مدخـل إلى العقيدة المسيحية
مدخـل إلى العقيدة المسيحية
=================
كوستى بندلى ومجمـوعة من المؤلفين
---------------------------------------
مقـدمة
_______
إنها الطبعة الثالثة لكتاب " مدخل إلى العـقيدة المسيحية" , وقد نفدت طبعـتاه الأولى والثانية. وقد شعـرنا بلزوم إعادة طبعه للضرورة الملحة إليه المتجلية بالطلبات الكثيرة التى تلقيناها.
إن مقارنة سريعة لهذه الطبعة مع سابقتيها تظهـر بجـلاء محاولة تطوير هذا الكتاب إلى ما نعـتقده الأفضل. فالطبعة الثانية مزيدة ومنقحة بالنسبة للطبعـة الأولى, وكذلك الطبعة الثالثة هذه. فقد أضيفت إليها فصول بكاملها تتناول المسيح الكونى والثالوث والكنيسة والمعـمودية والمجئ الثانى والحياة الأبدية. إنها محاولة لجعـل هذا الكتاب مدخلاً للعـقيدة المسيحية ككل, وليس لجانب منها, كما فى الطبعـتين الأولى والثانية.
كذلك أردنا بإدخال بعـض الملحقات المتعـلقة بالمناولة المتواصلة ومعـمودية الأطفال. أن تضفى عـلى الكتاب الطابع التطبيقى الحياتى, والابتعاد به عـن الطابع العـقائدى البحت. فى اللاهوت الشرقى العـقيدة ملتصقة بالحياة إلتصاقًا.
ويجدر التنويه بأن مضمون الفصول الجديدة: السابع والثامن والتاسع, وموضوع المسيح الكونى فى الفصل السادس قد اقتبسوا من دروس ألقاها المطران " جورج خضر" عـلى فئة من الشباب جمعـتهم حلقة تدريبية أقامتها حركة الشبيبة الأرثوذكسية. أما الفصل العاشر فقد اعـتمد فى كتابته عـلى ما ورد فى الفصل السابع من كتاب " الله حىّ" الذى أعـدّه فريق من اللاهوتيين الأرثوذكسيين فى فرنسا.
ولا يسعـنا فى مستهل الطبعة الثالثة هذه إلا التنويه بالتعـليمات التى ثبتها الأستاذ " كوستى بندلى" فى مقدمة الطبعة الأولى للكتاب إذ قال:
" غاية الأسئلة الواردة فى آخر كل فصل أو باب أن تكون مادة لحوار بين المدرس والطلاب ـ ونزيد بين الأهل والأولاد ـ يتدرج هؤلاء من خلاله إلى اكتشاف المعـلومات التى تقدم لهم. لذا ينبغى أن يسبق هذا الحوار عـرض الموضوع, فيأتى العـرض منسقـًا ومكملاً الأفكار التى تمّ الوصول إليها بمجهود مشترك. وغـنى عـن الإشارة أن صيغة الأسئلة ليست نهائية بل يُترك تعـديلها أو غـض النظر عـن بعـضها أو إضافة أسئلة إليها حسب الحاجة.
" والكثير من الأسئلة يعـود بالطلاب إلى الكتاب المقدس والطـقوس, ذلك أن العـقيدة إذا لم تردّ دومًا إلى مصدرها الحىّ, وهو كلمة الله المكتشفة فى الكتاب المقدس والمعاشة فى الليتورجيا, تتعـرض للجفاف والتحول إلى رياضة عـقلية جوفاء"
الناشر
____________
الفصل الأول
فى دستور الإيمان
==============
دستور الإيمان النيقاوى القسطنطينى:
الإيمان: با لحقيقة أؤمـن.
الله الآب: بإله واحـد, الله الآب, ضابط الكـلّ.
الخـلق: خـالق السماء والأرض, ما يرى وما لا يرى,
يسوع المسيح: وبرب واحد يسوع المسيح, ابن الله الوحيد, المولود من الآب قـبل كل الدهور, نور
من نور, إله حق من إله حق, مولود غـير مخلوق, واحـد مع الآب فى الجوهـر, الذى به كان كل
شئ, الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء,
التجسد: وتجسّد من الروح القـدس ومن مريم العـذراء, وتأنّس,
الفـداء: وصُلِب عـنّا عـلى عهد بيلاطس البنطى, وتألّم, وقُـبر, وقام من بين الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب, وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب,
الدينونة: وأيضًا يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات, الذى ليس لملكه إنقضاء,
الروح القدس: نعم أؤمن بالروح القدس, الرب المحيى, المنبثق من الآب قبل كل الدهور,
الثالوث القدوس: نسجد له ونمجده مع الآب والابن, الناطق فى الأنبياء,
ا لكنيسة: وبكنيسة واحدة, مقدسة, جامعة, رسولية,
المعمودية: واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا
القيامة: وأنتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى.
هـذا الدستور ( القانون ) للإيمان وُضع عـلى مراحـل حسب ظهـور الهرطقات واضطـرار الكنيسة للدفاع عـن إيمانها...
وقـد سُمّى بالنيقاوى القسطنطينى لأن قسمـًا منه وُضع فى المجمـع المسكونى الأول الذى انعـقد السنة الـ 325 فى نيقـية...
ثم اُكمـل فى المجمـع المسكونى الثانى الذى انعـقد السنة الـ 381 فى القسطنطينية...
منذ العـهد الرسولى تضمنت العبادة المسيحية الاعتراف العـلنى ببعـض عـناصر مقـومات الإيمان وخاصة عـند الاستعـداد لسرّ المعـمودية وإقامته...
وفى شرقنا المسيحى دخـل دستور الإيمان النيقاوى القسطنطينى خـدمة القـداس الإلهـى كجـزء رئيسى منه فى القـرن الرابع, وتصـدّر الكـلام الجـوهـرى...
يُستهـل دستور الإيمان بكلمـة " أؤمن" وليس " نؤمن" ليظهـر للشعب المسيحى قيمـة الالتزام الشخصى لكـل عـضو فى الكنيسة...
لذلك يجب أن لا نتلو دستور الإيمان تلاوة هامشية أو أن نوكـل ذلك إلى أى كان دون اشتراكنا الفعـلى بذلك إذ المطلوب من كل مؤمن قبل اشتراكه فى تناول القدسات أن يتبنّى إيمان الكنيسة وأن يلتزمه شخصـيًا...
" أؤمن" هذا يعنى أنّى أنا فـلان الحاضر فى هذه الكنيسة أؤمن أى أتبنى لا بشفتى فقط ولكن بكـل كيانى هـذه الكلمات التى وضعـها آباء الكنيسة وسكبوا فيها الحقيقة المعـلن عـنها, جاعـلينها بعـملهم هذا فى متناول كل عـقل مستنير بالإيمان بيسوع...
ولقـد قال المطـران " فيلاريتوس", مطـران موسكو فى القـرن الماضى, فى هـذا الصدد:
" ما دام إيمانكم محفـوظـًا فى الكتاب المقـدس وفى دستور الإيمان فهـو مِلْكٌ لله وأنبيائه ورسله وآباء الكنيسة, إنه ليس لكم ولن تبدؤوا فى اكتسابه إلا عـندما يتملك عـلى أفكاركم وذاكـرتكم ..."...
ومن أجـل الوصـول إلى حـالة كهـذه عـلينا أن نسعى جهـدنا لفهـم الحقـائـق المُعـبّر عـنها فى دستور الإيمان ونسمح لها بالتغـلغـل فينـا فتـؤثر الكلمـات التى نرددها ونسمعها فى القـداس الإلهى فينـا عـميقـًا وتحـولنا إلى أعـضاء راشدين واعـين لكنيسة المسيح...
وهـذا ما هـدفنا إليه فى الكتاب الذى بين أيديـكم...
ولكن لا بـدّ قبل الغـوص فى ثنايـا الكتاب من إبـداء بعـض الملاحظـات التى نعـتبرها هامة لفهـم صحيح للعـقائد المسيحية ولدستور الإيمان:
أولاً: تلاوة دستور الإيمان جزء لا يتجزأ من القداس الإلهى:
إن تلاوة دستور الإيمان جـزء لا يتجـزأ من القداس الإلهـى...
هى تعـبير عـن قـبول الجماعـة للكلمة الإلهية وإعـلان إيمانها بهـذه الكلمـة التى سمعـوها عـبر الرسالة والإنجيل فى القسم الأول من القـداس ( قـداس الموعـوظين )...
وهى كذلك تأكـيد لإرادة الجماعـة فى أن تصبح جسدًا واحـدًا بتناولها الكلمـة الإلهية فى سرّ الشكر...
إذن, فتلاوة قانون الإيمان عـمـل ليتورجى, نشيد من أناشيد التسبيح فى الحـياة الطـقسية...
العقـدة والتسبيح مشدودان إلى بعضهما بعُـرى لا تنفـصم:
" من يصـلى فهـو لاهـوتى, واللاهـوتى هـو الذى يصـلّى" قال الآباء قـديمـًا...
إذًا لا يمكننا أن نتعـرّف عـلى الحقـيقة الكامنة فى عـقيدة ما بالتحليل العـقلانى الصـرف ـ فالعـقـل لا يمكنه أن يحصـر الألوهـة وأسرارها...
ولكن يمكننا ذلك بالتسبيح والتـأمّـل...
بالرجـاء الكـلّى فى رحمة الله وهـو يكشف لنـا حينـئذ ذاتـه ويساعـدنا عـلى فهـم سرّ محـبّته...
يقـول أحـد الآباء:
" ليس المهـم أن نتكـلّم عـن الله أو عـن حقـيقـة الله, بلّ المهـم الأهـم هـو أن نـدع ذواتنا تتطهّـر بالله فتمتلئ منه ومن حقـيقـته"...
اللاهـوتى الحق, فى المفهـوم الشرقى, هـو القـديس, لأن القـديس قد حقـق شركته مع الله...
السعى إلى الله أساس الدين المسيحى...
ودراسة دستور الإيمان ليست دراسة ميـتافـيزيقـية, بل هى سعى صامت محـبّ ودؤوب يعـبق بالتسبيح...
سعى إلى الحقـيقـة المعـلنة من الله والمُعَـبّر عـنها بالمسيح يسوع ابنه والمحـيية لنا فى الكنيسة بروحـه القـدوس...
ثانيًا: دستور الإيمان يؤكد وحـدة الكنيسة:
دستور الإيمـان يؤكـّد أن وحـدة الكنيسة هى, فى الأساس, وحـدة فى الإيمـان...
والجماعـة التى يشدّها إيمان واحـد إنما تعـبّر عـن إيمانها جماعـيًا مما يؤدى إلى صـون وحـدتها وإعـلانها للمـلء...
وهنا تجـدر الإشارة إلى أن المؤمنين فى القـرون الثلاثة الأولى لم يكونوا فى حـاجة إلى التعـبير عـن إيمانهم بواسطة دساتـير للإيمان...
ولكـن دفعـهم إلى ذلك ظهـور الهـرطـقات...
يقـول هيلاريوس فى القـرن الرابع:
" إن شر الهـراطـقة والمجـدّفين يدفعـنا إلى القـول بالمحـرّمات, كأن نتسلّـق القمم التى لا تُـطال ونتكـلّم فى أمـور لا يُنـطـق بها ونلجـا إلى تفاسير ممنـوعـة. كان عـلينا الاكتفـاء بأن نتمم بالإيمان وحـده ما أمـرنا به السيد: أن نسجد للآب ونكـرم الابن معـه وأن نمتلئ من الروح القـدس. ويا للأسف فنحـن الآن مضطرون لوصف الأسرار الفائقـة الوصف. أن خطـيئة الآخـرين تسقـطـنا نحن فى هـذه الخطـيئة: أن نُعَـرّض الأسرار إلى متناقضات " قصـور" لغـة البشر, بينما هـى وجـدت لنخـدمها فى سكون قلوبنا"...
هـذا يعنى أن تشويه الهـراطـقة للحقيقة المسلّمة إلى الرسل فـرض عـلى الكنيسة وضع معـتقـداتها فى قـوالب بشرية مع إدراكها تمام الإدراك أن الكلمات عاجـزة كل العـجـز عـن إحـتواء الحقيقة كلها والتعـبير عـنها كليـًا...
هـذا الوضـع جـعـل العـقائد المسيحية تحـوى ـ حسب الظاهـر ـ تناقضات لا حـصرلها...
فمثـلاً نقـول بأن الله واحـد وإنه فى الوقت ذاته مثلث الأقانيم...
ونعـترف بأن الله لا يُـدنى منه وندعـو فى الآن ذاته إلى حـياة الشركة مع الله...
ونٌقـرّ بأن المسيح إله وإنسان فى آن...
ونقـول عـن الكنيسة أنها منظـورة وغـير منظـورة كذلك إلخ...
كل هـذه التناقضات ـ ظاهـريًا ـ تعـبّر مجتمعـة عـن الحقيقة...
لكن الجمع بينها لا يتم عـلى المستوى العـقلى بلّ عـلى مستوى الخـبرة الروحـية...
وهـذا هـو معنى السر فى المسيحية...
إنه ليس نظـرية صعـبة الفهم والادراك, ولكنه حـياة نحن مدعـوون لاختبارها فى جماعـة المؤمنين الواحـدة, أعنى بها الكنيسة...
وكلما ازداد اختبارنا لحـياة الكنيسة وجـدناها أكـثر وأعـمـق...
ثالثًا: وحدتنا فى الإيمان ملتصقة بالمحبة:
وحـدتنا فى الإيمان ملتصقـة بالمحـبة وملازمة لهـا...
وهـذه الوحـدة تؤهـلنا للوصـول إلى وحـدة الحـياة الحقـة فى اشتراكنا بالمسيح فى سرّ الشكر...
وهـذا واضح فى القـداس الإلهى إذ ياتى دستور الإيمان مباشرة بعـد دعـوة الكاهن جميع المؤمنين لممارسة المحبة قائلاً:
" لنحب بعضنا بعضًا, لكى بقلب واحـد, نعترف مقرين بآب وابن وروح قدس ثالوثًا متساوى الجوهـر وغـير منفصل"...
وهـذا يعنى أن جماعـة المسيحيين المتحـدة بالمحـبّة عـلى صورة الثالوث القـدوس هـى وحـدها مؤهـلة ومدعـوة لإعـلان الإيمان الواحـد...
المحبة الحقيقية توأمان لا ينفصـلان...
لا حقيقة معـاشة دون المحـبّة وخارجها...
ولا محـبّه حقـة خارج الحقيقة...
رابعًا: الالتزام الشخصى " أؤمن":
أخـيرًا, يذكـرنا الالتزام الشخصى المنوه عـنه فى كلمة " أؤمن" بدعـوة دستور الإيمان لنا إلى الالتصـاق بهـذا التـدبير الإلهى الذى يسرد أحـداثه وإلى تغـيير ذواتنا لكى نصبح سفـراء للمسيح وشهـودًا له فى هـذا العالم...
وبذلك تصبح الكنيسة الجامعـة خـادمة للعالم الحـاضر كما كان سيدها...
وهـذا جـلىّ فى تسلسل القـداس الإلهى:
v وحـدتنا فى المحـبة تؤهـلنا لأن نعـبّر عـن إيماننا الواحـد..
v تعـبيرنا عـن إيماننا الواحتد يؤهلنا للاشتراك فى الكـأس الواحـدة...
v اشتراكنا فى الكـأس الواحـدة وسكنى المسيح فى قـلوبنا يؤهـلنا للتفتيش عـن المسيح وخـدمته فى كل مواضه سكنه, أى أيضًا فى الإنسان الآخـر وفى العـالم, مؤكـدين بذلك أن سرّ الشكر لا يكتمـل فـعـله فينا إلا إذا أوصـلنا إلى المنـاولة فى " سرّ القـريب" كما يقـول القديس بوحنا ذهبى الفم...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثانى
الإيمان بالله الخـالق
==============
" أؤمن بإله واحـد.."
1ـ فى الإيمان
* تحـديد الإيمان:
عـندما يتحـدث الناس عـما يؤمنون به, فكـثيرًا ما يقـصدون أفـكارًا اعـتنقـوها أو مبادئ تبنّـوها أو معـتقدات انتموا إليها...
لذا فالسؤال المطـروح غـالبًا هـو:
بماذا تؤمن؟...
أمّا الإيمان بمعـناه المسيحى الأصيل, فليس, فى الأساس, تصديقًا لأفـكار أو اعـتناقًا لمبادئ, إنما ارتباط صميمى بشخص حىّ, هو الله...
فى منظـارٍ كهـذا, لم يعـد السؤال اللائق هو:
بماذا تؤمن؟...
بلّ, بمن تؤمن؟...
ليس الإيمان, فى الأساس, تصديق أمور عـن الله...
بل, الانتماء إلى الله, كإلى مصدر كياننا ومرتكزه ومرجعه...
إنه إدراك حىّ, كيانى, لوجود الله, لا كما تدرك حقـيـقة رياضية أو طبيعـية أو تاريخية...
بل, كما يُدرك وجـود كائن نحن مرتبطـون به فى الصميم, ومنه نستمد وجـودنا فى كل لحظة, وإليه تصبو, فى آخـر المطاف, كل أمانينا...
حتى إذا أدركنا وجـود هذا الكائن, ألفنا ويائنا, جعـلنا ثقـتنا به وألقـينا عـليه رجاؤنا...
عـبارة " آمن", فى العـربية, قريبة من " أمن"...
آمن به تعـنى أمن له...
أن نؤمن بالله يعـنى أن نأمن له, أن نثق به, أن نجعـل منه معـتمدنا ونسلم إليه ذواتنا مطـمئنين إليه أعـمق اطـمئنان...
* الإيمان يختلف عـن المعـرفة العـقلية البحتة:
الإيمان معـرفة لله...
وهـذه المعـرفة, ككل معـرفة, تفـترض مساهمة العـقـل...
ولكن الإيمان لا يـرد إلى المعـرفة العـقـلية...
الله لا يُعـرف بالعـقـل المجـرّد كما تُعـرف حـقـائـق الرياضيات أو نواميس الطبيعـة...
شأن الله فى ذلك شأن حـقـائـق بالغـة الأهـمية فى وجـود الإنسان, حـقـائق قـد يُكـرّس لها المـرء حـياته أو يمـوت فى سبيلها ولكنه لا يستطـيع أن يقـدّم عـنها براهـين منطـقية قاطـعة...
فمن أدرك روعـة الموسيقى أو سمو التضحـية, من اعـتنق مبدأ العـدالة والحـرية والإخـاء بين البشر, من وثق بصديقه إلى أبعـد حـدّ, من أدرك أن محـبوبه شخصٌ فـريد, وإن كان هناك من هـو أجمل وأذكى منه, كل هـؤلاء مقـتنعـون بصواب مواقـفهم وقـد يحاولون تعـليلها عـقـليًا لإقـناع الآخـرين بها, ولكنهم يعـرفون أنهم لا يستطـيعـون تقـديم البرهـان العـقـلى القاطـع عـن صحتها وأن لا سبيل لهم لتثـبيتها عـلى طـريقة 2+2=4, وأن من لم يخـتـبر بنفسه ما اختـبروه هـم غـير قـادر عـلى مشاركتهم قـناعـتهم ولو قـدّموا له أفضل ما لديهم من براهين...
ولكن ما هو صحيح بشأن تلك الحقـائق الإنسانية صحيح بشكل أخـص فيما يتعـلق بالله:
أ ـ لأن الله لا يحـويه العـقـل:
يقـول الكتاب:
[ اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَـدٌ قَطُّ . اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الّـَذِي هُـوَ فِي حِـضْـنِ الآبِ هُـوَ خَـبَّرَ ] [ يوحنا 1: 18 ]...
والمقصـود بذلك ليس أن الله لا يُدرك بالحـواس وحسب, بلّ أنه لا يُدرك بالعـقـل أيضـًا ولا يمكن أن يصـبح بداهـة عـقـلية عـلى طريقة حقائق الرياضيات...
هـذا أمـر طبيعـى إذا تذكّـرنا أن الله هـو الكـائن اللامحـدود...
فكيف للعـقـل المحـدود أن يُدركـه؟...
ذلك أنه لو أدركـه لاستوعـبه وحـواه وامتلكه...
ولكـن أنّى للمحـدود أن يسع غـير المحـدود...
أنّى لنقطة الماء أن تستوعب البحـر؟...
كيف للعـقـل, الذى هـو من الكـون, والذى من الكون يستمد أفكاره وعـلى نموذج أشياء الكـون يبنى تصـوراته, كيف لهـذا العـقـل أن يدرك من هـو متعالٍ عـلى الكـون؟...
ثم أنّى للعـقـل أن يحـوى الله ويمتلكه, طالما الله هـو مصـدر العـقـل نفسه, هـو قاعـدته وأساسه؟...
مفاهيم العـقـل البشرى أبـدًا محصـورة....
لذا, فتاريخ الفـكر البشرى كله, عـلى كل الأصعـدة, من عـلمى وفلسفى واجتماعـى وغـير ذلك, إنما هـو تاريخ محـاولة مستمرّة يقـوم بها العـقـل البشرى لتخـطّى محـدودية تصـوراته نحـو حقيقة أغـنى وأكمـل...
إنه بذلك التخـطّى المستمر لمكاسبه ومواقفه يشير إلى الكائن اللامحـدود الذى منه يستمد انطلاقـته اللامتناهـية...
ولكن كيف لى, وهو الذى لا يملك أبـدًا سوى حقائق جـزئية, أن يحـوى ذلك المطـلق الذى يدفـعـه بلا هـوادة إلى تجـاوز حقائقـه الجـزئية كلها وأن لا يقف عـند حـد فى حـركته التى لا قـرار لهـا؟...
الله لا يُدركـه العـقـل, لا لأنه مبهم, غـامض بحـد ذاته...
بلّ عـلى العـكس, لأنه الحقيقة الساطعـة التى تفـوق ملؤها طـاقـة العـقـل عـلى الاستيعـاب...
فكما أن العـين عـاجـزة عـن الشخوص إلى الشمس, لأن نور الشمس يبهـرها, هكـذا العـقـل عـاجـز عـن إدراك الله...
هـذا ما عـبّر عـنه الكتاب بقـوله:
[ اَلَّذِي وَحْـدَهُ لَهُ عَـدَمُ اَلْمَـوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِـنْهُ، اَلَّـذِي لَـمْ يَرَهُ أَحَـدٌ مِـنَ اَلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، اَلَّذِي لَهُ اَلْكَرَامَـةُ وَاَلْقُدْرَةُ اَلأَبَدِيَّةُ. آمِينَ ] [ 1 تيموثاوس 6: 16 ]...
كما أن العـين, وهى لا تستطيع أن تحـدّق إلى قـرص الشمس, تشاهـد انعكاساتها عـلى الكائنات, هـكذا العـقل لا يُدرك الله إنما يستطيع أن يهـتدى إليه ـ كما سوف نرى ـ إنطـلاقـًا من آثـاره فى الكـون, لكن دون أن يُشكّل هذا الإهـتداء عـملية من نوع البرهان الرياضى أو العـلمى, إذ أن ذلك يتنافى, كما رأينا, مع طبيـعة الله...
تلك هى المفارقة التى عـبّر عـنها المفـكّر الشهير " باسكال":
{ لا شئ أكـثر عـقـلانية مـن اعـتراف العـقـل بعـجـزه عـن إدراك الله. ذلك أن العـقـل, لو استطـاع إدراك الله, لارتـفـع إلى مستوى الله, كما يشير مدلول كلمة " أدرك". ولكن, لو كان ذلك ممكنـًا, لما كان الله إلهـًا بلّ كائنـًا فى مستوى العـقـل. لا يمكن أن يكـون الله إلهـًا إلا إذا كان فـائقـًا كلّ إدراك }...
**********
ب ـ لأن حقيقة الله لا تفـرض ذاتها عـلى الإنسان:
لأن حقيقة الله لا تفـرض ذاتها عـلى الإنسان, شأن البداهـات الحسّية والعـقـلية, بلّ تتطلّب منه تقـبّلاً وانفـتاحـًا...
ومن جهـة أخـرى, إذا تأمّلنـا فى عـلاقة الإنسان بالحقيقة, نـرى أن الحقائق التى تفـرِض ذواتها عـلى حـواس الإنسان أو عـقـله قـليلة نسبيـًا...
فأكـثر الحقائق لا تكتشف إلا بجهـد, وبالتالى يتطـلّب اكتسابها, لا رؤية العـقـل وحسب, بلّ مجهـود الإرادة واستعـداد النفس لتقـبّـل حقيقة قـد تصـدم الأفكـار المألوفة وقـد تجـرح الكـبرياء وقـد تتصـدّى لهـذا أو ذاك من الأهـواء...
هـذا صحيح حتى بالنسبة للحقائق العـلمية...
فقد أثبت التاريخ أن كـثيرًا من النظـريات التى طـَوّرَت العـلم ودفعـته شوطـًا بعـيدًا إلى الأمام, كنظـرية " كوبرنيك" فى الفلك, ونظـرية لافـوازيبه فى الكيمياء, و .... , حوربت بشدّة من قـبل الأوساط العـلمية المعـاصـرة لها, وذلك لأسباب لا تمت إلى العـلم بصـلة, كتمسّك العـلماء بعـاداتهم فى التفكـير وتهـرّبهم من الإعـتراف بأن معـلوماتهم كانت خاطـئة أو ناقصـة, وما شابه ذلك من دوافـع نفسية كانت تتخـذ العـلم ذريعـة لها مع أنها غـريبة عـنه تمامـًا...
هكـذا كان هـؤلاء العـلماء يقـاومون عـباقـرة عـصرهم معـتقـدين أنهم بذلك يدافعـون عـن العـلم الصحيح ضـد مزيفـيه, فيما كانوا, من حيث لا يدرون, يدافعـون عـن عـاداتهم وكـرامتهم التى كانت تحـول دون رؤيتهم للحقيقة الكامنـة فى النظـريات التى كانـوا يناهضـونها...
فالحقيقة العـلمية ذاتها لا تنكشف إلا لذلك الذى يعـترف بتـواضع أن معـرفته ناقصـة ومعـرّضة للخطـأ, وأن طريقـته فى التفكـير, أيًـا كان رسوخها فيه, قابلة للنقـض وإعـادة النظـر...
فإذا كانت الاستعـدادات الشخصـية تلعـب هـذا الدور كلّـه فى رؤيـة الحقائق العـلمية نفسها, فكم بالحـرىّ يكـون دورها بالنسبة لحقائق أكـثر مساسًا بالشخص الإنسانى وبسلوكه, مثـلاً بالنسبة للحقائق الخـلقـية...
كيف السبيل مثـلاً لإقـناع إنسان غـارق فى الأنـانية بسمو التضحـية فى سبيل الآخـرين؟...
وكيف يمكن لإنسان تسكـره غـطرسة طـبقـية أو عـنصـرية أن يؤمن بمـبدأ الإخـاء بين البشر؟...
وكيف يستطيع إنسان بنى حـياته عـلى الاحـتيال أن يعـترف بقـيمة الصـدق؟...
إن خـبرة مـريرة تعـلمنا كـلّ يوم بأن الإنسان كـثيرًا ما يفـلسف أهـواءه ويبنى لنفـسه عـقـيدة تـبرّر انحـرافات سلوكه...
هكـذا فيقـدر ما تمس حقيقة ما كـيان الإنسان وليس مجـرّد عـقـله...
بقـدر ذلك يـتأثـّر قـبولها أو رفـضها باستعـدادات الإنسان الكـيانية, بموافـقـة الشخصية العـميقـة...
ولكن أيّة حقيقة تمس كـيان الإنسان كحقيقة وجـود الله؟ إنها تعنى الإنسان فى أعـماق شخصيته, إذ عـليها يترتب, فى آخـر المطاف, تحـديد رؤيته لذاته ولمصـيره, لمعنى حـياته ومـوته, ورؤيـته للآخـرين ولعـلاقته بهم, ونظـرته إلى الكـون وإلى مركـزه فيه...
وجـود الله يعنى أنه لا يسعنى أن أكـتفى بذاتى ولا بهـذا المجتمـع البشرى الذى أنتمى إليه ولا بهـذا الكـون الذى استمد منه عـناصر أفكارى ومقـومات حـياتى...
وجـود الله يعنى أن ذاتى والمجتمع والكـون, وكل ذلك ليس مُـغَــلّـقًا عـلى ذاته, مكتفـيًا بذاته, له غـايته فى ذاته, إنما أصـله ومـرجعـه, ألفـُه وياؤه, ما يقـيمه فى الوجـود ويرسم له غـايته ويعـطيه معـناه, هـو كائن متعـالٍ عـنه وحاضـر فى صميمه بآن, ألا وهـو الله...
وجـود الله يعنى أنه باطـل أن يتعـبّد الإنسان لأفـكاره وميوله ومشاريعـه, فـردية كانت أو جمـاعـية, لأنه يبقـى عـند ذاك أسير الفـراغ والضـياع, وأنه, بالتالى, إذا شاء أن يحقق ذاته, وجـب عـليه أن يتخـذ من الله لا من ذاته محـورًا لوجـوده كـلّه...
ولكـنه يصعـب عـلى الإنسان ان يتخـلّى عـن محـورية ذاتـه...
يقـول لنا فـرويد أن الدافـع النفسى العـميق الذى حمل البشر عـلى مقـاومة نظـرية " كوبرنيك" هـو كـَوْن هـذه النظـرية نقـضت الاعـتقاد بأن الأرض ( وبالتالى البشر ) هـى مـركز الكـون, وجعـلت منها نقـطة فى الفـضاء اللامتنـاهى...
وبالتالى طعـنت الكـبرياء البشرى فى الصميم...
الإيمان بالله يتطـلّب انسلاخـًا أعـظم من هـذا بما لا يقـاس, لأنه يعنى التخـلّى لا عـن مـركـزية مكـانية وحسب, بلّ عـن مركـزية كـيانية, وهـذا أعـمق بكـثير...
من لم يكـن مستعـدًا للتخـلّى عـن محـورية ذاته, من لم يكـن مستعـدًا لمجـازفة تخـطـّى الذات وتخطـّى المجتمع والكون اللذين تجـد فيهما الذات استقـرارها وطمأنينتها, هـذا لا يمكنه أن يعـرف الله حقيقة, ولو اعـترف لفـظـيًا...
الإنسان المعـتدّ بنفسه, النشوان بأفـكاره وانجـازاته ومعـلوماته وممتلكاته, فـردية أو جماعـية, هـذا لا يستطيع أن يؤمن حقيقة بالله, كما ورد فى إنجـيل يوحـنا:
[ كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِـنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَـجْـداً بَعْـضُـكُمْ مِـنْ بَعْـضٍ؟ وَالْمَـجْـدُ الَّذِي مِـنَ الإِلَهِ الْوَاحِـدِ لَسْتُمْ تَطْـلُبُونَهُ؟ ] [ يوحنا 5: 44 ]...
من تعـبّد لأهـوائه رفـض الله, بالفـعـل إن لم يكن بالكـلام, لئـلا يضطـر إلى الاعـتراف بشره, كما ورد أيضـًا فى الإنجـيل نفسه:
[ وَهَـذِهِ هِـيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَـاءَ إِلَى الْعَـالَمِ وَأَحَـبَّ النَّاسُ الظُّـلْمَةَ أَكْثَرَ مِـنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْـمَـالَهُمْ كَانَتْ شِـرِّيرَةً.
لأَنَّ كُـلَّ مَـنْ يَعْـمَـلُ السَّيِّآتِ يُبْغِـضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْـمَـالُهُ.
وَأَمَّـا مَـنْ يَفْعَـلُ الْحَـقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْـهَرَ أَعْـمَـالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَـعْـمُـولَةٌ ] [ يوحنا 3: 19 ـ 21 ]...
**********
ج ـ لأن الإيمان اعـتراف بالوجـود الشخصى لله:
أخـيرًا يختلف الإيمـان عـن المعـرفة العـقـلية البحـتة, لأن الله موضـوعـه ليس فكـرة أو معـادلة رياضـية أو مـبدأ خلقـيًا أو نامـوسًا فائقـًا, إنما هـو شخص...
الإيمان بالله أساسًا اعـتراف بشخص واتصـال به, وذلك ما يتعـدّى مجـرّد عـمـلية عـقـلية, لأنه يتطـلّب موقـفـًا شخصـيًا, موقـف انفـتاح وتقـبّـل...
إذا كنت منهمكـًا بذاتى, فالبشر الآخـرون حـولى يكـونـون كأنهم غـير موجـودين بالنسبة إلىّ...
ذلك أننى لا أرى فيهـم سوى تلك الصـفـات التى تمكّـننى من تصنيـفـهم وفـق مصالحى وحاجاتى:
فهـذا طـيب المعـشر, وذاك ثقـيل الظـلّ, هـذا صادق فى معـاملاته وذاك كـذّاب, ملتوٍ, ..... وهلم جـرا...
أمّا وجـودهم الشخصى الفـريد, وجـودهم بالنسبة لهم, لا بالنسبة لى ولمشاريعى, وجـودهم كما يعـيشونه من الداخـل, ماذا تعـنى بالنسبة لهم خصالهم وعـيوبهم وما تعَـبّر عـنه مما يصـبـون إليه ومما يعـانـون منه, كل ذلك يبقـى غـَرِيبًا عَـنّى, وكأنه غَـيْر موجـود بالنسبة إلىّ...
شخص الآخـر لا يصـبح حاضـرًا حـقيـقة فى ذهـنى إلا إذا قبلت بأن أتخطـّى انهماكى بذاتى لأصـبح حاضـرًا لهـذا الآخـر, منفتحـًا إليه...
عـند ذاك أصبح بالحـقيـقة مدركـًا لهـذا الوجـود الفـريد ومتصـلاً به بآن...
عـند ذاك تقـوم بينى وبينه عـلاقة حقـة أخـرج بها من ذاتى لألاقـيه كما هـو ولأشارك وجـوده كما يحـياه هـو...
لكن ما هـو ضـرورى بالنسبة لعـلاقتى بشخص إنسانى آخـر, ضـرورى بصـورة أخص بالنسبة لعـلاقتى بالله...
فإذا كان تخطـى انهماكى بذاتى أساسى لأكتشف حقـيقـة وجـود الآخـر البشرى, فكـم بالحـرى يصبح هـذا التخطّى ضـروريًا لأكتشف وجـود من هـو آخـر بالكلية, من يفـوق بما لا يقاس أفكارى وتصـوّراتى ومشاعـرى ورغائبى...
فإذا كنت منهمكـًا بذاتى, وآمالى وأهـوائى, كيف يمكننى أن أتحسس وجـود ذاك الذى يعـلو عـلى أفكارى ورغـائبى كما تعـلو السماء عـن الأرض عـلى حـدّ تعـبير أشعـياء النبى؟...
عـند ذاك فـقـد لا أدرك وجـود الله, أو أعـترف بهـذا الوجـود لفـظيـًا دون أن يكون لهـذا الاعـتراف أى معنى لحـياتى, أو قد أرى فى الله مجـرّد صـورة لما أتمنّـاه أو أرهـبه, أى أننى أكـوّن لنفسى أصـنامـًا أقـيمها عـوض الله ( مثلاً صـورة إله " وظيفـته" أن يضمن صحّـتى ونجـاحى وسعـادتى ويوفـق أمـورى ويعـطينى الغـلبة عـلى أعـدائى ...) ...
أمّا إذا كان لـدى من الانفـتاح ما يمكّـننى من التطـلّع على خـارج حـدود ذاتى, عـند ذاك يسعنى أن أدرك وجـود ذلك الآخـر بالكلية الذى هـو مصـدر وجـودى ومـرجـعـه...
عـند ذاك يُمْكِـننى أن أتصـل به وأشاركه وجـوده وأدرك أنه, وهـو المتعـالى عـنى كل التعـالى, أقـرب إلىّ من ذاتى, لأنى به, وبه وحـده أجـد ذاتى عـلى حـقيـقتها وأحقـق معـنى وجـودى...
تخطـّى الذات للاتصـال بالإنسان الآخـر, تخطـّى الذات للاتصـال بالله:
ليس هـناك مجـرّد تشابه بين هـاتين العـمليتين, إنما يوجـد إرتباط وثيق بينهما...
فبقـدر ما انفـتح إلى الآخـر البشرى, أصبح أكـثر استعـدادًا للاتصـال بالله...
لذا ربط الرسول يوحـنا بين محـبة الله ( أى الاتصـال الصميمى بالله, الذى لا إيمان حقـيقى بدونه ) وبين محبة البشر أخواتنا, قائلاً:
[ فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ: { أَنَا أُحِبُّ اللهَ ! } وَلكِنَّهُ يُبْغِضُ أَخاً لَهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ، لأَنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي يَرَاهُ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يَرَهُ قَطُّ ؟ ] [ 1 يوحنا 4: 20 ]...
ولذا تدعـونا خـدمة القـداس الإلهى أن نحب بعضـنا بعضـًا لنستطيع الاعـتراف بالله الثالوث: " واجعـلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقـبل بعضنا بعـضًا بقبلة مقدسة. لكى ننا بغير وقوع فى دينونة من موهبتك غـير المائتة السمائية بالمسيح يسوع ربنا هذا الذى من قبله المجد والكرامة والعزة والسجود تليق بك معه ومع الروح القدس المحيى المساوى لك . الآن وكل آوان وإلى دهـر الدهور , آمين"...
* الله يكشف ذاته لنا فيجعـل الإيمان ممكنًا:
إذا كان الله, موضـوع الإيمان, يفـوق, كما رأينا, كل فكـر وتصـوّر وشعـور ورغـبة, فهـذا يعـنى أنه لا يمكننى أن أكتشفه من تلقـاء ذاتى...
ولكن الله يحـبنى...
ولذا أراد ان يكشف ذاته لى...
ذلك أن المحبة تدفـع المحـبّ أن يكشف ذاتـه للمحـبوب...
حسب قـول الرب:
[ الَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي ] [ يوحنا 14: 21 ]...
لو لم يأخـذ الله مـبادرة كشف ذاته للإنسان...
لمـا كان الإيمان ممكنًـا...
ولكنه آخـذ ابدًا هـذه المـبادرة...
إنه يخـاطب الإنسان, مظهـرًا له ذاته...
وداعـيًا إيّـاه إلى مشاركته حـياته...
وذلك بالوسائل التالية:
1 ـ من خـلال آثـاره فى الخـليقة وفى قلب الإنسان...
2 ـ بالوحى الإلهى وتاريخ الخـلاص الذى بلغ ذروته بتجسّد ابن الله...
تلك هى الطـرق التى يسلكها الله ليأتى إلىّ ويقـرع عـلى باب نفسى...
حتى إذا سمعـت صـوته وفتحـت له قلبى ( والقلب فى لغـة الكتاب هـو مركز الشخصـية, يلتقى فيه العـقـل والشعـور والإرادة )...
إخـتبرته بأعـمـاق كـيانى حضـورًا شخصـيـًا يملأنى ويمـلأ الكـون قاطـبة...
حضـورًا يفـوق كـلّ تصـوراتى ورغـائبى ولكـنه ينـير العـقـل ويستقـطب الشعـور...
حضـورًا لا أمتلكـه ولكننى به ومنه وله أحـيا...
هـذا هـو الإيمان فى آخـر المطاف...
* أسئلة:
1 ـ هـل الإيمان مجـرّد تصـديق أفكـار عـن الله, أم هـو أبعـد وأعـمـق من هـذا؟...
2 ـ هـل يُعـقـل أن يدرك العـقـل المحـدود الله اللامحـدود؟ ماذا يقـول الكتاب المقدس بهذا الصدد؟ [ راجع يوحنا 1: 18و 1 تيموثاوس 6: 16 ]...
3 ـ هـل هـناك حقائق لا تفرض ذاتها عـلى الإنسان فرضًا, بل تتطلب منه انفتاحًا وتقبلاً لها؟ أذكـر بعض هذه الحقائق. لماذا يصح ذلك, بنوع خاص, بالنسبة لحقيقة الله؟...
4 ـ ماذا يقول الإنجيل عـن المواقف الشخصية التى تحول دون الإيمان بالله؟ [ راجع يوحنا 3: 19 ـ 21 و يوحنا 5: 44 ]...
5 ـ هـل الاعـتراف بوجـود الشخص الآخـر والاتصـال به عـملية عـقـلية بحـتة, أم أنهما يتطلبان اتجاهـًا إلى الآخـر وتخطـيًا للذات؟ كيف يصحّ ذلك, بنوع خاص, بالنسبة للإيمان بالله؟...
6 ـ هـل من عـلاقة بين الانفتاح للبشر والاتصـال بالله؟ [ 1 يوحنا 4: 20 ]...
7 ـ إذا كان الله يفوق كل فكـر وتصـوّر, فكيف أستطيع أن أؤمن به؟...
8 ـ ما الذى يدفعنى إلى كشف ذاتى لإنسان آخـر؟ لماذا وكيف يظهـر الله ذاته لنا؟...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـ الله يكشف نفسه لنا
* الله يكشف ذاته لنا من خـلال الخليقة:
لقـد كتب الرسول بولس:
[ إِذْ مَعْرِفَةُ اَلْلَّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اَلْلَّهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ . لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ اَلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ اَلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ اَلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْر ] [ رومية 1: 19, 20 ]...
فالخـليفة كلها تحمل أثـر الله كما أن التمثال يحمل أثر النحات الذى صنعـه...
إنها كتاب نقـرأ بـين سطـوره عـظمة الله وحكمـته وجمـاله...
إنها تهجـئة لله تحـدثنا عـنه وتشير إليه...
لهـذا أنشدت المـزامير:
[ اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اَللهِ وَاَلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ ] [ مزمور 19: 1 ]...
فلنستعـرض بعـض آثـار الله فى الكـون وفى الإنسان...
أ ـ إرتباط كل ما فى الكون بأسباب:
كل ما فى هـذا الكـون مرتبط بأسباب أوجـدته...
إذًا, لا شئ فى هـذا الكـون موجـود بحـد ذاته, إذ لولا الأسباب التى أوجـدته لما وُجـد...
لا شئ, إذًا, فى الكـون موجـود بالضـرورة, أو, كما تقـول الفـلسفة, واجب الوجـود...
كـل ما فى الكـون ممكن الوجـود, لا يوجـد إلا بفعـل آخـر...
ولكن ما يصح فى جـزيئات الكـون يصح أيضـًا فى الكـون ككـلّ...
ذلك أنه لا يُعـقـل أن يكون كل عـنصر من عـناصر الكـون ممكن الوجـود, أما مجمـوعـة العـناصر فواجـبة الوجـود...
الكـون إذًا ممكـن الوجـود لأنه مجمـوعـة عـناصر كلها ممكنة الوجـود...
وإذا كان ممكن الوجـود, فمعـناه أنه ليس موجـود بحـد ذاته, بلّ بفـعـل آخـر...
إذًا, يستدعـى الكـون سببـًا خارجـًا عـنه...
وهـذا السبب الخـارج عـن الكـون ندعـوه الله...
