كمال الكتاب المقدّس




كمال الكتاب المقدّس
====================


كل من اكتشف طريق الكتاب المقدس، وسار فيه، انسكبت فيه قداسة المسيح بكل هدوء بواسطة الكلمة "روح وحيوة" (يو 63:6)، "ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق" (يو 19:17). تتجلى هنا قداسة المسيح، التي أكملها وأعلنها في تجسده بكل ملئها، لتكون منبعاً لنا لا ينضب إلى الأبد من خلال الكلمة (أي الحق).

هنا يقرن المسيح بصورة سرية للغاية بين تقديس كلمة الآب في الكتاب المقدس "قدسهم في حقك كلامك هو حق" وبين التقديس المنقول لنا كتركة – أي ميراث بلا جهد – من تجسده وحياته الشخصية "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكوني هم أيضاً مقدسين في الحق".

هكذا يتضح لنا الكتاب المقدس كواسطة تقديس ذي فعلين: الفعل الأول كلمة الآب في الكتاب التي عبَّر عنها أنها "الحق"، والفعل الثاني حياة المسيح المستترة في الإنجيل التي عبَّر عنها أنها "ذاته".
وواضح جداً من سياق هذه الصلاة العميقة (يو 17) أن المسيح يفرق بين "ذاته" وبين "كلام الآب" الذي يقرنه في موضع سابق من هذه الصلاة، أي يقرن "كلام الآب" بإعلان اسم الآب "أنا أظهرت اسمك للناس... وقد حفظوا كلامك" (عدد 6)، وبهذا يتضح أن المسيح يركز بكل وضوح على الكلمة باعتبارها كشفاً لسر الآب واسمه، أي علاقة الله بالناس كآب، من خلال أو بواسطة استعلان الابن.


وهكذا أصبحت كل قراءة للكتاب بتقوى وخشوع وتعبدٍ وقلبٍ مفتوح، مصدر انسكاب سري للتقديس بواسطة الآب والابن الذي يتغلغل الفكر والضمير والشعور والإرادة والسلوك يوماً فيوماً، لبناء النفس بناءً جديداً يلتحم مع المسيح في شركة سرية مع الله، غير مدركة، كعِشرة حياة بواسطة الكتاب المقدس أقرب ما تكون إلى عِشْرة زوجين متحابين حباً أبدياً!!

هكذا كل من يقرأ الكتاب المقدس بعهديه بوعي وقلب مفتوح، يدخل شيئاً فشيئاً في سر الآب عن طريق إعلان المسيح حيث يصبح كلام المسيح مدخلاً لسر الآب للحفظ والتقديس. لأن من "كلام الآب" الذي عبَّر عنه المسيح أنه "حق": "كلامك هو حق"، تتقبل اسم الآب – أي شخصه – كحق حافظ ومعين ومقدس: "أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك"، ومن شخص المسيح تتقبل تقديس ذات المسيح "أُقدس أنا ذاتي ليكونوا مقدسين".

وكيف ذلك؟...
فهل قراءة العهد القديم، حتى سفر التكوين مثلاً أو اللاويين أو الملوك أو الأنبياء، تقدس الإنسان باعتبارها "حق"؟
هنا يلزمنا أن نفتح أمامك منهجاً سرياً لقراءة العهد القديم يوصلك بالفعل إلى حالة تقديس. ولكن هنا أيضاً يلزمنا أن نفرق بين قراءتين هامتين للكتاب المقدس:


