته ذاك القائم من بين الأموات.] (تعليم13)

شركة القديسين

هي وديعة الإيمان الرسولي الثابت والتي لا يمكن التصرُّف فيها:

إننا نصل بالضرورة إلي سرِّ الروح القدس، ذاك الذي ليس له اسم، ولكن الذي فيه تنال جميع الأسماء الحياة وتتلاقى في سرِّ المسيح. الروح، الذي هو نفس ونفخة الحياة الخاصة بالكنيسة، إنه أساس معرفتنا التي هي: شخصية وكنسية، بآنٍ واحد. فلنتوقف قليلاً عند هاتين الطريقتين للخبرة الروحية وللمعرفة اللاهوتية:

فأولاً، إنها المعرفة الكنسية، معرفة القديسين علي مر الأزمنة؛ أولئك الذين يشربون باستمرار من النبع الأبدي الذي للماء الحي والمعرفة. معرفة القديسين، وبالتالي شركة القديسين، حيث عقيدة الإيمان تُشكِّل الوديعة الثابتة والتي لا يمكن التصرُّف فيها: وديعة الإيمان الأرثوذكسي المنتقل عَبْرَ الأجيال والمحتوَى داخل الكنيسة والتي هي جديدة دائماً ولا تبطل أبداً.

نستطيع أن نقول إن هذا الإيمان الكنسي يُشكِّل جوهر الأرثوذكسية ذاته، بشرط الاسترجاع المستمر للطابع الحي غير الموصوف والناتج عن الخبرة الخاصة بالأرثوذكسية وبإيماننا الصحيح.

معاني مصطلح ”أرثوذكسي“:

إنني أُذكِّر باستمرار بأن مصطلح ”أرثوذكسي“ يشتمل علي مفهوم ثلاثي المحتوَى:

مفهوم ”مجد الله“:

† فتعبير ”دوكسا“ DOXA يعني أولاً ”مجد الله“، أي مجد ذاك الذي يُظهِر ذاته في الحق والحب والبهاء، كما يقول المرنم: ”السموات تُحدِّث بمجد الله“.

† وهكذا فإن الأشعة المنيرة التي للمجد الإلهي تتغلغلنا وتحوِّلنا في كل حياة الكنيسة.

† وبقدر ما إن مجد الله هو صفة إلهية أو بالأحرى طاقة إلهية وثالوثية، فإنه يحمل في داخله كل الصفات الإلهية، تماماً مثلما تُنير أشعة شمس الثالوث وتُقدِّس العالم وتُظهر فيه الحكمة والحب الإلهي الأزلي الذي لله.

نمتلك معرفة الله المعاشة في الكنيسة:

وفي المقام الثاني، فإن الأرثوذكسية تحتوي علي تمجيد الله بواسطة الخليقة أي بواسطة الكون كله. إن كل حياتنا الكنسية والليتورجية هي تمجيد حيث إننا نمجِّده ونسبِّحه.

وهكذا يقع المقام الثالث للأرثوذكسية في داخل المضمون الحي الذي لهذه التسبحة وهذا التمجيد المتبادَل بين الله وخليقته، حيث تجرؤ الخليقة علي التحدُّث عن الله، أن تتكلم عنه في صيغة ضمير الغائب (هو)، وعلى أن تُقدِّمه طبقاً لوسائل العقل الإنساني المتعددة أي بواسطة الكلمات المنطوقة والموسيقى والأيقونات.

ولكي نفعل ذلك، يجب علينا أن ننغمر في خِضمّ الأمواج المنيرة التي للخبرة الكنسية المُعاشة، وأن ننصهر ونموت فيها لدرجة أن تصير هذه المعرفة المُعاشة من قِبَل الكنيسة ومن قِبَل القديسين مِلْكاً لنا بالحقيقة؛ بمعنى أن تصير أكثر خصوصية بالنسبة لنا، وفي تناغم سرِّي مع الحب.

وهكذا يجد البُعد الشخصي الحميمي الذي للخبرة الروحية والمعرفة اللاهوتية معناه الحقيقي وكل ملئه. وهكذا تنطوي هذه المعرفة اللاهوتية والروحية علي إنارة حقيقية من قِبَل الروح القدس، وعلى التجديد المرتبط بالمعمودية لكل كياننا ولكل عقلنا وتوَجُّهنا وإدراكنا وإرادتنا.

إن من يقول ”معمودية“ يعني: طرد القوات الشريرة، والنُّسك والجهاد الروحي ضد الشهوات المميتة، والتجديد اليومي لعهد المعمودية بالأمانة للمسيح ولكنيسته، وتحقيق مسحة الروح القدس تأكيداً لعبارة يوحنا الرسول: «وأما أنتم فلكم مَسْحَةٌ من القدوس وتعلمون كل شيء... وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم إلي أن يُعلِّمكم أحد، بل كما تُعلِّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء، وهي حق وليست كذباً. كما علَّمتكم تثبتون فيه.» (1يو2: 20و27)

الكنيسة تقع في قلب سر المسيح:

