الصوم والجهاد الروحي والمكاشفات الروحانية
===========================
بقلم المتنيح : الأنبا غريغوريوس
-----------------------------------
في أتعاب وآلام,في أسهار مرارا كثيرة,في جوع وعطش,في أصوام مرارا كثيرة,في برد وعري (2كورنثوس11:27). الموازنة بين مطالب الروح والجسد الحكيم الحق هو الذي يعرف كيف يوازن موازنة عادلة,موازنة سليمة,بين ما تطلبه الروح في كيانها ووجودها وصفاتها,وما يتطلبه الجسد في كيانه وفي صفاته.الإنسان الحكيم هو الذي يوازن بين الاثنين من غير تطرف,ومن غير أن يتدمر أحد العنصرين علي حساب الآخر,ومن غير أن يهتم متطرفا بناحية علي حساب الأخري.هذا التفكير المتزن,أو هذه الحياة المتزنة,التي تجمع بين الروح والجسد جمعا عادلا,جمعا منصفا,ولا يتجاهل أن الروح عطية من الله,وأن الجسد أيضا عطية من الله,هذا الإنسان بهذا الاعتدال وبهذه الحياة المنصفة المعتدلة,يمكنه أن يسير سيرا حكيما في قيادة حياته الحاضرة,وفي قيادة الحياة المقبلة أيضا
والغلطة الكبري التي نقع فيها كبشر هي التطرف,هي المغالاة,هي أننا نجري وراء عامل واحد,ونغفل حساب العامل الآخر.الحيوان ليس عنده تطرف,الحيوان تحكمه الغريزة,ولهذا مثلا عندما يأكل الحيوان يأكل بالقدر الذي يحتاج إليه الجسد وبعد هذا نري الحيوان يكف عن الأكل,وحتي لو ضربته فإنه لا يأكل.وكذلك يأخذ من الماء بالقدر الذي يحتاجه ولو أنك ضربته ليشرب ثانية لا يمكن أن يشرب.لكن الإنسان بعكس الحيوان يمكن أن يأكل أكثر مما يحتاج إليه الجسد,ويشرب أكثر مما يحتاج إليه الجسد,السبب في هذا أن الإنسان عنده عقل,وعن طريق العقل يأخذ الإنسان خبرة معينة,ويحصل علي لذة فكرية.فمثلا إذا أكل,وشعر بلذة في الطعام,ينسي نفسه فلا يقنع بما يكفيه,وبالضرورات الأساسية,ولذلك يغالي ويتطرف تحت فكرة اللذة,وفكرة التنعم,وفكرة السرور,وفكرة الشهوة,لأن الشهوة مصاحبة للفكرة والعقل.ولهذا قد ينزل الإنسان إلي مستوي الوحش,وأحط من مستوي الحيوان,لأن الحيوان تحكمه الغريزة,وليس عنده عقل يجعله يمتد بالخبرات وبالأفكار إلي اللذة العقلية أو إلي اللذة الجسدية امتدادا كما يمتد فكر الإنسان فيها.لذا فالإنسان عن طريق الفكر والعقل يقع في خطأ المغالاة.والإنسان يقع في خطأ التطرف والاهتمام بعامل واحد علي حساب العامل الآخر,وليس الأمر كذلك في الحيوان.إذن من هنا نفهم أن الروح تساهم مع الجسد في الانحطاط.
سبب الخطيئة هو الفكر والعقل
بهذا نجيب علي سؤال يقدم إلينا عادة.الروح من الله,فهل الروح تخطئ.نقول:إننا عادة ننسب الخطأ والخطيئة إلي الجسد.وهذا غير صحيح.لأن الجسد كجسد تحكمه الغريزة فلا يخطئ.والحيوان لا يخطئ,إنما الخطأ في الإنسان.فالخطأ إذن مرجعه إلي دخول الفكر,لأن هذا الفكر -بالتأمل في اللذة والخبرة في الشهوة- هو الذي يجعل الإنسان يمتد في شهوات الأرض الترابية.إذن ليس الجسد هو سبب الخطيئة وإنما سبب الخطيئة في الإنسان هو الفكر والعقل,مع العلم أن العقل من الله ولكنه بمصاحبته للجسد يتشبع بالجسديات ويميل إليها وينزل مع الجسد بأكثر مما يتطلب الجسد نفسه.فسر الخطيئة إذن يرجع إلي الفكر وإلي العقل,ولا يرجع إلي الجسد.ولذلك فإن الإنسان يتدنس بالروح قبل أن يتدنس بالجسد.