القراءة الأولى:قراءة موضوعية، حيث يستغرق ذهن القارئ في معاني الآيات والكلمات، وشرح ذلك على مستوى التاريخ والجيولوجيا وتاريخ الطبيعة والجغرافيا وعلم الإنسان والنبات، كلها تساعد في الكشف والتعبير عن الحق العام، وبالتالي عن الله في حكمته وعلمه وقدرته الفائقة. وهنا يتصدى لهذه القراءة – أي القراءة الموضوعية بعلومها، علوم أخرى نقدية بعضها على مستوى الكتاب المقدس قائمة على بحوث علمية جريئة تمزق وحدة الكتاب المقدس وأصالته تمزيقاً، وبعضها ضد الكتاب المقدس، أي إلحادية صرف، وهذه تسفِّه من الكتاب وتحط من قيمته وتشكك في صدقه بل وفي وجود أي حق على الإطلاق غير المادة الجامدة كأصل ومنبع كل شيء!!
وهنا يدور الصدام بلا هوادة بين العلوم الإيجابية للكتاب المقدس بحججها المشبعة اللذيذة وبين العلوم النقدية بدقتها العقلية والعلمية الباهرة والمزيفة أحياناً، دون أية بارقة أمل للوصول إلى نتيجة حاسمة ودون أن يتنازل كل من الفريقين عن موقفه قيد أنملة. وكل من دخل هذه المعركة خرج مصدع الرأس ممزق الفكر موزع الضمير وكأنه نجم تاه عن فَلكِه. هذه هي القراءة الموضوعية للكتاب المقدس! وهي لا تخلو من نفع ولكنها يستحيل أن تبني النفس والإيمان.


القراءة الثانية: قراءة شخصية، أي أن يقرأ الإنسان وكأن الكلام يخصه هو ويخص حياته! بإيجابية سهلة وفكر يستلهم الحق من وراء كل آية، لا الحق العام الموضوعي بل الحق الخاص الذي يخاطب ضميره ويكشف الباطل المختبئ في أعماق ضميره وسلوكه.
فمثلاً، بينما القارئ الموضوعي منشغل أشدّ الانشغال ومنفعل أشدّ الانفعال في معنى النور (تك 3:1 و 4)، ثم بعد خلقه النور يعود الكتاب فيقول أن الله فصل بين النور والظلمة، وهنا يحتار ويرتبك: وهل هذا يجوز وكيف يمكن؟ ويستغيث العقل بالمنطق والعلوم والفلك، وهيهات... نقول. وبينما القارئ الموضوعي مشتت الفكر وممزق العقل والضمير، نجد القارئ الذي يقرأه قراءة شخصية بحثاً عن الحق؛ لا الحق العام في ذاته بل الحق الذي ينير الطريق أمامه معتبراً "كلام الآب" هو للحفظ والتقديس باستعلان سر المسيح داخل الإنسان لا خارجه، يبدأ يتأمل في النور الذي قال الله عنه "ليكن نور"، كيف أن هذا النور بعينه خلقه الله في قلب الإنسان عامة، وهو مصدر المعرفة والإلهام والحياة لكل بني الإنسان، مع أن الظلمة لا تزال أيضاً تغشى قلب الإنسان كما يغشاه النور، والصراع بينهما مستمر.
ولكن حين يتأمل الإنسان لحظة كيف نجح الله بالفعل في الفصل بين النور والظلمة في قلب الإنسان، وحسم هذا الصراع الأبدي (بمجيء الرب يسوع)، ينتقل المعنى في الحال من الحق العام إلى الحق الذي يخص قداسة الإنسان في الصميم ويخص خلاصه وحياته ومستقبله وكل سعادته. وإن مجرد الوقوف عند هذا التأمل فترة، كفيل أن يوقظ النفس على حقيقتها. وهكذا تتحول قراءة كلمات العهد القديم أو العهد الجديد على السواء إلى وعي روحي عملي يزداد يوماً بعد يوم حتى يبلغ إلى حالة تقديس: "قدسهم في حقك. كلامك هو حق".


يلاحظ هنا في هذا التأمل بخصوص وجود النور والظلمة والفصل بينهما أن مجيء المسيح إلى العالم بصفته "النور الحقيقي" الذي لم تستطع الظلمة أن تدركه (هذا المجيء هو العهد الجديد)، هو الذي شرح لنا المعنى السري في وجود النور بعد الظلمة في العهد القديم، ثم شرح لنا المعنى الأكثر تعقيداً وصعوبة في إمكانية الفصل بين النور والظلمة في سفر التكوين، إنما على مستوى روحي سري.