ولنأخـذ الآن مثلاً يوضح ما قـلناه:
إذا أخـذنا حيـوانـًا وتساءلنـا:
لماذا هـذا الحـيوان حىّ؟, وما سبب إستمـراره فى الوجـود؟...
رأينا أن لذلك أسبابًا متعـددة منها المواد الغـذائية التى تحويها الأطعـمة. ولكن إذا تساءلنا من أين تأتى تلك المواد الغـذائية التى هى سبب إستمـرار الحيوان فى الوجـود رأينا أن لها بدورها أسبابًا. فمثلاً المواد السكرية, وهى التى تحرّك جسم الحيوان وتولد النشاط فيه, لا يمكن أن تأتى فى النهاية إلا من النباتات...
وهنا نتابع تساؤلنا فنفتش عـن سبب وجـود هذه المواد السكرية فى النباتات, فيتـّضح لنا أنها تتكـوّن من اتحاد الكربون بالمواد الكيماوية التى تمتصها النباتات من الأرض بواسطة الجذور...
وهنا نتساءل, ما هو سبب وجـود الكربون فى النباتات؟...
فيجيب العـلم أنه من تحليل الحامض الكربونى أو ثانى أكسيد الكربون الموجـود فى الهواء...
ولكن ما هى عـلة هـذا التحليل؟...
إنه يتم بفـعـل مادة الكلوروفيل الموجـودة فى النباتات...
ولكن ما هو سبب فاعـلية الكلوروفيل عـلى ثانى أكسيد الكربون؟...
هنا يظهـر البحث العـلمى أن فاعـلية الكلوروفيل ناتجـة عـن الطاقة التى تستمدها من الشمس...
فنتساءل: ما هى عـلة الطاقة الشمسية هـذه؟...
فتجيبنا إحـدى النظـريات العـلمية أنها ناتجـة عـن تفكـيك ذرات الهيدروجين فى الشمس...
وهنا لابـدّ للعـقـل أن يتساءل عـن السبب الذى يحـدث هـذا التفكـيك وهـذا السبب يستدعى بدوره سببًا آخـرًا .. وهلم جـرا...
وهـكذا حيثما انتقـلنا فى هـذا الكـون نجـد سلاسل مرتبطة حلقـاتها إرتباطـًا متينـًا...
وكـأن الكـون آلة مـركبة من دواليب كثـيرة يحـرّك أحـدها الآخـر...
فكـل من هـذه الدواليب يستمد حـركته من دولاب آخـر...
غـاية العـلم أن يكتشف دومـًا أسبابـًا جـديدة أى دواليب جـديدة وهـكذا يفسّر لنـا الكـون ولكن تفسيره ليس بنهـائى...
لأن السؤال النهائى ليس هـو ما هـى الدواليب وما هـو عـددها ولكن ما هـو سبب حـركة الآلة كلها...
ذلك لأنه مهما كـثر عـدد الدواليب, وحتى لو افـترضـنا أن هـذا العـدد غـير متنـاهٍ, فهـذا لا يمنع أن تكـون حـركة الآلة مستمدة فى النهاية من محـرّك أول...
فإذا ألغـينا هـذا المحـرّك الأول توقـفت الآلـة حتمـًا لأن الدواليب, مهما تعـددت, تصبح بدونه عـاجـزة عـن نقـل أيّة حـركة...
هـذا المصـدر الأول الذى تستمد منه كل الأسباب فاعـليتها, كما تستمد الدواليب كلها حركتها من المحرك الأول, هـو الله...
وكما أن الآلة تستمد باستمرار وفى كـلّ لحظـة حـركة دواليبها من المحـرك الأول, هكـذا ليس صحيحـًا أن الكـون استمدّ وجـوده فى لحظة معـينة من الله ثم أصبح موجـودًا بذاتـه, ولكنه لا يقـوم إلا عـلى الله, أن وجـوده مستمد فى كـلّ لحظة ممن هـو وحـده واجب الوجـود...
ب ـ نظـام الكـون:
فى الكـون نظـام وترتيب يبدوان لنا إذا تأملنا مثلاً الفلك والجسم الإنسانى أو غـرائز الحيوانات. يشير هـذا النظام إلى وجـود حكمـة فائقـة تتجلّى فى الكـون وتسيّره...
فالنظام الشمسى مثلاً, المكـون من الشمس ومن السيارات التى تدور حولها, يسير بموجب قـواعـد رياضية دقيقة بيـّنها الفلكى الشهير "كيبلر"...
هـذه النواميس لها من الدقـة والثبات ما يخـول عـلماء الفلك أن يعـينوا بالتدقـيق الزمن الذى سوف يحـدث فيـه خسوف وذلك قـبل حصـوله بألف سنة...
الجسم الإنسانى:
ولنأخـذ مثلاً وهـو تكـوين الجـنين...
المعـلوم أن الجنين لا يبـدأ إنسانـًا صـغـير الحجم ليس عـليه إلا أن ينمو ليصبح ذا حجم كـبير...
إنما الجنين يتكـون إنطـلاقـًا من خلية واحـدة, نتجت من اتحاد رأس الحيوان المنوى الذكـرى والبويضـة الأنثوية عـند إخـراقها فى وقت معـيّن وفى مكان محـدد وهو الثلث الخارجى من قناة فالوب, بعـد أن يقطع الحيوان المنوى رحـلة طويلة من المهبل إلى عنق الرحم, ثم التجـويف الرحمى منطـلقـًا فى اتجاه قناة فالوب ...
الجسم الإنسانى بتعـدد أعضـائه وأجهـزته يخـرج من تلك الخلية الواحـدة التى لا أعـضاء فيها ولا أجهـزة إلا فى الكود الجينى الذى تحمله الكروسومات الموجودة فى نواة هذه الخلية التى يطلق عـليها " الزيجـوت"...
وعـند تكاثر الخلية وانقسامها, ينتج خلايا عـديدة متخصصة لتؤلف كل فئة منها جهازًا من أجهـزة الجسم...
ويرافق هـذا التخصيص تنسيق بديع بين الأجهزة حتى تؤلف جسمًا متماسكًا منسجم الأجـزاء, متماثلة فى جميع الجنس البشرى, وكـان العـملية كلها موجهة بموجب تصميم رائع...
غـرائز الحيوانات:
غـرائز الحيوانات مدهشة خاصة إذا نظـرنا إلى الحشرات ورأينا عـند تلك الكائنات البدائية تصـرفات محكمـة الدقـة تفـوق ذكاءها بما لا يقاس...
فالنحـل يصنع الشمع من إفرازات غـدده فى شكل هـندسى ذو حسابات دقيقة ليتسنى إستغـلال المجـال المتاح عـلى أكمل وجه وفى تنسيق بديع...
وكذلك التنظيم المبدع لحياة النمـل وسائر الحشرات...
هـذا النظـام الذى يبدو فى مختلف مظاهـر الكـونه, كيف نفسره؟...
أنقـول أنه من المادة؟...
ولكن المادة ـ كما يدرسها العـلماء ـ هـى مجموعـة ذرات وطاقات...
فالسؤال هـو:
ما الذى يُوجِـد فى تلك المجموعـة نظـامـًا؟...
ما الذى يجـعـل منها كونـًا مرتبـًا ذلك الترتيب المنطقى الذى لولاه لما استطاع العـقـل أن يفهم الكـون وأن يبنى عـلمـًا؟...
البيت مؤلف من حجارة, ولكن المهم هـو:
ما الذى رصف الحجـارة عـلى شكل بيت؟...
الكتاب مؤلف من حـروف, ولكن المهم هـو:
ما الذى رتب الحـروف لتـؤدى معـانى رواية أو بحث؟...
إننا فى رصف الحجـارة نـرى فكـر المهـندس, وفى ترتيب الحروف نـرى فكـر المـؤلف...
كذلك فى ترتيب الكـون نـرى فكـرًا جبـارًا لا قيـاس بينه وبين الأفكـار البشرية...
لذا قال العتالم الكـبير " أينشتاين":
{ إن كل عـالم رصـين هـو فى حـالة ذهـول وانخطـاف أمام إنسجـام نواميس الطبيعـة الذى فيه يتجـلّى عـقـل فائـق بهـذا المقـدار حتى أن كـل أفكـار البشر الماهـرة وترتيبها ليست, إذا قورنت وقيست به, سوى إنعـكاس تافـه بالكـلية...} [ أينشتاين: كيف أرى الكـون ]...
هـذا الفكـر الجـبار هـو فكـر الله...
ج ـ عطش الإنسان المطلق:
ولكـن أثـر الله يبـدو أيضـًا فى إعـماق القلب البشرى...
إنه يتجـلّى مثلاً, فىعـطش الإنسان عـلى المطـلق...
يمكن أن يُعـرّف الإنسان بأنه " حـيـوان قـلق"...
هـذه مـيزة أساسية يخـتلف بها عـن سائر الكائنـات الحـية...
فللحـيوان رغـبات غـريزية محـدودة, سهـلة الإرضـاء, لذلك ليس فى حـياته مشاكل...
أما الإنسان فكلما حـاول إشباع رغـباته اشـتدت وقـويت فيه هـذه الرغـبات, وكأن هـناك شيئـًا فى أعـماق كـيانه يحـرّكه ويعـذبه ويوجهه ويدفعـه دون هـوادة...
فى الإنسان تباين دائـم, تفـاوت مستمـر بين ما يرغـبه وما يملكـه, بين إرادته ومقـدرته, بين ما يريد أن يكون وما هـو عـليه...
لذلك ينـدفع دون هـوادة لإزالـة هـذا التباين ولكـنه لا يتوصّـل أبـدًا إلى هـذه الغـاية...
فكلما حـاول أن يقـترب من مرغـوبه, ابتعـد هـذا عـنه موقـظـًا فى نفسه الخـيبة والحسرة...
هـذا ما يبـدو فى الخـبرة اليومية وعـلى كـل الأصعـدة...
نكتفى بذكـر البعـض منها:
1 ـ فالإنسان الساعـى إلى مـال أو مجـد لا يكتـفـى بما حـصـل عـليه. إنه كـلما بـلغ مأربـه يطـمع بالمزيـد. لـذا, لا يعـرف قلبـه راحـة أو إستقـرارًا " عـين الإنسان لا تشبـع" كما يقـول المثـل السائر...
2 ـ ولنأخـذ السعى إلى الجمـال. أمام منظـر طبيعى بديع أو قطعـة أدبية رائعـة أو ..., يشعـر الإنسان, إلى جانب نشوته, بشئ من الحـزن, ويزداد هـذا الحـزن بنسبة ما يكون جمال هـذا المنظـر أو هـذا الإنتاج الفنى الأخـاذ. كيف يفسّر هـذا الحـزن؟. ذلك أن الجمال الذى أدركناه أيقظ فينا حـنينـًا لا قـدرة لنا عـلى إطـفائه ومن هنا نشأ الألم. وما هـو صحيح بالنسبة إلى التمتع بالجمال ينطبق أكـثر عـلى الفنـان الذى ينتجـه. فكم من الأدباء والفنانين الخـلاقـين أفضـوا إلينا بالمـرارة التى كانوا يشعـرون بها عـندما كانوا يبدعـون تحفة فنية رائعـة. عـندما تخـرج تلك التحفة الرائعـة حقـًا, من أيديهم, كان الألم يحـز فى نفوسهم لشعـورهم بالتفاوت بين ما كانوا يحلمون به وما استطاعـوا أن يحقـقـوه...
3 ـ ولننتقـل الآن إلى خـبرة الحب. فالحب, كما هو معـلوم, ينـزع إلى تأليه المحبوب. ألا يسمّى المحبّ الحبيب " معـبود"؟ إنه إذًا يطـلق عـلبه قيمة لا متناهـية وينتظـر منه سعـادة مطـلقـة. ولكنه يمنى بالخيبة, فالمحبوب, مهما سمت صفاته, بشر وليس إلهـًا, لذا لا يمكنه أن يقـدم لمحـبّه السعـادة الفـردوسية التى يحـلم بها. لذا دعـا الشاعـر الفـرنسى " كـلوديل" المـرأة المحبوب " وعـدًا لا يمكن أن يُـبَرّ به". وحتى إذا لم يؤلـه المحـبوب, فالحب يسعـى إلى شركة بين الحبيبين تامة وخـالدة, ولكنه يصطـدم بالسأم الذى تولـده العـادة وبالأنانية والمـوت...
مجمـل الكـلام أن للإنسان المحـدود أمـانى لا محـدودة...
ولذلك يعـيش فى توتّـر دائم...
ولكن ما هـو سرّ هـذا التفاوت الصـارخ؟...
من أين للإنسان هـذا السعى إلى اللامتناهى والمطـلق فيما لا تقـدم له خـبرته سوى ما هـو محـدود ونسبى؟...
التفسـير الوحـيد المـرضى لتلك الظـاهـرة الغـريبة هـو أن الإنسان المحـدود يحمـل فى ذاتـه صـورة كائن لا محـدود...
ويكـون هكـذا سعـيه إلى المطـلق تعـبيرًا عـن حـنين تلك الصـورة إلى أصـلها...
وتكـون خيبـته المتكـرّرة ناتجـة عـن كـونه يخطـئ المرمى فيفـتش عـن المطـلق واللامتناهـى بين المخـلوقات فيما لا يستطيع سوى الله أن يروى عـطش قـلبه...
فكما أن المـد يفتـرض وجـود القـمر الذى يجـتذب إليه مياه البحـر, ولو كان القـمـر مختفـيًا وراء السحب, كذلك مـدّ النفـوس فى سعـيها المتواصـل إلى المطـلق يستقـطبه الله ولو احتجب الله عـن نظـرنا وإدراكـنا:
{ يا رب لقـد خـلقـتنا متجـهين إليك ولذلك لن تجـد قـلوبنا راحـة إلا إذا استقـرّت فـيك } [ أوغسطين المغـبوط ]...
* الله يكشف ذاته لنا بالوحى الإلهى:
لكن الله شاء أن يكشف لنـا ذاته بشكل أوضـح وأكمـل من تهجـئة الخـليقـة له. لذلك شاء أن يحـدّثـنا عـن ذاته:
1 ـ بواسطة حـوادث الخـلاص: التى ترويها لنا الكتب المقـدسة الموحـاة منه والتى يظهـر لنا فيها كيف خـلق الله الإنسان واعـتنى به وكيف هـيأ الله إفـتداء الإنسان بتهيـئته للشعـب اليهـودى وعـنايته الخـاصة به وترتيبه له وكيف تمم الخـلاص أخـيرًا بتجسّده والحـوادث التى تبعـته من بشارة ومـوت وقـيامة وصعـود إلى السماء وإرسال الروح القـدس...
2 ـ بواسطة رجـال إخـتارهم ليحـدثوا الناس عـنه: فكشف لهـم ذاتـه لكى يُنـبئـوا النـاس عـنه وعـن حـبه وإرادتـه, ولذا دعـوا أنبياء, ليس فـقـط لأنهم تنبـاوا بما سوف يحـدث وخـاصة عـن المخـلّص المنتظـر, ولكن خـاصة لأنهم أنبـأوا البشر بقـوة وحـرارة عـن الله وما تنتظـر محـبته من الناس...
3 ـ وخـاصة بواسطة الابن المتجسّد:
[ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ،
كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ.
الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي،
صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ ] [ عـبرانيين 1: 1 ـ 4]..
أحبنا إلى حـد أنه أراد أن يعيش بيننا, كواحـد منـا, وأن يجـعـل نفسه منظـورًا وملموسًا منـّا فى الابن المتجسّد. وهكـذا نلنا أعـظم وأكمـل إعـلان عـن الله لأن:
[ كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَـيَّ مِـنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَـدٌ يَعْـرِفُ اَلاِبْنَ إِلاَّ اَلآبُ وَلاَ أَحَـدٌ يَعْـرِفُ اَلآبَ إِلاَّ اَلاِبْنُ وَمَـنْ أَرَادَ اَلاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ ] [ متى 11: 27 ]...
والابن نفسه حـدثنا عـن الآب وعـن نفسه وعـن الروح وكشف لنا أن الله ثالوث وأدخـلنا إلى سر حـياة الثـالوث...
4 ـ ومن خـلال المسيح بواسطة الروح القـدس فى الكنيسة: كـل هـذا الوحـى الإلهـى حـفظ فى الكنيسة التى أسسها الرب يسوع المسيح لتنقـل إلينـا بأمانة ما أوحـى الله به وتفسره حسب رأى الله بإلهـام الروح القـدس الساكن فيها لأن:
[ أَنْ مَـنْ مِـنَ اَلنَّاسِ يَعْـرِفُ أُمُـورَ اَلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ اَلإِنْسَانِ اَلَّذِي فِيهِ؟ هَكَذَا أَيْضـاً أُمُـورُ اَللهِ لاَ يَعْـرِفُهَا أَحَـدٌ إِلاَّ رُوحُ اَللهِ ] [ 1 كورونثوس 2: 11 ]...
* أسئلة:
1 ـ كيف يكشف لنا الله نفسه فى الطبيعـة؟...
2 ـ كيف يقـودنا إلى الله, إرتباط كل ما فى الكون بأسباب؟...
3 ـ هـل تعـرف مثلاً عـن النظام الذى يسود الكون: مأخوذا من الفلك؟ مأخوذًا من الجسم الإنسانى؟ مأخوذا من غـرائز الحيوانات؟...
4 ـ كيف يقودنا هذا النظام إلى الله؟...
5 ـ ها تعـرف معن المثل الشعبى :" إن عين الإنسان لا تشبع"؟ هل هنالك أمثلة فى حياتك أنت وحياة الناس عـامة تثبت حقيقة هـذا المثل؟ إلى ماذا يشير هذا التفاوت بين محدودية الإنسان وأمانيه اللامحدودة؟...
6 ـ كيف يكشف الله لنا ذاته فى الكتاب المقدس؟ فى حوادث هـذا الكتاب؟ فى أقـوال الأنبياء؟ فى الرب يسوع؟ فى الكنيسة؟...
* ملحـق (1)
حين يجـد الإنسان نفسه عـلى شـفـير الموت, قـد يشعـر, أكـثر من أى وقت آخـر, بمحـدودية كـيانه, وإن كـيانه هـذا, وبالتـالى كـيان جميـع المخـلوقات, إنما هـو مستمد من آخـر. فى تلك اللحظـات التى يحسّ فيهـا الإنسان أن الوجـود يفـلت منه, قـد يخـتير بقـوة أن هـذا الوجـود, وكـلّ وجـود, ليس قائمـًا بذاتـه, إنما هـو قائم فـقـط بإرادة آخـر. لذا فـقـد تكـون هـذه اللحظـات مناسبة للتـوجّـه إلى الله أو لتقـوية الصـلة به, وفيما يلى شهادتان عـلى ذلك:
النص الأول وُجـد فى إحـدى ساحات القـتال عـلى جـثة أحـد الجـنود, وقـد كتبه فى ليلة معـركة لقى فيها حـتفه, وكان النص موقـعـًا Pv.J.J.V.
{ إسمـع يا إلهى, إننى لم أكلمـك قـط قـبل الآن...
ولكننى اليـوم أريـد أن أقـول لك: " كيف حـالك؟"...
لقـد قـيل لى أنك غـير موجـود...
وأنا عـندئـذ, كأبْـلَه, صـدّقت ذلك...
فى الليلة الماضـية, من حـفـرة القنبلة التى كنت فيهـا, كنت أرى سماءك...
لذلك تحققت جـيدًا أنهم كـذبوا عـلىّ...
لو كلفـت نفسى أن أرى كـلّ ما صـنعـت...
لكنت فهمـت أنه لا يمكن أن يُنكـر وجـودك...
أتساءل إن كنت تقـبـل أن تصـافحـنى...
عـلى كـلٍ أشعـر أنك ستفهمنـى...
إنه لمؤسف أن أكـون قـد أتيت إلى هـذا المكـان الجهنمى...
قـبل أن يتيسّر لى الوقت الكـافى لأعـرف وجهـك...
لعـمرى, أفكّـر أنه لم يبق لى شئ كـثير أقـوله...
لكننى سعـيد لأننى صـادفتك هـذا المساء يا إلهـى...
أعـتقـد أن الساعـة ستأتى قـريبـًا...
لكنـى أخشى مـنذ شعـرت أنك قـريب بهـذا المقـدار...
ها هـى الإشارة! يجب أن أذهـب يا إلهـى!...
إننى أحـبك كـثيرًا وأريـد أن تعـرف ذلك...
أنظـر, سوف تحـدث معـركة هـائلة...
ومن يـدرى, يمكن أن آتى إليك فى هـذه الليلة!...
رغـم أن عـلاقاتى السابقـة لم تكـن حسنة...
أتساءل إن كنت ستنتظـرنى عـلى عـتبة بابك...
أنظـر إننى أبكـى! غـريب أن أزرف أنـا دموعـًا!
آه, ليتنى تعـرّفت إليك قـبل الآن بكـثير!...
آه, يجب أن أذهب الآن: الوداع...
إمـر غـريب! منـذ أن تعـرّفت إليك لم أعـد أخـاف الموت }...
* ملحـق (2)
أما النص الثانى فهـو مقطع من رسالة كتبها الكاتب الروسى الشهير " بوريس باسترناك" مؤلف كتاب " دكتور زيفاجو" والحاصل عـلى جائزة نوبل, يصف فيها لأحـد أصـدقائه أول ليلة قضاها فى المستشفى إثر أزمة قلبية كادت تودى بحياته...
{ فى تلك الليلة التى كانت تبدو لى آخـر لحظات حـياتى, كنت أريد, بأكـثر قـوة مما مضى, أن أخاطب الله وأقـول له: يا رب أشكـرك لأنك جـعـلت حـياتى ومـوتى عـلى هـذا المنـوال, لأن صـوتك جـليل بهـذا المقـدار, لأنك جـعـلت منّى فـنانـًا مبدعـًا تعـلم فى مدرستك أنت, لأنك هـيأتنى طـيلة حـياتى لإستقـبال هـذه الليلة. لقـد كنت سعـيدًا إلى حـد أننى بكيت }...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 ـ الإيمان والحياة
* الإستعـدادات الضـرورية لإقتبال كشف الله:
كشف الله عـن نفسه لى هـو كشف شخص لشخص...
كشف شخص الله غـير المحـدود لشخصى المحـدود...
وهـذا الكشف لا يتم إلا فى لقـاء حبى بين الله وبينى...
واللقـاء يتطـلّب أن يسعـى الشخصـان أحـدهما إلى الآخـر...
الله يسعـى دومـًا إلىّ لأنـه يحبّنى...
ولكـنه لا يكـرهنى عـلى أن أسعـى إليه لأنه يحـترم حـرّيتى...
وكما أن الإنسان إذا أغـلق قـلبه دون إنسان آخـر, لا يستطيع أن يفهـمه ولا يحسّ حـقيقة بوجـوده...
هكـذا بالحـرىّ الإنسان الذى يعـظم نفسه ويكتفى بذاتـه, ولا يمكنه أن يعـرف الله...
إذًا, لا يكتفى أن يفـتش الإنسان بعـقـله عـن الله ليجـده...
إنما يطـلب منه أن يكـون قـلبه مستعـدًا للقـاء الله...
يقـول الرب يسوع:
[ طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ ] [ متى 5: 8 ]...
والنقـى القـلب هـو الذى لا غش فيه , أى الإنسان المستقيم, المخـلص, الذى يسعـى إلى الحقيقة بكل جوارحه والمستعـد إلى إقـتبال الحقيقة ولو كانت تخـالف كـبرياءه وأهـواءه...
هـذا الإنسان مستعـد قـلبه للقـاء الله...
كـثيرون يعـتقـدون بأنهم يعـرفون الله لأنهم يردّدون كلمات عـنه...
ليست هـذه سوى معـرفة سطحـية لا قـيمة لهـا...
المعـرفة الحقيقية لله لا تتم إلا فى لقـاء حـبى يكشف فيه الله ذاته لى...
معـرفة الله فى الإنجـيل تعـنى محـبّة الله...
أعـرف الله معـناه أحـبه...
لأن معـرفة الله لا تتم خارج محـبة الله:
[ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي ] [ يوحنا 14: 21 ]...
لذلك يقـول آبـاء الكنيسة أن اللاهـوتى هـو الذى يصـلّى...
إذًا أعـلى شهـادة فى اللاهـوت لا تكـفى وحـدها لمعـرفة الله...
المسيحى البسيط الذى يصـلّى حقيقة أى يناجى الله ويرفـع إليه روحـه يعـرف الله أكـثر من لاهـوتى كـبير لا يصـلّى بل يكتـفى برصف كـلام بديـع عـن الله...
لذا كتب القـديس " غـريغـوريوس النزينزى" :
{ الحـديث عـن الله العظـيم, ولكـن الأفضـل أن نطهّـر ذواتنا لله }...
* الإيمان لا يكتمل إلا بالحياة:
كما أن معـرفة الله لا تتم إلا بالإتصـال الحـياتى به...
هكـذا الإيمان لا يكتمـل إلا بالحـياة...
لا يُعـتبر مؤمـنًا ذاك الذى يعـترف بوجـود الله ولكـنه يتصـرّف كأن الله غـير موجـود...
المؤمن ليس ذلك الذى ينـادى بفكـر الله...
إنما هـو الذى يقـبل الله إلهـًا له, أى محـورًا لكـيانه كلّه وموجهـًا ومسيّرًا لحـياته...
بهـذا المعـنى يقـول الله عـن الذين سوف يقـبلونه:
[ سَأَكُـونَ لَهُم إِلَهـًا ] [ حزقيال 11: 20 ]...
إنـه موضـوعـيًا إلههم مـنذ الأزل, شاؤوا أم أبوا, إنما يصبح حـياتيـًا إلهم عـندما يسلّمون إليه حـياتهم كلها...
إبراهيم اعـتبر أبا المؤمنين ليس لأنه اعـتقد بالإله الواحـد وسط شعـب وثنى وحسب, بلّ لأنه أسلم حـياته لله...
فقـبل أن يتخـلّى عـن أهـله وعـشيرته وبيـئته ومصـالحه وعـوائده, وأن يخـرج متجهـًا إلى مكان مجهـول أعـدّه الله له...
جوهـر الإيمان, إذًا, أن يصبح الله إلهى,
أى المـرجـع المطـلق لكـل أمـورى وأن أطـيعـه ليس فقـط فى تصـرفاتى الخـارجـية بلّ وفى أفكـارى ورغـباتى...
هـذا ما تعـنيه كلمـة " أرثـوذكسية"...
إنها تعـنى فى آن واحـد " الاعـتقـاد المستقيم" و " التمجـيد المستقـيم"...
وبهـذا تعـلمنا أن الاعـتقـاد المستقيم لا يكتمـل إلا بتمجـيد مستقيم...
تمجـيد الله بحـياتنا كلها...
[ فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اَللهِ ] [ 1 كورونثوس 10: 31 ]...
[ فَمَجِّدُوا اَللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ اَلَّتِي هِيَ لِلَّهِ ] [1 كورونثوس 6: 20 ]...
بهـذا المعـنى أيضـًا يقـول " فيلاريتوس" مطـران موسكو:
{ لن يكـون دستور الإيمـان لكم إلا إذا عشتمـوه }...
** أسئلة:
1 ـ ما هى الاستعـدادات الضـرورية لإقـتبال كشف الله لـنا؟ ( أنظـر مثلاً متى 5: 8 )...
2 ـ هتل يكتمل الإيمان بدون الحـياة؟ هـل يعـتبر مؤمنـًا ذاك الذى يعـتقتد بالله ولكنه يعيش كأن الله غـير موجـود؟ هـل اعـتبر إبراهـيم أبـًا للمؤمنين لأنه اعـتقـد بالله وحسب؟...
___________________________________
4 ـ الإيمان والعـلم
===================
* هـل من تناقض بين الإيمان والعـلم؟:
هـذا ما يدّعـيه الكـثيرون من دعـاة الإلحـاد...
ولكـن هـذا الاعـتقاد خاطـئ من الأساس...
أ ـ لأن العلم والإيمان يعـملان عـلى صعـيدين مختلفين:
فالعـلم يهتم بربـط حـوادث الكـون بعضهـا ببعـض ولكـنه لا يبحث فى ما هـو أبعـد من ذلك, أى أصـل الكـون والإنسان ومصـيرهما ومعـنى وجـودهما لأن ذلك خارج عـن نطـاقه...
فالعـلم مثلاً يصـف لنـا تطـوّر الحـياة من أبسط الكائنات حتى الإنسان ولكـنه لا يبحث فى أصـل المادة التى تطـوّرت وفى مـوجّه هـذا التطـوّر وفى غـايته...
أمّا الإيمان فيعـلمنا أن الله أوجـد المـادة ووجّـه تطـوّرها وإن غـاية التطـوّر إيجـاد كائن عـلى صـورة الله, هـو الإنسان, معـدّ للإشتراك فى حـياة الله نفسها...
فالعـلم الذى ينـادى بالتطـوّر لايخـالف بذلك الإيمان الذى يـرى فى التطـوّر خطـة من خطـط الله لا يخـالف العـلم...
ب ـ لأن معظم بناة العـلم الحـديث كانوا مؤمنين:
ولنـذكر عـلى سبيل المـثال " نيـوتن" الذى كان يرفـع قبعـته إجـلالاً كلما ذُكـر اسم الله...
و" كـيبلر" و " فـاراداى" و " باستير" و " أمـبير" الذى كان يـردّد أمام صـديقـه " أوزانام" :
{ مـا أعـظم الله }...
ولنذكـر بين المعـاصـرين " أدينجتون" و " ماكس بلانك" و " لويس لبرنس رنجيه" من أعظم عـلما الذرة...
ولنذكر أيضـصا كاهنين يُعـتبران من أقطـاب العـلم الحـديث: " الأب جورج لومـيتر" صاحب نظترية مشهـورة فى نشوء الكـون هتى نظترية التمدد الكونى...
والأب " بيار تيار دى شردان" من أعـظم العـلماء والمفكـرين المعـاصرين وهـو متخصص فى عـلم التطـوّر نادى فى مؤلفـاته بأن التطـوّر لا يُفهم إلا إذا اعـتبرنا الله ألفـه وياؤه...
كل هـؤلاء كان عـلمهم مدعـاة لتغـذية إيمانهم بالله لأنهم تطـلّعـوا بالعـلم على عـجائب الكـون فرأوا فيها يـد الله:
[ مَا أَعْـظَـمَ أَعْـمَـالَكَ يَا رَبُّ! كُلّـَهَا بِحـِكْمَةٍ صَـنَعْـتَ. مَـلآنَةٌ الأَرْضُ مِـنْ غِـنَاكَ ] [ مزمور 104: 24 ]...
ج ـ لأن الاختراعـات الحديثة لا تـنفى سلطة الله:
لأن الإخـتراعـات البشرية الحـديثة وسيطـرة البشر المـتزايدة عـلى الطبيعـة لا تـنفـى كما يدّعـى البعـض سلطـة الله...
إنما هـى بالأحـرى إشارة إلى هـذه السلطـة...
ذلك لأن ما يخـوّل الإنسان ـ وهـو جـزء من الطبيعـة ـ أن يُدرك مكـنونات الطبيعـة ويسيطـر عـلى طاقـاتها بهـذا المقـدار العجيب, هـو كـون الله قـد خـلقـه عـلى صـورته وجـعـله مشاركـًا له إلى حـد ما فى سلطـته عـلى الكـون:
[ وَبَارَكَهُمُ اَللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاَكْثُرُوا وَاِمْلأُوا اَلأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ اَلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ اَلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى اَلأَرْضِ ] [ تكـوين 1: 28 ]...
فسلطـة الإنسان عـلى الكـون مستمـدّة من سلطـة الله...
لذا, يجب أن تقـوده ليس إلى الإنقتاح والتبجـح بلّ إلى التسبيح والشكـر لمن وهـبه إيّاها حـبًا...
هـذا ما تفـعـله الكنيسة فى كـلّ قتداس إلهى عـندما ترفـع إلى الله كذبيحـة شكـر الخـبز والخمـر اللذين يمثلان ليس فقـط الطبيعـة ولكن الصـناعـة البشرية كلّهـا التى بواسطـتها تمكـّن الإنسان من إخـراج النبات من الأرض وتحـويل القـمح والعـنب إلى خـبز وخمـر...
فيقـبل الآب كل ذلك محـولاً إيـّاه إلى جسد ودم ابنه...
*** أسئلة:
هـل من تناقض بين الإيمان والعـلم؟ هـل صحيح أن صعـود الإنسان إلى القمـر أو إرساله صـواريخ إلى الفضاء يناقضان سلطة الله؟ أليست سلطة الإنسان عـلى الكـون مستمدة بالأحـرى من سلطة الله؟ ( أنظـر تكوين 1 : 28 )...
** ملحـق (1)
شهادة إثنين من بناة العـلم الحـديث:
{ شاهـدت الله فى أعـماله وفى نواميس الطبيعـة التى تثبت أن هـناك حكمـة وقـوة مستقـلين عـن المـادة } [ نيوتن, فلكى ورياضى إنجليزى يُعـتبر من أعـظم العـلماء الذين برزوا فى تاريخ العـلم ]...
{ أيهـا الخـالق. أباركك لأنك سمحت لى أن أعجب بأعـمالك. لقـد أتممت رسالة حـياتى بالعـقـل الذى أنت وهبتنيه. أذعـت للعـالم مجـد أعـمالك. فإذا كنت بأعـمالى التى كان يجب أن تتجه نحوك طلبت مجـد الناس فاعـف عـنّى لصـلاحك وحـنوك. أيتها الانسجامات السماوية باركى الرب. يا نفسى باركى الرب } [ كيلبر ـ فلكى ورياضى ألمانى ـ لقب بمشترع السماء ]...
*** ملحـق (2)
شهـادة رئيس الأساقفة لوقـا الروسى الأرثوذكسى وهو الأستاذ والجـراح الشهـير الدكتور " فوينويا سنتسكى" حامل جـائزة ستالين فى الجـراحة والمذكور فى الموسوعـة الطـبية السوفياتية الكـبرى ...
وفيما يلى مقطـع من خطـاب ألقـاه سنة 1957 فى ذكـرى مـيلاده الثمـانين:
{ ... إنما أريد أن أحـدثكم عـن جـلائل أعـمـال الله التى ظهـرت فى حـياتى. وقـد عـلمت أن كـثيرين يتساءلون كيف... بعـد أن أدركت شهـرة العـلماء, استطعـت الانصـراف إلى التبشير بإنجـيل المسيح. إن من يفكّـر عـلى هـذا النحـو يرتكب خطـأ كـبيرًا, فهـو يفـترض أنه لا يمكن التوفـيق بين العـلم والدين. ومن كـان عـلى هـذا الرأى, فهـو فى ضـلال مبين. فإن شواهـد تاريخ العـلوم تدلنا عـلى أن عـباقـرة العـلماء أمثـال جـاليلي, ونيوتن, وكوبرنيك الذى أحـدث انقـلابًا فى المفاهيم الفلكـية باعـتباره الشمس لا الأرض مركـزًا للنظـام الشمسى, كان راهـبًا ألمـانيًا, ومانديل الذى اكتشف قوانين الوراثة وأسس عـلم الوراثة الحـديث كان راهـبًا تشيكوسلوفاكـيًا... كانـوا متدينين تدينـًا عـميقـًا. كما أنى أعـرف أن بين أساتذة الجامعـات من معـاصرينا كـثيرون ممن يؤمنـون, فالبعـض منهـم يسألوننى البركـة }...
_________________________________
الفصل الثالث
الخـلق و السقوط
===============
" ..خـالق السماء والأرض كل ما يُرى وما لا يُرى..."
1ـ الخـلق والتطـوّر
يقـول الكتاب المقدس:
[ فِي اَلْبَدْءِ خَلَقَ اَللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ] [ تكـوين 1 : 1 ]...
تلك عـقـيدة الخـلق
التى بمـوجبهـا نقـرّ أن كل المـوجـودات قـائمة فى الوجـود
بإرادة الله وبإرادتـه فقـط, ومُسْتَمِدّة منه وجـودها...
هـذا ما نعـبّر عـنه فى قـانـون الإيمان بقـولنا:
" أؤمـن بإلـه واحـد, الله الآب, ضـابط الكـلّ, خـالق السماء والأرض, كل ما يُرى وما لا يُرى"...
* رواية الخـلق فى سفـر التكـوين ونظـرية التطـوّر:
عـندما يصف لنـا سفـر التكـوين عـملية الخـلق, فى فصـله الأول, فإنه يصـوّر لنـا الكائنات وكـأن كـلاّ منهـا أو كـلّ نـوع منها قـد أوجـده الله بشكله الحـاضـرة مباشرة...
ولكن نظـرة كهـذه تتعـارض مع نظترية التطـوّر التى يتـفـق عـليها معـظم العـلماء المعـاصرين والتى أصبحـت شبه مؤكـدة بالإستناد إلى العـديد من البراهـين...
وهـنا ينشأ تساؤل عـند الكـثيرين:
كيف يمكـن التوفـيق بين الوحـى الإلهـى ومعـطـيات العـلم؟...
للجـواب عـن هـذا السؤال الوجـيه, ينبغـى أن نتذكّـر, بادئ ذى بـدء:
أن الكتاب المقـدس كـتاب إيمان لا كـتاب عـلم, هـمّه أن يكشف لـنا عـلاقة الله بمخـلوقاته, وبنـوع خـاص بالإنسان, لا أن يقـدّم لـنا وصـفـًا عـلميـًا لتـاريخ الكـون...
لـذا فعـندما يصف سفر التكوين الخلق فى فصـله الأول, فإن الوحى الألهى ينسكب فيه فى قوالب بشرية, هى التقاليد التى كانت شائعـة فى المكان والزمان الذى ظهـر فيه هـذا الفصـل...
ولا قـيمة, إذًا, لتلك القـوالب بحـد ذاتها...
إنما قـيمتها فى المعـانى الروحـية التى تتجـلّى من خـلالها...
تلك المعـانى التى تلخـّص بأن الكـائنات كـلها تستمـد من الله الواحـد وجـودها وترتيبها...
هـذا ما فهمـه آباء الكنيسة اليونانيون خمسة عشرة قـرنـًا قـبل ظهـور النقـد الكـتابى الحـديث...
ففسروا رواية الخـلق فى سفـر التكـوين تفسيرًا رمـزيًا أكـثر منه حـرفـيًا...
نستنتج مما سبق أن إيماننا بالخـلق ليس رهـنًا بالقـالب الحضـارى الذى سكب فيه الإعـلان الإلهـى عـن الخـلق فى سفـر التكـوين...
وأنـه يمكـننا أن نعـبّر عـنه بالقـوالب الفكـرية التى يتمـيّز بها عـصرنا ومن جملتهـا نظـرية التطـوّر...
هـذا ما سنحـاول أن نبيّـنه, مذكّـرين أولاً باختصـار بمراحـل التطـوّر كما يصفهـا العـلم الحـديث , ثم متعـرضين لما يقـتضـيه واقـع التطـوّر من تعـليل أخـير عـلى ضـوء العـقـل والإيمان...
* مراحـل التطـوّر:
لقـد أثبت العـلم الحـديث أن التطـوّر لم يشمـل الكـائنات الحـية فحسب...
إنما هـو مـلازم لتـاريخ الكـون برمـته...
فالكـون الذى ننتمـى إليـه كـون متطـوّر...
وقـد بـدأ تطـوّره عـلى مستوى الطبيعـة الجـامدة حتـى أدى على ظهـور الحـياة التى تطـوّرت بدورها حتـى أبرزت ذلك الحـيوان المفكـّر, الإنسان...
أ ـ تطـوّر المـادة:
إن النظـرية المـرجحـة اليـوم بين العـلماء تقـول بأن الكـون, فى حـالته الحـاضرة, قـد بـدأ مـنذ مـدة تـتراوح بين العشرة مليارات والخمسة عشر مليارًا من السنين...
وأنـه كان فى البـداية مؤلـفـًا من سحب من ذرات الهـيدروجين ( وهى أبسط الذرات وأخفـها ) تسبح فى الفضـاء...
إنطـلاقـًا من تلك السحب تكونت الكـواكب...
ونشأت فيها بفـعـل الحـرارة الهـائلة تفاعـلات نووية حـوّلت ذرات الهيدروجين إلى ذرّات أثقـل من الهيليوم, وهـذه بدورها إلى ذرّات أثقـل من الكـربون, وهلم جرا...
هكتذا تكـثـفت المادة تـدريجـيًا بظهـور ذرّات تجمـع عـددًا أكـبر فأكـبر من الجسيمات فى نظـام شبيه بالنظـام الشمسى تدور فيه الإلكـترونات حـول النـواة المؤلفـة من البروتونات والنيوترونات, إلى أن تكـوّن, فى قلب الكـواكب, الإثنا وتسعـون نوعـًا من الذرات الموجـودة فى الطبيعـة...
ولمّا تكونت أرضـنا, منذ حـوالى أربعـة مليارات ونصف من السنين وانخفضت تدريجـيًا درجـة الحـرارة فيها...
أمكـن للذرّات أن تتفـاعـل لتتكـوّن منها مجمـوعـات أكـثر كـثافة, ألا وهى الجـزيئات...
ولكـن عـملية تكـثيف المادة لم تقف عـند هـذا الحـد...
فمنـذ ثلاثة مليارات من السنين عـلى وجـه التقـريب, بدأت الجـزيئات تتحـوّل, بفـعـل الأشعـة الكـونية, إلى بـُنى تفـوق الجـزيئات العـادية كـثافة, ألا وهـى الجـزيئات العـضوية التى تؤلف بين الجـزيئات العـادية فتجمعـها فى وحـدات ضخمـة, معـقـدة الترتيب, كالسكريات والحـوامض الأمينية والهيوليات PROTIDES, وغـيرها...
**********
ب ـ قـفـزة الحـياة:
تجمعـت تلك الجـزيئات العـضوية فى مياه البحـار الساخنة. وكان تجمعها هـذا تمهـيدًا لحـث بالغ الأهمية, لا يزال الغـموض يكتنف ظـروفه إلى الآن, حـدث منذ مليارى عـام عـلى وجه التقـريب, فغـيّر وجه الكـون, ألا وهـو بروز الخـلية الأولى...
إن حـركة التكثيف المنظم, التى رأيناها تدفع المادة منذ نشأتها, بلغـت هنا درجة فائقـة..
فالخلية الحـيّة تؤلف بين جزيئات عـديدة ضخمة من الهيوليات والشحميات والسكريات والفيتامينات وغـيرها, فى وحتدة متماسكة مركـزة أروع تركـيز, يتناسق فيها حـوالى مليار من الجـزيئات...
ولكـن الأمـر المدهش هـو خاصة فى كـون هـذا التعـقيد الفائق قـد أدّى إلى ظهـور نمـط جـديد من الوجـود, يختلف نوعـيًا بشكل جـذرى عـن الجـوامد, ألا وهو الحـياة...