ومن أجل هذا فالمسيحية في صميمها تقول إن الإنسان لكي يتخلص من الخطيئة لا يقلع عينه أو يقطع يده أو يقطع رجله أو يقطع أي عضو من أعضائه.إنما الانتصار الحقيقي هو انتصار الفكر,وانتصار الإرادة.والإنسان يمكنه أن يمنع عينه من النظر من دون أن يقلعها.ويمكنه أن يقطع يده عن الخطيئة دون أن يجرحها أو يقطعها بأي آلة,إنما يمكنه أن يقطعها عن الفعل بطريقة إرادية,أي بتحكم الإرادة.
الصوم مهم لسيطرة الروح علي الجسد
أول وسيلة من وسائل السيطرة,سيطرة النفس علي الجسد,هي الصوم.لماذا؟ لأنه يكون أمامك طعام وتمنع نفسك عنه بإرادتك وباختيارك.قدامك الطعام وليس هناك ما يمنعك,إنما بإرادتك وباختيارك وبناء علي اقتناع,أنت تمتنع عن الطعام,فإذن الصوم يحقق قوة الإرادة ويحقق سيطرة العقل والروح علي الجسد.الصوم شكيمة في يد العقل والروح,ولجام يربط به الإنسان نفسه عن شهواتها.الصوم تدريب وأعظم تدريب لتقوية الإرادة,هو شبيه بالرياضة الجسدية وأثرها في تقوية البدن.الصوم يقوي الإرادة الباطنية ويقوي السيطرة علي اللذات وكلنا يعرف أن الصائمين أقدر من غيرهم علي الامتناع عن بعض أنواع الطعام عندما تكون صحته تتطلب أن يمتنع عن نوع معين من الطعام,أو عندما يأمره الطبيب بأن لا يأكل مأكولات معينة تضر صحته.أما الإنسان الذي لم يتعود الصوم فيعجز عن تنفيذ تعليمات الطبيب ويقول:العمر واحد,والرب واحد,كما لو كان شديد التدين,مع أنه في الواقع ضعيف الإرادة وغير قادر أن يمنع نفسه عن هذا اللون من الطعام.لكن الشخص الذي يصوم,والمتدرب علي الصوم,يمتنع بسهولة ودون مقاومة كبيرة عما يضره,لماذا؟ لأنه مدرب ولأنه قادر علي أن يشكم شهوته بإرادته ويمنع نفسه عن هذا اللون أو ذاك من ألوان الطعام.
وقل مثل ذلك عن المكيفات الضارة مثل التدخين والخمر وسائر المكيفات وكل العادات الرديئة.فالإنسان الذي اختبر الصوم يكون أقدر علي التخلص من التدخين,ومن الخمر,ومن سائر المكيفات الضارة,ومن كل عادة من العادات الرديئة التي يلزم للإنسان أن يتخلص منها.الإنسان الصائم يكون أقدر علي البلوغ إلي هذا المستوي الرفيع,إلي السيطرة علي كل عادة من العادات وأن يتخلص بإرادته من كل شئ يعوق تقدمه الروحي.
فالصوم عن الطعام هو الجولة الأولي التي إذا انتصر فيها الإنسان ينتصر في سائر الجولات.لأن الإنسان في حياته تعترضه صعوبات كثيرة في حياته الروحية وفي حياته المادية وفي حياته العقلية أو الذهنية.والإنسان قوي الإرادة يمكنه أن يتغلب علي هذه الصعوبات.والصوم,لأنه يقوي الإرادة يساعد الإنسان علي تكوين فضيلة السيطرة وفضيلة قوة الإرادة وفضيلة الصمود أمام العقبات أو أمام أي رغبة من الرغبات.