هكذا بهدوء وعمق، يقف الإنسان عند شرح الآية الأولى من الأصحاح الأول لسفر التكوين، ويسأل: وهل فعلاً قال الله في نفسي: " ليكن نور"؟ وهل فصل الله فعلاً بين النور والظلمة في أعماقي؟
هنا القراءة تتغلغل ضمير الإنسان، وكلمة الله تكشف وتدين وتصحّح وتقدس. ولا نغالي إذا قلنا أن حصيلة التأمل الشخصي في هذه الآية وغيرها بهذه الطريقة، كفيل أن يغيّر حياة الإنسان في مدة وجيزة لا يتصورها العقل.
هذا هو معنى قول المسيح في صلاته مخاطباً الآب "كلامك هو حق". أي أن الكتاب ينطق في داخل الإنسان بالحق ويقوده إلى الحق ويثبته في الحق ثم ينميه في الحق!! وهذا هو – بالنهاية – "قدسهم في حقك، كلامك هو حق".
يلاحظ أن المسيح قال هذا، كخطاب الوداع لتلاميذه قبل الصلب مباشرة، فهو هنا يستودعنا سراً من أعمق أسرار عمله الخلاصي، وهو ينبهنا إلى أهمية "كلام الآب" الذي اضطلع المسيح بشرحه وإعلانه، ليكون واسطة لتقديس الإنسان.


فتجسد المسيح وحياته وكلامه وأعماله والفداء الذي أكمله (العهد الجديد)، هو تكميل وإعلان "كلام الآب" و"اسم الآب" (الذي ظهر بميلاد الابن) لتقديس الإنسان!
المسيح هنا يجعل من كلامه وكلام الآب، وحدة في الحق لتمجيد الآب والابن لتقديس الإنسان، تماماً كما يجعل من اسمه (الابن الوحيد) إعلاناً وتمجيداً لاسم الله الآب الذي به يحفظ الإنسان من الشرير (هنا استعلان سر الثالوث صار قوة ضاربة لسلطان الشرير). المسيح يركز في خطابه الوداعي على "الكلمة" و"الاسم" كقوتين قادرتين على حفظ الإنسان وتقديسه: كلمة الآب التي استُعلنت بكلمة الابن، الكتاب المقدس ككل بعهديه القديم والجديد، كلام المسيح الذي هو روح وحياة؛ واسم الآب الذي استعلن باسم الابن حتى يصيرا للإنسان مصدراً ثابتاً "للتقديس"، و"للحفظ من الشرير" بل وللاتحاد معاً في الآب والابن حسب صلاح المسيح للآب.




إذن، فوصايا الله على مدى الكتاب وعلى ضوء استعلان شخص المسيح لم تُعطَ على مدى العصور للبحث والدراسة في حد ذاتهما. فالبحث الموضوعي المطلق والدراسة الموضوعية بعيداً عن حالة الشخص القارئ نفسه تُباعدان جداً بين قصد الله من الكتاب كله وبين القارئ: قصد الله أن تكون وصاياه وكلماته "حقاً" كاشفاً لضمير الإنسان، ثم حقاً مبكتاً، ثم حقاً موجهاً وبانياً ومضيئاً لطريق الإنسان: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي!!" (مز 105:119).


وكيف ذلك؟...