فالخـلية الحـية تتمتع بمـيزات جـديدة بالكـلية:
فهى تحـوّل إلى موادها الذاتية المـواد التى تستمدها من الخـارج, وتجـدد باستمرار العـناصر التى تتألف منها مع المحـافظة عـلى بنيتها, وتنمـو من الداخـل, وتصلّح ذاتها إذا عـطبت, وتتكيّف مع البيئة, وتتكاثر منتجـة كائنات جـديدة شبيهة بها...
تلك هـى قـفزة الحـياة...
**********
ج ـ تطـوّر الحـياة:
من ذلك العـالم, الصـغير فى حجمه, الهـائل فى تعـقيده وتركـيزه, انطلقت الحـياة لترقـى سلّمـًا طويلة كان الإنسان قمتها...
وفى ترقـّيها هـذا, ابعت الحـياة السير فى الطـريق التى رأينا المـادة تسلكها, ألا وهى طـريق التعـقيد المـتزايد...
فبعـد الكائنات الحـية الأولى ذات الخـلية الواحـدة, ظهـرت كائنات تؤلّف بين خـلايا متعـدّدة فى وحـدة منسجمة تعـمل فيها العـناصر كلها لخـدمة المجموع...
وقـد ازداد التعـقيد بشكل ملحـوظ عـندما أخـذت مجموعـات من الخـلايا, ضمن الكائن الواحـد, تتخصص للقـيام بوظيفـة معـينة, فتكـونت الأجهـزة, وعـمل بإنسجام وترابط لصـالح الجسم ككل...
وكان لا بـد من جهاز يربط تلك الوظائف من جهة, وبينها وبين العـالم الخارجى من جهة أخـرى, فبرز الجهاز العصبى وتطـوّر تدريجـيًا نحـو تكثيف وتركـيز متزايدين, مما أدى إلى نمو الدماغ كمركز أساسى للجهاز العـصبى, وإلى سيطـرته التدريجـية عـلى المراكز العـصبية الأخـرى...
وبتطـوّر الجهاز العـصبى عـلى هـذا المنوال نمت قـدرة الكائنات الحـية عـلى التكيّـف مع بيئتها, وازدادت الغـرائز إتقـانًا وبرز الذكاء وتزايدت حـدته إلى أن بلغـت أوجها فى أعـلى مراتب القـردة, كالشمبانزى مثلاً, التى بلغ دماغها درجة ملحوظة من النمو...
ذلك الترقـّى فى سلّم الكائنات الحـية كان يتم, كما بيّن داروين وأوضح العـلم الحـديث, بواسطة تبديلات كانت تحصـل من وقت إلى آخـر فى المـيزات الوراثية التى تحملها الخـلايا التناسلية, وهـذا ما يسمّى بـ " التِغـيارات الإحـيائية" MUTATIONS , فتظهـر عـند الحـيوان المنحدر من خـلية من هـذا النوع صفـات جـديدة...
وقـد تخـدم هـذه الصفات فى الصـراع من أجـل البقـاء , فيعـمّّر وينقـل صفـاته الجـديدة بالوراثة إلى نسله, فيثبت هـذا فى الوجـود ويتكاثر...
أو قـد تعـيقه فى هـذا الصـراع, فـيزول هـو أو نسله, وتزول معـه صفـاته " الإصطـفاء الطبيعى" Natural Selection ...
وهـكذا بتراكم " التِغـيارات الإحـيائية" نشأت شيئًا فشيئًا أنواع جـديدة انتظـمت فى هـذا الخط التصـاعـدى الذى سبق وأوجزناه...
**********
د ـ قـفـزة الفـكر:
إن عـملية نمو الدماغ , التى أصبحت المحـور الأساسى لحـركة التعـقيد المـتزايد التى يتمـيّز بها التطـوّر, بلغـت ذروتها فى الإنسان الذى يتألف دماغـه من حـوالى أربعـة عشر مليارًا من الخـلايا ( أربعـة أضعـاف خـلايا الشمبانزى تقـريبًا ), مترابطـة بعضهـا ببعـض وبخـلايا المـراكز العـصبية الدنيا, عـلى صـورة شبكة إلكترونية هـائلة التعـقيد...
هكـذا تأمنت الشروط اللازمة لقـفـزة لا تقـل أهمية عـن تلك التى حقـقتها الحـياة, ألا وهى قـفـزة الفـكر...
تلك القـفـزة التى تمت عـلى مراحل منذ أكـثر من حـوالى مليون سنة, أوجـدت نمطـًا جـديدًا بالكـلية من الوجـود, وهـو الوجـود الإنسانى, وجـود كائن يتمـيّز عـن سائر الكائنات الحـية بكـونه, وحـده, يعـى ذاته, ويعـى الكـون كمتمـيّز عـن ذاته, ولـذا لم يعـد كالحـيوان, أسير أحاسيسه ودوافعـه الغـريزية, إنما أصبح كائنـًا ذا فكـر وحـرية, يُـدْرك التطـوّر ومكـانه فيه ويأخـذ عـلى عـاتقـه مسئولية متابعـته بوعـيه وعـمـله الخـلاق...
**********
* التطـوّر فى تعـليله الأخـير ومعـناه:
إن العـلم يثبت واقـع التطـوّر, كما أنه يوضّح العـوامل التى تفسّر مراحـله المختلفة...
لقـد توصّـل على اكتشاف العـديد من تلك العـوامل ـ وقـد نوهنا ببعضها ـ وسيتوصّـل بلا شك, بفضل جهـود العـلماء المتضافـرة, إلى إلقـاء المـزيد من الأضواء عـلى النقاط التى لا يزال يكتنفها الغـموض, فتتوضّح اكـثر فأكـثر...
ولكـن, إلى جانب التساؤلات التى يترتب عـلى العـلم أن يحيب عـنها, فهناك تساؤلات من نوع آخـر, لا تدخـل فى نطاق العـلم لأنها تُطـرح من منظـار يختلف عـن منظـاره...
فعـندما يقـول العـلم بالتطـوّر, يصف خطـًا تصـاعـديًا, ويظهـر كيف سلكت مادة الكـون هـذا الخط...
ولكنه لا يُبـدى, وليس من شأنه كعـلم أن يُبـدى, لماذا كان هـناك خط تصـاعـدى؟...
هكـذا يبقـى الباب مفتوحـًا أمام تساؤلين صـميمين, ألا وهما:
ماهـو التعليل الأخـير للتطـوّر؟...
هـل للتطـوّر مُـبَرّر ومعنى؟...
أ ـ التطـوّر لا يعـلّل بمجـرّد الصـدفة:
جـواب البعـض عـن السؤال الأول هـو:
أن هـذا التسلسل التصاعـدى مرجعـه الصـدفة وحـدها...
فبالصـدفة تجمعـت ذرات المادة بتعـقيد مـتزايد, وبالصـدفة تألّفـت الخـلية الحـيّة, وبالصـدفة تركب الدماغ الإنسانى...
كل ذلك سلسلة صـدف, تعـاقب أرقام رابحـة فى يانصيب كـونى يسـيّر دواليبه حظ أعـمى...
ولكن تلك النظـرة الفلسفية, التى يعـود أصـلها على فلاسفة إغـريقيين قدامى كـ " ديموقريطوس", لا تثبت أمام ما يكشفه العـلم الحـديث لنا عـن مدى التعـقيد والتنسيق الذى تتصـف به خـلية حـيّة واحـدة, لا بلّ جـزئية واحـدة من الجـزيئات العـضوية...
لذا نبذها معظم عـلماء اليوم, حتى من يديـن منهم بالمذهب المادى...
فمثلاً نرى العـالم البيولوجى السوفييتى الكـبير " أوبـاريـن" يدحض محـاولة تفسير ظهـور خـلية حية واحدة بفعـل الصـدفة بقـوله:
{ إن هـذا الإفـتراض شبيه بموقف إمـرئ يخـلط أحـرف طـباعـة تمثّـل ثمانية وعشرين حـرفـًا أبجـديًا ويحـرّكها, راجـيًا أنها بداعـى الصـدفة سوف تجتمع لتؤلف هـذه أو تلك من القصائد التى نعـرفها }...
فإذا كان ظهـور خـلية واحـدة بداعـى الصـدفة أمـرًا مستحـيلاً, كما يؤكـد عـلم يدين بالمادية, فكيف نفسّر بالأحـرى, بمجـرّد فعـل الصـدفة, تدرّج الحـياة المتواصـل نحو أشكال أرقى فأرقى...
إذا اعـتبرنا أن هـذا التدرج إنما هـو تتابع صـدف موفقة, فمن أين للصـدفة هـذا الاستمرار والترتيب فى فعـلها؟...
فكأننا نقـول أن تبديلات طرأت صـدفة عـلى نص مبادئ الهندسة التى وضعـها أقليدوس, أثناء نسخه من قبل ناسخين متتابعين ينقـل أحدهما عـن الآخـر, تعـاقبت بشكل متناسق من نسخة إلى نسخة حتى أوجـدت بالتوالى كل اخـتراعات البشرية فى عـلم الهندسة وأدّت فى النهاية إلى بروز نظـرية أينشتاين...
هـذا مع العـلم بأن خـلية واحـدة من الخـلايا إنما هى أكـثر تعـقـيدًا من نظـرية أينشتاين, لأن العـلم البشرى, بكـلّ جـبروته الحـالى, لم يتوصّـل حتى الآن, إلى إدراك سرّ تركيب واحـدة منها...
**********
ب ـ التطـوّر لا يُعـلّل بفـعـل " الطبيعـة":
إذا كانت نظـرية الصـدفة لا تثبت أمام معـطـيات العـلم الحـديث, رغـم محاولات " جاك مونو" لإحـيائها فى كتابه " الصـدفة واالضـرورة", فبماذا يمكن الإستعـاضة عـنها؟...
كـثيرون ممن يدينـون اليوم بالمذهب المادى, يقـولون بأن التطـوّر تفسره طـبيعة المادة نفسها...
فبنظـرهم كان لابـدّ للمادة, بالنسبة لطبيعـتها, أن تنتـظم وتتعـقـد أكـثر فأكـثر مجتازة بذلك كل مراحل التطـوّر...
ولكن السؤال الذى لا تجيب هـذه النظـرية عـنه هـو:
ما هو سر انتظـام المادة؟...
وما هـو سر سيرها نحو إنتظام مـتزايد فى خـط متواصل, مستمر؟...
من أين للمادة هـذا الانتـظام؟...
المادة مجموعـة من جسيمات ومن طـاقات, إنها كـثرة وتعـدّد...
فكيف يتاح لهـذه الكـثرة أن تتوحّـد وتنتـظم, وذلك بشكل مـتزايد, تصـاعـدى؟...
هـل نقـول أنها تنظـم ذاتهـا؟...
ولكن هـذا يفـترض أن المادة ذات, شخـص, يعـلو عـلى تعـدّد عـناصره ليوحّـد وينسّق بينها...
هـذا ما يضـمره, من حيث لا يـدرون, هـؤلاء الذين يقولون أن " المادة" أو " الطبيعـة" هى عـلة التطـوّر الأخـيرة...
إنهم بذلك يشخـصون " المادة" أو " الطبيعـة", ينسبون إليهما كـيانـًا خـرافيـًا, ذات طابع شخصى...
فلنـأخـذ مثـلاً يوضّح ما نحن بصـدده...
نحن نعـلم أن جسم كل من الكـائنات الحـيّة يتكـوّن إنطـلاقـًا من خـلية أولى...
لقـد انكبّ عـلم الحـياة الحـديث عـلى درس ذلك التحـوّل الذى يجعـل من البلوطـة سنديانة ومن خـلية إنسانية واحـدة جسدًا إنسانيًا مؤلفـًا من حـوالى ستين ألف مليار من الخـلايا, منوعـة وموزّعـة عـلى اجهـزة وأعـضاء متناسقة بشكل مذهـل...
وقد أوضـح العـلماء التفاعـلات الكيمائية العـديدة المعـقـدة التى تؤدى تدريجـيًا إلى هـذا التحـوّل, ولكنهم يقـولون أن تلك التفاعـلات موجّهة, مبرمجة, بفـعـل " تصميم موجّـه" كامن فى نواة الخـلية الأولى, وعـلى وجـه التخصيص فى جزيئات الـ D.N.A. بفضـل تلك البرمجـة تتنـاسق التفاعـلات الكيمائية لتـؤول على تكـوين كـائن حىّ يحمـل الصفـات التى يتمـيّز بها نوعـه...
فبالقـياس إلى ذلك نتساءل:
إذا كانت المادة قد سلكت, فى تاريخها الطـويل, تلك المسيرة التصاعـدية التى قادتهـا من سحب الهيدروجين الأولى إلى الدماغ الإنسانى, فقـد تم ذلك بلا شك بتـأثـير عـوامل فيزيائـية وتفاعـلات كيمائـية عـديدة, أوضحها العـلم وسيوضحها أكـثر فأكـثر...
ولكن يبقـى هـذا السؤال:
ما هـو سر انتظـام تلك العـوامل والتفاعـلات فى خـط تصـاعـدى؟...
ما هـو سر " برمجـة" المادة فى مسيرتها المتواصـلة نحـو كائـنات أكـثر فأكـثر تعـقـيدًا؟...
البرمجـة التى بموجـبها يتكـوّن الكـائن الحىّ والمرتسمة فى نـواة خـليته الأولى قـد أتـته بالوراثة من كـائن حىّ من نوعـه ( أو كـائنين ) وجـد قـبله...
فمـن أيـن لمـادة الكـون برمجـتها المذهـلة؟...
إذا كانت المادة هـى الكـائن الوحـيد, المكـتفى بذاتـه...
فمـن أيـن استمـدّت تصميمها المـوجّـه؟...
هـل نقـول أنها برمجـت ذاتهـا؟...
إننا عـند ذاك, كما قـلنا سابقـًا, ننسب لتلك الكـثرة من الجسيمات والطـاقات, كـيانـًا شخـصيـًا...
إننا ننسب إليها فكـرًا يفـوق الفـكر الإنسانى بما لا يقاس, لأنه لم " يخـترع" الحـياة وحسب, تلك الحـياة التى لم تستطع العـبقـرية البشرية و تقـليدها إلى الآن, بل أوجـد الفكـر الإنسانى أيضـًا...
إننا خـلافـًا لكـلّ منطـق...
ننسب لها القـدرة عـلى التحـوّل, بحـد ذاتها, من الأقـل إلى الأكـثر, ناقـلة ذاتها بذاتها من نظـام إلى نظـام أرقـى وحسب, بل من صعـيد وجـود إلى صعـيد وجـود آخـر مخـتلف عـنه بالكـلية, أى من مادة جامـدة إلى مادة حـيّة ثم إلى مادة مفكّـرة...
وبعـبارة أخـرى نجعـل من المـادة شخـصـًا إل
الفصل الرابع
===========
ألوهيـة الابن
=========
" ..وبربٍ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد. المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق, مولود غير مخلوق, مساوٍ للآب فى الجوهر، الذى به كان كل شئ..."
1ـ ألوهيـة الابن
-----------------------
يؤكّـد لنا الفصل الثانى من دستور الإيمان ألـوهة الابن, وقـد وضع لتثبيت إعـتقـاد الكنيسة المستقيم تجـاه البـدعة التى أتى بها كاهن إسكندرى يدعـى " أريوس" فى أوائل القـرن الرابع مدعـيًا بأن الابن مخـلوق وأنه دون الآب...
فاجتمع لدحض أرائه ( التى ورثها " شهود يهوه" فى أيامنا ) مجمع يشمل الكنيسة جمعـاء وهو المجمع المسكونى الأول الذى انعـقد فى مدينة نيقـيا سنة 325 ووضع القسم الأكـبر من دستور الإيمان الذى نـتلوه فى كـلّ قـداس ومن جملته هـذا الفصل المتعـلّق بألوهة الابن...
ويؤكّـد لنا هـذا الفصل أن الابن " مساوٍ للآب فى الجـوهـر" أى أن له الطبيعـة الإلهية نفسها التى لله الآب...
فكما أن الابن البشرى يأخـذ عـن أبيه الإنسان طـبيعـته الإنسانية...
هكـذا ابن الله يستمد من الآب طـبيعـته الإلهية...
وكما أن النور الصادر من الشمس له طـبيعة الشمس نفسها التى هى نور هكـذا الابن الصادر من الآب ( وهـذا معـنى كلمة " مولود" ) له طـبيعة الآب عـينها: " نور من نور، إله حق من إله حق"...
وينتج من ذلك أن الصفات الإلهية التـى للآب كالأزلية والقـدرة عـلى كل شئ والمعـرفة التامة والقداسة الكاملة...
هـذه الصفات كلها هى للابن أيضًأ...
الابن صادر عـن الآب ولكنه " مولود غـير مخلوق" ...
فالمخلوق يخـرج من العـدم إلى الوجـود بإرادة الله...
ولكن ابن الله يصـدر من صميم الله الآب نفسه...
لذلك فإن هـوة تفصـل الخـالق والمخـلوق...
أمّا ابن الله والله الآب فهما عـلى الصـعـيد نفسه لأنهما يشتركان كـلاهما فى الطـبيعـة الإلهـية الواحـدة...
البشر يُـدعَـوْن أبناء الله فـقـط من أجـل محـبّة الله لهم وإعـتنائـه بهم...
هـذه المحـبّة تجـتاز الهُـوّة التى بين الخـالق والمخـلوق ولكنها لا تزيلها...
أمّا يسوع المسيح فهو ابن الله بطـبيعـته...
أى أنه بحـدّ ذاتـه فى وحـدة كاملـة مع الآب ولذلك دُعِـى " ابن الله الوحـيد"...
أى أنـه وحـده ابن الله بالمعـنى الكـامل لهـذه العـبارة...
بينما نحـن لا نُدعـى أبناء الله إلا لأن محـبّة الله تتبنّـانا رغـم الهُـوْة السحـيقة بين طـبيعة الله وطـبيعـتنا المخـلوقة...
والمخـلوق يبـدأ فى الزمـن...
أى أنه يكـون غـير موجـود من قـبل ثم فى لحـظة معـيّنة من الزمـن يظهـر فى الوجـود...
ولذلك يكـون الابن البشرى فى البـدء دون أبيه، لأن أبـاه سبقـه فى الوجـود, واكتسب بنمـوّه ما لم يكتسبه الابن بعـد...
أمّا ابن الله فلم يكـن زمن لم يكن موجـودًا فيه...
النور صادر من الشمس, ولكن لا شمس بدون نور...
هكـذا الابن مولود من الآب ولكن لا آب بدون ابن...
وجـود الابن، إذًا، مـلازم لوجـود الآب...
كما أن النور مـلازم لوجـود الشمس ووجـود الفكـر مـلازم لوجـود العـقـل...
وبما أن الآب لا إبتـداء له...
أى أزلى لأنه أصـل كل شئ ولا أصـل له...
كـذلك الابن أزلى مـثله:" مولـود من الآب قـبل كلّ الدهـور"...
**********
* أسئلة :
1 ـ ما هى العـقـيدة التى يعـبّر عـنها الفصل الثانى من دستور الإيمان؟...
2 ـ من أنكـر هـذه العـقـيدة فى القـديم ومن ينكـرها فى أيامنا؟...
3 ـ ما معـنى " مساوٍ للآب فى الجـوهر"، " نور من نور"، " إله حق من إله حق"؟...
4 ـ ما الفـرق بين مولـود ومخـلوق؟...
5 ـ نحـن أبنـاء الله ويسوع المسيح ابن االله، فما الفرق بين بنوتنا وبنوته؟ ولماذا دّعـى هو بـ " ابن الله الوحـيد"؟...
6 ـ ما معـنى عـبارة " مولـود من الآب قـبل كل الدهـور"؟...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـ شهادات من الكتاب المقدّس
على ألوهة الابن
هـذا الإيمان بألوهـة الابن تسلمته الكنيسة من الرسل...
وقد عُـبّر عـنه فى الكـتاب المقدّس بآيات جـلية:
أ ـ فقد أطلق الكتاب المقدس على يسوع المسيح الأسماء الإلهية نفسها التى يطلقها على الله:
فمن ألقـاب الله فى العـهد القديم عـبارة " الأول والآخـر"...
مثـلاً:
[ أَنَا اَلرَّبُّ اَلأَوَّلُ وَمَعَ اَلآخِرِينَ أَنَا هُوَ ] [ أشعـياء 41: 4 ]...
وأيضـًا:
[ هَكَذَا يَقُولُ اَلرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ رَبُّ اَلْجُنُودِ: أَنَا اَلأَوَّلُ وَأَنَا اَلآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي ] [ أشعـياء 44: 6 ]...
ولكننا نـر سفر الرؤيا فى العـهد الجـديد يُطـلق اللقـب نفسه عـلى يسوع المسيح:
[ وَفِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقاً عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ.... فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ ] [ رؤيا 1: 13, 17, 18, ]...
من ألقـاب الله فى العـهد القـديم عـبارة " رب الأرباب"...
مثـلاً:
[ لأَنَّ اَلرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ إِلهُ اَلآلِهَةِ وَرَبُّ اَلأَرْبَابِ اَلإِلهُ اَلعَظِيمُ اَلجَبَّارُ اَلمَهِيبُ اَلذِي لا يَأْخُذُ بِالوُجُوهِ وَلا يَقْبَلُ رَشْوَةً ] [ تثنية 10: 17 ]...
ولكننا نرى أيضـًا سفر الرؤيا فى العـهد الجـديد يطـلق اللـقب عـينه عـلى يسوع المسيح:
[ هَـؤُلاَءِ سَيُحَـارِبُونَ اَلْحَـمَـلَ، وَاَلْحَـمَـلُ يَغْلِبُهُمْ ، لأَنَّهُ رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ اَلْمُلُوكِ، وَاَلَّذِينَ مَـعـَهُ مَـدْعُـوُّونَ وَمُخْـتَارُونَ وَمُؤْمِنُونَ ] [ رؤيا 17: 14 ]...
وأيضـًا:
[ وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ { كَلِمَةَ اللهِ }.
وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزّاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً.
وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: { مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ } ] [ رؤيا 19: 13 ـ 16 ]...
ب ـ وقد نسب الكتاب المقدس لابن الله الجوهر الإلهى نفسه:
[ فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً ] [ كولوسى 2: 9 ]...
أى فى جسد المسيح يحـل مـلء اللاهـوت...
وقـد تجـلّى ذلك الذى ألقـاه الرسول بولس عـلى رعـاة كنيسة أفسس قـبل معـادرته إيّـاهم:
[ اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ اَلرَّعِيَّةِ اَلَّتِي أَقَامَكُمُ اَلرُّوحُ اَلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ اَللهِ اَلَّتِي اِقْتَنَاهَا بِدَمِهِ ] [ أعـمال 20: 28 ]...
فـالدم الذى سُفك من أجـل الكنيسة, دم المسيح, يُدعى هـنا دم الله...
لأن الطـبيعـة الإلهـية مستقـرّة فى يسوع المسيح...
ج ـ وقد نسب له أيضًا الوحدة التامة مع الآب:
فقـد صـرّح الرب يسوع المسيح:
[ أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ ] [ يوحنا 10: 30 ]...
وأيضـًا:
[ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ ] [ يوحنا 14: 9 ]...
وأيضـًا مخـاطـبًا الآب:
[ وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ ] [ يوحنا 17: 10 ]...
د ـ أخـيرًا نسب الكتاب المقدس للابن الصفات والأعمال الإلهية:
1 ـ الأزلـية:
[ وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ اَلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17: 5 ]...
وأيضـًا:
[ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ ] [ يوحنا 8: 58 ]...
ولنـلاحظ كـيف لم يقـل " أنا وُجـدْت" بلّ " أنا كائن" للدلالة عـلى أمن وجـوده لا بـدء له...
**********
2 ـ السلطة التشريعـية:
قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ ] [ متى 5: 21, 22]...
وأيضـًا:
[ أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْـنَثْ بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمّـَا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلـِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّـمَاءِ لأَنَّهَا كُـرْسِيُّ اَلْلَّهِ ] [ متى 5: 33, 34 ]...
هـنا يضع يسوع سلطـته التشريعـية بمـنزلة سلطة الله...
فيوضّح ويكمّـل بسلطـته الخاصة الشريعة التى كـان الله نفسه قـد أعـطاها قـديمًا بواسطة موسى النى:
[ ثُمَّ قَالَ اَلرَّبُّ لِمُوسَى: ادْخُلْ إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنِّي أَغْلَظْتُ قَلْبَهُ وَقُلُوبَ عَبِيدِهِ لأَصْنَعَ آيَاتِي هَذِهِ بَيْنَهُمْ... فَقَالَ عَبِيدُ فِرْعَوْنَ لَهُ: إِلَى مَتَى يَكُونُ هَذَا لَنَا فَخّاً؟ أَطْلِقِ اَ\لرِّجَالَ لِيَعْبُدُوا اَلرَّبَّ إِلَهَهُمْ. أَلَمْ تَعْلَمْ بَعْدُ أَنَّ مِصْرَ قَدْ خَرِبَتْ؟... فَمَدَّ مُوسَى عَصَاهُ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ فَجَلَبَ اَلرَّبُّ عَلَى اَلأَرْضِ رِيحاً شَرْقِيَّةً كُلَّ ذَلِكَ اَلنَّهَارِ وَكُلَّ اَللَّيْلِ. وَلَمَّا كَانَ اَلصَّبَاحُ حَمَلَتِ اَلرِّيحُ اَلشَّرْقِيَّةُ اَلْجَرَادَ ] [ خروج 10: 1, 7, 13 ]...
وهـذا يشير إلى أن ليسوع كلّ السلطة الإلهية...
**********
3 ـ السلطة عـلى غفران الخطايا:
هـذه السلطة يملكها الله وحـده...
لأن كلّ خطـيئة مخـالفة لله ولذلك لا يستطيع سوى الله أن يغـفـرها...
لذلك كان اليهود عـلى حـق عـندما قالوا:
[ فَابْتَدَأَ اَلْكَتَبَةُ وَاَلْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: { مَنْ هَذَا اَلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اَللهُ وَحْدَهُ؟ }] [ لوقا 5: 21 ]...
ولكن يسوع برهـن عـن لاهـوته بممارسته الحـق الإلهى فى غـفـران الخطايا:
[ وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ اَلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى اَلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ اَلْخَطَايَا ـ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاِحْمِلْ فِرَاشَكَ وَاِذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ ] [ لوقا 5 : 24 ]...
**********
4 ـ السلطة الإلهية عـلى الحـياة والموت:
فى العـهد القـديم أقـام إيليا ابن الأرمـلة وأقـام أليشع أيضـًا ولـدًا، ولكنهما فعـلا ذلك بقـوة الله التى استمدّاها بصـلاة وتضـرّع...
فقد ورد فى سفر الملوك:
[ فَتَمَدَّدَ عَلَى اَلْوَلَدِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَصَرَخَ إِلَى اَلرَّبِّ: يَا رَبُّ إِلَهِي، لِتَرْجِعْ نَفْسُ هَذَا اَلْوَلَدِ إِلَى جَوْفِهِ. فَسَمِعَ اَلرَّبُّ لِصَوْتِ إِيلِيَّا، فَرَجَعَتْ نَفْسُ اَلْوَلَدِ إِلَى جَوْفِهِ فَعَاشَ ] [ 1 ملوك 17: 21, 22 ]...
أمّا يسوع فقد كانت له فى ذاتـه تلك السلطـة المطـلقـة عـلى الحـياة والموت التى يملكها الله وحـده...
لذلك قـال:
[ لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ ] [ يوحنا 5 : 21 ]...
لذلك نـراه يقـيم المـوتى بلهجة الأمـر الذى يملك فى ذاته سلطة إقـامتهم ولا يستمدّها من غـيره...
فعـندما أقـام ابن أرمـلة نـايين قـال:
[ ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ اَلنَّعْشَ فَوَقَفَ اَلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: { أَيُّهَا اَلشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ }. فَجَلَسَ اَلْمَيْتُ وَاِبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ] [ لوقا 7: 14, 15 ]...
كذلك عـندما أقـام ابنة يايروس:
[ فَأَخْرَجَ اَلْجَمِيعَ خَارِجاً وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً: { يَا صَبِيَّةُ قُومِي }. فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي اَلْحَالِ. فَأَمَرَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ ] [ لوقا 8: 54, 55 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أسئلة:
1 ـ هل أطلق الكـتاب المقـدّس الأسماء نفسها عـلىالله وعـلى يسوع المسيح؟ [ أنظـر أشعياء 44: 6 ورؤيا 1: 13, 17, 18 وتثنية 10: 17, ورؤيا 19: 13 ـ 16 ورؤيا 17: 14]...
2 ـ هل نسب الكـتاب المقدس لابن الله الجوهر الإلهى نفسه؟ [ انظر كولوسى 2: 9 وأعمال الرسل 20: 28 ]...
3 ـ هل نسب الكـتاب المقدس للابن الصفات والأعمال الإلهية؟
الأزلية: انظر يوحنا 17: 5, يوحنا 8: 58...
السلطة التشريعية الإلهية: أنظر متى 5: 21, 22 و متى 5: 33, 34 و قابل مع خروج 20: 1, 7, 13 ...
السلطة عـلى غـفران الخطايا: انظر لوقا 5: 25...
السلطة الإلهية عـلى الحياة والموت: أنظر يوحنا 5: 21 و لوقا 7: 14 و لوقا 8: 54 و قابل مع الملوك الأول 17: 21 ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق
لقد أعـلن يسوع بوضوح عـن ألوهـيته ليس بالكـلام وحسب ولكن بتصرفاته خاصة, تلك التصرفات التى كانت تظهر أنه ينسب لنفسه سلطة إلهية, هـذا ما يبدو مثلاً فى موقفه من الشريعة الموسوية, تلك الشريعة التى كان الله مصدرها, وقد كتب بهذا الصـدد الأب جان دانيالو عـميد كلية اللاهوت الكاثوليكى فى باريس فى كتاب صـدر له:
{ عـندما يقـول المسيح: أن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا, يقول الفـريسيون:
هـذا الإنسان يجـدّف. وهم ( من وجهة نظـرهم ) محـقـون, لأن السبت أقـيم من الله. إذًا الله وحـده رب السبت.
{ كـثيرًا ما رويت ... ذلك الحـديث ( النمـوذجى ) الذى جـرى لى مع حاخام قال لى يومـًا: يا أبت, هناك أمـر نلـوم المسيح عـليه, هـو أنـه مسّ الشريعـة, لأن الشريعـة وضعـها يهـوه عـلى جـبل سينا, والله وحـده يستطيع أن يعـدّل ما وضـعه الله...
{ فأجـبته: يا سيدى الحاخام, لم يكـن بوسعك أن تقـول ما يسرّنى أكـثر من أقتوالك هـذه, لأنـه أمـر أكـيد أن يسوع عـدّل الناموس, وهـذا يعـنى بالفـعـل, ولا يمكن أن يعـنى سوى أمـر واحـد, وهـو أنـه, إن كان الله وحـده, كما قـلت وكما قـلت بحق, يستطيع ان يعـدّل ما وضعـه الله, فهـذا يعـنى أن يسوع كان يعـترف لنفسه بسلطة مساوية لسلطة ذاك الذى وضـع الشريعـة, أى يهـوه عـلى جبل سينا, هـذا ما كان اليهـود تمامـًا ولا يزالون يفهمونه تمامـًا}...
لا يمكن لإنسان أن ينسب ألوهـة لنفسه إن لم يكن مخـتلاً أو مخـادعًـا. ولكن البشر المخلصين, أيًا كان معـتقـدهم, يجـلّون يسوع عـن هاتين الصفـتين. إن شخصيته الفـذة تـلاقى إجـلالاً ليس من المسيحيين وحسب بل من غـير المسيحيين أيضـًا من مسلمين ويهود وهندوسيين وملحـدين. هـذا ما يوضحه الكاتب المذكـور آنفـًا:
{ ... كل الناس دون إستثناء متفقون لـيروا فى يسوع, بأدنى حـدّ, إحـدى الشخصيات الأكـثر سموًا فى التاريخ البشرى. وأقـول كلّ الناس, لأن هـذا الأمـر يتفق عـليه ليس المسيحيون وحسب بلّ الآخـرون أيضـًا. إقـرأوا الكتب التى كتبها عـن يسوع يهـود كـ " أدمون فلاج " و " روبير آرون" و " جول إسحق" و " شالوم آش" ... إنهم يرون فيه أحـد التعـابير الأكـثر سموًا عـن شعـب إسرائيل.
{ وها هـو هم المسلمون, فيسوع, عيسى, يشغـل فى القـرآن مكانة كـبرى, وكان محمتد يرى فى يسوع أعـظم الأنبياء...
{ وها هم الهنود: كان " غـاندى" و " أوروبيندى" يريـان فى العـظة عـلى الجـبل أعـلى قمة فى الدين البشرى...
{ ومعظم الملحـدين, كالاشتراكى " بربوس" والوجـودى " جانسون" والماركسى " جارودى" يعـترفون بأن يسوع عـلى الصعـيد البشرى, عظمة ينحـنون أمامها}...
هكـذا لا بـدّ من طـرح السؤال:
إذا كان يسوع قـد نسب لنفسه الألـوهة بوضـوح, من جهـة, وإذا كان ـ بشهادة غـير المسيحيين أنفسهم ـ شخصية فـذّة تُجـلّ عـن المخـادعة أو الاخـتلال العـقـلى, أفـلا يعـنى ذلك أن شهـادته عـن نفسه يجب أن تُصـدّق؟...
هـذا السؤال الذى لا بـدّ لكلّ إنسان مخلص أن يطـرحه عـلى نفسه...
يجيب عـنه المسيحيون بالإيمـان بالمسيح إلهـًا متـأنسـًا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الخامس
=========
التجسّـد
------------
" ..الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا, نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن العذراء مريم وتأنس..."
أولاً: غـاية التجسد
بالخطيئة كما رأينا, انفصـل الإنسان عـن الله وغـدا مهمشًا طريحًا غـير قادر أن ينهض نفسه من الهـوة التى سقط فيها...
لم يكن بإمكانه أن يرتفع إلى الله ولذلك فقد شاء الله فى محـبته أن ينحـدر بنفسه إلى الإنسان ليعـيد الشركة بين الإنسان وبينه...
إن الله أحـبّ الإنسان " حـبًا جنونيًا" عـلى حـدّ تعـبير اللاهـوتى " نقـولا كباسيلاس" , حتى أنه وهـو الكائن الأبـدى, الخالق, ذو السعـادة المطلقة, لم يترك وشأنه ذاك الإنسان الذى رفضه إخـتياريـًا بلّ إنحـدر إليه ساعـيًا فى طـلبه...
كما سعـى الراعـى الذى تكلّم عـنه الرب يسوع وراء الخـروف الضال [ لوقا 15: 1ـ 7 ]...
غـير مكتفٍ بالملائكة كما لم يكتف ذل الراعـى بالتسعة والتسعـين خـورفًا التى لم تضلّ...
بالتجسّد أخـذ الله طـبيعـتنا البشرية المنحطـّة, الساقطة, واتحـدت مع لاهـوته اتحـادًا فائق الوصف...
ليداوى الله بالتجسّد النزيف الروحى الذى هـو الخطيئة الأصـلية...
بالتجسّد بث الله حـياته فى الإنسان المريض, ليعـيد إليه القـوة الروحية التى خارت والجمال الذى تشوّه...
بالتجسد اتحـد الله ذاته بالإنسان لتسرى فى الإنسان حـياة الله ...
لقـد رأينا ان الإنسان سقط لكونه أراد أن يجعـل نفسه إلهـًا دون الله, بالاستغـناء عـن الله...
لقـد كان يتوق إلى التألّـه ولكنه ضلّ الطـريق إذ اعـتقـد أن التألّـه يتم بانتفاخ الأنـا...
فالله لم يخلق الإنسان ليكون له عـبدًا بل شريكًا فى حياته الإلهية...
ولكن هذه الشركة فى الطبيعة الإلهية لم يكن ممكنًا بمعـزل عـن الله بلّ كان مشرطًا باتحـاد الإنسان بالله...
لأن من الله, ومن الله وحـده, يستمد الإنسان كل موهبة وقـوة وحـياة...
خارج الله ليس سوى العـدم والفـراغ والمـوت...
ولكـن الإنسان استمع على خـداع الشرير فطمع بالتألّـه دون الله, فلم يبلغ مأربه بل انحطّ من مستواه الإنسانى الأصـيل وأخضع طبيعـته للمـوت...
لقـد كانت وعـود الشيطان كاذبة, لقـد قال عـنه يسوع أنه " كَـذَّاب وَأَبُواَلْكَـذِب " [ يوحنا 8: 44 ], عـندما اعـلن للإنسان أنه بمخالفة الله يصـير إلهـًا...
تلك الوعـود البراقـة كانت وهمـًا وخـداعـًا ولكن مل لم يستطع الإنسان أن يحققه عـندما تشامخ حققه له الله عـندما نزل إليه...
وحتى لا يتششت القارئ فى معنى أن الإنسان تألّه بالتجسد؟...
هـذا لا يعـنى أننا أصبحـنا آلهة بالطبيعة, فإننا مازلنا مخلوقات...
ولكن التألّـه يعـنى أن حـياة الله قـد أُعْطيت لنا فصـرنا مشاركين له فى محبته, فى مجده, فى قـوته, فى فـرحه, فى حكمته, فى قـداسته, فى خلوده...
لم ولن نبلغ جوهـر أو لاهـوت الله لأنه دائمًا متعـالٍ لا يمكن الوصول إليه, ولكن القـوى الإلهية أعْطيت لنا وأصبحت فى متناولنا...
هـذا ما اوضحه بنوع خاص القـديس " غـريغوريوس بالاماس" وثبتته المجامع الأرثوذكسية...
بهـذا المعنى ينبغى أن نفهم كلمة الرسول بطـرس:
[ كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ،
اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ.
وَلِهَذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً،
وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى،
وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً ] [ 2 بطرس 1: 3 ـ 7 ]...
ثانيًا: تهيئة التجسد
التجسد إذًا مبادرة محبة مجانية من الله نحو الإنسان الذى ابتعـد عـنه ورفضه بإختـياره:
[ وَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ مَحَبَّتَهُ لَنَا إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الأَوْحَدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لاَ مَحَبَّتَنَا نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا ] [ 1يوحنا 4: 9, 10 ]...
ولكن محبّة الله لا تُفـرض فرضـًا..
ولذا كان عـلى الإنسان أن يتقـبّل مبادرة الحب الإلهى هـذه...
من أجل هـذا اهتم الله بمحة أبوية أن يهيئ البشر تدريجـيًا إلى إقـتبال التجسد وكان عـمله شبيهًا بعـمل المربّى الحكيم الذى يهيئ للطفل الظروف المؤاتية كى يرقى مراحل النمو الواحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى البلوغ...
وقـد ظهـرت هـذه التربية الإلهية لحـرية الإنسان خاصة فى الشعـب الإسرائيلى الذى بقى وحـده بين الشعوب أمينًا لله رغم خطاياه الكثيرة...
ففيه خاصة هيأ الله البشر إلى إقتبال التجسد حتى إذا تم يحمل أفراد من هذا الشعـب بشارته إلى العـالم أجمع...
وقـد اتخـذت هـذه التهيئة وجـوهًا مختلفة منها:
* الناموس:
وهو مجموعة شرائع أعـطيت إلى الشعب الإسرائيلى بوحى من الله...
وقد قال عـنه الرسول بولس:
[ إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ ] [ غـلاطية 3: 24 ]...
والمؤدب كان عـند اليونان عـبدًا موكولاً إليه أن يصحب الأولاد المؤتمن عـليهم ويسهر عـليهم وياقنهم ميادئ المعـرفة ليتمكنوا فيما بعـد من استماع دروس يلقيها معلّم شهير...
تلك كانت وظيفة الناموس بالنسبة إلى اليهود...
فالوصايا العـشر مثلاَ كانت غايتها تهـذيب أخـلاق الناس كى يُعـَدّوا للدخـول فى ملكوت المحـبة...
أمّا الذبائح التى كان يفـرضها الناموس للتكـفير عـن الخطايا فقد كانت رمـزًا يشير إلى الذبيحة الحقيقية الواحدة وهى موت يسوع المسيح عـلى الصليب...
* الحوادث التاريخية:
وقد كانت حوادث تاريخ الشعب اليهودى ترمـز إلى حـوادث الخـلاص وتُعـدّ الشعـب لإقتـبال التجسّد...
فيوسف الذى باعـه أخـوته حسدًا وصار كما قال الكتاب عـنه " مخلّص العالم" أثناء المجاعة التى حصلت, كان رمـزًا للمسيح الذى أُسْـلِمَ حسدًا من اليهـود أخوته بالجسد إلى الرومانيين لكى يميتوه صلبًا فصار بالمعـنى الكامل " مخلّص العالم"...
مطعمـًا الناس ليس خـبزًا ماديًا كما فعـل يوسف بل الخـبز السماوى الذى هـو جسده...
كذلك خـلاص الشعب الإسرائيلى من عـبودية فـرعـون عـلى يد موسى ودخـوله فى أرض الميعـاد عـلى يد يشوع الذى هـو اسم يسوع بالذات ومعـناه " الله يخلّص", كان رمـزًا لخـلاص المؤمنين من عـبودية الشيطان بتجسّد المسيح وموته وقيامته ودخـولهم إلى ملكوت الله...
* الأنبياء
كذلك أرسل الله أنبياء إلى شعـبه عـلى مـرّ الأجـيال لتهيئته لإقـتبال التجسّد...
والنبى كما يدلّ إسمه كانت مهمته أن ينبئ بإرادة الله أى أن يعـلنها بقـوة داعـيًا البشر إلى تقـويم ما إعـوج من سيرتهم وإلى الرجـوع إلى الله...
هـؤلاء الأنبياء أعـدّوا الشعـب اليهودى لإقـتبال التجسّد:
1 ـ لأنهم كانوا يحـرّكون الضمائر النائمة المتحجّـرة وقـولون جهـرًا للناس أن تتميم الشريعـة فى الظاهـر لا يهم, إنما المهم تغـيير القلب وإعـطائه لله, وهكـذا يمهـدون طـريق الله الآتى إلى العـالم...
2 ـ لأنهم كانوا يشيرون, بإلهام إلهى, إلى تجسّد ابن الله وإلى أعـمال الخـلاص التى سوف يقـوم بها فى أرضنا...
هكـذا تحـدّث النبى أشعـياء الذى عـاش فى القـرن الثامن قـبل الميلاد عـن البيت الذى يولـد فيه المسيح, فقال أن سيكون من نسل داود:
[ وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ ] [ أشعـياء 11: 1, 2 ]...
وأعـلن النبى نفسه أنه يولد من عـذراء:
[ وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ اَلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا اَلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ اِبْناً وَتَدْعُو اِسْمَهُ {عِمَّانُوئِيلَ} ] [ أشعـياء 7: 14 ]...
وتنبّـأ النبى ميخـا الذى عـاش خو أيضًا فى القـرن الثامن قـبل الميلاد عـن مكان ولادة المخلّص, فقال:
[ أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي اَلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ اَلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ اَلأَزَلِ ] [ ميخا 5: 2 ]...