الصوم وبلوغ الأهداف العالية
نحن نحتاج لقوة الإرادة في ميدانين.أولا:ميدان تذليل العقبات والصعوبات التي تعترض طريق الإنسان.وثانيا:نحتاج لقوة الإرادة في سبيل الوصول إلي المطامح العالية والأهداف السامية.إذا كان إنسان غير قانع بالمستوي الذي هو فيه سواء من الناحية الروحية,أو من الناحية العلمية,أو من أي ناحية من النواحي,وتكون أمامه أهداف كبيرة,وهذه الأهداف الكبيرة يحتاج تحقيقها إلي صبر وإلي جهاد,فالإنسان الصائم يكون أقدر من غيره علي هذا النوع من الصمود أمام العقبات.وأيضا علي الصمود في سبيل الوصول إلي الأهداف العالية وإلي الأغراض السامية,وإلي تحقيق الحياة الأسمي التي يريدها الإنسان.وبهذا يصير الإنسان مالكا لزمام نفسه ومسيطرا علي ذاته.ولكن عندما تسيطر عليه شهواته يصير هو عبدا لرغباته أو يقول أنا أريد لكني لست قادرا.أما في حياة الصائمين فليس هناك شئ اسمه (المستحيل) لأن الصائم أمكنه أن يسيطر علي ذاته.إن غريزة الحياة الأولي كما يقول علم النفس هي أعظم جميع الغرائز.وغريزة الحياة الأولي هي غريزة الطعام.ويسمونها بغريزة الحياة الأولي.لأنه بتجارب كثيرة ودراسات شاملة علي الحيوان والإنسان تبين أن غريزة الطعام هي أعظم من سائر الغرائز أثرا علي حياة الإنسان.فغريزة الطعام أقوي من غريزة الأبوة والأمومة,وغريزة الطعام أقوي من الغريزة الجنسية,وأقوي من غريزة الغضب والمقاتلة والتملك.وقد أجري العلماء تجارب كثيرة وأمكن فعلا أن يحققوا هذا.ولذلك نجد الأم وهي المثل الأعلي بين البشر في محبة أولادها لدرجة أن ربنا عندما أراد أن يشبه محبته لنا شبهها بمحبة الأم.نقول إن الأم وهي المثل الأعلي في الحب,في حالات الجوع الشديد يمكن أن تقتل ابنها وتأكله.وقد حدث هذا بالفعل في جميع الشعوب,في لحظات الجوع الشديد,أمكن أن نجد أمثلة لأمهات قتلن أولادهن وأكلن أولادهن.وهذا ما يقوله إرميا النبي في نبوءته:أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن,صاروا طعاما لهن (مراثي إرميا4:10) انظر (الملوك الثاني6:26-30).
بالصوم نسيطر علي كل الغرائز
فغريزة الطعام هي غريزة الحياة رقم واحد.وإذن,إذا كان الصوم هو الفضيلة التي بها يسيطر الإنسان علي غريزة الحياة الأولي,وهي غريزة الطعام,فمعني ذلك أن الصوم هو الفضيلة التي تكفل للإنسان أن يسيطر علي سائر الغرائز الأخري,ومن هنا فإن فضيلة العفة نابعة من فضيلة الصوم.وهناك علاقة مستمرة بين الطعام والنهم الجنسي,فمن يسيطر علي غريزة الطعام يمكنه أن يسيطر علي شهوة الجنس,وعلي الغضب,وعلي التملك,والأنانية,وعلي سائر الغرائز الأخري التي تعيق التقدم في الحياة الروحية.إذن غريزة الطعام يسيطر عليها الصوم.والصوم يعد انتصارا للإنسان وانتصارا للإرادة البشرية علي سائر الصعوبات التي تعترض طريق الإنسان في الحياة الروحية أو العقلية ذلك هو الهدف الكبير من الصوم.
الصوم يحقق صفاء النفس وانطلاق الروح
هناك هدف آخر للصوم,وهو تحقيق الصفاء للنفس والانطلاق للروح.ودخول الإنسان روحيا في علاقات تقدمية في عالم الروح وفي المشابهة بين الإنسان وبين الله.ولذلك نجد أن بعض القديسين أمكنهم عن طريق الصوم أن يتحقق لهم صفاء روحاني عظيم,وأن يدخلوا في علاقات مباشرة مع العالم العلوي,وأن يدخلوا في مرحلة الكشوف الروحية,والانكشاف علي العالم العقلي والعالم الروحاني والعالم السماوي.وهذه الكشوف تؤيدها خبرات كبار القديسين الذين دخلوا في المكشافات الروحانية.يقول ماربولس الرسول:أنه لا يوافقني أن أفتخر,فانتقل إلي رؤي الرب ومكاشفاته (2كورنثوس12:1) ويوحنا الرائي يقول:صرت في الروح في يوم الرب (الرؤيا1:10) فهذه الرؤية العظيمة التي نقرأها في هذا السفر الكبير,وهو آخر أسفار الكتاب المقدس,لم تكن تتحقق لإنسان جسداني أو لإنسان شهواني.ويوحنا المعمدان الذي عاش في البرية عيشة راهب ناسك متعبد أمكنه في تلك الحياة الروحانية أن يصل إلي مقامات روحية سامية,وأن يري الله,وأن يسمع صوت الله.يقول يوحنا المعمدان عن المسيح له المجد:وأنا لم أكن أعرفه,ولكن الذي أرسلني لأعمد بالماء هو الذي قال لي:إن الذي تبصره الروح ينزل ويستقر علي رأسه,وهو الذي يعمد بروح القدس.وأنا قد أبصرت وشهدت أن هذا هو ابن الله (يوحنا1:31-34).