إن كلام الله ووصاياه، ليست تسجيلاً زمنياً أو تاريخياً لحوادث أو استعلانات تمت، ولم يعد لها نفع في واقعنا اليوم؛ بل
هي بحد ذاتها – أي كلام الله ووصاياه بأي صورة وفي أي سفر – إنما هي تحوي أهم ما تحوي استعلاناً لله ذاته!: استعلان مشيئته، استعلان رضاه، استعلان حبه، ثم استعلان قضائه ودينونته!
واستعلان الله بهذه الصورة المسجلة في الكتاب يحوي قوة كامنة، يحوي روحاً وحياة " الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحيوة" (يو 63:6)، هو بحد ذاته يعمل ككشاف ماهر لأعماق أفكار الإنسان ونياته؛ وهو يشبه المقياس يقيس مقدار انحراف الإنسان عن الحق، عن الأمانة، عن الشرف، عن الطهارة، عن المحبة وله سلطان الردع في الضمير، لذلك فهو قادر على إعادة التفكير وتصحيح المسار بقوة حادة قاصمة لا تعاند "صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 5:9) (أي: "صعب عليك أن ترفس نصل السكين")!!


وهكذا أصبحت قراءة الكتاب المقدس، بمنهج الوعي المفتوح للحق الكائن في الكلمة في أي سفر هو بحد ذاته نوراً كشافاً يكشف أقصى خبايا النفس، نور استعلان الآب نفسه والابن داخل النفس، وهو قادر في الحال على التبكيت على كل خطية وعلى الإحساس بالدينونة.

لذلك أصبح الكتاب المقدس، هو الحق الوحيد الثابت والمؤكد والمسجل بروح الله لكشف عِلاَّت النفس وأوجاعها، وردعها حتى إلى أعمق انحرافات اللاشعور.
ذلك، لولا الكتاب المقدس الذي حفظ الحق الإلهي مسجلاً بكل حركته وفاعليته "روح وحياة"، ما استطاع إنسان أن يكتشف خطيئة أو براً أو يستقر في أعماق نفسه إلى حقيقة نفسه بحضرة الله، أو استطاع أحدٌ أن يبني حياته وفق مشيئة الله بناءاً صحيحاً، ويثبت في النعمة ثبوتاً دائماً أكيداً كمن دخل في الحق الإلهي لميراث أبدي: "والآن أستودعكم يا إخوتي لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاً مع جميع المقدسين." (أع 32:20).
لأن الكتاب نفسه، الذي يبكّتنا على كل خطية ودينونة، يسجّل لنا تسجيلاً حياً لحب الله من نحونا في شخص يسوع المسيح، ويسجّل لنا كيف أتمّ خلاصنا وفداءنا وكيف تبنانا وسكب روحه فينا، وهكذا كما يلقي في قلبنا بذرة الدينونة للتبكيت والندامة، يلقي في قلبنا بذرة نعمته رجاء الخلاص للحياة الأبدية.


لذلك، يستحيل أن نصل إلى معرفة صحيحة للخلاص الذي ورثناه في شخص يسوع المسيح بدون كشف صحيح ودائم لحالة النفس في الداخل. ثم يستحيل هذا وذاك، أي كشف النفس بصورة دائمة وقبول الخلاص الأبدي، بدون الكتاب المقدس أي بدون قراءة واعية دائبة مستمرة لاستقبال "حق" الآب "وقداسة الابن الذي في الأسفار المقدسة لبناء النفس بناءاً صحيحاً.
اكتب هذا، لأن في هذه الآونة تنتشر حركة في أنحاء العالم كله، تعتمد على الاتصال المباشر بالروح القدس، بدون الاهتمام الكافي بالكتاب المقدس كمصدر ثابت لحياة النفس كغذاء ودواء وبناء "قدسهم في حقك، كلامك هو حق" (يو 17:17)، "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحيوة" (يو 63:6)، "أنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة (العهد القديم) القادرة أن تحكِّمك (أي تعطيك حكمة) للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح." (2تي 15:3-17).


إن أحوج إنسان للكتاب المقدس، بل وأقدر إنسان على الاكتساب منه هو الإنسان الذي دخل مجال التوبة، وابتدأ عمل الروح يظهر في حياته! لأن الثمر الذي سوف يجنيه من كلمة الله يصير حصيلة هائلة للشهادة للمسيح، بل ولحماية الإنجيل ذاته من خلال بنائه اليومي لحياته هو، وتدقيقه في سلوكه وتصحيحه لأفكاره وتصوراته.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010