وتحـدّث أشعـياء عـن رسالة المخلّص قائلاً:
[ رُوحُ اَلسَّيِّدِ اَلرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ اَلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ اَلْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي اَلْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ وَبِيَوْمِ اِنْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ اَلنَّائِحِينَ ] [ أشعـياء 61: 1, 2 ]...
كذلك أعـلن أشعـياء عـن الآلام التى سوف يتحمّـلها المخلّص من أجـل خطايا الناس:
[ وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى اَلذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ ] [ أشعـياء 53: 5 ـ 7 ]...
ثالثًا: التجسّد فى كتابات
القديس كيرلّس الكبير
( الرد عـلى من يظنون أن المسيح مجرّد إنسان أخـذ قـوة من الله )
1 ـ مفهـوم كلمة " صـار" فى عـبارة " والكلمة صـار جسدًا":
يقـول القديس كيرلس عـن الهـراطقة إنهم يظنون أن كلمة " صـار" تعـنى معـنى واحـدًا فقط وهـو التغـيّر والتحـوّل ويؤيـدون شرحهم ببراهـين من الكتب المـوحى بها...
[ وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً ] [ يوحنا 1: 14 ]...
فقـد قـيل عـن زوجـة لوط:
[ َنَظَرَتِ اِمْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ! ] [ تكوين 19: 26 ]...
وقيل عـن عـصا موسى:
[ ... فَطَرَحَهَا إِلَى اَلأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً... ] [ خروج 4: 3 ]...
ولكن القديس كيرلّس يقـول: إن إفـتراض التغـيّر لمعـنى كلمة " صـار" لا ينطبق عـلى الله, والإدعـاء بالتغـيّر فى طبيعة الله هـو جهـل وكفـر...
يقـول الرسول بولس:
[ لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ ] [ فيليبى 2: 7 ]...
الكلمة الابن الوحـيد الذى وُلـد من الله الآب الذى هـو بهـاء مجـده ورسم جوهـره ( أقـومنه ):
[ الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، ] [ عبرانيين 1: 3 ]...
هـو الذى صـار جسدًا دون أن يتحوّل إلى جسد...
إى بلا إمتزاج أو اختلاط أو أى شئ آخـر من هـذا القبيل بلّ, أخـلى ذاته, وجاء إلى فقرنا, فجعل جسد البشر جسده وبنفس إنسانية عاقلة...
ولذلك قـيل عـنه أنه وُلِد دون أن يفقد ما يخصّه...
فولد كإنسان بطريقة معـجزية من إمـرأة...
ولأنه إصـلاً إله قـيل عـنه أنه:
[ وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ ] [ فيليبى 2: 8 ]...
فالله الذى ظهـر فى شكلنا وصـار فى صـورة عـبد هـو الرب وهتذا ما نعـنيه أنه صـار جسدًا...
ويؤكّـد القديس كيرلس أن كلمة " صـار" هنا تعـنى أن الكلمة فعلاً تجسّد, وليس كما يظن البعض من الهـراطقة أن الكلمة قام بأعـمال عـملها فى الجسد...
إن كلمة " صـار" تحتوى عـلى الحقائق الخاصة بالتجسّد, وكل ما حـدث له تدبـيرًا عـندما أخـلى ذاته إراديًـا قَـبِلَ الجوع والتعب...
وكان من المستحيل أن يتعب وهـو كلّى القـدرة ولا يمكن أن يجوع وهـو طعـام الكلّ وحياتهم لو لم يكن قـد أخـذ جسدًا بشريًا ومن طـبيعـته أن يجوع ويتعـب...
وكذلك من المستحيل أن يُحصى مع أثمة لو لم يكن قـد صـار لعـنه لأجـلنا...
وعـندما تأنّس وصـار جسدًا وولـد مثلنا كإنسان من العذراء القديسة مريـم...
2ـ ما معنى كلمة " المسيح"؟
ليس للفظ " المسيح" قـوة تعـريف ولا يوضّح جوهـر شئ ما, كما أن كلمة " رجـل" أو" حصان" أسماء لا توضّح شيئًا عـن جوهـر حاملها بل تشير إليهم فقط, واسم " المسيح" يعـلن عـن شئ سوف نفحصه....
فى القـديم حُسب مسرة الله مسح البعـض بالزيت, وكانت المسحة عـلامة لهم عـلى المملكة...
الأنبياء أيضـًا مُسِحوا روحـيًا بالروح القدس, ولذلك دعـوا مسحاء...
لأن داود النبى ينشد معـبّرًا عـن الله نفسه فيقـول:
[ لاَ تَمَسُّوا مُسَحَائِي وَلاَ تُسِيئُوا إِلَى أَنْبِيَائِي ] [ مزمور 105: 15]...
وحبقـوق النبى يقـول ايضًا:
[ خَرَجْتَ لِخَلاَصِ شَعْبِكَ لِخَلاَصِ مَسِيحِكَ ] [ حبقـوق 3: 13 ]...
لكن بالنسبة للمسيح مخلّص الكـلّ, فقد مُسح, ليس بصـورة رمـزية مثل الذين مُسحوا بالزيت, ولم يُمسح لكى ينال نعمة وظيفة النبى, ولا مُسح مثل الذين اخـتارهم الله لتنفـيذ تدبـيره, أى مثل قـورش الذى ملك عـلى الفارسين والماديين وقـاد جيشًا ليستولى عـلى أرض البابليين حسبما حـرّكه الله ضابط الكـلّ ولذلك قـيل عـنه:
[ هَكَذَا يَقُولُ اَلرَّبُّ لِمَسِيحِهِ لِكُـورَشَ اَلـَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَماً وَأَحْـقَاءَ مُلُوكٍ أَحُـلُّ. لأَفـْتَحَ أَمَامَهُ اَلْمِصْرَاعَيْنِ وَاَلأَبـْوَابُ لاَ تُغْلَقُ ] [ أشعـياء 45: 1 ]...
ولا يجب أن ننسى أن الرجـل " قـورش" كان وثنيـًا إلا أنه دُعى " مسيحـًا" كما لو كان الأمـر السمائى قـد مسحه ملكـًا, لأنه بسبق معـرفة الله قـد مال قـوة لقهـر بـلاد البابليين...
إن ما نريد أن نقـوله بخصوص معـنى كلمة " المسيح" هو ما سيأتى:
بسبب تعـدّى آدم [ لَكِنْ قَدْ مَلَكَ اَلْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى وَذَلِكَ عَلَى اَلَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ اَلَّذِي هُوَ مِثَالُ اَلآتِي ] [ رومية 5: 14 ]...
وفارق الروح القدس الطبيعـة البشرية التى صارت مريضة فى كل البشر...
ولكى تعـود الطبيعـة البشرية من جـديد إلى حـالتها الأولى احـتاجت إلى رحمة الله, لكى تُحسب بموجب رحمة الله مستحقة الروح القدس...
لذلك صـار الابن الوحـيد كلمة الله إنسانـًا...
وظهـر للذين عـلى الأرض بجسد من الأرض ولكنه خالى من الخطيئة...
حتى فيه وحـده تتوج الطبيعة البشرية بمجـد عـدم الخطيئة, وتغتنى بالروح القدس, وتتجـدّد بالعـودة إلى الله بالقـداسة...
لأنه هكـذا تصل إلينا النعمة التى بدايتها المسيح البكـر بيننا....
ولهـذا السبب يعـلّمنا داود النبى المبارك أن نرتّـل للابن:
[ أَحْبَبْتَ اَلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ اَلإِثْمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اَللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ اَلاِبْتِهَاجِ ] [ مزمور 45: 7 ]...
فكـان الابن قـد مُسح كإنسان بمـديح عـدم الخطـيئة...
وكما قلت أن الطبيعة البشرية قـد مُجّـدَت فيه وصارت مستحقة للحصـول عـلى الروح القـدس الذى لن يفارقها كما حـدث فى البـدء, بل صارت مسرّته ( أى الروح القدس ) أن يسكن فينا...
لذلك أيضـًا كُتب أن الروح حـل بسرعـة ( معـنى حـلول الروح القدس بشكل حمامة أى الطيران السريع عـلامة الشوق ) عـلى المسيح واستقـرّ عـليه:
[ وَشَهِدَ يُوحَنَّا: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. ] [ يوحنا 1: 32 , 33]...
فالمسيح هـو كلمة الله الذى لأجـلنا صـار إنسانًا مثلنا, وفى صـورة العـبد, ومُسح كإنسان حسب الجسد, ولكنه كإله يمسح بروحه الذين يؤمنون به...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 ـ كيف يجب أن نفهم " عمانوئيل"؟
الله الكلمة دُعى " عـمانوئيل" لأنه [... بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ ] [ عـبرانيين 2: 16 ] ....
كلمة أمسك تعنى أنه ليس مجرد اتخاذ الجسد البشرى, بل أن يُحسب مثل الناس لأنه صـار ضمن الناس...
ومثلنا, [ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْـمِ وَالـدَّمِ اشْتَرَكَ هُـوَ أَيْضـاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَـوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَـانُ الْمَـوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...
وعـمائيل تعـنى " الله معـنا" أو بالتدقـيق" معنا الله" حسبما يظهـر من أصـلها العـبرانى, إذ تأتى كلمة " معـنا" قـبل كلمة " إيـل"...
ونحن نعـترف بأن الكلمة الله هو معـنا...
دون أن يكـون محصـورًا فى مكان ما...
لأنه أى مكان لا يوجد فيه الله الذى يملأ كل الأشياء؟!...
وهو ليس معنا كما لو كان قد جاء لمساعـدتنا مثلما قـيل ليشوع :
[ لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ. لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ ] [ يشوع 1: 5 ]...
ولكنه معـنا لأنه صار مثلنا أى أخـذ طبيعة بشرية دون أن يفقـد طبيعـته الإلهية لأن كلمة الله غـير متغـيّر بطيعـته...
ولماذا لَمْ يُدْع الله " عـمانوئيل" رغـم أنه قـيل ليشوع " كما كنت مع موسى سأكون معـك"؟...
ولَمْ يـُدْع الله " عـمانوئيل" رغـم أنه كان مع كل القديسين والآباء البطاركة؟...
والسبب هـو أن الله الكلمة أصبح معـنا فى الوقت الذى تحـدّث عـه باروخ هـو أظهـر ذاته عـلى الأرض. وتحـدّث مع الناس, وأسّس كل طرق التعـليم, وأعـطاه ليعـقوب عـبده ولإسرائيل حبيبه, لأنه هو إلهنا وليس آخـر سواه:
[ دَعَاهَا فَقَالَتْ نَحْنُ لَدَيْكَ وَ أَشْرَقَتْ مُتَهَلَّلَةً لِلَّذِي صَنَعَهَا. هَذَا هُوَ إِلَهُنَا وَ لا يَعْتَبِرْ حِذَاءَه آَخَرٌ. هُوَ وَجَدَ طَرِيْقَ اَلْتَأَدُّبِ بِكَمَالِهِ وَ جَعَلَهُ لِيَعْقُوبِ عَبْدَهُ وَ لإِسْرَائِيلِ حَبِيبَه. وَ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَاءَى عَلَى الأَرْضِ وَ تَرَدَّدَ بَيْنَ اَلْبَشَرِ ] [ باروخ 3: 35 ـ 38 ]...
وكما يليق بطبيعـته الإلهية لم يكن " معـنا" بالمعـنى الذى تحـدّث عـنه باروخ...
لأن الفـروق بين اللاهـوت والناسوت لا تسمح بالمقارنة بينهما فما أعظم الفـرق بين الطبيعـتين...
يشرح القديس كيرلس الكبير " عـمانوئيل" عـلى أنه اسم الله عـندما صـار معـنا بالجسد, لأنه معـنا منذ بداية العـالم ولكنه أصبح معـنا عـلى نحـو جـديد فريـد, لذلك وضع كـيرلس هـذه العـبارة لكى يدعّـم معـنى " الله معـنا"...
ولذلك يتكلم داود النبى عـن العـلاقة السرّية التى كانت قـبل التجسّد, وبين الله الكلمة, وبيننا, ويقـول بالـروح:
[ يَا رَبُّ لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيداً؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ اَلضِّيقِ؟ ] [ مزمور 10: 1 ]...
أمّـا الآن فهـو لا يتركـنا, بلّ هـو معـنا عـندما صار مثلنا دون أن يفـقـد ما له لأنه أمسك بنسل إبراهيم كما قلت, بل أخـذ صـورة العـبد ورآه البشر كإنسان يمشى عـلى الأرض...
إن عـمانوئيل والمسيح يخصـّان الابن الواحـد نفسه...
فهـو المسيح لأنه مُسِح مثلنا كبشر, وأخـذ الروح البشرية لأنه الأول وبداية الجنس البشرى الجـديد...
وبالمثل, هـو نفسه كإله يَمْسَح بالروح القـدس كل الذين يؤمنون به...
وهو " عـمانوئيل" لأنه صار معـنا عـلى النحـو الذى شرحـته...
والذى يخـبرنا به أشعـياء النبى:
[ وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ اَلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا اَلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ اِبْناً وَتَدْعُو اِسْمَهُ {عِمَّانُوئِيلَ} ] [ أشعـياء 7: 14 ]...
لأن العـذراء القديسة مريم حبلت بالروح القدس وولدت حسب الجسد ابنـًا, عـند ذلك فقط, دُعى المولود " عـمانوئيل" ...
لأن غـير المتجسد أصبح معـنا عـندما وُلِد...
وقـد حـدث ذلك طبقـًا لما ذكـره داود:
[ مِنْ صِهْيَوْنَ كَمَالِ اَلْجَمَالِ اَللهُ أَشْرَقَ. يَأْتِي إِلَهُنَا وَلاَ يَصْمُتُ. نَارٌ قُدَّامَهُ تَأْكُلُ وَحَوْلَهُ عَاصِفٌ جِدّاً ] [ مزمور50: 2, 3 ]...
وهو ما أشار إليه أشعـياء:
[ لِذَلِكَ يَعْرِفُ شَعْبِيَ اِسْمِي. لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ اَلْمُتَكَلِّمُ . هَئَنَذَا ] [ أشعـياء 52: 6 ]...
لأن الكلمة قـبل أن يتجسّد تحـدّث من خـلال الأنبياء, ولكنه فى مِلء الزمان صار معـنا متجسّدًا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ـ من هو يسوع؟
إن تتابع تأملنا يلزمنا أن نتحـدّث عـن الواحـد ابن الله, فالمسيح وعـمانوئيل ويسوع شخص واحـد...
والاسم " يسوع" جاء من الحقيقة:
[ فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ ] [ متى 1: 22 ]...
لأنه كما أن الاسم " عـمانوئيل" يعـنى أن كلمة الله بسبب ميلاده من العـذراء صار معـنا...
والمسيح دُعـى كذلك لأنه مُسِحَ مثلنا كبشر...
هكـذا أيضـًا يسوع, لأنه خَـلّصنا نحن شعـبه...
وهـذا الاسم يوضّح أنه الله بالحقيقة, ورب الطبيعـة...
لأنه لا يليق أن تكون الخليقة ملك للإنسان, بل من اللائق أن نقول أن كل الأشياء هى للابن الوحـيد حتى وهـو فى الجسد...
وربّما إعـترض البعـض وقال أن شعـب إسرائيل دُعِى شعـب موسى...
وعـلى هـذا نجيب أن شعـب إسرائيل دُعِى شعـب الله وهـذا حقيقى...
ولكن عـندما تمرّدوا عـلى الله وصنعـوا العـجل فى البرية, حُرِموا من كـرامة الانتساب لله, ورفـض أن يدعـوهم شعـبه بلّ تركهم لرعـاية البشر...
وهـذا لا ينطـبق عـلينا نحن خاصة يسوع, لأنه الله الذى به خلقت كل الأشياء...
وعـن هـذا يقـول داود النبى:
[ اعْلَمُوا أَنَّ اَلرَّبَّ هُوَ اَللهُ. هُوَ صَنَعَنَا وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ ] [ مزمور 100: 3 ]...
وهـو ( أى المسيح ) يقـول عـنا:
[ وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِـنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِـنْ خِـرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْـ. خِـرَافِي تَسْمَعُ صَـوْتِي وَأَنَا أَعْـرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي ] [ يوحنا 10: 26, 27 ]...
وهـو أيضًا أوصى بطـرس الرسول:
[ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي... اِرْعَ خِرَافِي ] [ يوحنا 21: 15 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 ـ لماذا دُعِى كلمة الله إنسانًا؟
الكلمة الذى من الله الآب ( أى المولود من الآب ) دُعِى إنسانـًا رغـم كـونه بالطبيعة الله...
لأنه اشترك فى الدم واللحم مثلنا [ عـبرانيين 2: 14]...
وهـذا جعـل الذين عـلى الأرض قـادرين عـلى مشاهـدته...
وعـندما حدث ذلك ( أى تجسّد ) لم يفقد شيئًا مما له ( أى ألوهيته )...
وإذ أخـذ طـبيعـة بشرية مثلنا ( أى مثل طـبيعتنا ) لكنها كاملة ( أى بلا خطيئة ), ظـل أيضـًا الله وربّ الكـلّ, لأنه هو هكذا فعـلاً وبطـبيعته وبالحق مولود من الله الآب رغـم تجسده...
وهـذا ما يرينا إيّاه بوضوح كافٍ الحكيم بولس عـندما يقـول:
[ الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ ] [ 1 كورونثوس 15: 47 ]...
ورغـم أن العـذراء مريم ولدت الهيكـل ( شاع استخـدام كلمة " الهيكل" للدلالة عـلى ناسوت المسيح فى كل الكتابات المسيحية منذ العـهد الجـديد [ أَجَابَ يَسُوعُ: انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ . فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ , وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ.] [ راجع يوحنا 2: 19, 20 ] وهـو تعـبير هام يؤكـد أن ناسوت المسيح هـو مكان حلول الله ) المتّحـد بالكلمة إلا أن عـمانوئيل قـيل عـنه, وهـذا حق, " من السماء " لأنـه من فـوق, مولـود من جـوهـر الآب...
وإن كان قـد نزل إلينا عـندما صـار إنسانًا, إلا أنه من فوق...
وعـن هـذا شهد يوحنا:
[ اَلَّذِي يَأْتِي مِـنْ فَوْقُ هُـوَ فَوْقَ الْجَـمِيعِ وَالَّذِي مِـنَ الأَرْضِ هُـوَ أَرْضِـيٌّ وَمِـنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ . اَلَّذِي يَأْتِي مِـنَ السَّمَاءِ هُـوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ ] [ يوحنا 3: 31 ]...
والمسيح نفسه قال لشعب اليهود:
[ أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 8: 23 ]...
وأيضـًا:
[ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ ] [ يوحنا 3 : 13 ]...
ولذلك نقـول أن ابن الإنسان نزل من السماء وهـذا تدبـير الاتحـاد ...
لأن الكلمة وهب لجسده كل صفات مجـده وكل ماهو فائق وخاص بالله...
( تتكرر كلمة " التدبير" فى هـذه المقـالة, وهى تعـنى أن هناك أمـورًا معينة قام بها المسيح مثل الجوع والعـطش والألم ...إلخ, وكل هـذه كانت جـزءًا أساسيًا فى خطة الخـلاص... أو كانت الخطة" التدبير" هى أن يكون للمسيح كل صفات الناسوت )...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6 ـ كيف قيل أن الكلمة أخلى أو أفرغ ذاته؟
إن الله الكلمة بطبيعـته كامل من كل الوجـوه, ومن مِلئه يوزّع عـطاياه للخـلائق...
ونحن نقـول عـنه أنه أفـرغ ذاته دون أن يمسّ هـذا بطـبيعـته...
لأنه عـندما أفـرغ ذاته لم يتغـيّر إلى طـبيعـة أخـرى...
ولم يصبح أقـل مما كان عـليه لأنه لم ينقـص شيئـًا...
هـو غـير متغـيّر مثل المولود منه ( أى الذى ولده الآب )...
ومثله تمامًا غـير عُـرضة للأهـواء...
ولكن عـندما صـار جسدًا ( أى إنسانًا ) جعـل فـقـر الطـبيعة الإنسانية فـقـره...
ولذا قـال:
[ وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى ] [ يوئيل 2: 28 ]...
ولقد تمّ هـذا:
أولاً: لأنه صار إنسانًا رغـم أنه ظلّ الله...
ثانيًا: أخـذ صـورة العـبد, وهو بطبيعـته حـر كابن. وفى نفس الوقت هـو نفسه رب المجـد, ولكنه قيل أنه تمجّـد لأجلنا. هـو نفسه الحـياة, ولكن قـيل عـنه أنه اُحْيى ( أى أقيم من الأموات ), وأُعـطى سلطانًا عـلى كل شئ, وهو نفسه ملك الأشياء مع الله الآب. أطاع الآب وتألّم وما إليه...
هـذه الأشياء تخص الطبيعة البشرية, ولكنه جعـلها له ( أى تخصه ) عـندما تجسّد لكى يكمّل التدبير ويبقى كما هـو...
وهـذا ما تقصـده الأسفار المقدّسة بإفـراغ الذات...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7 ـ كيف يكون المسيح واحدًا؟
يكتب بولس الرسول:
[ لأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى آلِهَةً سِوَاءٌ كَانَ فِي اَلسَّمَاءِ أَوْ عَلَى اَلأَرْضِ كَمَا يُوجَدُ آلِهَةٌ كَثِيرُونَ وَأَرْبَابٌ كَثِيرُونَ. لَكِنْ لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ: اَلآبُ اَلَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ اَلأَشْيَاءِ وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ اَلَّذِي بِهِ جَمِيعُ اَلأَشْيَاءِ وَنَحْنُ بِهِ] [ 1 كورونثوس 8: 5, 6 ]...
وأيضًا يقـول يوحنا الرسول عـن الله الكلمة:
[ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ ] [ يوحنا 1: 3 ]...
وجـبرائيل المبارك يعـلن البشارة المفـرحة للعـذراء القديسة قائلاً:
[ وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ اِبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ ] [ لوقا 1: 31 ]...
فبولس الرسول يعـلن أن كل الأشياء خلقت بيسوع المسيح, والإنجـيلى الإلهى يؤكد قـوة التعـبير نفسه ويبشر أنه هـو الله خالق كل الأشياء, وهـذا نطق حق ...
وصوت الملاك أيضًا يشير إلى أن يسوع المسيح ولد حقـًا من العـذراء القديسة...
ونحن لا نقول أن يسوع المسيح كان مجـرّد إنسان, ولا نعـتقـد بالله الكلمة بدون طبيعـته الإنسانية!!...
بل نقـول أنه واحـد من إثـنين أى الإله المتجسّد...
( راجع ثيؤتوكية الأحد حيث تردد الكنيسة وتقول: واحد من اثنين, لاهوت قدّوس بغـير فساد مساوٍ للآب وناسوت طاهر مساوٍ لنا كالتدبـير )...
هـو نفسه وُلِد إلهـيًا من الآب لأنه الكلمة وإنسانيًا من إمـرأة كإنسان...
وهـذا لا يعـنى أنه وُلِد مـرة ثانية عـندما قـيل أنه ولـد حسب الجسد...
فهـو مولود قـبل كل الدهـور...
وكما ذكـرنا قبلاً, كـثيرون قـد دُعـوا مسحاء ولكن يوجـد واحـد فقط يسوع المسيح الذى به خُلقت كل الأشياء...
وهـذا لا يعـنى بالمـرة أن إنسانًا صـار خـالق كل الأشياء...
بلّ يعـنى أن الله الكلمة الذى به خُلِقت كل الأشياء صـار مثلنا واشترك فى الدم واللحم, ودُعـى إنسانًا دون أن يفقد ماله ( أى ألوهيته )...
لأنه وإن كان قد صارجسدًا لكنه بالحقيقة خالق الكلّ...
( راجع التسابيح الكيهكية حيث نرتل ونقـول: فى حضن أبيه الممجّد. فلنسبحه كإله ونمدحه مع أمه كإنسان ... الإبصلمودية طبعة 1911 ص 91 . يا ليت الذين يتهموننا بالأوطاخية يخجلون )...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8 ـ كيف يكون عمانوئيل واحدًا؟
قـيل عـن الله الكلمة مـرة واحـدة وإلى الأبـد وفى آخـر الدهـور أنه صار إنسانًا كما يقـول الرسول بولس:
[ فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ اِنْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ ] [ عـبرانيين 9: 26 ]...
وما هـى هـذه الذبيحة؟...
هـى جسده الذى قـدمه كرائحـة بخـور ذكيّـة لله الآب...
فقد دخل مرة واحدة إلى القدس, ليس بدم ماعـز وتيوس بل بدمه ذاته:
[ وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً ] [ عـبرانيين 9: 12 ]...
وهكـذا حصل للذين يؤمنون به فـداءً أبـديًا...
وكـثيرون قبله كانوا قدّيسين ولكن ليس واحد منهم دُعى " عمانوئيل" . لماذا؟...
لأن الوقت لم يكن قد حان بعـد ليكون هو معـنا أى يجئ إلى طبيعـتنا عـندما يتجسّد لأنه أسمى من كل المخلوقات...
واحـد إذًا هو " عـمانوئيل" لأنه هـو الابن الوحـيد الذى صار إنسانًا عـندما وُلد جسديًا من العـذراء القديسة...
لقد قال الله ليشوع " سأكون معك" ( يشوع 1: 5 ) ولكن الله لم يُـدْع فى ذلك الوقت " عمانوئيل"
وكان قـبل ذلك مع موسى ولم يُـدعْ " عـمانوئيل"...
لذلك عـندما نسمع اسم " عـمانوئيل" أى " معنا الله" الذى اُعْـطِى للابن, فلنعـتقـد بحكمة أنه ليس معنا كما كان فى الأزمنة السابقة مع القديسين لأنه كان معهم كمعـين فقط...
ولكن هـو معنا لأنه صـار مثلنا دون أن يفـقـد طبيعـته لأنه الله غـير المتغـيّر...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
9 ـ ماهو هـذا الاتحاد؟
عـندما نقـول أن كلمة الله اتّحـد بطـبيعـتنا فإن كيفية هـذا الاتحـاد هى تفـوق فهم البشر...
فهـو اتحـاد لا يوصف وغـير معـروف لأى من الناس سوى الله وحـده الذى يعـرف كل شئ...
وأى غـرابة فى أن يفـوق اتحـاد اللاهـوت بالناسوت إدراك أى عـقل؟...
فنحن عـندما نبحث بدقـة عـن أمـورنا ونحـاول إدراك كنهها نعـترف أنها تفـوق مقـدرة الفهم الذى فينا...
فما هى كيفية اتحـاد نفس الإنسان بجسده؟...
من يمكنه أن يخـبرنا؟...
ونحن بصعـوبة نفهم وبقـليل نتحـدّث عـن اتحـاد النفس بالجسد...
ولكن إذا طـُلِبَ منّا أن نحـدّد كيفـية اتحـاد اللاهـوت بالناسوت وهـو أمـر يفـوق كل فهم بل صعـب جـدًّا, نقـول أنه من اللائق أن نعـتقـد أن اتّحـاد اللاهـوت بالناسوت فى "عـمانوئيل" هـو مثل اتّحـاد نفس الإنسان بجسده ـ وهـذا ليس خطأ لأن الحق الذى نتحـدّث عـنه هـنا تعـجز عـن وصفه كلماتنا...
والنفس تجعـل الأشياء التى للجسد هى لها رغـم أنها بطـبيعـتها لا تشارك الجسد آلامه المادية الطبيعـية أو الآلام التى تسببها للجسد الأشياء التى هى خارج الجسد لأن الجسد عـندما يتحـرّك مدفوعـًا نحـو رغـباته الطبيعـية ( الجسدية ) فإن النفس التى فيه تعـرف هـذه الرغـبات بسبب اتحـاد النفس بالجسد...
ولكنها ( أى النفس ) لا تشارك الجسد رغـباته, ومع ذلك تَعْـتبر أن تحقـيق الرغـبة هـو تحقـيق لرغـبتها هى ( أى النفس )...
فإذا ضُرب الجسد أو جُرح, مثلاً, فإن النفس تحـزن مع جسدها, ولكن طـبيعـتها لا تتألّم بالآلام المـادية التى تقـع عـلى الجسد...
ومع هـذا يلزم أن نقـول أن الاتحـاد فى " عـمانوئيل" هـو أسمى من أن يُشبّـه باتحاد النفس بالجسد...
لأن النفس المتحـدة بجسدها تحـزن مع جسدها وهـذا حتمى حتى أنها عـندما تقـبل الهـوان تتعـلّم كيف تخضع لطاعـة الله...
أمّا بخصوص الله الكلمة فإنه من الحماقة أن نقـول أنه كان يشعـر بلاهـوته بالإهانات...
لأن اللاهـوت لا يشعـر بما نشعـر به نحن البشر...
وعـندما اتّحـد بجسد له نفس عـاقـلة وتألّم لم ينفـعـل اللاهـوت بما تألّم به, ولكنه كان يعـرف ما يحـدث له...
وأباد كإله كل ضعـفات الجسد, رغـم أنه جعـلها ضعـفاته هـو فهى تخصّ جسده...
لذلك بسبب هـذا الاتحاد قـيل عـنه أنه عـطش وتعـب وتألّم لأجـلنا...
ولعـلّ التفـرقة بين " يعـرف" و" يشعـر" هى من أهم ما تعـلّم به الكنائس الشرقية الأرثوذكسية عـن آلام الرب يسوع المسيح...
يُعـبّر كيرلس الكـبير هنا عـن التقـوى الشرقية الأرثوذكسية بكل وضوح أن المتألّم هـو ربنا وليس لاهـوته ورغـم أن الآلام تخصّ جسده إلا أنها تـُنْسَبْ له كشخص واحـد غـير منقسم وهـو ذات ما صـرّح به القـديس ديوسقـورس بطـل الرثوذكسية...
ولذا, فإن اتحـاد الكلمة بطـبيعـتنا البشرية يُمكن عـلى وجه ما أن يُقـارن باتحـاد النفس بالجسد...
لأنه كما أن الجسد من طـبيعـة مختلفة عـن النفس, ولكن الإنسان واحـد من إثـنين ( النفس والجسد )...
هكـذا المسيح واحـد من الأقـنوم الكامل لله الكلمة ومن الناسوت الكامل...
والألوهة نفسها والناسوت نفسه فى الواحـد بعـينه الأقـنوم الواحـد...
وكما قـلت, أن الكلمة يجعـل آلام جسده آلامه هـو, لأن الجسد هـو جسده وليس جسد أحـد آخـر سواه...
هكـذا, يمنح الكلمة جسده كل ما يخصّ لاهـوته من قـوة, حتى أن جسده قـادر عـلى أن يقـيم المـوتى ويُـبرئ المـرضى...
اتحـاد اللاهـوت بالناسوت يعـنى أن كل من لمس جسد الابن الوحـيد بالإيمان يحصل عـلى كل ما يريده من الله ( اللاهـوت ), مثل المـرأة النازفة الدم التى لمست طرف ثـوبه وبرئت لأن قـوة خـرجت من المسيح...
ولاحظ أن الرب يؤكّـد حـقيقة الاتحـاد عـندما قال:
[ فَقَالَ يَسُوعُ: قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي ] [ لوقا 8: 46 ]...
ولم يقـل من لاهـوتى...
هكـذا شرح القديس كـيرلّس المعـجـزة...
ويؤكّـد الإنجـيل فى عـدّة مناسبات أن المعـجـزات كانت تتم بقـوة منه, كما جاء فى :
[ وَاَلْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. وَكُلُّ اَلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي اَلْجَمِيعَ ] [ لوقا 6: 18 ]...
فما أبعـد الفـرق بين هـذه النظـرة الإنجـيلية وبين النصّ المشهـور فى طومس لاون:" الواحـد يشفى المرضى والآخـر يتألّم"...
أمثلة كتابية عن كيفية الاتحاد:
وإذ يليق بنا فى هـذا المجال أن نستخرج تشابيه من الكتب الموحى بها من الله, لكى نوضّح بعـدة أمثلة كـيفية الاتحـاد, لذلك دعـونا نتكلّم من الكتب حسب طاقتنا:
أ ـ الجمـرة:
قال النبى أشعـياء:
[ فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ اَلسَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى اَلْمَذْبَحِ . وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ ] [ أشعـياء 6: 6, 7 ]...
ونحن نقتول ان الجمرة المتقـدة هى مثال وصـورة للكلمة المتجسّد لأنه عـندما يلمس شفاهنا أى عـندما نعـترف بالإيمان به فإنه ينقـّينا من كل خطـية ويحـرّرنا من اللـوم القتديم الذى ضـدّنا...
ويمكننا أن نـرى أيضًا, الجمـرة مثالاً لكلمة الله المتّحـد بالطبيعة البشرية دون أن يفـقـد خواصه...
بل حـوّل ما أخـذه ( الطـبيعـة البشرية ) وجعـله مُتحـدًا به, بلّ بمجـده وبعـمله...
لأن النار عـندما تتصـل بالخشب تستحـوذ عـليه, ولكن الخشب يظـل خشبًا, فقط يتغـيّر إلى شكل النار وقوتها, بلّ يصبح له صفات النار وطاقتها ويُعـتبر واحـدًا معها...
هكـذا أيضًا يجب ان يكـون إعـتقادنا فى المسيح, لأن الله اتّحـد بالإنسانية بطريقة لا يُنطـق بها...
ولكنه أبقى عـلى خواص النـاسوت عـلى النحـو الذى نعـرفه...
وهـو نفسه لم يفـقـد خـواص اللاهـوت عـندما اتّحـد بالناسوت, بل جعـله واحـدًا معه, وجعـل خـواص الناسوت خـواصه...
بل هـو نفسه قـام بكلّ أعـمال اللاهـوت فى الناسوت...
نرى هـذا الأساس الأبائى للعـبارة المشهورة فى الاعـتراف الأخـير قـبل التناول حيث يقـول الكاهن القبطى:" وجعـله واحـدًا مع لاهـوته بغـير اخـتلاط ولا إمـتزاج ولا تغـيير" وهى تعـبّر عـن إيمان سليم...
ب ـ سوسنة الأودية
قـدّم لنا نشيد الأناشيد ربنا يسوع المسيح قائلاً:
[ أَنَا نَرْجِسُ شَارُونَ ( وَرْدَة اَلْسِفُوحِ .. الترجمة السبعينية) سَوْسَنَةُ اَلأَوْدِيَةِ ] [ نشيد الأناشيد 2: 1 ]...
وفى السوسنة الرائحـة غـير المجسّمة ( غـير ظاهـرة للعـين ) ولكنها لا توجـد خارج السوسنة...
ولذلك فالسوسنة واحـدة من اثـنين ( الرائحة وجسم السوسنة )...
وغـياب رائحـة السوسنة لا يجعـلها سوسنة...
وكذلك غـياب جسم السوسنة لا يفسر وجـود رائحـة السوسنة, لأن فى جسم السوسنة رائحتها...
هكـذا أيضـًا يجب أن يكـون اعـتقادنا فى ألوهـية المسيح الذى يُعـَطـّر العـالم برائحـته الذكـيّة ومجـده الذى يفـوق مجـد الأرضـيات...
ولكى يُعَـطـّر العـالم كله استخـدم اللاهـوت الطبيعة البشرية...
لأنه عـندما أراد أن يُعـلن عـن ذاته من خـلال الجسد جـعـل فـيه كـلّ ما يخصّ اللاهـوت...
لذلك من الصـواب أن نعـتقـد أن الذى بطـبيعـته غـير جسمانى اتّحـد بجسده وأصبح الاتحـاد مثل السوسنة لأن الرائحـة العـطرة وجسم السوسنة هما واحـد ويسميان السوسنة...
أى أن الجسد الذى أخـذه, له نفس عـاقلة, وأصبح جسد اللاهـوت غـير المجسم,
وإذا فُصِل أيهما عـن الآخـر فإنـنا بالفـصل نلغى يقينًا ونهائيًا تدبـير المسيح...
ج ـ تابوت العـهد
إن خيمة الاجتماع التى أراد الله أن تُقـام فى الـبرية ترمـز على "عـمانوئيل" فى أشياء كـثيرة...
الله إله الكـلّ قال لموسى:
[ فَيَصْـنَعُونَ تَابُوتاً مِـنْ خَـشَبِ اَلسَّنْطِ طُـولُهُ ذِرَاعَتانِ وَنِصْـفٌ وَعَـرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْـفٌ وَاِرْتِفَاعُـهُ ذِرَاعٌ وَنِصْـفٌ. وَتُغَـشِّيهِ بِذَهَبٍ نَقِيٍّ. مِـنْ دَاخِـلٍ وَمِـنْ خَـارِجٍ تُغَـشِّيهِ. وَتَصْـنَعُ عَـلَيْهِ إِكْـلِيلاً مِـنْ ذَهَـبٍ حَـوَالَيْهِ ] [ خروج 25: 10 , 11 ]...
الخشب الذى لا يُسوّس هـو رمـز للجسد الذى لم يفسد, لأن الرز لا يُسوّس...
أمّا الذهب وهـو يفـوق كل الأشياء فهـو يشير إلى جـوهـر اللاهـوت الفائق...
لكن لاحظ كيف غُـطـّى التابوت كلّه بالذهب النقى من الداخـل والخـارج, لأن الله الكلمة اتّحـد بجسد مقدّس وهو مايشير إليه تغـطية التابوت بالذهب من الخارج...
والنفس العاقلة التى فى جسده هى نفسه, وهذا مايشير غليه تغشية التابوت من الداخـل...
وهكـذا لم يحـدث تشويش للطـبيعـتين...
لأن الذهب الذى غُـطّى به الخشب ظـلّ كما هـو ذهـبًا...
أمّا الخشب فقد صار غـنيًا بمجتد اللاهـوت, ولكنه لم يفقد خصائصه كخشب...
وببراهـين كـثيرة يمكننا أن نتأكّد من أن التابوت يرمـز للمسيح لأنه كان يخـرج أمام بنى غسرائيل وكان هـذا سبب عـزاء لهم, وهكـذا قال المسيح فى موضع معـين:
[ لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ ] [ يوحنا 14: 1ـ4 ]...
تفسير خيمة الإجتماع عـلى هـذا النحـو موجـود عـند الآباء قـبل القديس كـيرلّس, وبالذات إيروناوس وهيبوليتوس...
ومن يقـرأ نصّ القديس كـيرلّس يشعـر عـلى الفـور أنه كان يأخـذ من كلمات ثيـؤتوكـية الأحـد حيث ترتـّل كنيستنا: " التابوت المصفّح بالذهب من كلّ ناحية المصنوع من خشب لا يسوّس سبق ان يدلّـنا عـلى الله الكلمة الذى صـار إنسانًا بغـير افـتراق..."...
وشرعـية تفسير الآباء قائمة عـلى حقيقة أساسية أن كل ما هـو متّـصل بظهـور الله فى العـهد القـديم قـد تحقـق بشكل أفضل وأكمل فى العـهد الجـديد عـندما إتحـد وحـلّ فى الهيكل الحقيقى أى الطـبيعـة البشرية...
ولاحظ أن ثيـؤتوكية الأحـد تتحـدّث عـن التجسّد ثم عـن العـذراء لأن كلّ ما يخصّ العـذراء مرتبط بالتجسّد...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10 ـ الله الكلمة واحد من اثنين: لاهوت كامل وناسوت كامل
الله الكلمة صار إنسانًا..
وهو ليس إنسانـًا تشرّف بصلة اللاهـوت...
كما أنه ليس إنسانـًا حصل عـلى مساواة كـرامة وسلطان الله الكلمة حسب زعـم البعض...
فى هـذه الفقرة يفرّق القديس كـيرلّس بين هـرطـقـتين وهما النسطورية التى إدّعـت أن المسيح حصل عـلى مجـرّد صـلة باللاهـوت, والأريوسية التى إدّعـت أن الابن فى الجسد مخـلوق رُفع بمنحـة إلهـية من الآب إلى كـرامة اللاهـوت...
ويمكن لأى إنسان يريد أن يتحاشى السقوط فى هـرطقـة أن يتذكّـر دائمـًا ان ربنا يسوع المسيح ليس إنسانـًا تألّه ولا إلهـًا فقط بل هـو واحـد من اثنـين : لاهـوت وناسوت...
يقول الرسول بولس:
[ وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ ] [ 1تيموثاوس 3: 16 ]...
وهـذا حقيقى لأن الله الكلمة ظهـر فى الجسد, وتـبرّر فى الروح, لأننا لم نر فيه أى خضوع لضعـفاتنا رغـم أنه لأجلنا صـار إنسانـًا إلا أنه بلا خطيئة...
وشاهـدته المـلائكة فهم لم يجهلوا مـيلاده حسب الجسد...
وكُـرّز به للأمم كإله صـار إنسانًا...
وهـذا ما برهـنه الرسول بولس:
[ لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ ] [ أفسس 2: 11, 12 ]...
فالأمم إذ كانوا بلا إله فى العالم عـندما كانوا بدون المسيح...
ولكن عـندما آمنـوا بالمسيح أنه هـو بالحقيقة وبالطبيعة الله, إعـترف هـو بهم بدوره كمعـترفين بالإيمان...
وهـو ( أى المسيح ) رُفع بمجـد ( أى بمجد إلهى ) لأن داود ينشد:
[ ارْتَفِعِ اَللهُمَّ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ اَلأَرْضِ مَجْدُكَ ] [ مزمور 67: 5 ]...
لأنه بالحقيقة صعـد بالجسد وليس باللاهـوت وحـده, لن الله تجسّد ولذلك يجب أن يُقال عـنه أنه صعـد أيضًا...
إن الإيمان الأرثوذكسى ( الصحيح ) هو:
أننا نؤمن بالرب الذى ظهـر فى شكل العـبد والذى صـار مثلنا بالحقيقة بطبيعة بشرية ولكنه ظلّ الله...
لأن الله الكلمة عـندما أخـذ جسدًا لم يفقد خواصه الإلهية بلّ ظلّ فى نفس الوقت هو الله المتجسّد...
وإذا قال أحـد: أى ضـرر يحـدث إذا اعـتقدنا أن إنسانـًا مثلنا قـد حصل عـلى الألوهة وليس الله هو الذى تجسّد؟...
سوف نجيب بأنه يوجـد ألف دليل ضـد هـذا الرأى, وكلّ هـذه الأدلّة تؤكـّد لنا أنه عـلينا أن نجاهـد بثبات ضـد هـذا الرأى وأن نرفضه...
وقبل أى شئ آخـر فلندرس التدبـير الخاص بالتجسد ونفحص حالتنا جـيدًا...
يقـول فى ذلك القـدّيس كـيرلّس:
لقـد تعـرّضت البشرية للخطـر وهـوت إلى أدنى حالات المـرض أى اللعـنة والموت...