بعد هذا التأمل المبدئي في الخبرة المُعاشة للأرثوذكسية كنت أودُّ لو أتوقف عند سرِّ الكنيسة ذاتها. إننا نعرف ذلك التأكيد الشهير للأب ”جورج فلوروفسكي“، الذي طبقاً له، لا تُشكِّل دراسة علم الكنسيات siologieéL'eccl باباً مستقلاً عن دراسة علم اللاهوت الأرثوذكسي، حيث يجب أن تقع هذه الدراسة في قلب دراسة علم ما يخص المسيح Christologie أي ”سر المسيح“. إن الكنيسة بالتأكيد هي هذا الوَسَط الحي أو هذا المكان الخاص بالروح. وبحسب لغة الأب ”تيّار دي شاردان“: ”فلنُجدِّد استخدام هذا التعبير المُفضَّل لدى القديس باسيليوس الكبير: "الوَسَط الإلهي"“. ونستطيع أن ندعو الكنيسة كما سمَّاها الأب ”نيقولا آفاناسيف“: ”كنيسة الروح القدس“. ولكن تتأسس الرؤية الأساسية للأب فلوروفسكي علي الثقة في أنه منذ تجسُّد الكلمة الأزلي، ومنذ اتحاده الزيجي مع الطبيعة البشرية المختومة بدمه علي الصليب؛ تظهر الكنيسة منذ ذلك الحين فصاعداً، كجسد المسيح السرِّي، لدرجة أننا لا نستطيع أن نتكلم عن الرأس دون الجسد ولا الجسد دون الرأس.

تتجاوز هذه الرؤية مفاهيمنا المدرسية والقانونية المعتادة عن الكنيسة باعتبارها مؤسسة ومجتمعاً إنسانياً شرعياً. وتُذكِّرنا الثقة في هذه الرؤيا أيضاً - مع الأب فلوروفسكي - أن الكنيسة تُشكِّل باستمرار في آنٍ واحد: صورة ”الطريق“ in statu viae، أي هي طريق ومسيرة وحِجٌّ نحو الملكوت ونحو طريق اكتمالها في أورشليم السماوية، حيث رؤية الحَمَل المذبوح المنتصر وجهاً لوجه؛ وأيضاً وبنفس المقدار صورة ”الوطن“ patriae statu أي في انتظار وتذوُّق الملكوت وطننا الحقيقي. أودُّ هنا أن أقتبس أيضاً قول الأب ”بول فلورِنسكي“ هذا الشاهد الكبير للإيمان والبصيرة الروحية: ”كلما اقتربت نهاية التاريخ كلما تأتي أشعة جديدة غير مرئية؛ أشعة وردية لنهارٍ يبزغ ولا يغرب لكي تلمس قباب الكنيسة المقدسة“.

الكنيسة في صورة الثالوث القدوس

هي علاقة شركة وحب:

يقع سر الإفخارستيا في موقع القلب لسرِّ الكنيسة وسر خبرتنا الكنسية الحية، غير معتبرين أو مختزلين إياه كمجرد سر وسط باقي الأسرار، بل السر الرئيسي، بل هو التعبير الكامل عن الكنيسة وإعلاناً للملكوت فيها. لقد صارت العقيدة الإفخارستية للكنيسة حقيقة جوهرية لضميرنا الأرثوذكسي الكنسي. يقوم المفهوم الإفخارستي للكنيسة علي ممارسة صعبة ولكن ضرورية، لِمَا نسميه ”المجمعية“ égialitécoll ، وما يمكن أن ندعوه ”المجمعية الدائمة للكنيسة“.

يحب ”أوليفييه كليمون“ أن يُذكِّرنا بأنه بقدر ما تكون الكنيسة ذاتها في حالة ”مجمع دائم“ بقدر ما يستطيع حَدَث انعقاد مجمع أن يتحقق بواسطة نعمة الروح القدس. يجب أن تُعاش هذه المجمعية علي كل مستويات الحياة في الكنيسة، أي على مستوى الإيبارشية والإقليم وفيما بين المؤمنين وبعضهم، وذلك بتوجيه وقدوة الرئاسات الكنسية.

وهنا أتوقف ثانية، للحظة، عند هذا المفهوم عن الكنيسة كصورة الثالوث الإلهي. إذ يُعلَن سر الاتحاد الثالوثي ذاته كسرِّ حبٍّ لانهائي، حيث تكون النتيجة الحتمية أن يصير الحب هو المحرك الأساسي للوحدة في الكنيسة ولحياة الكنيسة بأكملها، وبالأخص في العلاقات بين الرئاسات وشعب المسيح بأجمعه.

لقد كرَّس الأب ”نيقولا آفاناسيف“ فيما مضى دراسة عنوانها: ”سلطان الحب“ لكي يؤكِّد على أن الحب يجب أن يكون هو المحرك الوحيد لممارسة السلطة داخل الكنيسة. بهذه الطريقة تتحدد الكنيسة وتظهر في علاقة شخصية لا يمكن الارتداد عنها في مواجهة كل أقنوم من أقانيم الثالوث؛ فالكنيسة هي أهل وبيت «أبي الأنوار الذي منه تأتي كل موهبة تامة» (يع 1: 17)، حيث تظهر فيها أُبوَّة الله وتبنِّي الأبناء.

والكنيسة هي أيضاً جسد المسيح وعروسه حيث يتعاقب حضور المسيح في جسده (أي الكنيسة التي من خلالها نستدعي مجيء الروح القدس)، مع الحياة في الروح الذي فيه نصرخ: «آمين تعالَ أيها الرب يسوع»؛ حيث أخيراً تظل الكنيسة هي هيكل الروح القدس الذي فيه تبقى في ملء وديمومة مواهب عيد العنصرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010