فهؤلاء القديسون,وصلوا إلي حالة الصفاء فصار يمكنهم أن يتعاملوا مع عالم الروح,ويمكنهم أن يدخلوا في علاقات مباشرة مع العالم العلوي,ويمكنهم أن يكشفوا أمورا كان من المستحيل أن يكشفوها لو أنهم كانوا خاضعين لرغبات الجسد وشهواته.فالصوم في الواقع يحقق للنفس صفاء,ويحقق سهولة في العبادة,لأنه لجام لرغبات الجسد وميول الجسد الترابية.وهو يخلص الروح من الضغوط والعوائق والشوائب,ومن الشغب الذي يحدثه الجسم في العقل والروح,فيتخلص الجسم وتتخلص الروح من هذا الشغب,ويسير الإنسان في سهولة للانطلاق إلي العالم الروحاني.
بهذه الكلمة نفهم أننا داخلون في فترة من أقدس الفترات في أيام العام الكنسي,وهي فترة الصوم الكبير.وحكمة الكنيسة في أن يكون هذا الصوم كبيرا لدرجة أنها أضافت عليه أسبوع الآلام فصار خمسة وخمسين يوما,مع أن أسبوع الآلام أسبوع مستقل,وبعيد تاريخيا عن صوم الأربعين المقدسة التي صامها مخلصنا,نقول إن حكمة الكنيسة في هذا الصوم الكبير,أنه كلما طال الصوم,أمكن للإنسان أن يحقق به السيطرة علي الجسد,ويتحقق به الصفاء النفسي,ويتحقق الامتداد الروحاني.تماما كما يحصل في الناحية العلمية عندما يكون الإنسان منشغلا بكتابة بحث أو بقراءة موضوع مستغرق فيه,ثم يقطع حبل تفكيره قرعات شخص ما علي بابه,فيتسبب عن ذلك تعطيل التفكير أو القراءة.
فإذا صام العابد مدة طويلة غير منقطعة,تتحقق له فوائد جزيلة جدا,وتصير للإنسان إمكانيات الاستمرار والمتابعة المستمرة في الحياة التقوية.ولهذا جاءت الحكمة في جعل أسبوع الآلام ملتصقا وملحقا بالصوم الأربعيني المقدس,لكي تكون هناك إمكانية أوفر للاتصال بالعالم الأعلي وللتعمق في الروحانيات.ثم قالوا ليس حسنا أن ندخل في الأربعين المقدسة مباشرة.أن القطار لما يبدأ في التحرك,يتحرك وئيدا وئيدا ثم يسرع,ولا يبدأ بالسرعة الكبيرة,لذلك رأت الكنيسة أن لا ندخل في الصوم الأربعيني المقدس وأسبوع الآلام الذي يتلوه دخولا مباشرا,بل رأت أن تضيف إليه مقدمة,يبدأها الصائمون في تؤدة قبل أن يدخلوا في حياة النسك التي يجب أن يمارسوا بها أقدس الأصوام أهمية.ومن هنا كان الأسبوع الأول من الصوم الكبير مقدمة للصوم الأربعيني المقدس,وتعويضا عن أيام السبت الخمسة التي تشتمل عليها الأربعون المقدسة,حيث أن قوانين الكنيسة تمنع أن يصام يوم السبت صوما انقطاعيا (فيما عدا السبت الكبير,سبت الفرح),وذلك تقديسا لهذا اليوم واحتراما لشريعة الكتاب المقدس في الوصية الرابعة.
والآن,فلنصم هذا الصوم الكبير بروح التعبد والتقوي ومخافة الله,ولنضاعف من روح التضرعات والصلوات والتأملات والقراءات التقوية النافعة,وأعمال الرحمة والصدقات.وليقبل الله صلواتنا وأصوامنا وصدقاتنا بخورا زكيا طاهرا,ويتنسم رائحة الرضا,فيرضي علينا ويرحمنا,ويرفع غضبه عنا,ويهبنا السلام الذي يفوق كل عقل,ويبارك في شعبه,وكنيسته,ويبارك بلادنا,ويلهم قادة الفكر فينا إلي الحق والخير والواجب,له الإكرام والمجد إلي الأبد.آمين.
أحدث الموضوعات
From Coptic Books
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010
المشاركات الشائعة
- اكلات صيامى بمناسبة بدء الصوم كل سنة وانتم طيبين
- مسابقة فى صورة اسئلة مسيحية
- افكار تنفع مدارس الاحد { وسائل الايضاح }
- الحان اسبوع الالام mp3
- صور تويتى للتلوين
- دراسة كتاب مقدس ... لابونا داوود لمعى
- صور يسوع المسيح ( مصلوب )
- صلوات الاجبية بالصوت mp3
- حصرياً : اعلان نتيجة مهرجان الكرازة & شعار مهرجان الكرازة 2010 Mp3 ومنهج الألحان
- أرشيف الترانيم والمدائح أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.