وزيادة عـلى ذلك تدنّست بقـذارة الخطيئة وضلّت وصـارت فى الظـلام حتى أنها لم تعـرفه وهـو الله الحقيقى وعـبدت المخلوقات دون الخالق...
فكيف كان من الممكن أن تتحـرّر من فساد مثل هـذا؟...
هـل بأن تعـطى لهـا الألوهـة؟...
كيف وهى لا تعـرف عـلى وجه الإطـلاق ما هى كـرامة وسموّ الألوهـة؟...
ألم تكن البشرية مقـيّدة بعـدم المعـرفة وفى ظـلام, بلّ ومدنّسة بلطخـة الخطيئة؟...
فكيف كان من الممكن أن ترتفع إلىالطـبيعة الكلّية النقـاء, وتحصل عـلى المجـد الذى لا يستطيع أحـد أن يحصل عـليه إلا إذا وُهب له؟...
دعـونا نفـترض أنه بالمعـرفة مثلاً أو بالتعـليم يمكن الحصول عـلى الألوهة, فمن ذا الذى سيعـلّمها عتن المجـد الإلهـى؟...
لأنهم كيف يؤمنوا إن لم يسمعـوا؟...
[ فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ ] [ رومية 10: 14 ]...
ولذلك فإنه غـير ممكن لأى من الناس ان يرتقى إلى مجـد الألوهة ولكن من اللائق بلّ من المعـقول أن نعـتقد أن الله الكلمة الذى به خُلقت كل الأشياء اشتهى أن يُخلّص ما قـد هلك....
فـنزل إلينا ونـزل إلى ما دون مستواه حتى يرفع الطـبيعة البشرية إلى ما هو فـوق مستواها...
أى ترتفع إلى أمجـاد اللاهـوت بسبب الاتحـاد به...
يلخّص القديس كـيرلّس فى هـذه السطور جـوهـر لاهـوت مدرسة الإسكندرية ونظـرتها العـميقة للخـلاص فهـو:
أولاً: عـودة إلى الاتحـاد بالله بعـد أن إغـتربنا عـنه بالخطيئة, وقتد أصبح من الممكن أن نعـود لله عـندما اتّحـد اللاهـوت بالناسوت فى ربنا يسوع المسيح...
ثانيًا: أن الذى يحقق عـودتنا لله فى المسيح هو الروح القـدس...
ثالثًا: أن الخـلاص هـو إلتصـاق بالمسيح فى المعـمودية التى هى دفن وقيامة معـه وفى شركة جسده فى الإفخـارستيا وفى فهم أسراره فى الكلمة الإلهية, أو بالموت مثله فى حالات الشهداء والنساك, وكل هـذا مؤسس عـلى حقيقة أساسية وهى صحّة الاعـتقاد بمجئ الله إلينا فى الجسد وباتحـاده بهـذا الجسد...
لذلك كان ارتفـاع الطبيعة البشرية إلى فـوق بسبب التجسّد مقـبولاً ومعـقولاً عـن أن ترتفع الطبيعة البشرية على أمجـاد اللاهـوت بدون التجسّد, وأن تنال عـدم التغـيّر الخاص بالله دون أن يـنزل الله إليها...
ومن اللائق أن ينزل غـير الفاسد إلى الطبيعة المستعـبدة للفساد حتى يحـرّرها من الفساد...
وكان من اللائق أن الذى لم يعـرف خطيئة يصبح مثل الذين تحت الخطيئة ليُبطـل الخطيئة...
ففى النـور تصبح الظلمة بلا عـمل...
وحيث يوجـد عـدم الفساد يهـرب الفساد...
لأن الذى لم يعـرف خطـيئة ( أى الله ) جعـل الذى تحت الخطيئة ( الجسد ) خاصًا به حتى تصـير الخطيئة إلى عـدم...
وعـلى الرغـم من انه قـيل عـن يسوع أنه كان:
[ وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي اَلْحِكْمَةِ وَاَلْقَامَةِ وَاَلنِّعْمَةِ عِنْدَ اَللهِ وَاَلنَّاسِ ] [ لوقا 2: 52 ]...
فإن هـذا يخص التـدبير...
لأن كلمة الله سمح لبشريته أن تنمو حسب خواصها وحسب قوانينها وعـاداتها...
ولكنه أراد شيئًا فشيئًا أن يعـطى مجـد ألوهيته إلى جسده كلما تقـدّم فى العـمر حتى لا يكـون مرعـبًا للناس إذا بـدر منه عـدم الاحتياج المطلق لأى شئ...
ولعـلّ هذا المبدأ اللاهـوتى الهام, هـو ما يمـيّز الأناجـيل الأربعـة عـن غـيرها من الأناجـيل المـزوّرة التى تنسب للمسيح فى طفـولته معـجـزات وخـوارق غـير عـادية...
ولذلك يجب أن نفـرّق بين أتحـاد اللاهـوت والناسوت الذى حـدث فى اللحظة التى تكون فيها الجسد, وبين ظهـور المجـد الإلهى...
فالاتحاد حدث دون انفصـال لكن ظهـور المجد الإلهى كان يحدث عـلى فـترات وفى مناسبات مثل السير عـلى الماء أو التجلّى...
ومع هـذا تكلّموا عـنه:
[ فَتَعَجَّبَ اَلْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ اَلْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟ ] [ يوحنا 7: 15 ]...
فالنمو يحـدث للجسد, كما أن التقـدّم فى النعـمة والحكمة يتـلاءم مع مقاييس الطبيعة البشرية...
وهنا يلزمنا أن نؤكّـد أن الله الكلمة المـولود من الآب هـو نفسه كلّى الكمال لا ينـقـصه النمو أو الحكمة أو النعـمة...
بلّ أنه يُعْـطى للمخـلوقات الحكمة والنعمة وكلّ ما هـو صـالح...
وعـلى الرغـم أنه قـيل عـن يسوع أنه تألّم فإن الآلام هى أيضًا خاصة بالتـدبير...
هى آلامه هـو, وهـذا صحيح تمامًا لأنه تألّم فى الجسد الذى يخصّه هـو...
ولكنه كإله لا يتألّم أى لا تقـبل طبيعـته الألم حتى عـندما تجـرّأ صـالبوه وعـذبوه بقسوة...
عـندما صار الابن الوحـيد مثلنا ـ لأنه دُعى فى الأسفار التى أوحى بها الله بـ " ابن البشر", وهـذا حسب التدبير ـ إلا أننا نعـترف لأنه بطبيعـته الله...
براهـين كتابية عـلى أن كلمة الله وإن كان قـد صـار إنسانًا إلا أنه ظل إله:
1 ـ الكاروبيم:
يقـول الله لموسى النبى شارحًا الأسرار الإلهية:
[ وَتَصْنَعُ غِطَاءً مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ وَعَرْضُهُ ذِرَاعُ وَنِصْفٌ وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ اَلْغِطَاءِ. فَاصْنَعْ كَرُوباً وَاحِداً عَلَى اَلطَّرَفِ مِنْ هُنَا وَكَرُوباً آخَرَ عَلَى اَلطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ. مِنَ اَلْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ اَلْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ. وَيَكُونُ اَلْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى اَلْغِطَاءِ وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى اَلآخَرِ. نَحْوَ اَلْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا اَلْكَرُوبَيْنِ ] [ خروج 25: 17 ـ 20 ]...
هـذا رمـز صحيح يدلّ عـلى أن الله الكلمة الذى تأنّس إلا أنه ظلّ الله, وعـندما صـار مثلنا من أجل التدبير لم يفقد مجـده وعـظمته...
وعـمانوئيل صار لنا كفارة بالإيمان:
[ الَّذِي قَدَّمَهُ اَللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ اَلصَّفْحِ عَنِ اَلْخَطَايَا اَلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اَللهِ ] [ رومية 3: 25 ]...
وهـذا يبرهـنه يوحنا أيضًا:
[ يَاأَوْلاَدِي الصِّغَارَ، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذِهِ الأُمُورَ لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَلكِنْ، إِنْ أَخْطَأَ أَحَدُكُمْ، فَلَنَا عِنْدَ الآبِ شَفِيعٌ هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا، لاَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا الْعَالَمِ كُلِّهِ ] [ 1 يوحنا 2: 1, 2 ]...
وعـلينا أن ننظـر إلى الكـروبين واقفين باسطين أجنحتهما عـلى كرسى الرحمة, وهما يتطلعـان إلى كرسى الرحمة وفى نفس الوقت يثبتان أعـينهما عـلى إرادة ربهما. وحشد الأرواح السمائية يثبتون عـيونهم عـلى إرادة الله الكلمة الذى تأنس إلا انه ظل الله, وكلهم لا يشبع من النظـر إلى الله...
هـذا المنظـر الأرضى ( فى خيمة الاجتماع ) يذكـرنا بالمنظـر السمائى الذى رآه أشعـياء النبى عـندما رأى الابن جالسًا عـلى عـرش عـالس والسارافيم يخـدمونه كالله:
[ فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا اَلْمَلِكِ رَأَيْتُ اَلسَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ اَلْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِإثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِإثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبِإثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ اَلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ اَلأَرْضِ ] [ أشعـياء 6: 1 ـ 3 ]...
2ـ الحـيّة النحـاسية:
وموسى النبى قـد أقيم فى القـديم لكى يحـرّر شعـبه من ظلم المصـريين ولكن كان من الضـرورى أولاً أن يتعـلّم الذين كانوا تحت نـير العـبودية أن الله تصالح معهم...
لذلك أمـر الله موسى أن يُجـرى معـجـزات, لأن المعـجزة فى بعـض الأوقات تساعـدنا عـلى الإيمان, لذلك يقـول موسى لله ضابط الكلّ:
[ فَأَجَابَ مُوسَى: وَلَكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ اَلرَّبُّ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: مَا هَذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: عَصاً. فَقَالَ: اطْرَحْهَا إِلَى الأَرْضِ. فَطَرَحَهَا إِلَى اَلأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ اَلرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ يَدَكَ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا ( فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ فَصَارَتْ عَصاً فِي يَدِهِ). لِكَيْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ اَلرَّبُّ إِلَهُ آبَائِهِمْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ ] [ خروج 4: 1 ـ 5 ]...
لنتأمّـل هذا, أن الله بالطبيعـة وبالحق هو عصا الآب لأن العصا هى عـلامة المملكة...
لأن الآب فى الابن له سلطان عـلى الكلّ, وفى هذا يقول داود:
[ كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ اَلدُّهُورِ. قَضِيبُ اِسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ ] [ مزمور 45: 6 ]...
ولكنه ( أى الآب ) طرحها أو جعلها عـلى الأرض فى طبيعـة بشرية, عـند ذلك اتخـذت ( العـصا ) شبه الناس الخطاة, وأصبح واضحـًا أن العـصا التى صارت حـيّة ترمـز إلى شرّ الطـبيعة البشرية, لأن الحـيّة عـلامة عـلى الشر...
ولكى نتأكّد من هـذا التفسير أن صـواب, نجـد أن ربنا يسوع المسيح نفسه يقـول عـن رمـوز التـدبير بالجسد أنه مثل الحـيّة النحاسية التى رفعـها موسى لكى تشفى من عـضات الحـيات, لأنه يقـول:
[ وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَـيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِـي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ ] [ يوحنا 3: 14, 15 ]...
والحـيّة التى صُنعـت من نحاس كانت سبب خـلاص الذين كانوا فى خطـر, لأنهم عـندما نظـروا غليها خلِصـوا...
هكـذا ربنا يسوع المسيح للذين ينظـرونه وهـو فى شبه الناس الخطاة ـ لأنه صـار إنسانـًا ـ ولكن لا يجهل أحـد أنه الله الذى يقيم والذى يمنح الحياة والقـوة للهـرب من العـضات الأليمة والسامة ( إى القـوات الشيطانية التى تحاربنا )...
3 ـ عصـا موسى ابتلعت عـصى السحرة:
ويمضى القـدّيس كـيرلّس فيقـول:
هناك وجه رمـزى آخـر وهو ( عـصا ) موسى إبتلعـت ( عصى ) السحرة التى ألقيت عـلى الأرض...
لأن ( العـصا ) بعـد أن طـُرحت عـلى الأرض وصـارت حـية لم تظـلّ حـيّة بلّ رجعـت إلى ما كانت عـليه...
كذلك ( عـصا ) الآب ( أى الابن ) الذى فيه يسود الآب عـلى الكلّ صار فى شبهنا ـ كما قلت من قـبل ـ إلا أنه بعـد أن أكمل التـدبير عـاد إلى السماء, فهـو فى يـد الآب قضيب البر والملك [ قَضِيبُ اِسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ ] [ مزمور 45: 6 ]...
وهو يجلس عـن يمين الآب فى مجـده, وله عـرش الآب وهو فى الجسد...
4 ـ يد موسى البرصـاء:
قال الرب لموسى :
[ ثُمَّ قَالَ لَهُ اَلرَّبُّ أَيْضاً: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا وَإِذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ اَلثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: رُدَّ يَدَكَ إِلَى عُبِّكَ ( فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ) ] [ خروج 4: 6, 7 ]...
اليد ـ يد الله الآب ـ فى الأسفار الإلهية هى الابن لأن هـذا النصّ يشير إليه:
[ وَيَدِي أَسَّسَتِ اَلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ اَلسَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعاً ] [ أشعـياء 48: 13 ]...
وداود الإلهى ينشد قائلاً:
[ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا ] [ مزمور 33 : 6 ]...
وعـندما كانت يـد موسى مختبأة فى حضنه لم تكن برصاء, ولكن عـندما أخـرجت صـارت برصـاء...
وبعـد فـترة أدخلها مـرة أخـرى ثم أخـرجها ولم تعـد برصـاء بل قـيل:
[ وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ ] [ خروج 4: 7 ]...
لذلك عـندما كان الله الكلمة فى حضن الاب كان يشرق ببهاء الألوهة, ولكن عـندما صار كما لو كان خارجـًا بسبب التجسّد ـ أو لأنه صـار إنسانـًا فى شبه جسد الخطية
[ ... فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ اِبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ اَلْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ اَلْخَطِيَّةِ دَانَ اَلْخَطِيَّةَ فِي اَلْجَسَد ] [ رومية 8 : 3 ]... و
[ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ ] [ أشعـياء 53: 12 ]...
لأن الرسول بولس يقـول:
[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اَلْلَّهِ فِيهِ ] [ 2 كورونثوس 5: 21 ]...
وهـذا ما أعـتقـد أن البرص أشار إليه لأن الأبرص حسب الناموس كان نجسًا...
ولكنه عـندما عـاد إلى حضن الآب , لأنه صعـد على هـناك بعـد قيامته من الأمـوات ـ صار مثل يد موسى التى أدخلت فى حضنه وصارت طاهرة...
هكـذا سوف يأتى سوف ياتى ربنا يسوع المسيح فى الوقت المحدد ببهاء مجد الألوهة رغـم أنه لم يخلع شبهنا...
لأن بولس المب
هكـذا سوف يأتى سوف ياتى ربنا يسوع المسيح فى الوقت المحدد ببهاء مجد الألوهة رغـم أنه لم يخلع شبهنا...
لأن بولس المبارك يقـول ايضًا عـن المسيح:
[ هَكَذَا اَلْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ] [ عـبرانيين 9: 28 ]...
لذلك عـندما تدعـو الأسفار الإلهـية المسيح يسوع فى مناسبات متعـدّدة, لا يظـن أحـد أنه مجـرّد إنسان بلّ لنعـتقـد أنه يسوع المسيح كلمة الله الحقيقى الذى من الله الآب حتى وإن صار إنسانًا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
11 ـ المسيح ليس الله لبس جسدًا, وليس كلمة الله الذى حلّ فى إنسان, بل الله الذى تجسّد فعلاً حسب شهادة الكتب
الذين بلا دنس يؤمنون بالمسيح, ويتفقون معـنا, يعـلمون أن الكلمة هـو من الله الآب...
وأنه نزل إلى فقرنا وصار فى صورة العـبد...
والجسد الذى أخـذه وولد من العذراء هو جسده...
بل أنه لم يولد فقط بل صار مثلنا ودُعى ابن الإنسان...
فهو بالحقيقة الله حسب الروح ولكنه هو نفسه إنسان حسب الجسد...
من أجـل هـذا يوجّه الرسول بولس خطابه إلى اليهود قائلاً:
[ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ ] [ عـبرانيين 1: 1, 2 ]...
كيف تكلّم الله الآب فى الأيام الأخـيرة فى ابنه؟...
قديمًا تكلّم فى الناموس فى الابن...
ولذلك قال الابن أن كلماته أُعْـطيت قديمًا لموسى الحكيم:
[ لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. ] [ متى 5: 17, 18, متى 24: 35 ]...
وكذلك يشهـد النبى أشعـياء:
[ أنَا اَلْمُتَكَلِّمُ أَنَا آَتٍ ] [ أشعياء 52: 6 السبعينية ]...
وعـندما تجسّد تكلّم الآب معـنا فيه كما قال بولس : [ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ ] ...
ولكى لا يعـوق أى شئ إيماننا بأنه هو هو قبل الدهور الله الابن أضاف الرسول عـلى الفـور: [ الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ ]...
ثم عـاد وأكّـد: [ الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ ] [ عـبرانيين 1: 3 ]...
بالحقيقة صار إنسانًا ذاك الذى به الله خلق العالمين...
ولذلك لكى يكون اعـتقادنا سليمًا عـلينا أن نؤمن أنه صـار إنسانًا وليس كما يفترض البعـض أن الله سكن فيه...
ولو كان هـذا صحيحًا ـ أى أن الله سكن فى إنسان ـ الا يصبح ما يقوله يوحنا الإنجيلى : [ اَلْكَلِمَة صَارَ جَسَدًا ] [ يوحنا 1: 14 ] بلا فائدة؟...
لأن ماهى الحاجة إلى هذا التصريح؟...
وكيف يقال أن الله تجسّد غلا إذا كان فعلاً قد صار جسدًا أى صار مثلنا؟...
إن قـوة التجسّد تظهـر فى أنه صار مثلنا لكنه ظلّ فوقنا بلّ فوق كلّ الخليقة...
وسوف أبرهن بأمثلة كثيرة عـلى صـدق ما ذكـرته وهو ان الابن الوحيد صار إنسانًا وهو الله حتى وهو فى الجسد, ولم يسكن فى إنسان ثم جعل هذا الإنسان لابسًا اللاهوت مثل البشر الذين أنعم عـليهم بشركة الطبيعة الإلهية...
1 ـ يقـول الله عـن البشر:
[ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ اَلرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ اَلَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ اَلرَّبُّ. بَلْ هَذَا هُوَ اَلْعَهْدُ اَلَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ اَلأَيَّامِ يَقُولُ اَلرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً ] [ أرميا 33 : 31 ـ 33 ]... و
[ إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً ] [ 2 كورونثوس 6: 16 ] ...
ويقـول الرب يسوع المسيح نفسه:
[ إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً.... هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي ] [ يوحنا 14: 23 و رؤيا 3: 20 ]...
وكذلك ايضًا دعـينا هياكل الله:
[ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اَللهِ اَلْحَيّ ] [ 2كورونثوس 6: 16 ]...
ويقـول ايضًا:
[ أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ اَلْقُدُسِ اَلَّذِي فِيكُمُ اَلَّذِي لَكُمْ مِنَ اَللهِ وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ ] [ 1 كورونثوس 6: 19 ]...
فإذا قالوا أنه دُعى عـمانوئيل بمعـنى أنه مثلنا نحن البشر قد سكن الله فيه...
فليعـترفوا عـلانية أنهم عـندما يشاهدوننا نحن والملائكة فى السماء وعـلى الأرض نعـبده يخجلون من هـذه الفـكرة...
ويخجلون بالحرىّ لأنهم يجهلون قـصد الأسفار المقدسة...
كما أنه لايوجد عـندهم الإيمان الذى سلّمه إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدّامًا للكلمة [ لوقا 1: 2 ]...
وإذا قالوا أنه الله وانه يمجّد كإله لأن كلمة الله الآب سكن فيه ( أى فى يسوع المسيح ) وأنه يُمجّد عـلى هذا النحو وليس عـلى أساس أنه الله الذى صار جسدًا فليسمعوا منا هذا:
" لا يكفى لمن يسكن الله فيه أن تجعـله هذه السكنى إلهًا يُعـبد, لأن الله يسكن فى الملائكة وفينا نحن بالروح القدس ... ومع هذا, فالذين أخـذوا الروح القدس لا يكفيهم هذا لكى يصبحوا بالحقيقة آلهة { تُعـدّ هذه الفقرة من أهم ما تركه الآباء لنا عـن الفرق الأساسى بين المسيح وبين المؤمنين, من حيث مشاركة الطبيعة الإلهية, ولم يكتب أحـد قبل كيرلس الاسكندرى بهذا الوضوح فى هذه النقطة }, لذلك ليس لهذا السبب بالذات قـيل أن عـمانوئيل هو الله, ونحن لا نعـبده لأن الكلمة حلّ فيه كما يحلّ فى إنسان, وإنما نعـبده لأنه الله الذى صار جسدًا أى إنسانًا وظل فى نفس الوقت الله الذى يُعـبد "...
2 ـ عـدما يتحدّث بولس الرسول عـن المسيح يقـول:
[ الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو اَلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ اَلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ ] [ أفسس 3 : 5 ]... و
[ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، الَّذِينَ ارَادَ اللهُ أنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هَذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ. الَّذِي نُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ إنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إنْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إنْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ] [ كولوسى 1: 26 ـ 28 ]...
فإذا كان المسيح إنسانًا لبس اللاهـوت وليس الله بالحقيقة...
فكيف يصبح هـو نفسه " غـنى مجـد السرّ" الى يُبشر به الأمم؟...
أو كيف يمكن أن يُقـال أن الرسول بشر بالله بالمـرة؟...
3 ـ [ فَإِنِّي ارِيدُ أنْ تَعْلَمُوا أيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ الَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي الْجَسَدِ، لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي الْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ الْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللهِ الآبِ وَالْمَسِيحِ ] [ كولوسى 1: 1, 2 ]...
وها هو يسمّى سرّ الله, سرّ المسيح ويتمنى لمن يكتب إليهم أن يكون عـندهم " يقين الفهم" لمعـرفته...
فما هى حاجة الذين يريدون أن يعـرفوا سرّ المسيح إذا كان الله قـد حـلّ فى إنسان؟...
لكنهم يحتاجون إلى " غـنى يقين الفهم" لكى يعـرفوا أن الله الكلمة تجسّد...
4 ـ [ لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ، لَيْسَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ فَقَطْ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَيْضاً قَدْ ذَاعَ إِيمَانُكُمْ بِاللهِ، حَتَّى لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ أَنْ نَتَكَلَّمَ شَيْئاً] [ 1 تسالونيكى 1: 8 ]...
وها هو الرسول يذكر أن إيمانهم هو إيمان الله, بينما يقـول المسيح:
[ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ] [ يوحنا 6: 47 ]...
كما ان الكلمة التى يبشر بها الرسول هى كلمة الرب أى المسيح...
5 ـ [ فَإِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ تَعَبَنَا وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ لَيْلاً وَنَهَاراً كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ. أَنْتُمْ شُهُودٌ، وَاللهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرٍّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ كُنَّا نَعِظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَالأَبِ لأَوْلاَدِهِ، وَنُشَجِّعُكُمْ، وَنُشْهِدُكُمْ لِكَيْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلَّهِ الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَى مَلَكُوتِهِ وَمَجْدِهِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَحْنُ أَيْضاً نَشْكُرُ اللهَ بِلاَ انْقِطَاعٍ، لأَنَّكُمْ إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ، الَّتِي تَعْمَلُ أَيْضاً فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ. ] [ 1تسالونيكى 2: 9 ـ 13 ]...
ألا يقـول الرسول صـراحة أن كلمة المسيح هى إنجـيل الله وأنها كلمة الله أيضًا؟...
6 ـ [ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اَللهِ اَلْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ اَلنَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ اَلْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ اَلْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَاَلْبِرِّ وَاَلتَّقْوَى فِي اَلْعَالَمِ اَلْحَاضِرِ، مُنْتَظِرِينَ اَلرَّجَاءَ اَلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اَللهِ اَلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ] [ تيطس 2: 11 ـ 13 ]...
هنا جهـرًا يوصف الرب يسوع بأنه " الله العـظيم"...
ذلك الذى ننتظـر مجـيئه المجـيد فنصـلّى بحـرارة ونعـيش بالتقـوى وبدون عـيب...
ولو كان المسيح إنسانًا لبس اللاهـوت فكيف يُسمّى " الله العـظيم"؟...
وكيف يكون رجاؤنا فيه مباركـًا؟...
والنبى أرميا يقـول:
[ مَلْعُونٌ اَلرَّجُلُ اَلَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى اَلإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ اَلْبَشَرَ ذِرَاعَهُ وَعَنِ اَلرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ ] [ إرميا 17: 5 ]...
ولو كان المسيح قـد لبس اللاهـوت فهـذا لا يجعـله إلهـًا...
وقياسًا عـلى ذلك لو دعـونا كل من حلّ فيهم الله آلهـة, فماذا يمنعنا من عـبادتهم؟...
لكن الرسول بولس يسمّى المسيح: الله العـظيم, وأن مجيئه مبارك, بولس أيضًا قال لليهـود عـن عـمانوئيل:
[ الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ . وَلَهُمُ الآبَاءُ وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلَهاً مُبَارَكاً إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. ] [ رومية 9: 4, 5 ]...
ولقـد كـرّز بولس بإعـلان إلهى ... وهـذا واضح إذ يقـول هو نفسه:
[ ُمّن بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً. ] [ غـلاطية 2: 1, 2 ]...
ونحن نعلم أن بولس بشّر بالمسيح للأمم كـإله, وفى كلّ مكان كان يتحـدّث عـن سر المسيح مسميًا إيّاه بالسرّ العـظيم الإلهى واستمر فى كرازته بعـد أن عرضها عـلى المعـتبيرين من القديسين عـندما صعـد إلى أورشليم بموجب الوحى الإلهى, فكانت توافق التعليم الرسولى...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابعًا: دور العـذراء مريم فى التجسد
قلنا أن الله صمّم فى محـبته أن ينحـدر على الإنسان ليخلّصه...
إلا أنه ـ وهو يحـترم حـرية الإنسان ـ كان منتظـرًا أن يريد الإنسان خـلاصه, ان يشاء إقـتبال الإله المنحـدر إليه...
ولـذا فقـد هـيّأ الله الإنسانية تدريجـيًا إلى إقـتبال الخـلاص...
وقـد أدّت هـذه التهـيئة إلى العـذراء مريم...
فمريم هى زهـرة العـهد القـديم وثمـرة عـناية الله بشعـبه وتربـيته له عـلى مـرّ الأجـيال...
فـفى مريم بلغـت قـداسة العـهد القـديم ذروتها فى الإيمان والتواضـع والطاعـة لله...
لذلك فى شخص مريم استطاعـت البشرية أن تقـول " نعـم" لله وأن تتقـبله مخلّصـًا لها, هـذا ما تمّ عـندما أجابت مريم المـلاك:
[ هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ ] [ لوقا 1: 38 ]...
عـندئذ, تمّ تجسّد ابن الله لأن البشرية " سمحت" له بشخص مريم أن يأتى إليها ويخلّصها...
لذلك كتب اللاهـوتى " نقـولا كباسيلاس" : { إن التجسّد لم يكن فعـل الآب وقـدرته وروحـه فحسب, ولكنه أيضًا فعـل إرادة العـذراء وإيمانها. فبـدون قـبول الكـلية النقـاوة, وبـدون مساهمة إيمانها, لكان تحقيق هـذا المقصـد متعـذرًا...}...
هكـذا كانت مريم ذلك :
[ ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى طَرِيقِ بَابِ اَلْمَقْدِسِ اَلْخَارِجِيِّ اَلْمُتَّجِهِ لِلْمَشْرِقِ وَهُوَ مُغْلَقٌ. فَقَالَ لِيَ اَلرَّبُّ: هَذَا اَلْبَابُ يَكُونُ مُغْلَقاً, لاَ يُفْتَحُ وَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ, لأَنَّ اَلرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ دَخَلَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُغْلَقاً ] [ حزقـيال 44: 1, 2 ]...
ففى مريم تمّ أولاً الاتحـاد بين الله والإنسان...
إذ أن ابن الله اتحـد ذاته بجسد إتخـذه من جسد مريم...
لذلك تدعـو الكنيسة العـذراء " والـدة الإله" لأنها ولـدت الإله المتجسّد...
وبذلك تـُرَدّد ما قـالته أليصـابات بوحى الروح القـدس عـندما زارتها نسيبتها العـذراء مريم إذ:
[ فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ ] [ لوقا 1 : 41 ـ 43 ]...
وتعـتقد الكنيسة أن مـنزلة العـذراء تفـوق المـلائكة إذ قـد أُهّـلَتْ أن تحمل فى ذاتها ابن الله المتجسد فتصـير هكـذا هيكـلاً حـيًا للإلـه الذى: { لا تجسر طغمات الملائكة أن تنظـر إليه }
لذلك تخاطبها الكنيسة منشدة: { يامن هى أكـرم من الشاروبيم وأرفـع مجـدًا بغـير قياس من السارافيم }...
وأيضًا: { لأنه صنع مستودعـك عـرشًا وجعـل بطنك أرحب من السماوات }...
وهكـذا فتكـريم الكنيسة الأرثوذكسية للعـذراء مريم يعـود خاصة للدور الذى لعـبته فى التجسّد...
لـذا, فالاسم الذى تطلقـه عـليها باستمرار هـو إسم " والـدة الإلـه"...
ولذلك, أيضـًا عـندما تمدحها تمدح بنوع خاص ذلك الدور الذى شاء الله أن يسنده إليها فى مقاصـده...
وللسبب عـينه لا تمثـّل الأيقـونات الأرثوذكسية أبدًا العـذراء وحـدها, بلّ تمثلها دومـًا حاملة ابنها وإلهها...
فمجـد والدة الإله مستمد من ذاك الذى شاء أن يُولد منها...
والعـذراء نفسها فى حـياتها الأرضية لم تشأ أن تُـبرز شخصيتها بل كانت دائمـًا متخـفية وراء ابنها والتعـليم الوحـيد الذى نقـله إلينا الإنجـيل عـن لسان العـذراء إنما هـو وصيتها للبشر بأن يطيعـوا ابنها:
[ قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ ] [ يوحنا 2: 5 ]...
وتعـتقـد الكنيسة أن العـذراء بما انها صـارت أمـًا للإلـه المتجسّد, فـقـد أصبحت أيضًا أمًّـا لكـلّ الذين صـار ذاك الإلـه أخـًا لهم بالتجسّد:
[ لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً.... فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا ] [ عـبرانيين 2: 11, 14 ]...
وبنـوعٍ خاص امـًا للذين أصبحـوا بإيمانهم تلامـذة أحـباء له...
فعـندما كان يسوع عـلى الصليب خاطب مريم قائلاً عـن التلميذ الحبيب:
[ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ وَاَلتِّلْمِيذَ اَلَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً قَالَ لأُمِّهِ: { يَا اِمْرَأَةُ هُوَذَا اِبْنُكِ }. ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: { هُوَذَا أُمُّكَ }. وَمِنْ تِلْكَ اَلسَّاعَةِ أَخَذَهَا اَلتِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ ] [ يوحنا 19: 26, 27 ]...
فهـذه العـبارات يصح إطـلاقها عـلى كل تلميذ حبيب ليسوع أى كل مؤمن به...
فى عـرس قانا الجليل تحسست مريم لحاجة أهل البيت وضمت شعـورها بهذه الحاجة إلى شعـور ابنها قائلة له:
[ وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: { لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ}. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: { مَالِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ}] [ يوحنا 2: 3, 4 ]...
هكـذا تتحسس مريم لحاجتنا وشفاعـها هى أن تضم حنوها عـلينا إلى حـنو ابنها...
وهـذه الشفاعـة قـوية كما يظهـر من حادثة عـر قانا الجليل...
وكما تشهد الكنيسة: { ليس أحـد يسارع محاضـرصا إليك ويمضى خازيًا من قبلك أيتها البتول النقية أم الإله }...
ولكن النعمة التى تطلبها لنا العـذراء بنوع خاص هى أن يتصـوّر ابنها فينا حتى نحمله نحن فى كياننا كما حملته هى ونتحـد به كما اتحـدت به هى...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل السادس
==========
اَلْفِـدَاء
---------------
" ..وصُلِبَ عَـنّا عَـلَى عَهْدِ بِيلاطُس اَلْبُنْطِى وتَأَلّمَ وقُـبِرَ وَقَامَ مِنْ بَيْن الأمْوَاتِ فِى اَلْيَوْمِ اَلثَالِثِ كَمَا هُوَّ فِى اَلْكُتُبِ. وَصَعَدَ إِِلَى اَلسَمَوَاتِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اَلآبِ. وَأَيْضًا يَأْتِى فِى مَجْـدِهِ لِيَدِينَ اَلأحْيَاءَ واَلأمْوَاتِ. اَلْذِى لَيْسَ لِمُلْكِهِ إِنْقِضَاء..."
1ـ الصلب
إن الفـداء إمـتداد وتكملة لعـمل التجسّد...
هـذا الفـداء الذى بلغ بالصليب قـمته يمكن أن يُنظـر إليه من ثلاث وجهات نظـر:
*بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا :
بالتجسّد أصبح الله حاضـرًا فى الإنسان ليجـدّده ويشفيه ويشركه فى حـياته الإلهية...
ولكن بقـى أن يُزال الحاجز الذى أقامته الخطيئة فى صميم الإنسان بينه وبين خالقه...
هـذا الحاجز هو كما رأينا إنغـلاق الإنسان وإنطـواؤه عـلى نفسه دون الله, هـو عـبادة الأنـا التى حكمت عـلى الإنسان بعـزلة مميتة...
كان ينبغى, إذًا, تحطيم هـذا الحاجز لتتدفق فى الإنسان حـياة الله, لأن الإنسان الممتلئ من ذاته لم يعـد لله مكان فيه...
لذلك عـندما اتخـذ ابن الله طـبيعـة الإنسان, داوى أنانيتها بالانفـتاح الكامل والعطاء الكامل اللذين حققهما فى إنسانيته...
فإنه طيلة حـياته عـلي الأرض, لم يرد أن يتمتع بالمجـد الإلهى الذى كان كامنـًا فيه...
فإنه : [ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ ] [ فيليبى 2: 7 ]...
أخـلى ذاته من التمتع بالمجـد الإلهى وقبل طوعـًا بوضع العـبد...
فضّل العـطاء عـلى التمتع, ومع أن كل شئ كان فى متناول يده, أراد أن يبذل لا أن يأخـذ:
[ كَمَا أَنَّ اِبْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ ] [ متى 20: 28 ]...
إنه : [ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ ] [ رومية 15: 3 ]...
ولكن حـياته كلها كانت قربانـًا لله الآب وللبشر الذين صار أخـًا لهم...
فقـد وُلـد فقـيرًا فى مذود البهائم وتشرّد عـند إضطهاد هـيرودس له, وعاش معـظم حياته عـاملاً مجهولاً:
[ أَلَيْسَ هَذَا هُوَ اَلنَّجَّارَ اِبْنَ مَرْيَمَ ] [ مرقس 6 : 3 ]...
وطاف يبشّر فيما [ لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20 ]...
ورفض أن يصنع آية فى السماء ليبهـر بها البشر [ وَجَاءَ إِلَيْهِ اَلْفَرِّيسِيُّونَ وَاَلصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ.... جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ اَلنَّبِيِّ ] [ متى 16: 1, 4 ]...
ولكنه كان يصنع العجائب رأفة بالمعـذبين و [ َأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ اَلسُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ ] [ متى 4 : 23 ]...
وقد احتمل عـدم إيمان الكثيرين, حتى أقاربه الذين كانوا ينعـتونه بالجنون وتلاميذه الذين لم يفهموا رسالته حـق الفهم والذين تركـوه كلهم وفـرّوا حين تسليمه, وباعـه أحـدهم وأنكـره آخـر...
وصـبر عـلى كل إهانات وشتائم وإضطهادات أعـدائه الذين كانوا ينعـتونه [ فَقَالَ اَلْيَهُودُ : أَلَسْنَا نَقُولُ حَـسَناً إِنَّكَ سَامِـرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟ ] [ يوحنا 8: 48 ]...
ولم يرد أن ينتـقم منهم بل إنتهـر يعـقـوب ويوحنا عـندما طـلبا إنـزال نـار من السماء لإحـراق قـرية رفـضت أن تستقـبله:
[ وَحِينَ تَمَّتِ اَلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: { يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟ } فَالْتَفَتَ وَاِنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى ] [ لوقا 9: 51 ـ 59 ]...
وزجـر بطـرس عـندما أراد أن يدافع عـنه بالسيف:
[ رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلسَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ ] [ متى 26: 52 ]...
وصلّى من أجـل قاتليه:
[ يَاأَبَتَاهُ اِغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ ] [ لوقا 23: 34 ]...
وأراد, وهو المعلّم والسيّد, أن يكون وسط تلاميذه كالخادم:
[ لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ اَلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ اَلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ ] [ لوقا 22: 27 ]...
وأن يغسل أرجلهم:
[ قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَاِبْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ اَلَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا ] [ يوحنا 13: 4, 5 ]...
هـذا العـطاء الذى به أراد المسيح أن يستأصل أنانيتنا, بلغ ذروته فى الصليب...
كان فى وسع المسيح أن لا يموت بالنظـر لللاهـوت الكامن فيه...
ولكنه ذهب فى تخليه عـن " الأنـا" إلى أقـصى الحـدود, بـاذلاً ذاتـه للمـوت...
وهكـذا قـدّم حـياته عـلى الصليب قـربان محـبة للآب, وتعـبيرًا عـن تخـلّيه التـام عـن مشيئته الذاتية, كما قال بنفسه فى بستان جسيمانى:
[ يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.... يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ ] [ متى 26: 39, 42 ]...
وكما ورد فى الرسالة للعـبرانيين:
[ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ ] [ عـبرانيين 10: 5 ـ 7 ]...
هكـذا تمـرّد آدم, وأطـاع المسيح...
تكـبّر آدم, فتواضع المسيح...
اكتفـى آدم بذاته, فتخلّى المسيح عـن ذاته:
[ وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ ] [ فيليبى 2: 8 ]...
وهكـذا بموته عـلى الصليب, أعـطى البشرية الـدواء الشافى لـداء الأنانية الذى فـصلها عـن الله...
* بالصليب أخذ المسيح عـلى ذاته خطيئتنا :
ومن وجهة نظـر أخـرى, نـرى أن الرب يسوع المسيح, لكى ينقـذنا من الخطـيئة التى أصبحنا نئن تحت وطأتها, شاء أن يأخـذها عـلى نفسه, لا أن يأخـذها هى بـلّ أن يحتمل فى ذاته نتائجها المريعة حـبًا بنا...
إن المحب يود لو أنه يستطـيع أن يأخـذ عـلى نفسه مرض المحبوب ليخلصه من وطـأته...
ولكن ما لا يستطيع أن يفعـله الحب البشرى, استطـاع أن الرب يسوع المسيح أن يتممه إذ أنه, لأجـل محـبته لنا, أخـذ عـلى نفسه مرضنا لينقـذنا منه:
[ لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا0 وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اَلْلَّهِ وَمَذْلُولا ] [ أشعـياء 53: 4 ]... و
[ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا ] [ متى 8: 17 ]...
فإنه وهـو البـرئ من كل خطـيئة, أخـذ عـلى نفسه كل الشقاء الذى جـرّته الخطـيئة عـلى الجنس البشرى:
[ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا0 تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا ] [ أشعـياء 53: 2, 5 ]...
وكـانه مـتروك من الله نفسه:
[ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ] [ متى 27: 46 ]...
حاصـلاً فى ظلمة وحزن مميتين:
[ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى اَلْمَوْتِ ] [ متى 26: 38 ]...
هكـذا تجسّمت فى المسيح ـ وهو لم يعـرف خطـيئة ـ كل مأساة خطـيئة البشر:
[ كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا ] [ أشعـياء 53: 6 ]...
وكأنه صـار هـو خطـيئة عـلى حـد تعـبير الرسول بولس:
[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا ] [ 2 كورونثوس 5: 21 ]...
وهكـذا فإن يسوع المسيح عـلى الصليب ظهـر لله الآب مجسمًا فى جسده الجـريح, الممزّق, المخـتنق, وفى نفسه المنسحقة, بشاعة كل خطيئة البشر التى أخـذها عـلى نفسه فـصار شفـيعـًا للخطـأة أجمعـين عـندما وحـد ذاته معهم:
[ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ ] [ أشعـياء 53: 12 ]...
ذلك أن الآب لم يعـد ينظـر إلى الخطـأة إلا من خـلال هـذه الصـورة, صـورة ابنه الوحـيد الحبيب المصـلوب الذى جعـل نفسه كواحـد منهم.
وبهـذا المعـنى يتابع الرسول بولس:
[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اَلْلَّهِ فِيهِ ] [2 كورونثوس 5: 21 ]...
أى أن الله تصالح مع البشر الخطـأة وغـفـر خطاياهم وبرّرهم وضمهم إليه من خـلال شخص الابن الوحـيد الحبيب الذى وحّـد ذاته معهم...
هكـذا كان الحمل الذى كان يُـذبح فى الهيكـل صباحـًا ومساءً تكفـيرًا عـن خـطايا الشعـب رمـزًا وإشارة إلى المسيح الذى قـال عـنه يوحـنا المعـمدان:
[ هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ اَلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ ] [ يوحنا 1: 29 ]...
* بالصليب انتصر المسيح عـلى الألم والموت بدخوله فيهما :
وهناك أخـيرًا, معـنى ثالث بالغ الأهـمية يتجـلّى فى الصـليب...
لقـد دخـل البشر بالخطـيئة فى مملكة المـوت ( وبلغـة الكتاب والآبـاء تُدعـى " الجحيم" )...
وساد عـليهم الحـزن والألم والضعـف والفـناء...
لقـد أصبحوا كمن اُغـلَّق عـليهم فى سجن مظـلم رهـيب...
لقـد كان بإمكان الله أن يحـرّرهم من الخارج, بكلمة منه فـقـط, بإرادتـه الفائقـة...
ولكن محـبته دفعـته أن يشارك البشر أولاً مصـيرهم لكـى يوحّـد ذاته معهم...
المحـبة تـدفع المحـبّ إلى مشاركة المحـبوب فى آلامـه...
هكـذا محـبة الله للإنسان, كما نعـتها كاباسيلاس, لم تدفعـه إلى إجـتياز الهـوة الفاصلة بين الخالق والمخلوق وحسب ـ وهـذا هو التجسّد ـ بل إلى مشاركته أيضًا فى جـحـيم بؤسه...
فالإلـه بتجسّده:
[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا... ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...
شاء أن يصـير شبيهـًا فى كلّ شئ بالبشر الذين إتخـذهم إخـوة له:
[ مِـنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِـي أَنْ يُشْبِهَ إِخْـوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ ] [ عـبرانيين 2: 17 ]...
أن يشاركهم أيضًا بكلّ ما تعـرّض له هـذا اللحـم والـدم, من جـرّاء الخطـيئة, من حـزن وضـيـق وآلام ومـوت...
هكـذا إكتـمل التجسّد ودخـل ابن الله إلى صميم الطـبيعـة الإنسانية, مخـتبرًا إيـّاها بكـلّ شقائهـا, حتى يشعـر الإنسان فى حـزنه وبؤسه, فى آلامـه الجسدية والمعـنوية, فى نـزاعـه ومـوته, إنـه محـبوب, وأن الله نفسه شاركه فى ذلك كلّه...
لقـد جعـل الله نفسه طـريح الألم لكى لا يشعـر الإنسان أنه يعـانيه وحـده بلّ برفـقة الإلـه المتجسّد الذى عـاش آلام الإنسان فى نفسه وجسده, بمعـيّة ذاك الذى كُتب عـنه:
[ لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ ] [ عـبرانيين 2: 18 ]...
هكـذا دخـل يسوع المسيح, حـبًا بالإنسان, مملكة المـوت التى كان غـريبًا عـنها إطـلاقـًا, ليس فـقـط من حيث إلوهـيته التى هـى ينـبوع الحـياة, بلّ من حيث إنسانيته أيضًا...
فإنسانية يسوع المسيح لم تعـرف الخطـيئة البتـّة ولذلك فقـد كانت بالكـليّه غـريبة عـن مملكة المـوت, ذلك المـوت الذى إنجـرف إليه الإنسان بالخطـيئة...
مملكة المـوت هـى مملكة الشيطـان الذى قـتل الناس بالخطـيئة, ولم يكن للشيطان شئ فى إنسانية يسوع المسيح البريئة من كل عـيب, ولـذا قال يسوع لتـلاميذه قـبل تسليمه بقـليل:
[ لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ ( أى الشيطان الذى تسلّط عـلى العـالم بالخطـيئة ) يَأْتِي ( أى أن يسوع سوف يدخـل بالمـوت إلى مملكته ) وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ ] [ يوحنا 14: 30 ]...
فى تلك المملكة التى كان غـريبًا عـنها بالكلّية, مملكة المـوت والشيطان الذى له [ سُلْطَـان اَلْمَـوْتِ ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...
دخـل يسوع حـبًا بالإنسان سجين ذلك العـالم الرهـيب...
ولكن مملكة المـوت لم يكـن بوسعـها أن تضبط سيد الحـياة والقـدّوس الـبرئ من الخطـأ...
لـذا كان دخـول يسوع فـيها مقـدمة لتحطـيمها وتحـرير الإنسان منها...
هكـذا لما شاركـنا الرب فى الآلام والمـوت أعـتـقـنا من المـوت والآلام...
ولمّا أسلم ذاتـه لذلك العـالم الرهـيب الذى أوجـدته الخطـيئة ضـرب قـوى الخطـيئة الكامنة فينا ضـربة قاضـية...
عـندما طـرح نفسه فى ظلمتنا, أضاءها بنوره, وعـندما شاركنا فى موتنا أعـطانا حـياته...
هكـذا تحقـقت نبـؤة أشعـياء التى ردّدها الإنجـيل مطبقـًا إيّاها عـلى يسوع:
[ اَلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ اَلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ أشعـياء 9 : 2 ]...و
[ الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ ] [ متى 4: 16 ]...
هـذا ما عـبّرت عـنه الرسالة إلى العـبرانيين:
[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْـمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُـوَ أَيْضاً كَـذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَـيْ يُبِيدَ بِالْمَـوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَـهُ سُلْطَـانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ ] [ عـبرانيين 2: 14 ]...
* ملحق :
1 ـ القديس مكسيموس المعـترف هو أحد كبـار معلـمى الكنيسة, عـاش راهـبًا فى القـرن السابع وفقـد لسانه ويـده دفاعـًا عـن الإيمان المستقيم. قال فى سر الخـلاص:
" لقـد عَـلّق السيد جسده الإنسانى كطعم بصنـارة ألوهيته, كأنه يريد بذلك أن يجـتذب الشيطان. وبالفعل هـذا التنين العـقلى, النهم إلى جسد الإنسان فـغـر فاه حـول هـذا الطعـم, حاسبًا إيّاه, من جـرّاء طـبيعـته الإنسانية, سهل المنال. وهكـذا عـلـق بصنـارة الألوهة. بعـد ذلك أرغـمه جسد الكلمة المقـدّس أن يلفظ كليًا الطـبيعـة الإنسانية التى كان سبق فابتلعـها. وهكـذا فالذى كان قـد أغـوى الإنسان مؤمـلاً إيّاه بالتأليه وابتلعـه عـلى هـذا المنوال, أُجْـتـُذِبَ بدوره بجسد الإنسان ذاته وأُرْغِـم عـلى لفـظ ما كان قـد ابتلعـه. هكـذا تجـلّت القـدرة الإلهية بشكل ساطع: فقـد انتصرت عـلى قـوة الغـالب مستخـدمة بمثابة سلاح ضعـف الطـبيعة المغـلوبة. منذ ذلك الحين أصبح الله الظـافر بطـبيعته الإنسانية وليس الشيطان بوعـده الإنسان بالطـبيعة الإلهية"...
2ـ والشاعـر " تشارلز باجى" عـبر عـن احتمال المسيح بالصليب كل لعـنة الخطـيئة, وأحصى مع أثمة، لذلك أصبح للبشر الخطـاة الدالة أن ينادوا الآب " أبانا" من خـلال الابن الوحـيد الذى صـار واحـدًا منهم، قائلاً:
" أبانا الذى فى السموات, لقـد عـلمهم ابنى هـذه الصـلاة...
" أبانا الذى فى السموات, لقـد كان يعـرف ماذا يصنع, فى ذلك اليوم، ابنى الذى كان يحبهم بهـذا المقـدار...
" الذى عـاش بينهم، الذى كان واحـدًا مثلهم...
" الذى كان يسير مثلهم، ويتكلّم مثلهم، ويعـيش مثلهم...
" الذى كان يتألم...
" ابنى الذى أحبهم بهـذا المقـدار، الذى يحبهم أبـديًا فى السماء...
" أبانا الذى فى السموات, تلك الثلاث أو ألأربع كلمات...
" تلك الكلمات التى تسير أمام كـل صـلاة كما تسير يـدا المتوسّـل أمام وجهه...
" كما أن يـدىّ المتوسّـل المضمومتين تتقـدّمان أمام وجهه و دمـوع وجهه...
" هـذا ما أخـبرهم ابنى عـنه، لقـد سلم إليهم ابنى...
" سرّ الدينونة نفسها...
" والآن هكـذا يبدون لى، هكـذا أراهم...
" هكـذا أنا مرغـم أن أراهم...
" كما أن أثتر سفينة جميلة لا يـزال يتسع حتى يتلاشى...
" ولكنه يبدأ برأس، وهو رأس السفينة ذاته...
" هكذا موكب الخطـاة الهـائل لا يـزال يتسع حتى يتلاشى...
" يبدأ برأس هـو رأس السفينة ذاته...
" والسفينة هى ابنى نفسه، حاملاً كل خطتايا العـالم...
" ورأس السفينة هو يـدا ابنى المضمومتان...
" وأمام نظـرة غضـبى وأمام عـدالتى...
" أبانا الذى فى السموات, لقـد اخـترع ذلك...
" لقـد كان معهم، لقـد كان مثلهم، لقد كان واحـدًا منهم...
" أبانا، كمثل رجـل يلقى معـطفـًا كـبيرًا عـلى كتفيه...
" ارتـدى، متجهـًا نحـوى...
" معـطف خطـايا العـالم...."...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـ القـيامة
القيامة إنفجـار قـوة الفـداء المحيية...
ويمكننا لجـلاء معانيها أن نتأملها من وجهتى النظـر التاليتين:
* القيامة فيض الحياة الإلهية فى إنسانية يسوع المنفتحة إلى الله بعطاء كامل :
إن الرب يسوع بالصليب بلغ قمّة التخـلّى عـن إرادته الذاتية وقـدّم ذاته بكلّيته إلى الله الآب...
تقـدمة محـبة كاملة وعطـاء لا تحفظ فيه...
هكـذا أصبحت إنسانية يسوع منفتحـة كل الانفـتاح على الله الآب فى شركة حب كاملة معه, لذا تدفقـت فيها الحياة الإلهية كلها وتحولت بالمجد الإلهى...
لقد كان مجـد الألوهة بالطـبع حالاً فى المسيح منذ تجسّده, إذ لم يـزل إلهـًا بعـد أن إتّخـذ جسدنا, إلا أن هـذا المجـد كان مستترًا, محجـوبًا وراء الطـبيعة البشرية التى إتّخـذها ابن الله بحـدودها وشقائها...
لذا جـاع المسيح وعـطش وبكى وتألّم...
لقد كانت الألـوهة مستقـرة فى قلب كيانه ولكنه كان يبـدو فى الظـاهـر إنسانـًا كبقـية النـاس...
ولكن عـندما اكـتمل عـطاء يسـوع المصلوب إجتاح المجـد الإلهى الكامن فيه والمحتجب وراء طـبيعته الإنسانية هـذا الناسوت كله ومـلأه بقـوة الله وحـياته وجماله...
عـند الفجـر تكون الشمس أولاً متخفية وراء الأفـق, يتراءى نورها خفـيفًا, ناعـمًا, لا يُبهـر الأنظـار, ثمّ ينفجـر النهار ويغـمر النور الكون كله ويضفى عـلى الأشياء كلها بهـاءًا ساطعـًا...
هكـذا ألوهـة الرب يسوع المسيح المستمـدّة أزليًا من الله الآب فاضت بالصليب فى ناسوته المنفـتح كليًا إلى الآب, فتمجّـد هـذا الناسوت وانتصـر عـلى المـوت...
لقـد كانت حادثة التجـلّى:
[ وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ.
وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ.
وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ.
فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ .
وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ اَلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ اَلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اِسْمَعُوا .
وَلَمَّا سَمِعَ اَلتَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً.
فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا .
فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ ] [ متى 17: 1 ـ 9 و لوقا 9: 28 ـ 36 ]...
مقـدمة وصـورة للقـيامة كما يتّـضح من توصـية يسوع بعـد الحادثة:
[ وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ اَلْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ اِبْنُ اَلإِنْسَانِ مِنَ اَلأَمْوَاتِ ] [ متى 17: 9 ]...
فعـلى جـبل التجـلّى فاض نـور الألـوهة المستقـرّ فى الرب يسوع المسيح, فى جسـده, فتغـيّر منظـره وصـار وجهه مضيئًا كالشمس وثيابه بيضـاء كالثلج, لامعـة كالنور...
وقـد حـدث هـذا التحـوّل عـندما كان موسى وإيليا, اللذان ظهـرا, يتحـدّثان مع يسوع:
[ اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ اَلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ ] [ لوقا9: 31 ]...
لقـد تجـلّى يسوع عـندما كان يتحـدّث عـن موته, وفى ذلك إشارة إلى أن إنسانية يسوع كانت سوف تتمجّـد بالمـوت...
تلك العـلاقة الوثيقة بين الصليب وتمجـيد يسوع, قـد أوضحها الكتاب المقـدّس فى مواضع مختلفـة...
ففى إنجيل يوحنا نـرى يسوع يقـول لتلامـيذه قـبل آلامه بفـترة وجـيزة:
[ وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ اِبْنُ الإِنْسَانِ ] [ يوحنا 12: 23 ]...
وأضـاف موضحـًا كيف يتم التمجـيد:
[ اَلْحَـقَّ اَلْحَـقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَـبَّةُ اَلْحِـنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُـتْ فَهِـيَ تَبْقَى وَحْـدَهَـا. وَلَكِنْ إِنْ مَـاتَتْ تَأْتِي بِثَمَـرٍ كَثِيرٍ] [ يوحنا 12: 24 ]...
تمجـيد يسوع هـذا، إذًا، فى مـوته...
كذلك فى الصـلاة التى تفـوّه بها يسوع قـبل خـروجه مع تلاميذه إلى بستان جسيمانى حيث أسلم ذاته, قـال:
[ أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ. مَجِّدِ اِبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ اِبْنُكَ أَيْضاً ] [ يوحنا 17: 1 ]...
" الساعة" التى أتت هى ساعة الصليب والموت كما يتضح من مكان آخـر:
[ فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ ] [ يوحنا 7: 30 ]...
" أتت الساعة, فمجـد ابنك" يعـنى, إذًا, أن ساعة الموت كانت بالنسبة للرب يسوع المسيح هى ساعة المجـد...
الصـليب, إذًا, كان يحمل كلّ طـاقـة القـيامة:
لقـد دخـل يسوع المجـد ( الذى له منذ الأزل وهو فى حضن الآب ) عـندما قـبل بإجـتياز المـوت ولم يبـق بعـد ذلك إلا أن يظهـر هـذا المجـد بقـيامته من بين الأمـوات...
بالصليب, إذًا, تحقـقـت القـيامة, لذلك فقـد كانت آلة العـار هـذه بالنسبة ليسوع عـرش المجـد والظفـر...
لذا, شبهها الرسول بولس بتلك المـركبة التى يقـف عـليها قـادة روما الظافـرون ويدخـلون بها إلى المدينة جارين وراءهم رؤساء الأعـداء مقـيدين...
هكـذا إعـتلى المسيح الصليب كمركبة ظفـر وربط بها الأرواح الشريرة مقـيّدة ذليلة:
[ إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيه] [ كولوسى 2: 14, 15 ]...
ولذلك, تحتفـل الكنيسة الأرثوذكسية بحـزن وخشوع فى فى صـلاة الساعة السادسة من يوم الجمعة العـظيمة بذكـرى الصلب منشدة ذاك النشيد المؤثر:
[ يا مـن فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة سُمّرت عـلى الصليب من أجـل الخطـية التى تجَـرّأ عـليها آدم فى الفـردوس.... يا يسوع المسيح إلهـنا الذى سُمّرت عـلى الصليب فى الساعة السادسة وقـتلت الخطية بالخشبة وأحيَيْتَ الميت بموتك, الذى هـو الإنسان الذى خلقته بيديك, الذى مات بالخطية, اقـتل أوجاعـنا بآلامك المشفية المحيية وبالمسامير التى سُمّرت بها... صنعت خـلاصًا فى وسط الأرض أيها المسيح إلهنا عـندما بسطت يديك الطاهـرتين عـلى الصليب, فلهـذا كل الأمم تصرخ قائلة: المجـد لك يارب...]...
مظهـرة هكـذا أنه حينما بلغـت الظلمة أشدّها بمـوت المسيح, انفجـر النور فى صميمها ولم يبق لنا إلا انتظار ظهوره فى صباح الفصح...
كذلك, فى خدمة" جناز المسيح" , التى يُحتفل بها بتذكار دفن المسيح, تنشد مع المراثى ترانيم القيامة...
ويا ليتنا نقـرأ, ونتأمّل فى الإصحاح الثالث من مراثى أرميا النبى...
* القيامة تفجير لمملكة الموت بدخول سيد الحياة فيها:
ومن جهة أخرى فقـد رأينا أن الرب يسوع المسيح دخـل فى مملكة الموت ( وبعـبارة أخـرى فى الجحيم ) لكى يشارك الإنسان بؤسه وشقاؤه...
ولكن الموت لم يكن بإمكانه أن يضبط من هـو بلاهـوته سيد الحـياة ومصـدرها...
لذلك فقـد كان دخـول المسيح فى الموت حكمـًا مـبرمـًا عـلى المـوت بالزوال...
والمـوت نتيجـة الخطـيئة, ثمـرتها السامة, لذا تحطيم مملكة الموت يعـنى أيضًا تقـويض سلطة الخطـيئة...
لقـد دخـل الرب يسوع المسيح بموته فى السجن الذى كـنّا مقـيّدين, مستعـبدين, نـئن تحت نـير الشر والبؤس والمـوت, فـدكّ هـذا السجن الرهـيب وحطمه من أساسه...
فـأطـلق المـوت يسوع وأطـلق معـه البشرية جمعـاء التى وحـّد يسوع ذاته بها...
لـذا تنشد الكنيسة معـبّرة عـن الخـلاص بصـورة شعـرية:
" أيها الرب, أيها الرب, أن أبواب المـوت قـد انفتحـت لك من الخـوف, ولما أبصرك بوابو الجحيم ارتعـدوا, لأنك حطمت أبوابه النحاسية وسحقت أقفاله الحـديدية وأنقـذتنا من ظلمـة المـوت وإدلهمامه وقطعت قـيودنا"...
وأيضًا:" جمع المـلائكة انذهـل متحـيرًا لمشاهـدتهم إياك محسوبًا بين الأمـوات أيها المخلص وساحقـًا قـدرة المـوت ومنهضـًا آدم معك ومعـتقًا إيّانا من الجحيم كافة"...
هكـذا تحقـقت بقـيامة المسيح النبوة التى كان قـد تفـوّه بها هوشع النبى:
[ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ ] [ هوشع 13: 14 ]...
تلك النبوة ردّد الرسول بولس صـداها بعـدما تحقـقت بالمسيح منشدًا بنشوة الظـفـر الذى جعـلنا يسوع مساهمين فيه:
[ وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: { ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ }. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ ] [ 1 كورونثوس 15: 54, 55 ]...
وأضـاف:
[ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ][ 1 كورونثوس 15: 56, 57 ]...
معـلنًا أن إنتصـار المسيح عـلى الموت هـو فى الآن نفسه إبـادة للخطـيئة فـينا, تلك الخطـيئة التى تُنـْتِج المـوت...
هكـذا صـار المسيح القائم من بين الأمـوات محـرّر الإنسانية الحقـيقى الأوحـد لأنه لم يكتف بمعـالجة بعـض مظـاهـر مأساة الإنسان لكنه جـابه المـأساة فى أعـماقها وأصـولها وجعـل فـينا طـاقة تجاوزها...
إنه جـابه قـوى المـوت الكامنة فى الإنسان ( أى قـوى التفكك التى مـزّقت الإنسان نفسًا وجسمًا ) ومن ورائها تلك القـوة الرهيبة التى استخدمتها لاستعـباد الإنسان أعـنى بها قـوة الشيطان...
لقـد جـابه يسوع الشيطان فى عـقـر داره, إذا صحّ التعـبير, وضع نفسه بين براثـنه ليحطمه ويخلّص منه البشر...
دخـل إلى مملكته المظـلمة ليقـيّده ويُبطـل قـوته...
وقـد عـلّمْـنا الرب يسوع نفسه هـذه الحقـيقة بمثل عـندما قـال:
[ حِينَمَا يَحْفَظُ اَلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ اَلْكَامِلَ اَلَّذِي اِتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ] [ لوقـا 11: 21. 22 ]...
هكـذا انتصـر المسيح عـلى الموت لما إجـتاز ظـلمته, لقـد " وطئ المـوت بالمـوت" كما تنشد الكنيسة...
لقـد فـتح باب النـور والحـياة بيـديه الداميتين..
ولكنه أحـرز هـذا الظـفـر من أجـلنا نحن, ليجعـلنا مساهمين فيه: نحن ظـافـرون إذًا عـلى قـدر إتحـادنا بالمسيح الظـافـر...
نعـم, إننا لا نـزال نخطـئ ونتألّم ونمـوت, ولكن طاقة الحـياة الظـافرة قـد زُرِعَـتْ فى أعـماقـنا...
من يمـرّ عـلى حقـل بعـد أن زُرعـت فيه البـذور يخاله جامدًا, ميتًا, ولطـم الحـياة كامنة فى أعـماقه تتحفـّز للوثـوب وسوف تنتصـب بعـد فـترة تحت السماء سنابل ذهـبية تتماوج فى النـور...
عـندما كان يسوع موضـوعـًا فى القـبر, كان يبـدو ميتـًا كبقـية الموتى ولكن الحـياة كلها كامنة فى هـذا الجسد الساكن, كقـنبلة مؤقتة كان لابـد لها أن تفـجّـر الموت وتدحْـرج حجـر الضـريح...
هكـذا, فالمتحـدون بيسوع يحملون فى أجسادهم المائـتة ونفـوسهم التى لـم تتحـرّر بعـد كليًا مـن ضـعـفها, طاقة قـيامة ربهم التى سوف تحـوّلهم فى اليـوم الأخـير عـلى صـورة السيد الناهض مـن بـين الأمـوات...
[ لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ ] [ 1 كورونثوس 15: 53 ]...
وقـد كتب الرسول يوحـنا بهـذا المعـنى, مظهـرًا كيف أننا فى آن حاصـلون عـلى التجـدّد ومنتظـرون إعـلانه الكـامل فـينا:
[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، نَحْنُ الآنَ أَوْلاَدُ اللهِ. وَلاَ نَعْلَمُ حَتَّى الآنَ مَاذَا سَنَكُونُ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ، سَنَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ عِنْدَئِذٍ كَمَا هُوَ! ] [ 1 يوحنا 3: 2 ]...
بالقـيامة تحقـق الخـلاص الذى شاء الرب أن يتممه بتجسّده وصـلبه...
القـيامة, إذًا, عـلامة نجـاح خطـة الله لإنقـاذ الإنسان...
إنهـا برهـان خـلاصنا...
ولذلك, فهى الركـيزة الأساسية للبشارة المسيحـية...
فقـد كان الرسل قـبل كل شئ شهـودًا لقـيامة الرب يسوع المسيح:
[ فَيَنْبَغِي أَنَّ اَلرِّجَالَ اَلَّذِينَ اِجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ اَلزَّمَانِ اَلَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا اَلرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ. مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى اَلْيَوْمِ اَلَّذِي اِرْتَفَعَ فِيهِ عَنَّا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ ] [ أعـمال الرسل 1: 21, 22 ]...
وكتب الرسول بولس إلى أهـل كورونثوس:
[ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ ] [ 1 كورونثوس 15: 14 ]...
القـيامة قلب الإيمان المسيحى والحـياة الروحـية...
إنها أيضـًا محـور الترتيب الطقسى, فـكـل يوم أحـد تذكـار للقـيامة, وكل قـدّاس إلهى هـو إستمرار لهـا, والصـوم الكبـير إستعـداد للفصـح, والفصـح " عـيد الأعـياد وموسم المواسم" كما تسميه الطقـوس, وقلب الكنيسة الأرثوذكسية فيه تنشد الكنيسة متهللة:
المسيح قام...بالحقيقة قام...
إخـرستوس أنستى... أليسوس أنستى...
* ملحق:
عـظـة للقـدّيس يوحـنا ذهبى الفـم بمناسبة أحـد الفصـح المجـيد:
من كان حسن العـبادة ومحـبًا لله فليتمتع بحسن هـذا الموسم البهيج. من كان عـبدًا شكورًا فليدخـل إلى فـرح ربه مسرورًا. من تعـب صـائمًا فليأخـذ الآن أجـرته دينارًا. من عـمل من الساعـة الأولى فلينـل اليوم حقـه بعـدل. من قـدِم بعـد الساعـة الثالثة فليعـيّد شاكـرًا. من وافى بعـد الساعـة السادسة فلا يشك فإنه لا يسر شيئًا. من تأخّـر إلى الساعة التسعة فليتقـدّم غـير مرتاب. من وصـل الساعـة الحادية عشرة فلا يخف الإبطـاء فإن السيد كـريم جـوّاد, يقـبل الأخـير مثل الأول, ويربـح العـامل من الساعة الحادية عشرة مثل العـامل من الساعة الأولى. يرحـم الأخـير ويرضى الأول. يعـطى ذاك ويهب هـذا. يقـبل الأعـمال ويسر بالنية. يُكـرم الفـعـل ويمدح العـزم. فإدخـلوا إذًا كلكم إلى فـرح ربكم. أيها الأولون والأخـيرون خـذوا أجـوركم. أيها الأغـنياء والفقراء أطـربوا معـًا فـرحين...
أمسكتم أو توانيتم أكـرموا هـذا النهـار. صمتم أو لم تصوموا أفـرحوا اليوم. المائدة مـلآنة فتمتعـوا كلكم. العـجل سمين وافٍ فلا يخـرجن أحـدًا جائعـًا. تمتعـوا كلكم بوليمة الإيمان. تمتعـوا كلكم بوليمة الصـلاح. لا ينوحـنّ أحـد عَـن فـقـر فإن المملكة العامة قـد ظهـرت. لا يندمنّ أحـد عـلى إثم فإن الصفح قـد بزغ من القـبر. لا يخف أحـد المـوت فإن موت المخلص قـد حـرّرنا. فإنه قـد أخـمد الموت حـين قبض الموت عـليه, وسبى الجحيم بنزوله إليه. مرمره لما ذاق جسده. هـذا ما سبق أشعـياء ونادى قائلاً: تمرمر لما إلتقاك أسفـل. تمرمر لأنه بطل. تمرمر لأنه هُـزئ به. تمرمر لأنه قـد أميت. تمرمر لأنه قـد أبيد. تمرمر لأنه قـد رُبط...
تناول جسدًا فصـادف إلهـًا...
تناول أرضًا فألفـاها سماءًا...
تناول ما نظـر, فسقط من حيث لم ينظـر...
أين شوكتك يامـوت؟...
أين غـلبتك ياهـاوية؟...
قـام المسيح وأنت صـُرعـت...
قـام المسيح والشياطين تساقطت...
قـام المسيح والملائكة جـذلوا...
قـام المسيح والحـياة انبعـثت...
قـام المسيح ولا أحـد ميت فى القـبر...
قـام المسيح من الأمـوات فصـار باكـورة الراقـدين...
فلـه كلّ المجـد والعـزّة إلى دهـر الداهـرين. آمـين...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 ـ إشتراكنا فى صليب الرب وقيامته
* تمسك الإنسان بأنانيته مخافة من الموت:
إن ما فعـله الرب بإجـتيازه الموت الذى قـاده إلى القـيامة، إنما فعـله من أجـلنا...
ذلك أن الإنسان كان عـليه، كى يُخلّص من شقائه وتفكـكه،أن يقـبل بالتخلّى للأنـا، فيلاقى الله من جـديد وينعـم بحـياته...
ولكن الإنسان الساقط لم يعـد قـادرًا عـلى هـذا التخلّى لأن فى ممارسته شعـورًا بالإنسلاخ والفـراغ وضـياع الذات...
وبعـبارة أخـرى، إذا شاء الإنسان أن يعـرض عـن إتخـاذ الأنـا محـورًا لكـل شئ، شعـر وكـانه يمـوت، كأن حـياته تفلت منه...
لـذا يتمسّك الإنسان بأنـانيته مخـافة من المـوت...
ولكنه بذلك يبقى بعـيدًا عـن الله، ينبـوع الحـياة، وبالتـالى يبقى أسير المـوت ( بمعـناه العام، أى بمعـنى التفكـك الكـيانى الذى ليس الموت الجسدى سوى مظهـر من مظاهـره )...
إذًا, الإنسان يبقـى أسير الموت بداعـى خـوفه من الموت...
تلك هى المفارقة الكـبرى التى هى فى صميم مأساة الإنسان والتى يمكن لكـلّ واحـد منـّا أن يختبرها...
فلنتساءل:
لمـاذا نخطـئ، فنجعـل حاجـزًا بين الله وبيننا؟...
الجـواب العـميق عـن هـذا السؤال هـو أننا نخطـئ مخافـة من الموت...
لمـاذا يسرق الإنسان؟...
لأنه مثـلاً يخـاف من الحـرمان، والحـرمان نوع من المـوت...
لماذا الكـذب؟...
لأنه مثلاً يخاف من العـقـاب، والعـقـاب نـوع من المـوت...
لمـاذا يـزنى؟...
لأنـه فى كـثير من الأحـيان يخـاف من العـزلة، والعـزلة نـوع من المـوت...
لمـاذا يتـباهى؟...
لأنه يخـاف أن لا يعـجب به الناس، أن يهمـلوه، وإهـمال الناس له نوع من المـوت...
مجمـل الكـلام أننا نستعـبد أنفـسنا للخطـيئة، وبالتالى للمـوت، الذى هـو عـلى حـدّ تعـبير الرسول بولس:
[ أَجْـرُ اَلْخَطِـيْئَةِ ] [ رومية 6: 32 ]...
لأن الخطـيئة تفـصـل عـن الله مصـدر الحـياة، بسبب خـوفـنا من المـوت...
هـذا ما عـبّر عـنه الكتاب المقـدّس فى الرسالة إلى العـبرانيين بقـوله:
[ وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عـبرانيين 2: 15 ]...
ولنا نموذج لـذلك فى عـلاقتنا البشرية...
كل إنسان يحـلم بأن يعـيش صـداقة كاملة أو حـبًا كامـلاً، لأن قـلبه يتـوق إلى شركة إنسانية كهـذه يروى بها عـطشه إلى حـياة كامـلة...
ولكن الصـداقة الكاملة والحب الكامل أمـران يسعـى إليهما الإنسان دون أن يتمكّن من إدراكهما كـليًا...
إنه فى أحسن الإحـتمالات يقـترب من تحقيقهما ولكنه، حتى فى هذه الحال، يُبقـى عـلى شئ كـثير من العـطش والعـزلة...
إن إتحـاده بمن يحب لا يمكن أن يكـون كامـلاً...
لمـاذا؟...
لأن إتحـاد الإنسان بمن يحـبه لا يتم إلا إذا قـبل الإنسان بأن لا يكـون أنـاه محـورًا لوجـوده، بأن يتخـلّى عـن تمـلّك ذاته، بعـبارة أخـرى إذا قـبل الإنسان بأن يمـر بخـبرة المـوت...
ولكـن الإنسان فى وضعـه الساقـط، وأن قـبل جـزئيًا بتلك الخـبرة، لا يستطـيع أن يقـبلها كـليًا وفى الصميم...
أنه يخـاف المـوت ولـذا يبقى أسير العـزلة وبالتالى أسير المـوت...
* الكلمة المتجسّد الوحـيد الذى استطاع أن يتخـلى عـن تملك ذاته:
يسوع المسيح وحـده تمم بناسوته ما لم يكـن بوسع أى إنسان أن يتممه...
الإنسان يسوع المسيح استطـاع وحـده أن يتخـلّى بالحقـيقة عـن تملّـك ذاته، وبعـبارة أخـرى استطـاع وحـده أن يقـبل المـوت بالكـلية وفى الصميم...
ولـذا, استطـاع وحـده أن يـلج بإنسانيته إلى مجـد الله...
لقـد كان رئيس الكهنة عـند اليهـود يدخـل مـرة فى السنة إلى قـدس الأقـداس ( الذى كان يمثل السماء ) حامـلاً دم الذبائـح...
الرسالة إلى العـبرانيين تقـول لنـا أن ذلك كان رمـزًا للمسيح الذى كان فى الآن نفسه الكاهن والذبيحـة، وقـد دخـل بدمه المسفـوك إلى مجـد الله:
[ وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً ] [ عـبرانيين 9: 11, 12 ]...
هـذا الدخـول إلى مجـد الله إنما ظهـر بالقـيامة...
* المسيح نائب عـن البشر أجمعـين:
ولكـن يسوع المسيح قـد أتمّ هـذا العـطاء الكامل لا من أجـل نفسه بلّ بالنيابة عـن البشر أجمعـين...
عـندما قـبل المـوت كـليًا إنما قـبله كممثل عـن البشر الذين لا يستطيعـون هـم قـبوله...
هـذا ما عـبّر عـنه الرسول بولس بقـوله:
[ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا ] [ 2 كورونثوس 5: 14 ]...
عـطاؤنا ناقـص لا يمكن أن نبلغ به إلى الله، إنه مشوب بالأنانية المستحكمة فـينا بسبب خـوفنا من المـوت...
ولكننا نستطيع أن نلج إلى الله من خـلال عـطاء يسوع المسيح الكامل...
يسوع، بما أنه قـربان كامل لله، يشفع بضعـفنا وعـجـزنا ويقـرّبنا من الله، كأننا طـيور مكسورة الأجنحة يحملها نسر قـوى ويحـلّق بها إلى أقصى الفضـاء:
[ لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ ] [ عـبرانين 7: 25 ]...
بذبيحة الرب يسوع إذًا، تلك الذبيحة التى تبلغ وحـدها السماوات، ننـال القـيامة التى هى تـدفـق الحـياة الإلهـية فى كـياننا المتفكـك، المـائت...
* إرادة الإنسان والخـلاص:
ولكـن الفـداء لا يفـعـل فـينا بشكل سحـرى...
الله لا يُخلّص الإنسان بالاستقـلال عـن إرادة الإنسان لأنه يحـترم حـريته...
لـذا لا ينـال القـيامة من يرفـض الإشتراك فى صـليب المسيح، أى من لا يقـبل أن يدخـل فى طـريق المـوت عـن الذات سلكها يسوع حتى النهـاية...
لقـد علّمنا الرب صـراحة أنه لا يسعـنا الإشتراك معه فى الحـياة الإلهـية ( أى فى قـيامته ) إن لم نسلك فى أثـره طـريق المـوت:
[ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا ] [ متى 16: 24, 25 ]...
وقـد عـلّمنا الرسول بولس أن إشتراكنا فى الصليب ضـرورى إذا شئنـا أن نكـون منتمـين إلى المسيح وبالتـالى أبناء القـيامة:
[ وَلَكِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا اَلْجَسَدَ ( أى الخطـيئة، أى عـبادة الذات ) مَعَ اَلأَهْوَاءِ وَاَلشَّهَوَاتِ ] [ غـلاطية 5: 24 ]...
و [ فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ اَلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ ] [ رومية 6: 8 ]...
و [ حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ] [ 2 كورونثوس 4: 10 ]...
و [ لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ اَلأَمْوَاتِ ] [ فيليبى 3: 10, 11 ]...
* التوبة والأعـمال:
إننا فى وضعـنا الساقط لا نستطيع بالطـبع أن نقـدّم ذواتنا بالكـلية، ولكـن المطلوب منا أن نجـتهد فى هـذا السبيل...
أن ننـوى بصـدق السير فى طـريق نكـران الـذات وراء المعـلم...
تلك هـى التـوبة فى الأساس...
إنهـا سير فى طـريق إسـلام الذات لله...
وهـذا السير يدوم الحـياة كلها لأن عـطاءنا يبقى ناقصـًا ما حيينا...
لـذا فالكنيسة ليست كنيسة الصـديقين بلّ كنيسة التائبين أى العـائدين من عـبادة ذواتهم إلى عـبادة ربهم...
ولنا فى هـذا السير دافعـان يشددان عـزمنا:
1ـ محبة المسيح لنا:
لقـد تجلّت محـبة المسيح لنا بشكل باهـر فى بذله ذاته من أجـلنا...
وقـد قـال هـو عـن نفسه:
[ لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ ] [ يوحنا 15: 13 ]...
وأيضـًا:
[ أَمَّـا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِـي الصَّـالِحُ وَأَعْـرِفُ خَـاصَّتِي وَخَـاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْـرِفُنِي وَأَنَا أَعْـرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَـعُ نَفْسِي عَنِ اَلْخِرَافِ ] [ يوحنا 10: 14, 15 ]...
هـذا الحب المبذول يثـير حـبنا ويدفـعنا إلى أن نحـيا فيما بعـد لا لـذواتنا بل للـذى مات عـنّا حـبًا...
بهـذا المعـنى كتب بولس الرسول:
[ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ اَلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ اَلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَام ] [ 2 كورونثوس 5: 14, 15 ]...
وفى مكان آخـر كتب:
[ مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ] [ غـلاطية 2: 20 ]...
أى أننى أسلّم ذاتى ( هـذا هـو المعـنى العـميق للإيمان ) لذلك الذى أسلَم ذاته لأجـلى...
هكـذا فالحب الذى تثـيره فـينا محـبة المسيح المبذولـة لنـا حـتى المـوت يساعـدنا عـلى التغـلّب عـلى الخـوف من المـوت, ذلك الخـوف الذى يحـول دون تقـدمة ذواتنا...
هـذا ما تنشده الكنيسة عـن الشهـداء:
{ لأن المحبة قـد غـلبت الطـبيعة ( أى مخافة الموت المتأصـلة فى طبيعـتنا ) وجعـلت العاشق أن يتّحـد بواسطة الموت بالمعشوق } ( خـدمة عـيد القـديس جورجـيوس )...
2ـ ثقـتنا بانتصار المسيح عـلى الموت:
ومن جهة أخـرى فإن حـدّة الخـوف من المـوت تخـف فـينا لمعـرفتنا أن المسيح قهـره بمـروره فـيه...
فيما كان يتحـدّث عـن قـيامة السيد، هتف الرسول بولس بلهجة الانتصـار:
[ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ ] [ 1 كورونثوس 15: 55 ]...
ونحـن إذا شئنا التخـلّى عـن أنـانيتنا ومـررنا من جـراء ذلك فى خـبرة المـوت يهـدأ جـزعـنا لعـلمنا أننا لسنا نجتـاز هـذه الخـبرة وحـدنا، بل بمعـيّة ذاك الذى إجـتاز المـوت قـبلنا وقهـره:
[ أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ اَلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ] [ مزمور 23: 4 ]...
* الرب يعـين ضعـفنا
إننا نتمـرّس، إذًا، عـلى تقـدمة ذواتنا مدفـوعـين بالحب الذى تـثيره فـينا محـبّة الرب لنا وبثقـتنا بانتصـاره عـلى المـوت...
ولكن الرب أيضًا يعـين ضعـفـنا...
ذلك أننا إذا قـبلنا أن نشترك فى صلـيبه، فإن تقـدمتنا هـذه، وإن كانت لا تـزال ناقـصة، مشوبة بالأنانية, تبلـغ إلى الله محمـولة عـلى أجنحـة تقـدمته هـو، كما رأينا...
وبعـبارة أخـرى فإن قـبولنا الإشتراك فى صـليب المسيح يجعـلنا مشتركين فى قـيامته أيضًا، أى فى الحـياة الإلهـية التى إحـتاجت إنسانيته المقـرّبة إلى الله...
وإذا تدفـقـت الحـياة الإلهـية فـينا، أصـبحـنا أكـثر قـدرة عـلى المحـبّة والعـطاء...
تلك هى النعـمة الإلهـية التى تجـدّدنا باستمـرار بفـعـل صـليب الرب وقـيامته...
* إقـتبال الأسرار الإلهية:
هـذا ما يجـرى خاصة عـند إقـتبالنا الأسرار الإلهـية...
فعـند إقـامة سر الشكر مثلاً، فى القـدّاس الإلهى، يأتى المؤمنون إلى الله بتوبتـهم ( أى بعـزمهم عـلى إسلام ذواتهم لله ) ولكن هـذه التقـدمة لا تبلغ إلى الله إلا لكـونها تندمج فى التقـدمة الكاملة الوحـيدة، تقـدمة المسيح المصـلوب التى يشكّل كل قـداس إمـتدادًا لها...
إستحـالة الخـبز والخمـر ( اللذين يمثلان تقـدمة البشر ) إلى جسد ودم المسيح معـناها أن المسيح إتخـذ توبـة البشر الناقصـة ودمجهـا بتقـدمته هـو ليوصلها إلى الآب...
هكـذا يبلغ المؤمنون بالمسيح إلى الله وينالون بتناول القـرابين الحـياة الإلهية فيصـيرون مشاركى القـيامة التى تجـدّدهم وتؤهلهم لأن يكـونوا بدورهم قـرابين...
* التوبة المستمرة:
هكـذا بالتـوبة التى هى عـملية تستمـر العـمر كلّه ـ لأن طاعـتنا لله ناقصـة ما حيينا ـ وبالأسرار، نشترك أكـثر فأكـثر فـينا عـلى حـدّ تعـبير الرسول، أى نصبح أكـر فأكـثر مساهمين فى انفـتاحه التـام للآب وفى تدفّـق الحـياة الإلهـية فـيه...
وهكـذا شيئًا فشيئًا نصـبح عـلى حـد تعـبير الرسول:
[ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً اِحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ اَلْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا ] [ رومية 6: 11 ]...
وشيئًا فشيئًا نستطيع أن نتبنـى قـول الرسول:
[ لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ] [ غـلاطية 2: 19, 20 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ـ الفداء ومحبة القريب
* محبة الفادى لنا تلهم محبتنا للناس:
محـبة الفـادى التى تجلّت فى بـذله ذاتـه عـنّا هى بمثابة النـار التى لا بـدّ أن تُلْـهب ما حـولها...
إنها حَـرِيّـة بأن تُضـرم فـينا بدورنـا نـار المحـبة...
لقـد قـال الرب بهـذا المعـنى:
[ جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى اَلأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اِضْطَرَمَتْ؟ ] [ لوقا 12: 49 ]...
الحب يستدعـى الحب...
لقـد بيّـن عـلم النفس الحـديث أن الطفـل يستمد من محبة والديه له المقـدرة عـلى أن يحب بدوره النـاس، وبعـبارة أخـرى إن حب والديه له يوقـظـه إلى الحب، يفجّـر فـيه طاقـة الحبّ...
هكـذا المحـبة الفائقـة التى أبـداها الرب نحـونا تنتزعـنا من إكـتفـائيـتنا لتـلقى بنا بدورنا فى مجازفة الحب...
هـذا الجـواب الحى عـلى محـبّة السيّد يتّخـذ ، كما رأينا، شكل الحب لشخصه، ولكنه يتّخـذ أيضًا شكل محـبّة البشر...
ذلك لأنـه لا يسعـنا، إذا كـنّا مؤمنـين، إلا أن نـرى فى كل إنسان، أيًّـا كان:
[ فَيَهْلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِكَ اَلأَخُ اَلضَّعِيفُ اَلَّذِي مَاتَ اَلْمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ ] [ 1كورونثوس 8: 11 ]...
عـند ذاك يصبح كل إنسان، فى نظـرنا، ذا قـيمة لا تقـدّر، قـيمة الدم الإلهـى الذى سكب من أجـله...
* إن محبة الفادى لنا تعين نوعية محبيتنا للناس:
محـبّة الفـادى لا تُـلْهِم محـبـتنا للنـاس وحَسْب، ولكنها أيضـًا تعـين نوعـيتها...
ذلك أنـه ينبغـى لنـا أن نحبّ النـاس بالمحـبّة التى أحـبهم بها المسيح...
تلك هى وصـية السيد فى خطابه الوداعـى:
[ هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ ] [ يوحنا 15: 12 ]...
هـذا يعـنى أنـه ينبغـى أن تكـون لمحـبتنا للنـاس الصفـات التالية:
أ ـ مبنية عـلى بذل الذات:
يُكْـثر النـاس من استعـمال كلمـة " أحـبّ"، ولكنها هيهات أن يكـون الحب الذى يتحـدّثون عـنه فى كـثير من الأحـيان هـو الحـب الأصـيل الذى عـاشه السيّد...
" أحب التفـاح" يعـنى أننى أتلف التفـاح من أجـل لـذتى...
" أحبّ" إنسانـًا يعـنى فى كـثير من الأحـيان، إذا شئت أن أواجه حقيقتى، أننى أريـد تسخـيره وإستغـلاله لشهـوتى أو مصلحتى...
أمّا المسيح فقد أحـبّنا من أجـل أنفسنا وعـوض أن يُسَخّـرنا له سَخّـرَ نفسه لأجـلنا...
لقـد إعـتبر أن لـنا من الأهمية ما يُبرّر سفـك دمه الإلهى عـنّا...
فأتـاح لنـا هكـذا أن نكتشف المحـبّة الحقـة التى تقـوم عـلى العـطاء...
ولـذا نـرى الرسل يحـثونا عـلى إقـتفـاء آثتار السيّد فى محـبتنا للناس، فقـد قال الرسول يوحنا:
[ وَمِقِيَاسُ الْمَحَبَّةِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَسِيحُ إِذْ بَذَلَ حَـيَاتَهُ لأَجْـلِنَا. فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نَبْذُلَ حَـيَاتَنَا لأَجْلِ إِخْوَتِنَا ] [ 1 يوحنا 3: 16 ]...
" أَنْ نَبْذُلَ حَـيَاتَنَا " يسوع لم يعـطِ فقـط أشياء مما له, إنما أعـطى ذاته للنـاس، طـيلة حـياته أولاً، التى كانت مسخّـرة لخـدمتهم، ثم فى تقـدمته الكـبرى عـلى الصليب...
ما يُطـلب منّـا أن لا نكتفـى نحـن أيضًا بإعـطاء بعـض الوقت أو المـال للغـير، بلّ أن يكـون الغـير شغـلنا الشاغـل وموضـوع إهـتمامنا الدائم...
المطـلوب أن لا نعـود نحن مركـز إهـتمام ذواتنا بلّ أن يصـبح الغـير هم مركـز الإهـتمام، كما كتب الرسول بولس:
[ فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ اَلضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ اَلْبُنْيَانِ. لأَنَّ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ ] [ رومية 15: 1 ـ 3 ]...
ب ـ تتجلّى بالمشاركة:
المسيح إذ أحـبنا شاركنا حـياتنا وآلامـنا وموتنا...
ومحـبتنا نحـن أيضًا يجب أن تتحـلّى بالمشاركة...
قـد يكـون فى الشـفقة ترفّـع عـن الغـير، ولذا فقـد تجـرح النـاس وتضيف إلى آلامهم ألمـًا جـديدًا ومـرارة...
لذلك أوصى الكتاب:
[ فَرَحاً مَعَ اَلْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ اَلْبَاكِينَ ] [ رومية 12: 15 ]...
وأيضًا:
[ اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي الْجَسَدِ ] [ عـبرانيين 13: 3 ]...
وقـد عـاش الرسول بولس المحـبّة إلى حـدّ المشاركة الصميمة فى المـآسى التى أحسّها:
[ مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟ ] [ 2 كورونثوس 11: 29 ]...
ج ـ توجه الإرادة والعمل:
ولكـن هـذه المشاركة لا قـيمة لها إن لم تتعـدّ صـعـيد العاطفـة...
فقـد نـريح ضمـيرنا بشكل رخيص مكـتفـين بأن " نشعـر" مع الناس...
ولكن مشاعـرنا لا تهم الله كـثيرًا...
أن ما يهـمه إرادتنـا...
المسيح لن يتلـهَّ بتعـابير غـنائية عـن المحـبة وإنما عـاشها فى عـرق وجهـاد وفى النهـاية بتسلم ذاتـه للمـوت...
لـذا, فليس المهـم أن " أحسّ" نحـو الناس بانعـطاف, إنما المهم أن أوجّـه إرادتى بالفـعـل نحـو خـدمتهم...
هـذا ما عـلّمنا إيّـاه الرسول يوحنا بقـوله:
[ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ الصِّغَارُ، لاَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُنَا مُجَرَّدَ ادِّعَاءٍ بِالْكَلاَمِ وَاللِّسَانِ، بَلْ تَكُونَ مَحَبَّةً عَمَلِيَّةً حَقَّةً ] [ 1 يوحنا 3: 18 ]...
د ـ مجانية, غـير مشروطة:
لقـد كان الله هـو البادئ بالمحـبّة، إذ أن الإله المتجسّد بذل نفسه عـنّا بغـض النظـر عـن عـدائنا له، عـن رفضـنا إيّـاه...
لقـد أحـبنا مجـانـًا، دون قـيد أو شرط، لا لسبب آخـر سوى حـبّه المجـانى...
هـذا ما حـدّثنا عـنه الرسول بولس بقـوله:
[ لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ اَلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. ] [ رومية 5: 6 ـ 8 ]...
وبالمعـنى نفسه كتب الرسول يوحـنّا:
[ وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لاَ مَحَبَّتَنَا نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا ] [ 1 يوحنا 4: 10 ]...
هكـذا يجب أن تكـون محـبتنا للناس مجـانية كمحـبة يسوع لنـا...
يجب أن نحـبهم مهما كانت صـفاتهم، مهما كان إنسجامهم أو عـدم إنسجامهم معـنا، مهما كانت عـلاقاتهم بنا وتصـرّفـاتهم نحـونا:
[ وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ.
وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى اَلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا.
وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ اَلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ اَلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ اَلْمِثْلَ.
بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي اَلْعَلِيِّ فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ اَلشَّاكِرِينَ وَاَلأَشْرَارِ ] [ لوقـا 6: 32 ـ 35 ]...
المسيحى هـو دومـًا البادئ بالمحـبة كما ان المسيح هـو المـبادر بالحب نحـونا...
لقـد كـنّا غـرباء عـنه، ضائعـين فى متاهـات عـبادة الذات، ولكـنه أتى إلينا ـ ولا يزال يأتى ـ فجعـلنا قـريبين إذ غـمـرنا بحـبّه المـبذول...
هكـذا عـلّمنا من هـو القـريب...
لقـد كان اليهـود يعـتقـدون أن القـريب، الذى تتوجّب عـليهم محـبّته، هـو من كان يشاركهم فى الجنس والدين..
وذات يوم سأل أحـد معلّمى النامـوس يسوع قائلاً : من هو قـريبى؟...
فلم يجبه مـباشرة بلّ روى له مثـل السامـرى الصـالح:
[ إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذَلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضاً إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلَكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟ فَقَالَ: الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَاصْنَعْ هَكَذَا] [ لوقا 10: 25 ـ 37 ]...
هـنا فجّـر يسوع وصـية المحـبة التى كانت فى العـهد القـديم، إذ أعـطانا أبعـادًا شاسعـة وجعـلها تتخطـّى كلّ الحـدود...
عـلمنا أن القـريب ليس من هـو قـريبى، أى من تربطنى به روابط اللحم والدم، روابط العـاطفـة أو المصلحة، روابط الرأى الواحـد، والمجتمع الواحـد...
إنّمـا قـريبى هـو من أصـير أنـا قـريبًا منه بمحـبتى له...
القـريب هـو من أقـترب أنـا منه بالمحـبّة...
إننى أصـبح قـريبـًا لكـل إنسان ـ ويصبح كـل إنسان قـريبى ـ إذا أحـببته، ولو لم يكـن بين هـذا الإنسان وبينى أى رابط بشرى...
أكـثر من ذلك, إذا كان إنسان ما عـدوّى، فمحـبتى غـير المشروطة له تجعـله قـريبـًا، كما أن المسيح صـار قـريبًا لى، وقـد كنت عـدوّه، إذ بـذل نفسه عـنّى...
إننى أصـبح قـريبـًا لكـل إنسان ـ ويصبح كـل إنسان قـريبى ـ إذا أحـببته، ولو لم يكـن بين هـذا الإنسان وبينى أى رابط بشرى...
أكـثر من ذلك, إذا كان إنسان ما عـدوّى، فمحـبتى غـير المشروطة له تجعـله قـريبـًا، كما أن المسيح صـار قـريبًا لى، وقـد كنت عـدوّه، إذ بـذل نفسه عـنّى...
هـ ـ موجهة بصورة خاصة إلى المتألمين:
تلك المحـبّة للقـريب يجب أن تشمل بنوع خاص البشر المتـألمين، الذين هم بحاجة خاصة إليها...
إن كـنّا نحب المسيح فـلنا أن نـرى فى كلّ معـذبى الأرض وجهه الدامـى المكلّـل بالشوك وجسده الممزّق وكـرامته المـداسة من الناس ونفسه الحـزينة حتى الموت...
ذلك أن الرب نفسه جعـل تلك المطابقـة بين المـتألمين وبينه، فـأقـام وحـدة بينه وبين الجـائعـين والعـطاش والعـراة والغـرباء والمـرضى والمسجـونين:
[ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ ] [ متى 25: 35, 36 ]...
هـذا ما سوف يقـوله الرب للأبـرار فى اليـوم الأخـير، مضـيفـًا:
[ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ ] [ متى 25: 40 ]...
والصغـار هـؤلاء هم البؤساء والضعـفاء الذين هم بنـوع خاص أخـوة يسوع إذ لم يشارك الرب البشر أمجـادهم وغـناهم بلّ إرتضى أن يشاركهم بؤسهم وفـقـرهم...
المـألمون إمـتداد للمسيح المـتألم...
ولذلك كـان أحـد الآبـاء الروحـيين يقـول:
{ إن شئتم أن تلمسوا اليـوم جـراح المسيح كما لمسها تـوما، فما عـليكم إلا أن تحتـكّوا بإنسان بـائس}...
لـذا, فموقـفنـا من البائسين لا يمكن أن يكـون بحـال من الأحـوال موقف التـرفـّع والتفضـّل، إنما هـو موقـف إحـترام عـميق لهـؤلاء الذين ، وإن لم يـدروا، وإن جـدّفـوا، هم فى بشاعـة بؤسهم صـورة لذاك الذى إرتضى أن يصبح:
[ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ اَلنَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ اَلْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ ] [ أشعـياء 53: 2, 3 ]...
يُـروى عـن القـديس يوحـنا الذى كان بطـريركـًا للإسكندرية أوئل القـرن السابع ودُعـى " يوحـنا الرحـوم"، أنـه عـندما استلم مسئوليته البطـريركـية طـلب من أعـوانه أن يضعـوا له لائحـة بأسماء " سادته"...
وعـندما سألوه مستغـربين من عـسى يكـون هـؤلاء السادة؟...
أجـابهم بأنهم فـقـراء الإسكندرية...
هـذا هـو الموقف المسيحى الأصـيل...
ولكـن محـبّة البؤساء والمحـرومين لا يمكن أن تتخـذ طـابع العـمـل الفـردى وحسب، لأنها عـندئذ تكـون ناقصـة...
محـبتنا المسيحية للبائسين تدعـونا لرفض كـلّ ما يكـرّس يؤسهم وحـرمانهم فى الأنظمة الإقـتصـادية والسياسية والإجـتماعـية...
تلك المحـبة تدعـونا للنضـال من اجـل إقـامة مجتمـع يـؤمن لمعـذّبى الأرض العـدالة وشروط حـياة كـريمة...
هـذا ما فهمه عـدد متكـاثر من المسحيين فى عـصـرنا الذين فى كـلّ أقطـار المعـمورة يناضـلون من أجـل العـدالة وكـرامة الإنسان، مدفـوعـين لا بإعـتبارات إنسانية وحسب بل بقـناعـتهم بأن كل ظلم يلحـق بالإنسان إنما هـو طعـنة للمسيح فى الصميم... كل ما لم تفـعـلوه بأحـد إخـوتى هـؤلاء الصغـار فبى لم تفـعـلوا...
أمـام الدمـاء النازفـة من جـراح محـرومى الدنـيا، لا يسع المسيحيين إلا أن يتذكّـروا عـبارة باسكال الشهـيرة:
{ المسيح فى نـزاع إلى منتهى الدهـر، فكيف يسعـنا أن ننام؟ }...
* من قيامة المسيح نستمد المقدرة عـلى محبة القريب:
ولكن محبة القـريب، كما حددناها، تلك المحبة غـير المشروطة التى تتجه إلى الآخـر من أجـل ذاتـه وتبذل ذاتها من أجـله، تلك المحبة لا تنسجم مع متطـلبات " الإنسان العـتيق" فينا، ذلك اِلإنسان الساقـط، أسير الأنـا، الذى يَعْـتبر ذاته مركزًا للكـون ولا ينظـر إلى الآخـر إلا كوسيلة لإشباع شهـوته أو حاجـز دون بلوغ مأربه...
المحبة المسيحية تفـرض أن نتخـلّق بأخلاق الله وهذا لا يتم لنا إلا باشتراكنا بقيامة المسيح التى بها نصبح مساهمين فى حياة الله وبالتالى فى أخلاق الله...
المحبة المسيحية ثمـرة القـيامة التى نشترك بها كما رأينا بالتوبة وبالأسرار...
" الإنسان العـتيق"، وهـو فى كل منا كامن ما حيينا، لا قـدرة له عـلى المحبة المسيحية لأنه بعـيد عـن الله، فى تفكـك ومـوت...
الحـياة الإلهية إذا تدفـقت فى كياننا تكـوّن فـينا إنسانـًا جـديدًا، مستعـيدًا صـورة خـالقـه، وتجعـلنا بالتالى قـادرين عـلى محـبة القـريب...
لـذا, كتب الرسول يوحنا إلى المسيحيين قائلاً لهم أن المحبة التى تجمع بينهم هى برهان خروجهم من الموت إلى الحياة، أى برهان مساهمتهم فى قيامة المسيح:
[ إِنَّ مَحَبَّتَنَا لإِخْوَتِنَا تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّنَا انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. فَالَّذِي لاَ يُحِبُّ إِخْوَتَهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي الْمَوْتِ ] [ 1 يوحنا 3 : 14 ]...
وقـد كتب الرسول نفسه أيضًا:
[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً: لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَصْدُرُ مِنَ اللهِ. إِذَنْ، كُلُّ مَنْ يُحِبُّ، يَكُونُ مَوْلُوداً مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ ( بالمعنى الكتابى: أى متحد بالله ) . أَمَّا مَنْ لاَ يُحِبُّ، فَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّفْ بِاللهِ قَطُّ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ! ] [ 1 يوحنا 4: 7, 8 ]...
لـذا, تربـط الكنيسة بين القـيامة ومحـبة الناس فتنشد فى خـدمة الفصح:
{ اليوم يوم القـيامة ... فلنقـل يا إخـوة ونصفح لمبغـضينا عـن كل شئ فى القـيامة }، وكـانها تذكّـرنا بذلك أن إشتراكنا فى القـيامة ينبوع محـبتنا للآخـرين...
ولكن إذا كانت محـبة الإخـوّة ثمـرة إشتراكـنا فى القـيامة، فمن جهة أخـرى، التمـرّس عـليها والجهـاد من أجـل إكتسابها هو مظهـر أساسى لذلك المجهـود، مجهـود التـوبة، الذى به، كما رأينا، نقـبل الإشتراك بصليب الرب فنصبح مشتركين فى قيامته...
إن إجهـاد تسليم ذواتنا للرب لا ينفصم عـن الجهـاد فى سبيل محـبة القـريب:
[ وَنَحْنُ أَنْفُسُنَا اخْتَبَرْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي خَصَّنَا اللهُ بِهَا، وَوَضَعْنَا ثِقَتَنَا فِيهَا. إِنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي اللهِ، وَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ ] [ 1 يوحنا 4: 16 ]...
مجمـل الكـلام أن محـبة القـريب هى ثمـرة القـيامة وطريق القـيامة فى آن...
إن الاعـتراف بالآخـر شخصـًا مستقـلاً عـن أهـوائنا ومصالحـنا، مهمـًا بحـد ذاته، بعـبارة أخـرى، الإعـتراف به عـلى أنه آخـر وليس مجـرّد إمـتداد لشخصى، هـذا الإعـتراف الذى تفـرضه المحـبة المسيحية، " جحيم" بالفعـل لـ " الإنسان العـتيق" فىّ، إنسان الشهـوة، أسير عـبادة الذات...
إنه إنسلاخ وموت...
ولكن من قـبل أن يجـتاز هـذا المـوت يشترك فى صليب المسيح ويبلغ إلى الله من خـلال إنفـتاحه للآخـر فتتحـقق " السماء" فى قـلبه...
*ملحق:
1 ـ كان يوحنا ذهبى الفـم، بطريرك القسطنطينية ( الذى جرّد البطريركية من كل مظاهر الترف وعاش فيها فقيرًا وتوفى سنة 407 فى المنفى لتوبيخه الملوك ) يخاطب بجرأة أغـنياء عصـره، معـلنًا إن إهمالهم للمساكين فى سبيل ترفهم هو إهمال للمسيح نفسه، ومن أقـواله:
{ لقـد أعـطاكم الله سقفـًا دون المطـر لا لترصّـعوه ذهـبصا فى حين أن الفقير يموت جوعـًا. وأعـطاكم ملابس لتتستروا لا لتزكشوها بترف فى حين أن المسيح العارى يموت بردًا. أعـطاكم منزلاً لا لتسكنوه وحـدكم بل لتستقـبلوا فيه الآخـرين، والأرض لا لتـددوا مواردها عـلى الجـوارى والراقـصات والممثلين وعـازفى المزمار والقـيثارة ولكن لتسعـفوا الجـياع والعـطاش...} ...
{ ماذا ينفع تزيين مائدة المسيح بأوان ذهبية إذا كان هو نفسه سموت جوعـًا؟. فأشبعـه أولاً حينما يكون جائعـًا. وتنظـر فيما بعـد فى أمـر تجميل مائدته بالنوافـل ... }...
{ فـلا تزين الكنائس إن كان ذلك لإهمال أخـيك فى الشدّة، هـذا الهيكل أكـثر جـلالاً من ذاك }...
{ بينما كلبك متخم, يهلك المسيح جوعـًا }...
إنك تحترم هذا المذبح حينما ينزل إليه جسم المسيح ولكنك تهمل وتبقى غـير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذى هو جسم المسيح}...
2 ـ ويقـول فرانسوا مورياك ـ الحائز عـلى جائزة نوبل فى الأدب ـ فى محاضرة أمام ثلاثة آلاف شخص بمناسبة أسبوع المفكـرين الكاثوليك، عـنوانها: " الإقـتداء بجـلادى المسيح":
{ أيًا كانت مبرراتنا وأعـذارنا، أقـول أنه، بعـد تسعة عشر قـرنًا من المسيحية، لا يظهـر المسيح أبـدًا, لجـلادى اليوم، فى المعـذّب، لا ينكشف الوجه المقدّس أبـدًا فى وجه العـربى الذى يهوى عـليه مفـوض الشرطة بقبضـته ( وذلك فى نضال المغاربة لنوال استقلالهم عام 1954 وتعـذيبهم من الشرطة الفرنسية ) ألا تجـدون غـريبًا أن يفكّـروا أبدًا بإلههم المقـيد بالعـمود والمسلّم إلى الجـند, أن لا يسمعـوا، من خـلال صـراخ ضمائرهم وأنينها صـوته المعـبود يقـول: " بى تفعـلونه". ذلك الصـوت الذى سيدوّى يومًا، ولن يكون عـند ذاك متوسلاً, وسيصـرخ بنا كلنا نحن الذى قبلنا وربما لأيدنا هذه الأشياء: " كنت هتذا الشاب المحب لوطنه والمحارب من أجـل ملكه، كنت هذا الأخ الذى كنت تريد أن ترغمه عـلى خيانة أخـيه...". كيف لا تعـطى هذه النعـمة أبدًا لأحـد هؤلاء الجـلادين المعـمّدين؟ كيف لا يلقى جنود الفـرقة أحـيانًا سوط الجلد ليركعـوا عـند أقـدام ذاك الذى يجـلدونه؟ }...
3 ـ ويقـول " ألـبير لحـام" فى محاضرة عـن " العـدالة السياسية فى المسيحية" التى نشرت بمجلة " محاضرات الندوة" بتاريخ 11/12/1966 ، ص 44:
قلب المسيحية هو الإيمان بأن ابن الله إتخـذ فى ذاته آلامنا طـوعـًا ليحـررنا من الآلام. ليست المسيحية، إذًا، كما يقول البعـض، ديانة تدعـو إلى الخـنوع أمام الألم والظلم...
ليست المسيحية ديانة الألم...
إنما هى ديانة الفـداء...
لا قـيمة للألم فى نظـرنا إلا إذا اقـتُبل, كما اقـتبله المسيح, محـبة بالله وبالآخـرين...
المسيحى, إذا أراد أن يسير فى طريق سيده، لا بـدّ له أن يكـون مستعـدًا لإحـتمال الألم والموت من أجـل تحـرير المتألمين والمظلومين والمستعـبدين، لا بـدّ أن يناضل حتى الدم من أجـل العـدالة...
هـذا ما أوضحه الأستاذ " ألبير لحام" فى محاضرة ألقـاها فى الندوة اللبنانية ضمن سلسلة محاضرات " العـدالة فى المسيحية والإسلام". وفيما يلى مقطع منها:
{ فى وسط الجناح المخصص للمسيحية فى متحف الإلحـاد فى مدينة لينيجراد يقـوم تمثال كـبير للسيد المسيح يرزح تحت وطأة صليب ثقـيل. هـذا التمثال، يقـول لك الدليل، هو رمـز المسيحية التى تدعـو الناس إلى حمل الصليب والرضوخ للظلم والقـبول بالألم والإستسلام للطغـيان بانتظـار حـياة الآخـرة. هـذا التعـريف الكاريكاتورى للمسيحية، كم يذكرنى بقـول الرسول بولس:
[ فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ] [ 1 كورونثوس 1: 18 ]...
فالصليب ليس عـنوان الذل والخمـول والإستسلام...
بل عـنوان المحـبة الإلهية الفـادية...
والتضامن المطلق مع جميع الناس...
والمشاركة التامة للرازحين تحت الظلم والطغـيان...
والمجازفة الجـريئة حتى الموت لتحـريرهم جميعـًا...
لأنه، كما تقـول الرسالة إلى العـبرانيين:
[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين 2: 14, 15 ]...
فإذا كان المسيحى يلتزم قـضية العـدالة السياسية فى مجتمعه، فلأنه يسير فى خطى ذلك الذى إلـتزم بؤسنا وشقاءنا إذ لبس طـبيعـتنا وخاض معـنا، كواحد منا، معـركة المـوت والحـياة، وفتح لنا بصليبه طـريق النصـر والرجـاء وهـو القائـل:
[ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ ] [ يوحنا 10: 10 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 ـ الصعـود
* الصعود تتويج لعملية الفداء:
فالمجـد الإلهى، كما رأينا، إجتاح إنسانية يسوع لما أسلمت بإرادتها ذاتها بالكـلية عـلى الصليب...
هـذا المجـد الإلهى نفسه الـذى أقـام يسوع من بين الأمـوات كان كفـيلاً بأن يصعـده إلى السماء، أى بأن يهـب لإنسانيته الإشتراك التام بالحـياة الإلهـية وبالسيادة الإلهـية عـلى جميع الكائنات...
هكـذا دخـلت طـبيعة يسوع الإنسانية، عـندما بلغـت الكمال بالصليب، فى ذلك المجـد الإلهـى الذى كانت طـبيعـته الإلهية تتمتع به منذ الأزل...
هـذا ما أشار إليه الرب عـندما خاطـب الآب قـبيل ذهابه إلى الآلام قـائلاً له:
[ وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ اَلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17 : 5 ]...
هكـذا كان إنحـدار المسيح بإخـتياره إلى دركـات المـوت طـريقـًا لبلوغـه ذروة المجـد...
هـذا ما أشار إليه الرسول بولس عـندما كتب:
[ اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ اَلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ اَلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ اَلْكُلَّ ] [ أفسس 4: 10 ]...
عـندما إبتعـد ابن الله بتواضعـه الفـائـق، إلى أبعـد حـدّ عـن أصـله الإلهى، عـند ذاك، وبفـعـل هـذا التواضـع بالـذات، عـاد بجسده إلى ذلك الأصـل الإلهى...
هـذا ما انشده الرسول فى رسالته إلى أهـل فيليبى:
[ الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اَللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اِسْماً فَوْقَ كُلِّ اِسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي اَلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى اَلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ اَلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اَللهِ اَلآبِ ] [ فيليبى 2: 6 ـ 11 ]...
* تلك هى السماء التى صعد إليها يسوع:
تلك هى السماء التى صعـد إليها يسوع والذى كان إرتقـاؤه فى الفضاء أمـام التـلاميذ صـورة ورمـزًا لهـا...
إن عـددًا من المؤمنين يخـلطـون بين السماء المادية و" سماء" الله...
يعـتقـدون أن الله كائن يقـبع فى أجـواء الفضاء العـليا...
ويشاركهم عـدد من غـير المؤمنين هتذا التفكـير...
هكـذا صـرّح رائـد الفضاء " تيتوف" أن الله غـير موجـود لأنه لم يجـده أثـناء رحـلته الفضـائية...
هـذا تصـوّر صـبيانى لا يلـيق بالعـقـل الإنسانى ولا بطـبيعة الله...
فالله ليس قـابعـًا فى أجـواء الفضـاء الخـارجى العـليا، إنه كائن لا يحـدّه مكان وهـو حـاضـر بمعـرفته وقـدرته وحـبه وعـنايته فى كل مكان...
إنما الإنسان لكـونه كائنـًا حسيًا ومحـدودًا، لا يستطـيع أن يعـبّر عـن الله إلا بصـورة حسية، ناقـصة...
السماء المادية تعـلو عـن الارض، لذلك إتّخَـذَت فى كل الأديان صـورة عـن تعـالى الله...
عـبارة " سماء" نفسها مستقـاة من " سما" التى تعـنى " عـلا"...
السماء المادية رمـز إذًا لتعـالى الله...
هـذا ما عـبّر عـنه أشعـياء النبى عـندما كتب:
[ لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ اَلرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ اَلسَّمَاوَاتُ عَنِ اَلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ ] [ أشعـياء 55 : 8, 9 ]...
صعـود المسيح إلى السماء يعـنى، إذًا، إشتراك إنسانيته فى تعـالى الله، فى حـياة الله، فى مجـد الله، فى سيادة الله...
* لكن يسوع صعد إلى السماء ليصعد البشرية معه:
نزعـة الإنسان العـميقة هى أن يبلغ إلى السماء, أى إلى الإشتراك فى الحـياة الإلهـية...
هـذا المعـنى العـميق لحـنينه إلى القـدرة والمعـرفة والعـدالة والحـبّ والسعـادة والخـلود...
ولكنه يطمع أن يبلغ السماء بفـعـله الذاتى...
فأتباع الديانات الوثنية كانوا ولا يزالون يعـتقـدون أن الإنسان يستطيع أن يبلغ إلى عـالـم الإلوهـة بواسطة طـقـوس يقـيمها أو تقـشفات ينصـرف إليها...
كذلك نـرى الكـثيرين من البشر فى عـالمنا الحـديث يحلمـون بتـأليه الإنسانية بوسائل بشرية بحـتة كالإخـتراعـات العـلمية والأنظمة الإجتماعـية...
تجـاه تلك المواقف تعـلن المسيحية أن الإنسان لا يستطـيع بفـعـله الذاتى أن يتخلّص من حـدوده ويبلغ إلى التـأليه، إنه لا يسعـه بمجـرّد مبادرته الذاتية أن يتحـرّر جـذريـًا من الشقاء والخطـيئة والعـزلة والمـوت...
السماء لا تقـتحـم إقـحـامـًا إنما تنحـدر إلينا هـبة مجـانية...
لم يكن بإستطـاعـة الإنسان أن يبلغ إلى الله لو لم ينحـدر الله إلى الإنسان ليرفعـه إليه...
هـذا ما عـبّر عـنه الرب يسوع عـندما قـال لنيقـوديموس:
[ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ ] [ يوحنا 3: 13 ]...
طريق السماء أى الحـياة الإلهـية بما تتضمنه من إنتصـار نهـائى عـلى الخطـيئة والشقـاء والعـزلة والمـوت، إنما فـتحـه لنا المسيح عـندما عـاد بالجسد إلى مجـده الذى كان له منذ الأزل...
بصعـوده دشّن صعـودنا نحن...
هـذا معـنى صـلاته إلى الآب قـبل الآلام:
[ أَيُّهَا اَلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي اَلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قََبْلَ إِِنْشَاءِ اَلْعَالَمِ ] [ يوحنا 17: 24 ]...
بصعـود الرب يسوع المسيح بـدأ تأليهنا نحن:
[ اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ ] [ أفسس 2: 4 ـ 6 ]...
* لقد فتح لنا يسوع بصعوده طريق السماء:
أى طـريق الإشتراك فى الحـياة الإلـهية...
بقى عـلينا أن نسلك هـذه الطـريق...
ولكن طريقـنـا لا يمكن أن تكـون غـير طـريق يسوع...
وطـريق يسوع إلى القـيامة ثم إلى الصعـود كانت طـريق الإنسلاخ المعـطاء...
طـريق نكـران الذات فى إتجـاه محب إلى الله والناس...
لـذا من أراد الإشتراك فى الصعـود وجب عـليه أن ينسلخ، بجهـاد هـو عـملية الحـياة كلها، عـن التمتع الأنانى بخـيرات الدنيا، كى يتجه، مع المسيح وبمؤازرة نعمـته، إلى فـوق، أى إلى تلك الشركة مع الله التى أعـدّت لنا...
هـذا ما علمنا إياه الرسول بولس عـندما كتب إلى أهل كولوسى:
[ فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ اَلْمَسِيحِ فِي اَللهِ] [ كولوسى 3: 1 ـ 3 ]...
* الصعود لا يعنى إذًا هـروبًا من الأرض وواجباتها:
ولكن عـبارة الرسول: [ اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ ] لا تعـنى ، كما يعـتقـد البعـض، أنه ينبغـى للمسيحيين أن يهملوا الأرض، أن يتركـوها وشأنها...
هـذا التفسير بالطـبع مرفـوض لأنه ينافى محـبة القـريب التى بدونها، كما رأينا، لا يمكننا أن نقـترب من الله...
محـبة الإخـوة تفـرض أن نهـتم بشئونهم ليس الروحـية وحسب بل الأرضـية أيضًا ( كما أشبع المسيح الجـياع وشفى المرضى )، أن نعـالج إذًا من أجلهم شئون الدنـيا ( بالعـمل والعـلم والنضـال الإجتماعـى مثلاً )...
عـبارة الرسول تعـنى إذًا أن نعـرض عـن التمتع الأنانى، النهم بخـيرات الأرض...
من إنشغـل بهـذا التمتع تغـرّب عـن الله وعـن الآخـرين لأنه غـارق فى شهـوته...
أما المسيحى الذى يكافح أنانية الشهوة فإنه بمشاركته صـليب الرب، يساهم فى صـعوده، وإذ ينال هكـذا الحـياة الإلهية لا يصبح غـريبًا عـن الناس وهمومهم بل قـريبًا منهم كل القـرب بتلك المحـبة التى فيه، المستمدة من محـبة الله لخـلائقـه...
الصعـود لا يعـنى إذًا هـروبـًا من الأرض وواجباتها ومشاكلها وآلامها...
هـذا الهـروب، أيًا كانت مـبرراته، يدل بالعـكس عـلى أننا لم نصعـد بعـد، عـلى أننا لا نـزال أسرى " الإنسان العـتيق" فينا يـؤلّه راحـته وطمأنينته...
الصعـود هـو بالعكس إلتزام كلّى لكـلّ قضايا الإنسان فى الأرض...
إنه حضـور كله حب وبـذل...
ذلك أن السماء، كما سبق فقـلنا، ليست فـوق الغـيوم ولكنها، فى صميم كياننا، إشتراك، منذ الآن، فى حـياة الله...
لقـد قـال الرب يسوع:
[ وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ ] [ لوقا: 17: 21 ]...
وملكـوت الله هـو الحـياة الإلهية، هـو بعـبارة أخـرى السماء...
إذًا, المسيحى الحقـيقى يصعـد إلى السماء دون أن يترك الأرض، إنه يعـيش عـلى الأرض سماويًا أى مشتركـًا فى حـياة الله إلى أن تكتمـل فيه فى اليوم الأخـير...
هـذا ما عـبّر عـنه الرب يسوع عـندما قـال عـن تـلاميذه، مخـاطـبًا الآب:
[ وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي اَلْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي اَلْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ اَلْقُدُّوسُ اِحْفَظْهُمْ فِي اِسْمِكَ. اِلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ.
أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَاَلْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ اَلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ اَلْعَالَمِ
لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ اَلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ اَلشِّرِّيرِ ] [ يوحنا 17: 11, 14, 15 ]...
المؤمن المشترك فى صعـود ربـه يتخـلّق بأخـلاق الله:
[ اَلدِّيَانَةُ اَلطَّاهِرَةُ اَلنَّقِيَّةُ عِنْدَ اَللَّهِ اَلآبِ هِيَ هَذِهِ: اِفْتِقَادُ اَلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ اَلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ اَلْعَالَمِ ] [ يعـقوب 1: 27 ]...
ولكن الحـياة الإلهية الكامنة فيه هى فى جوهـرها حبّ وعـطاء، لذلك لا يسعـها إلا أن تنسكب وتنبت فيما حـولها، ناشرة فى الأرض عـدلاً وسلامـًا وفـرحـًا وإخـاء...
هكـذا يُشـعّ الملكـوت من المؤمنين ليحـوّل الأرض كما تُخـمّـر خمـيرة صـغـيرة العـجين كله:
[ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ ] [ متى 13: 33 ]...
بهـذا المعـنى دعـا الرب يسوع المؤمنين به :
[ مِلْحَ اَلأرْضِ ] [ متى 5: 13 ]...
الملح يختلف عـن الطعـام ولكنه يختلط بالطعـام إخـتلاطـًا صميميًا ليطعـمه كله...
هكـذا يحمـل المـؤمن فى ذاته حـياة الله التى تفـق العـالم ولكنه يبثـها فى كل مرافـق الوجـود الأرضى، فى الحـياة العـائلية والمهنية والإجتماعـية والسياسية...
حـبّه للنـاس وإشتيـاقه إلى رؤيـة الملكـوت قـد تحـقق تمـامـًا يدفعـانه إلى رسم صـورته فى الكـون...
لذلك، لا يسعـه إلا أن يجـاهد من أجـل كـل حـق وخـير الأرض، من أجـل العـدل والسلام والإخـاء بين البشر، من أجـل كـرامة كـلّ إنسان ونمـو شخصـيته، من أجـل تقهـقـر الشقـاء والألم والمـرض والمـوت...
* ولكن المسيحى يعلم أن تحوّله هو وتحوّل الكون لم يكتملا إلا عند المجئ الثانى فى نهاية الأزمنة:
بصعـود المسيح ألقى نـور الله فى صميم الدنيا وبـدأت الأرض تتحـوّل إلى سماء، ولكن فى نهاية الأزمنة :
[ وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ ] [ 2 بطرس 1: 19 ]...
ويجـدّد الكـون :
[ وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ ] [ 1 كورونثوس 15: 28 ]...
صعـود الرب إذًا مقـدمة لمجـيئه الثـانى الظـافـر كما يتضح من الحـادثة نفسها:
[ اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ. إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ. اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا { مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ}. أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: { يَا رَبُّ هَلْ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟ } فَقَالَ لَهُمْ: { لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ. لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ }. وَلَمَّا قَالَ هَذَا اِرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ. وَقَالاَ: { أَيُّهَا اَلرِّجَالُ اَلْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا اَلَّذِي اِرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى اَلسَّمَاءِ} ] [ أعمال الرسل 1: 1 ـ 11 ]...
لـذا ينتظـر المؤمن هـذا الكـون الجـديد:
[ وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ ] [ 2 بطرس 3: 13 ]...
هـذا الكـون الذى وصفـه يوحـنا الرسول فى سفـر الرؤيا قـائلاً:
[ وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ اَلْمَدِينَةَ اَلْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ اَلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اَللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا.
وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ اَلسَّمَاءِ قَائِلاً: " هُوَذَا مَسْكَنُ اَللهِ مَعَ اَلنَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاَللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ.وَسَيَمْسَحُ اَللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَاَلْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ اَلأُمُورَ اَلأُولَى قَدْ مَضَتْ".
وَقَالَ اَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ: "هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً ". وَقَالَ لِيَ: " اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ اَلأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ " ] [ رؤيا 21 : 2 ـ 5 ]...
تلك الأرض المتجـدّدة التـى أصـبحت سماء حضـور الله الكـامل فـيها هـى موطـننا الحقـيقى...
بهـذا المعـنى ورد فى الرسالة إلى العـبرانيين:
[ لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ ] [ عـبرانيين 13: 14 ]...
وفى الرسالة إلى أهـل فيليبى:
[ فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ، اَلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ اَلرَّبُّ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اِسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ ] [ فيليبى 3 : 20, 21 ]...
* ولكننا ندخل هـذا الكـون المتجـدد منذ الآن:
بهـذا المعـنى قـال الرب يسوع:
[ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ ] [ يوحنا 4: 23 ]...
التجـديد سيكتمل فى اليوم الأخـير ولكنه منذ الآن قـد بـدأ...
ينبغـى أن ندخـل فيه منذ الآن حتى يتحقـق فينا كامـلاً عـند مجئ الرب الثـانى...
المسيحى لا ينتظر مجئ يوم الرب وحسب ولكنه:
[ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَاَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ.
وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ.
لِذَلِكَ أَيُّهَا اَلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هَذِهِ، اِجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ.
وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا اَلْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ اَلْحِكْمَةِ اَلْمُعْطَاةِ لَهُ ] [ 2بطرس 3: 12 ـ 15 ]...
أى أنه يبـدأ بتحقـيقه، بنعـمة الرب، فيه وحـوله، مستنزلاً عـلى الأرض بعـض أيام السماء...
وفى جهاده، المـرير أحـيانًا، من أجـل الحـق والخـير والفـرح فى الأرض، يشعـر بثقـة لا تعـادلها ثقـة لأنه يعـلم أن جهـوده لن تضـيع وأن الشر والمـوت سيقـهـران نهـائيًا بنعـمة الإله الذى تجسّد وصـلب وقـام وصعـد إلى السماء ليحـرر الإنسان من الخطيئة...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل السابع
===========
اَلثَالوث القدوس
--------------------
" ..أؤمن بإله واحد, الله الآب....وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور ... نعم أؤمن بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب..."
* ليس الثالوث فلسفة :
إن الكـثيرين من المسيحيين يظـنون أن عـقـيدة الثالوث هى نظـرية فلسفـية وهى قضية معـقـدة لا يفهمها أحـد، وبالتالى هى موجـودة ونقـول بها، إلا أنها لا تمت بصـلة إلى الناس وإلى ما يعـيشون...
ولكن عـندنا القـديس " إغـريغوريوس اللاهـوتى" الذى يقـول: " الثالوث فـرحى"...
إذًا, وُجِـدَ أناس ليس الثالوث بالنسبة إليهم شرحـًا فلسفـيًا، ليس تعـليمـًا للأذكـياء ولكنه حـياة تُعـطى للنـاس جميعـًا، وكل الناس يمكنهم الإشتراك فى حـياة الثالوث...
ليس عـند المسيحيين تعـليم إلا وله عـلاقة بحـياة البشر الأقـرب إلى معـيشتهم، ليس المسيحيون فـلاسفة وليس ثمة عـنصر فـلسفى فى دياناتهم، وهم يُجـلّون إيمانهم عـن أن يكون فـلسفيًـا...
هـذا يعـنى أنه ليس هناك عـنصر أرضى يكـوّن إيمانهم...
هم يقـولون أن الألف واليـاء فى إيمانهم هـو الثالوث القـدوس...
وبالتالى، لا مهـرب من أن نواجه هـذا الذى يقـال عـنه فى المسيحية أن البـداية والنهاية...
* ما يُنسب للإنسان لا يُنسب لله :
يجب القـول، بادئ ذى بدء، تمهـيدًا لبسط العـقـيدة، أننا إذا تحـدّثنا فى الله فإنما يكـون للكلمات معـانٍ غـير المعـانى المألوفة...
الله يُتَحّـدث عـنه بتنزيهه عـن المخـلوق...
الله ليس مثله شئ، ليس مثله مخـلوق...
فالحـديث عـنه , إذًا, بكلمات ـ طبعـًا لا يستطـيع الإنسان إلا أن يتكـلّم، وهـذا العـلم الإلهى نقـول عـنه إنه التكـلّم بالإلهـيات ـ ولكن، حتى إذا تكـلمنا فى أمـور الله فنحـن نضمّـن الكلمات معـانى غـير المعـانى المعـروفة , لها , طـبعـًا، صـلات بالمعـانى المعـروفة ولكنها غـيرها فى النهاية...
مثلاً:
إذا قلنا أن هـذا الإنسان واحـد وليس إثنين فليس بهـذا المعـنى نقـول إن الله واحـد. الله واحـد ولكن ليس تشبيهـًا بأن هـذا من الناس أو ذاك هـو واحـد. هناك، طبعـًا، شئ من القـرابة بين أن الله واحـد وأن هـذا من الناس أو ذاك واحـد. ولكنها فـقـط قـرابة. لا نعـنى الشئ نفسه إذا قـلنا واحـد عـن إنسان وإذا قـلنا واحـد عـن الله. ليس هناك مدلـول واحـد. عـندنا مدلـولات مخـتلفة. إذا قـلنا أن هـذا الإنسان جـميل، بمعـنى أن ثمة تناسقـًا بين عـينيه ومنخـريه وفمه وقـامته... إلخ. فليس بهـذا المعـنى نقـول أن الله جمـيل...
ماذا نعـنى عـندما نقـول أن الله جـميل؟...
هـذا يفـرض حركة فى القـلب، حركة تطهّـر كـبيرة...
وندرك فى الصـلاة، فى التـأمل الروحى، أن الله جـميل...
الله هـو الذى يُتصـل به ويُعـبد وفى النهاية، لا يُتكـلم عـنه...
ولكن لابـد من الكـلام...
فنقـول، إذًا، كـلامـًا منزهـًا عـن الكـلام البشرى...
نقـول عـن الله ما ليس هـو، ولا نقـول عـنه ما هـو...
نقـول، مثلاً، الله ليس بواحـد، ليس بجـميل وليس بموجـود، إذا كان الإنسان موجـودًا بمعـنى أن له عـظـامـًا ولحمـًا ونفسـًا... إلخ...
أى أننا إذا حـددنا كـيان الإنسان فليس بهـذا المعـنى الله موجـود...
ولا يمكننا، بمعـنى من المعـانى، أن نتكـلّم عـن الله مثلما نتكـلّم عـن الإنسان...
صحيح أن الله موجـود أى هـو قائم، ولكن هـل هـو موجـود مثلما الإنسان موجـود؟...
كـلا...
دائمـًا هـناك كـلا عـندما نتكـلّم عـن الله...
ليس هـو موجـودًا بنفس الوجـود الإنسانى...
إذا كان للإنسان جـوهـر، فهـل لله جوهـر؟...
نقـول فى نشيد الميـلاد: { العـذراء تلد الفائق الجـوهـر }...
لم نقـل أن له جـوهـرًا ولكن أنه يفـوق الجـوهـر...
فإذًا، إذا كان الإنسان ذا جـوهـر فالله ليس ذا جـوهـر...
ما يُنسب للإنسان لا يُنسب لله...
الله يُنـزّه دائمـًا ويُـرفـّع ويُعـلى...
* الثالوث يتعدى العدد :
بناء عـلى ما تقـدّم...
إذا قـلنا أن الله مثلّـث الأقـانيم، وإذا قـلنا أنـه واحـد فى الجـوهـر فهـذا ليس معـناه، عـلى الإطـلاق، أنه هـو ثـلاثـة أو أنـه واحـد...
ليس هـو ثـلاثة بمعـنى العـدد...
العـدد لا عـلاقـة له بالله...
لا يستطـيع الإنسان إلا أن يعـدّ المحسوسات...
الله لا يُعـدّ لإن من عـدَّه فـقـَّد حَـدّه...
وذلك، عـندما يقـول شهـود يهـوه أو المسلمـون أو اليهـود، عـندما يقـولون عـنّا أنّ عـندنا ثـلاثة آلهـة, لأننا نقـول: واحـد وثان وثالث، ( وهم يعـنون بذلك أن عـندنا ثـلاثة آلهـة )...
فالجـواب عـلى ذلك هـو أننا لا نعـدّ الله ثـلاثة...
ليس هـذا عـدًّا...
أحـدهم اسمه الآب وأحـدهم اسمه الابن وأحـدهم اسمه الروح القـدس...
إذ أنـه يُجـاب عـلى المسلم واليهـودى وشهـود يهـوه بأنه إذا كان إلهـك واحـدًا وأنت تعـدّه واحـدًا فهـذا كأنـك تعـدّه ثـلاثة أو أربعـة أو خمسة عشر...إلخ...
لأنك إذا عـدَدْته واحـدًا معـنى هـذا أنك حـدّدته بواحـد...
الله لا يُحَـدّ...
فإذًا، واحـد ليس أقـل من ثـلاثة...
إذا كان ثـلاثة عـددًا فواحـد عـدد أيضًا...
الله ليس واحـدًا إذا قصـدنا بهـذا أنه ليس إثنين...
هـو واحـد، هكـذا قـال عـن نفسه بمعـنى لا أعـرفه عـقـليـًا ولا يمكن أن أعـرفه عـقـليـًا...
ولكن هكـذا كشف هو نفسه...
وأنـا أستطـيع، بالإتصـال الروحى، بالصـلاة، بخـيرة القـديسين وخـبرة الجماعـة أن أذوق كيف هـو ثـلاثة, كيف هـو واحـد...
ولكـن يبقى أن القضـية ليست إحصـاء...
* موقف روحى صوفى :
تلاحظون أننا أرجعـنا الآن إلى موقـف روحى، صـوفى، إلى موقـف يفـوق كل إدراك عـقـلى، لأننا نحن لا نستوعـب الله ولكنه هـو يستوعـبنا...
وبالتالى لا مـبرر للسؤال:
كيف أن الثلاثة واحـد والواحـد ثـلاثة؟...
لأنه ليس همّى أن أفهمك هـذا ولا يمكنك أن تفـهم هـذا...
وأكـثر من ذلك لا يمكـنك أن تفهـم, حتى، كيف أن الله واحـد؟...
ولكن عـقـل الإنسان حسابىّ وهـذا بالنسبة إليه بسيط أكـثر من أن تجعـله يقـارن بين شيئين فيلتبس عـليه الأمـر وتتعـقـد بساطـته العـقـلية...
ولكـن، فى حقـيقـة الحـال، عـقـليـًا، الواحـد ليس أبسط من ثـلاثة...
ويبقـى فهـمـك للواحـد عـلى نفس صعـوبة فهمـك للثـلاثة...
فإذًا، لا يفتخـرن أحـد عـلينا بأن عـنده ديـانة عـقـلية...
وهـل فـهم أنّ الله واحـد هـو موقـف عـقـلى؟...
كل وجـود الله ، فى الأساس، ليس عـقـليـًا...
العـقـل البشرى لا يفـرض عـليك الوجـود الإلهـى...
ويرتـاح العـقـل البشرى، كليـًا، إنّ بوجـود الله أو بعَـدّ وجـوده...
إذ يمكن لهـذا العـقـل أن يصعـد إلى القمـر وأن يصنع مخـتبرات وصـواريخ سواء كان الله، بالنسبة إليه، موجـودًا أو غـير موجـود...
ولا يستطـيع العـقـل البشرى، بقـدرته الوحـيدة، إلا أن يعـدّ...
والفـيزياء الصحيحة والسليمة هى، فى النهـاية، العـدّ، هى حساب...
كـلّ شئ ليس هـو حسابـًا ليس عـلمـًا...
كـلّ شئ ليس هـو حسابـًا ليس معـرفة...
الله ليس حسابـًا لذلك فهـو لا يُعـرَف ولا يستـدلّ عـليه...
* من هو إله المسيحيين؟ :
فى سفـر الرؤيا آية تقـول عـن المسيح أنه:
[ وسيَسجُدُ لَه أَهلُ الأَرضِ جَميعًا، أُولئِكَ الَّذينَ لم تُكتَبْ أَسْماؤُهم مُنذُ إِنْشاءِ العالَمِ في سِفرِ الحَياة، سِفرِ الحَمَلِ الذَّبيح ] [ الرؤيا 13: 8 ]...
إذًا، قـبل أن يخـلق الله العالم كان عـنده فى جـوفه حمل مذبوح وهو الابن الذى أعـدّه لخـلاص العـالم...
هـذا قـبل أن يُنشأ العـالم...
هناك، إذًا، عـملية حُب فى داخـل الثالوث...
الله أعـدّ ابنه ليكشف للعـالم بأنه محـبوب، أى بأن العـالم هـذا محبوب...
ويحـذرنا الآبـاء، طبعـًا، من أن نتحـدّث فى الثالوث القـدوس إذا كنـا نريـد أن نتكـلم عـن عـلاقة الله بالعـالم...
هـذا الحـديث، يقـول الآبـاء، هـو خـارج عـن المبحث الثالوثى...
ثمة عـلم اسمه " الثيولوجـيا" وهـو الكـلام عـن الله فى أزليته، بحـد نفسه...
وثمة عـلم اسمه " إيكـونومـيا" وهـو التـدبير، أى هـو كيف أن الله يريـد أن يدبـر هـذه الدنيا عـن طـريق الخـلاص...
ويقـول لنا الآباء, أيضًا، أن البحث فى " الثيولوجـيا" هـو غـير البحث فى الـ " إيكونوميا" أى فى تدبير الخـلاص...
الإله الواحـد الأحـد لا يُحبّ...
" الواحـد" تعـنى فى العـربية، واحـدًا بالعـدد، و" الأحـد" تعـنى الذى ليس بعـده ثانٍ، هـذا فى العـربية...
{ قـل هـو الله أحـد، الله الصمـد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحـد }...
هـذه آية من سورة " الإخـلاص" وليست هى، فى الحقيقة، موجهة ضـد المسيحيين...
ليس معـناها أنها تنكـر الابن والروح القـدس...
إذا أخـذناها نصـًا فقط وليس بمدلولها القـرآنى، يمكننا أن نقـول، من حيث النص، أن الإله الأحـد أى المنغـلق عـلى نفسه، المحـدود بأحـديته، هـذا الإله لا يلـد ولا يولـد، أى أنه لا يحب ولا يُحبّ...
عـندما يكـون الواحـد واحـدًا فقـط وغـير قـادر أن يصـير إثنين وأن يحـاور شخصـًا أمامه فهـو ليس منفـتحـًا...
حـتى الراهب الساكن فى صومعـته هـو فى حـوار مع المؤمنين الذين ليسوا معـه فى صـومعـته، ذلك أنه يصـلّى من أجـلهم ويصـلون من أجـله...
لا يوجـد إنسان طالع من صخـر...
كلّ إنسان يحاور حـتى يوجـد...
قـبل أن يحـاور ليس هـو موجـودًا...
الله موجـود لأنه يحاور، لأنه غـير منغـلق عـلى نفسه، لأنه فـاتح نفسه...
هـذا الإله الفاتح نفسه للحـديث، لحـديث حبّ ـ ولا حـديث غـير هـذا ـ هـذا الإله هـو الآب وهـو مصـدر الوجـود الإلهى، أى مصـدر اللاهـوت، مصـدر الألوهـة...
قـبل أن يكـون العـالم وبالإستقـلال عـن العـالم الله قـائم...
كان يمكن للعـالم ألا يكـون...
العـالم موجـود عـرضًا ويمكن أن يُفـنى، يقـول العـلماء أنه سيُفـنى...
الله موجـود بصـرف النظـر عـن العـالم، عـن وجـود العـالم وزواله...
* الابن مولود من الآب والروح القدس منبثق من الآب :
هـذا الإله الموجـود، القـائم فى نفسه والمنفتح من نفسه أيضًا،
هـذا الإله الذى لا بـدء له ولا نهاية ولكنه بـدء كل شئ ونهاية كل شئ،
هـذا الإله، قـبل أن يَخْـلق وبالإستقـلال عـن الخـلق،
جـاء منه الابن، فـاض منه الابن ـ الكلمة,
وفاض منه، أى من الآب، أيضـًا الروح القـدس...
والكلمات التى تُستعـمل فى التراث المسيحى، فى هـذا الشأن،
هى أن الآب غـير مولود وغـير منبثق ـ هـذه صـفـته الخـاصة به والتى تمـيزه عـن الابن والروح ـ
والابن مولود من الآب،
والروح القـدس منبثق من الآب...
هـاتان الكلمتان ـ مولود ومنبثق ـ موجـودتان فى الكـتاب المقـدّس...
نحن نعـرف أن الابن مولود من الآب وقـرأنـا أن الروح القـدس منبثـق من الآب...
ماهـو الفـرق بين المولود والمنبثق؟...
هـذا ما لا نعـرفه...
هـذا النشوء:
نشوء الابن عـن الآب ونشوء الروح القـدس عـن الآب، هـو نشوء أزلى، أى بـلا زمـان، قـبل الزمـان, لأن الزمان مخـلوق...
قـبل الزمان وبـدونه، بدون إنفـعـال, بدون مخـاض وبدون أزمـة, صـدر الابن عـن الآب وصـدر الروح القـدس عـن الآب...
هـذا بدون بَعْـدية، أى أن الواحـد لا يأتى بعـد الثانى فى الزمن...
من هـذا القـبيل فإن هـذا لا يُشَـبّـَه، إطـلاقـًا، بالولادة الجسدية لأن الأب الجسدى هو قـبل ابنه، فبينهما إذًا بَـعْـدية...
ليس من بَعـْدية بين الآب والابن...
فالواحـد ليس قـبل الثانى فى الزمـن...
ولكـن، إذا صحّ التعـبير، يمكننا أن نقـول أن الآب هـو قـبل الابن ليس بالزمـان ولكن بالنطـق، أى بالتسلسل، بتسلسل غـير زمنى...
الآب قـبل الابن بالنطـق لا بالزمن أى أن الواحـد يجئ من الثانى...
ولكن نعـود فنقـول، أنه مذ كان الآب فى الأزل، كان ابنه معـه وكان روحـه معـه...
فإذًا، ليس بينهم إنفـصـال ولا فجـوة ولا بُعـد ولكن، فى نفس الوقت، الواحـد ليس الآخـر...
الآب ليس الابن، والابن ليس الروح القـدس، والروح القـدس ليس الآب , ولكنهم الكـل فى جـوهـر واحـد...
هنـاك تمايز ـ وهنا يمكن أن تكـون كل الكلمات ثقيلة جـدًا ـ بينهم، تمايز بلا أفضـلية...
التمايز يعـنى فى اللغـة العـربية، أن الواحـد غـير الثانى...
الآب لا يمكن أن يكـون الابن، ولا الابن الروح القـدس’ ولا الروح القـدس الآب، العـلاقة بينهم عـلاقة الصـدور...
الابن صـدر عـن الآب والروح القـدس صـدر عـن الآب، الابن بالولادة والروح بالانبثاق وما يجمعـهم هـو الجـوهـر الواحـد...
الذى يجمع الأقـانيم الثـلاثة هـو الجـوهـر الواحـد أو الطبيعـة الواحـدة...
أى أن كل ما بينهم مشترك ما عـدا صفات تخص الأقـنومية...
كـل ما بينهم مشترك ماعـدا الصـفات الأقـنومية...
الجلسة واحـدة أى الملوكية واحـدة أو الربوبية واحـدة، أو باللغـة الإسلامية، الحاكمية واحـدة ...
والخـالقـية واحـدة أى أن الثـلاثة اشتركـوا فى خـلق العـالم...
كـل هـذه العـبارات تأتى تحت كلمـة الربوبية...
الربوبية، الازلية، الأبدية، الرحمـة، المحـبّة... إلخ، كل الصفـات مشتركة ما عـدا الصفـات الخاصـة بكـل منهم...
أى أن الصـفة الخـاصة بالآب هى الأبوة، أى هـو غـير مولود وغـير منبثق، وهـذه هى صـفة الأقـنومية للآب...
والصـفـة الأقـنومية للابن هى المولودية، أى أنه مولود...
والصـفة الأقـنومية للروح القـدس هى الإنبثـاق، اى أنه منبثق...
فإذًا، كل ما بينهم مشترك عـدا الصـفات الأقـنومية...
وهـذه قـاعـدة أساسية فى اللاهـوت المسيحى...
لذلك تـرون فى الإنجـيل أحـاديث وأن هـذه الأحـاديث تـدور، تارة، عـلى الابن مولود من الآب وإذًا، هـو خاضع للآب وعـائد إليه ـ هـذا فى موضـوع التجسّد ـ وتارة تدور هـذه الأحـاديث عـلى التساوى بينهما...
ثمة أحـاديث، إذًا، تـدلّ عـلى التساوى بين الآب والابن...
وثمة أحـاديث أخـرى تدلّ عـلى أن الابن مولود من الآب وبالتالى عـلى أنه تابع من حيث أنه ليس هو المصـدر ولكنه آت من المصـدر بدون زمان...
هـو تابع ليس لأنه عـبد للآب بل بمعـنى انه متصل بالتبعـية...
الابن والروح القتدس متصلان بالتبعـية مع الآب بلا زمان، بلا تفـريق، بلا فجـوة وبلا بُعـد...
ولكن هناك ثانٍ وثالث مقابل الأول وهـو الآب الذى يبقى مصـدرًا للاهـوت...
عـلينا، إذًا، أن نستوعـب فى نفسنا المؤمنة، وفى نفس الوقت، أن بين الأقانيم الثـلاثة تساويًا، ولذا، فثمة أحـاديث تدور حـول التساوى...
وأن بينهم تستسلاً أو إرتباطـًا أو صـلة ولذا، أيضًا، ثمة أحاـديث عـن الصـلة...
من أجـل ذلك مردودة هى هذه الدعـاوى:
كيف يتكلم عـن الآب أنه أهم من الابن أو أعـلى منه وأن المسيح يظهـر نفسه بأنه خاضع؟....
المسيح خاضع لأنه تابع، لأنه ابن، والمسيح خـاضع أيضـًا، فيما بعـد، فى الإنجـيل، لأنه تألم، لأنه إنسان، ولكن ليس فقط لأنه إنسان، بل أيضـًا، لأنه ابن وسيكون الله الآب الكـل فى الكـل، وفى الآخـر سيخضع المسيح للآب لأنه، أى المسيح، يأتى بالإنسانية جمعـاء إلى الله الآب...
ولكن، بصـرف النظـر عـن المخـلوق وبصـرف النظـر عـن الفـداء، فالمسيح متجه إلى الآب لأنه مولود منه...
* المعنى الأخير للثالوث :
لماذا كل هـذه " الكركبة" ، هـذه " الشغـلة" لماذا؟...
فقط لأن الله هكـذا قال...
وما قاله صحيح...
ولكن ما المعـنى الأخـير للثـالوث؟...
المعـنى الأخـير للثالوث هـو أن الله محـبّة...
أى، هـذا الإله الأول، كما تسميه الطـقـوس الأرثوذكسية، وهـو الآب، الأول فى النـطـق وليس الأول فى الزمن...
الأول من حيث أنه المصدر...
هـذا الإله الأول، لكـونه محـبّة، صـدر عـنه ابنه وروحـه صـدور حـبّ...
صـدورًا لا زمـنيًا، ولكنه صـدورًا حـبيًـا كما يقـول القـديس مكسموس المعـترف...
الله الآب يحب بهـذا المقـدار أنه صـدر عـنه هـذا الإثنان الابن والروح...
وهـذا يعـنى أن الابن هـو الآب مسكوبًا كليًا فى الأقـنوم الثانى...
الابن معـناه جوهـر الآب، طبعـًا، وليس أقـنوم الآب وفـرد الآب كفـرد، أى معـناه جـوهـر الآب، طـبيعـة الآب وحـياة الآب...
وبكلمة عـصـرية، حـياة الآب التى فيه إنسكبت كليًا فى الابن...
فإذًا، يمكننا القـول أن الآب نفسه مُضحّى بالابن وكذلك إنسكبت كليًا فى أقـنوم ثالث، وهـو الروح القـدس، حتى تكتمل دورة المحـبّة...
قال متصـوف أرثوذكسى التفكـير وهو H. de Saint-Victor :
{ الآب يحبّ الابن، هكـذا أن الروح القـدس انبثق من الآب حتى يكون الابن محـبًا للروح القـدس وحتى يكون الابن محـبوبًا من الروح القـدس }.
من هنا أنه فى التجسد، الله يأتى ليكـلّم الناس...
يقـول " نيقولا كاسيلاس" أن الله هو الخطيب وهو كمن يخطب بنتًا فيأتى ويخطب ودها. المسيح خطيب للجنس البشرى...
جاء ليبذل الحب للناس حتى يذعـن الناس لهـذا الحب. المسيح أحبّ، فى النهاية، لكى يدرب الإنسانية، حـتى يفـتح قلبها عـلى الله. المسيح هكـذا فـعـل لأنه مفـوض. وهو مفـوض أن يفعـل هـذا لأنه هـو هكـذا، لأن من طبيعـته أن يحب. الأمـور كلها مضبوطة بشكل أن من لا يقـبل الثالوث لا يقـبل المحـبة...
* الثالوث متجلى الله :
وبالتالى، الثـالوث القـدوس هـو المتجـلّى وهـو التعـليم الكامل والسليم عـن الله فى حـياته والذى هـو وحـده الأساس والضابط لكل شئ...
من هنا ترون أن الثالوث ليس فذلكـة عـقـلية وليس هـو أن الآباء أرادوا أن يتسلّوا لأنهم درسوا الفلسفة اليونانية فركـبوا الأمـور هكـذا...
القضية ليست أننا فلاسفة أذكـياء ونرتب الأمـور هكـذا...
كلا...
ذلك أن هـذه القـضية، قـضية الثالوث، وصلنا إليها أو هى كشفت لنا، فى النهاية، عـلى الصـليب...
الحمل الذبيح قـبل إنشاء العـالم والذى رأيناه مذبوحـًا، فى وقت ما، عـلى تلة من تلال أورشليم، هـذا الحمل كشف لنا أن هـذه العـملية التى هى موته وحـبه، عـملية لا تفهم ولا تدرك إلا لأنها عـملية تامة منذ الأزل...
الله، منذ الأزل، أحب الجنس البشرى وأرسل الابن...
الله حين ظهـر إلى الوجـود ـ وهـو مجـرد تعـبير ـ أى قـبل الوجـود، سرمديًا، ظهـر إلهـًا محـبًا، محـاورًا نفسه ويحـرّك الحب فى نفسه حتـى يستطـيع أن يكشفه للنـاس، جوهـرًا، بهـذا المعـنى...
الفصل الثامن
الكنيسة
" ..وبكنيسة واحدة ، مقدسة ، جامعة ، رسولية..."
* الروح القدس يحقق الكنيسة جسد المسيح :
فى الكنيسة مهـمتان: مهـمة للمسيح ومهـمة لـلروح القـدس...
فالمسيح بتجسده، بأبعـاد التجسد الكاملة أى الفـداء والقـيامة، وضع الأساس...
[ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ اَلَّذِي وُضِعَ اَلَّذِي هُوَ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ ] [ 1 كورونثوس 3: 11 ]...
والأساس يصل إلينا نحن عـن طـريق الكلمة أيضًا، الكلمة المعـبّر عـنها بشتى المظاهر أى الإنجيل مقـروءًا, مدروسًا, ممثلاً ومسكوبًا فى طـقـوس، فى خـدمة وفى عـبادة...
هـذا هـو الأساس...
هـذا الأساس ينقـله الـروح القـدس ويبـنى عـليه...
الـروح القـدس هـو الذى ينشئ فى العتالم هـيكل الله أى الكنيسة...
هـيكل الله، حضـور الله فى العالم, مؤسس وقائم عـلى هـذه الكلمة الواردة إلينا فى الإنجـيل والتى ظهـرت، أولاً، بشخـص يسوع،...
وهـذا الهـيكل له نمو بالـروح القـدس الذى يشكـل فى هـذا العالم جسد المسيح...
أى أن هـذه الكنيسة هى جسد المسيح...
أى هى محضـر المسيح ومكان تجلّيه...
من هـنا أنه يوجـد عـمـلان لا ينفـصلان:
عـمل المسيح البنيانى، الأساسى، ثم عـمل الـروح القـدس الذى لا يأتى بمسيح جـديد، بل يشكل المسيح فينا، ونفتحته هى التى تنشئ هـذا المسيح فينا...
لهـذا كانت الأسرار وهى مبنية عـلى كلمة المسيح ولكنها محقـقة بالـروح القـدس...
مثال عـلى ذلك:
المسيح عـندما قال " ... خـذوا كلوا هـذا هـو جسدى ... واشربوا منه كلكم هـذا هـو دمى ... لمغـفرة الخـطايا" , أسس سرّ الشكر...
كلامه هـذا هـو كلام التأسيس الذى أوجـد هـذا السر...
أما اليوم، بعـد صعـود المسيح، فالـروح القـدس هـو الذى يبنى عـلى هـذا الأساس...
أى هـو الذى يحـوّل الخـبز إلى جسد المسيح والخـمر إلى دمه...
إذًا، فالمسيح يظهـر ويشكل إنطـلاقًـا من خـبز وخـمر، بنفـخة الـروح القـدس وبنزول هـذا الـروح عـلى القـرابين وعـلى الجماعة...
كما أن كلام الله للإنسان فى الفـردوس:
" تكـثران وتملآن الأرض" أسس الزواج فجعـله ممكنًا، إلا أن إتصال الرجـل بالمرأة هـو الذى يحقـق كلمة الله...
الروح القـدس هـو، إذًا، المحقـق لحضـور المسيح...
* الكنيسة شركة المؤمنين فى مواهب الروح :
هـذا الـروح هـو الذى يوحّـد أعـضاء الكنيسة وقـد صاروا أعـضاء فيها بالمعـمودية...
ولكن يجب أن تتعـمق عـضويتهم وأن يقـوى إنتسابهم للمسيح بالقـداسة...
ما كانت المعـمودية سوى مدخـل إلى الكنيسة، ولوج إليها...
ولكن لايصل الإنسان إلى ملء قامة المسيح، أى لا يحقـق الإنسان فى نفسه كل أبعـاده المسيحية، كل قامته إلا بالنمو اليومى الدائم بالروح القـدس...
ومعايشة المسيحيين بعـضهم بعـضًا وتساندهم بالمحبة هما اللذان يجعلان هـذه الكنيسة شركة الروح القـدس...
يقـول الرسول بولس:
[ نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القـدس لتكن معـكم ]...
من هنا أننا نصبح جسدًا للمسيح أى نصبح واحدًا له ومتجـلى وإمتدادًا ليس فـقـط بالمعـمودية ولكن عـلى قـدر هـذا النمو الذى هـو، أصلاً، حصيلة الميرون...
هتذا يعـنى أن نموّنا يأتى بالميرون وأننا به ندخـل فى الميثاق مع الله...
فكما أن الإنسان فى العـهد العـتيق كان يولد وفى اليوم الثامن يُخـتن أى يدخـل فى ميثاق الله، هـكذا، فى العهـد الجـديد، يولد الإنسان للمسيح بالمعـمودية ولكن بالميرون يدخـل فى ميثاق الله أى العهـد...
معاهـدة الله بهذا السرّ وختم الله عـلينا، ختم موهبة الروح القـدس...
روح القـداسة هـو الأقـنوم الثالث...
وهذه القـداسة تتمّ عـن طريق توزيع المواهـب المختلفة...
الكلمة المستعملة فى اللغة اليونانية والتى ترجـمت فى العربية بكلمة موهبة Charisma وهى مشتقة من لفظة Charis أى النعمة...
والنعـمة تعـنى، طبعًا، العـطاء المجانى، أى أن الواحـد يعـطى الآخـر لقاء لاشئ...
Charisma تعـنى، حـرفيًا، حصيلة النعـمة فينا وهى التى ترجمناها بـ " موهـبة"...
وكلمة موهـبة، فى العـربية، تدل عـلى الفاعـلية والمفعـولية...
تدل عـلى المواهب " الله الواهب" ـ ولهذا يُقال أن فـلانًا عـنده موهبة للدلالة بذلك عـلى أن الله هو الواهب ـ، وعـلى الشئ الموهوب...
والمقـصود بـ Charisma هنا هـو هـذا العـطاء الذى وُهبه الإنسان من الروح القـدس، بل إن هـذا العـطاء هـو الروح القـدس نفسه...
ومعـنى هـذا أن عـطاء الـروح القـدس لنا ليس شيئًا خـارج الله، مستقـلاً عـنه ولكنه قـوة تفـيض من الله نفسه...
لذلك، كل من أخـذ موهـبة فقـد أخـذ الله: " أخـذنا الروح السماوى"، ولكن الله له مفاعـيل مختلفة...
* الإكليريكى والعلمانى وعضوية شعب الله :
يصف بولس الرسول، فى رسالته الأولى إلى أهـل كورونثوس، مواهب الروح القـدس...
[ فَأَنْوَاعُ مَوَاهِـبَ مَوْجـُودَةٌ وَلَكِنَّ الرُّوحَ وَاحِـدٌ.
وَأَنْوَاعُ خِـدَمٍ مَوْجُـودَةٌ وَلَكِنَّ الـرَّبَّ وَاحِـدٌ.
وَأَنْوَاعُ أَعْـمَالٍ مَوْجُـودَةٌ وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِـدٌ الَّذِي يَعْـمَلُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.
وَلَكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعـطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ.
فَإِنَّهُ لِوَاحِـدٍ يُعْـطَى بِالـرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ. وَلآخَرَ كَلاَمُ عِـلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِـدِ.
وَلآِخَـرَ إِيمَانٌ بِالـرُّوحِ الْوَاحـِدِ. وَلآخَـرَ مَوَاهِـبُ شِفَاءٍ بِالـرُّوحِ الْوَاحِـدِ.
وَلآخَـرَ عَـمَلُ قـُوَّاتٍ وَلآخَـرَ نُبـُوَّةٌ وَلآخَـرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ وَلآخَـرَ أَنـْوَاعُ أَلْسِنَةٍ وَلآخَـرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ.
وَلَكِنَّ هـَذِهِ كُلَّهَا يَعـْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِـدُ بِعَـيْنِهِ قَاسِماً لِكُـلِّ وَاحِـدٍ بِمُفْـرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ ] [ 1كورونثوس 12: 4 ـ 11]...
وثمة فى مواضع أخـرى ذكـر لموهبة الشفاء، مثلاً، وموهـبة التدبـير وموهـبة ترجمة اللغات وموهـبة النبـوّة وما إلى ذلك...
هناك، إذًا، مواهب متعـددة ومنها الموهـبة العامة التى هى أن يكـون الإنسان عـضوًا فى شعب الله، ويسمّى فى العامية عـلمانيًا...
وربما أتـت هـذه اللفـظة من السريانية " عُـولِم"...
أو هى فـقـط من عـلم أى الاهـتمام يأمر هـذه الدنيا...
العـلمانى، فى العـامية، تعـنى من ليست له عـلاقة بالعـلوم اللاهـوتية الروحية ولكنه يتعاطى العـلم الاعـتيادى...
وإذا أتت من " عُـولِم" فهى تعـنى من يتعاطى شؤون هـذه الدنيا...
هـذا التفسير لكلمة عـلمانى خاطئ، طبعًـا، وهـو صادر عـن التفكـير اللاهـوتى الغـربى...
عـلمانى تعـنى Laicos وهـذه كلمة يونانية مشتقة من Laos التى تعـنى شعـب...
و Laicos اليونانية تعـنى العـضو، ومن الأفـضل تعـريبها بكلمة " عامّى" أى بالنسبة لعامّة الشعـب...
وهكـذا فإن العامى، أى الذى من الشعـب، هـو عـضو فى الشعـب الإلهى، والحقـيقـة أن كل إنسان، حتى الإكليريكى ، عـضو فى الشعب الإلهى، الإكليريكى عامى أيضًا، والقـول الذى شاع فى هـذه البـلاد ، وهـو أيضًا هـناك إكليريكيًا وعـلمانيًا, قـول لا أساس له...
فكـل من نال الميرون صار من شعـب الله، والاكليريكى عـندما صار إكليريكيًا لم يبطـل أن يكـون من شعـب الله أى عـلمانيًا...
ضمن هـذه الشركة المواهـب متنوعة، الله ينوّعها...
هـو الذى يجعـل كـلاً منّا عـضوًا فى شعـب الله، وهـو الذى يعـطى الحـياة الأبـدية للمؤمنين، أى أن حياة الله فيهم يعـطيها هو بدفـق دائم...
وإذا تآزرت هـذه المواهـب تتشكل الكنيسة...
أى يخرج المؤمنون من كـونهم جماعة زمنية تعـيش فى هذا التاريخ، جماعة سوسيولوجية، يخـرجـون من وضعـهم الاجتماعى إلى وضع أبدى...
أى أنهم يأخـذون حجمهم الإلهى عـن طـريق الروح القـدس...
أى كما أن ثمة قـوة فيهم حتى يشهدوا فى العالم، هكـذا أيضًا، وبعـكس ذلك، فيهم قـوة حتى يتصفـوا من تقـلبات هـذا العالم، من خطايا هـذا العالم ليصبحوا شعـبًا لله...
وعـلى قـدر ما يصيرون شعـبًا لله يعـودون ليشغـلوا فى هـذا العالم باستقلال عـنه، أى تكـون هـناك، بينهم وبين العالم، فسحة من الحياة الأبدية...
فالحياة الأبدية التى فيهم تجعـلهم يحكمون فى شئون هذا العـالم ويوجهـونه...
ولكن ثمة وجهًا إلى الله أولاً...
الروح القـدس هـو الذى يوجهـنا إلى الله...
يوجهنا تعنى، فى العربية، يلفـت وجوهـنا إلى الله، يديـرها حتى تتطـلع إليه...
وعـلى قـدر ما تنظـر هـذه الوجـوه باتجاه واحـد، عـلى هـذا القـدر، نكـون كنيسة...
نصبح كنيسة عـلى قـدر ما يلتفـت وجه كل واحـد منا ليتطـلع إلى الله...
ولكن، عـندما نتطـلع إلى الله ونحن نمارس الخـدمة، تبقى لكل من موهـبته الخاصة...
عـندنا جميعًا موهـبة العـلمانية،أى موهـبة الميرون، وهى أن نكـون مختـومين لله، محفـوظين للمسيح، مخصصين له...
فإذًا، إذا كنا نحن مختـومين ليسوع المسيح معـنى هـذا أننا ننفتح له فـقـط، فبهـذا الاتجاه الواحـد إلى الله، ونحـن فى هـذا العالم، نشكل الكنيسة...
الكنيسة إذًا، هى، دائمًا، متجهة إلى الله الآتى إليها، وهى، بسبب الخـدمة من أجل تحـويل هـذا العالم، متجهة عـلى العالم...
* مواهب الروح ومعية الكنيسة :
من هـنا أنن نحتمـل بعضـنا بعضًا، كما يقول الرسول بولس فى رسالته إلى أهل رومية، ليس لمحاكمة أفكار، ونحمل بعضـنا لاثقـال بعض ولا ندين أحـدًا بل نقـبل الموهـبة التى فى الآخـر...
نقبل، مثلاً، أن فـلانًا واعـظ كـبير وأن فـلانـًا مدبّـر صالح...
ولذلك، لا يفتش الواعظ الكبير عـن أن يصبح مدبـرًا أى إداريًا، وإذا فعل ذلك فإنما هو يضيع وقته لأن الروح القـدس لم يعـطه هـذه الموهبة...
وايضًا, لا يفتش الإدارى الكـبير عـن أن يصبح واعـظًا...
الإنسان لا يستطيع أن يأخـذ شيئًا لم يعـطه إيّـاه الله، أساسًا...
تبقى هناك، طبعـًا، جهـود بشرية...
كل الأمور التى بمتناول الإنسان يجب السعى إليها...
الوعـظ، مثلاً، يُتعـلّم كتقـنية، كفـن، ولكـن قـد يستمـر الواحـد عشرين سنة فى تعـلّم الفـن وقـد يُتقـن خطـابـًا سياسيـًا أو أدبيـًا دون أن يتوصّـل إلى إتقـان عـظة دينية إذا لم تكـن عـنده النفحـة لذلك...
الأسقفية، أساسًا، تجمع مواهـب فى الكنيسة مختلفـة كالتعـليم والإدارة، وما إلى ذلك...
والأسقفية ليست سلطة أو إمتيازًا ولكنها موهـبة...
والإنسان لا يعـمل، فى الأساس، شيئًا حتى ينال الموهـبة...
فهـو لا يستطيع أن يصنع نفسه كاهنـًا...
فإمّـا أن يكون من بطن أمه كاهنـًا أو لا يكون...
وهو يستطيع أن يكتشف ذلك فيما بعـد إذا كان موهـوبًا له، والبطـريرك يقـول له ذلك والكنيسة جمعـاء تستطيع أن تقول له ذلك...
يبقى أن أصحاب المواهب يتبنّون بعضهم بعضًا، يقبـلون بعضهم بعضًا ويقبلون تنوعّهم...
هذه عملية من أصعب ما فى الدنيا: ان أقـبل أن يكون فـلان إداريـصا بينما أنـا لست إداريـًا، أو أن يكـون فـلان معلمـًا بينما أنـا لست معلمـًا...
والخطـأ يكـون عـندما يهيج كل منا نفسه ليجمع المواهب كلها...
نحن نقـبل التنوع لأننا نقـبل الله مصـدرًا للكـلّ...
لا شك أنن، فى الكنيسة، حتى نكـون معـية يجب أن ننمى المواهب فى كل إنسان...
فالذكى مثلاً يجب أن لا نطمسه حسدًا ولكن نظهـره لأن المسيح يستفـيد من ذكائه، ولأن القضـية التى نحملها تنجح بالاشتراك...
بالمحبة، إذًا، والتشجيع نجعل الآخـرين يتقـدمون...
إذا كانت تهمنا، فعـلاً، مصلحة المسيح، فيهمنا بالتالى أن يبقى فـلان تقـيًا لا أن نقص له حواجبه وننمّ عـليه...
ومن أجـل هـذا نستر بعضنا عـيوب بعض...
من واجبنا، طبعـًا، أن نوقظ المواهب فى الناس، ذلك أن الإنسان لا يعرف نفسه موهـوبًا...
المحبة الأخوية هى القوة التى توقظ المواهب...
فنحن، إذًا، نحيط الناس بعـناية وعـطف حتى تستفـيق فيهم مواهب الروح القـدس لتنمـو بالتنـوّع...
من هنا اننا لا نستطيع، إعـتباطـًا، أن نقـرّر ما هـو الأكـثر فائـدة للكنيسة فى هـذا لابظـرف أو ذاك...
أى أننـا لا نستطيع نحن أن نقـرّر، مثلاً، أن الكنيسة، اليوم، بحاجة إلى إداريين فنأتى بأحسن الإداريين ونجعلهم رؤساء، أو إكليروسًا أو غـير ذلك...
هـذا تفكـير خاطئ...
لا نستطيع نحـن ان نقـرّر أن الكنيسة بحاجة إلى لاهـوتيين أكـثر مما هى بحاجة إلى ناس عمليين...
الكنيسة بحاجة إلى مواهب متنوعـة ومتعـددة كما رسمها الله عـلى لسان الرسول بولس...
نحـن ليس لنـا أن نقـرّر ما هـو المهم وما هـو غـير المهم...
ما يكشفه الله أنه مهم هـو المهم...
وبالتالى فإن هـذه المواهـب تتـآزر ونوقظهـا نحـن فى النـاس...
* شركة المواهب وشركة المائدة :
إذا عرفنا ذلك فنحن نعرف أن هذه الشركة بين أصحاب المواهب تتوطـد عـلى قـدر إلتفافنـا حـول المائدة، مائدة القـرابين حيث يتغـذى أصحاب المواهب لينتقـلوا إلى العـالم...
عـندما نـأكل جسد المسيح ونشرب دمه نكون، بالتالى، فى حالة التقوى بمواهب الروح كل حسبما وُهب...
الإكليروس والعلمانيون يشتركون معـًا فى حـياة الكنيسة حسبما أُعطى كل منهم من مواهب الروح...
الاشتراك الأمثل والضرورى جدًا والذى لا حياة لنا بدونه هو الاشتراك بجسد ابن الله فى كل قداس إلهى حيث تكون الـ " بيرارخيـا"...
والـ " بيرارخـيا" كلمة يونانية ليست لها ترجمة فى أيّة لغـة، وهى تعـنى الجماعة المتشاركة...
إنها مشتقـة من كلمة تعـنى القـدسى...
وهى تعنى هـنا المبدأ القدسى...
وباتصـال الكلمتين صارت تعنى المشاركة حسب رتب مختلفة...
الـ " بيرارخـية" عندما صورها ديونيسيوس الأريوباغى ـ راهب من القرن السادس، وهو على الآرجح، سورى ـ صـوّر المائدة المقدسة وحولها الأسقف والكهنة والشعب المؤمن وتسع طغمات منها المعمودية والميرون، وهذه الطغمات صورها واقفة حول المذبح...
وفى السماء أيضًا تسع طغمات ملائكية حول العرش الإلهى...
الرتب هنا على الأرض تناسب التى فى السماء...
هذا يعنى، بكلمة ثانية، أن عمل الله ينبث من القرابين، من المذبح، وهكذا إلى هذه الحلقات الملحقة حول جسد ابن الله...
هذا ما يسمّى بالـ " بيرارخـيا"...
الذى نال الميرون صار فى الـ" بيراخيا" العامة فى الكنيسة...
فجسد ابن الله، إذًا، هو المصدر، ولكنه يأتى أيضًا بحلول الروح القدس على القربان والخمر...
وبالتالى فإن تناولنا لجسد ابن الله هو تناولنا لقوة الروح القدس...
بالنتيجة، إن جسد ابن الله يجمعنا بمعنى أن كـلاً منا يزداد فى موهبته، وهكذا يرتفع مستوى الكنيسة...
ليست غاية المناولة، إذًا، أن يسر الواحـد بها أو يشتاق إليها فـقـط، غـاية المناولة أن تتشكل الكنيسة...
أن تصير موحـدة لأننا بتناولنا الجسد والدم ننضم إلى ابن الله الجالس فى السماوات...
ينمو جسده وينمو كل منا بموهـبته الخاصة وتنتقل الكنيسة من جسم مبعـثر غارق فى الدنيويات والشهـوات إلى جسم مُرَوْحَن أكـثر فأكـثر أى معبأ بقـوة الروح...
* القداسة هى الهدف :
المسيحى، إذًا، هـو من يسلك درب القـداسة فى شركة الأخـوة...
ليس من أحـد يفهم إلا على قـدر ما يتقـدس...
ليس الفهم بالدماغ، إنه بالروح القـدس إذا حـلّ عـليك...
دماغـك لا يقـدّم فى هـذا ولا يؤخـّر، هـو يفسّر لك بعـض الأمور ويوضحها، والتوضيح والتفسير هما فـقـط لتنظـيم الأشياء وترتيبها ولا يخلقان فاعـلية إلهية...
كما أنه إذا شرحت أمامكم لوحة فنية فمجرد الشرح لا يخـلق عـندكم شعـورًا بالجمال ما لم يكن فيكم حس الجمال...
ليست القـضية بالشرح، والحياة المسيحية ليست بالمحاضرات ولكنها أن ينزل الله عـليك أو لا ينزل...
القـضية قضية نعـمة إلهـية تأتى عـلى الإنسان وعـلى قـدر قـداسته بفهم...
ولكون الإنسان لا يستطيع أن يتقـدّس لوحـده وجب عـليه أن يحب لكى يتقـدس ـ فالذى لا يحب ليس عـنده شئ ـ وعـليه أن يعـيش مع الجماعة فى خدمة عـملية...
وعـلى قـدر ما يتساند والجماعة هـذه، كلهم بعـضهم مع بعـض، يصبحون إنسانًا واحـدًا فى المسيح يسوع...
إذا أحبت هـذه الجماعة الموجـودة هنا بعـضها بعـضًا حقيقة وفى الأعـماق، وإذا تطهّر كل واحـد فيها من شهواته، تصبح قادرة عـلى الفهم والحياة فى المسيح يسوع...
العـملية الأرثوذكسية هكـذا تكون:
{ لنحب بعضنا بعضًا لكى، بعـزم متفق ( بقلب صادق ) نعـترف مقـرين بآب وابن وروح قدس...}...
المحبة شرط المعـرفة ومفتاح المعـرفة...
ولذلك أن أتعاطى شهـواتى المختلفة، والبغـض والحقـد والحسد والإغراء وما إلى ذلك وأن أذهب بعـد ذلك لأقـوم بإجتماع دينى فهذا غـير ممكن، ذلك أن الناس الذين هم عـلى شئ من البصيرة يدركـون أن كلامى مكرر، مجـتر وأنه مجرد نقـل عـن الكتب ولم يصدر من داخلى أو يمر فى عـظامى كلها لأننى ما زلت محافظًا عـلى شهـواتى وبالتالى لا يمكننى أن أتكلّم ولا أن أخـدم...
ولذلك السؤال:
لماذا المسيحيون متقاعـسون ومتكاسلون؟...
جوابه:
لأنهم لا يحبـون الله أو لأن خطاياهم تمنعـهم من النشاط...
لا يوجـد تفسير ثانٍ...
وليس فى الأرثوذكسية غـير هذا التفسير الوجـودى...
إذًا فهذه الشركة وهذه المعـية تقـويان بالمحبة اليومية العـملية...
*معية القديسين:
إن المشاركة بين المؤمنين، بالروح القـدس الواحد فيهم، لا يقـطعها الموت...
المحبة أقوى من الموت...
وما سمّى شركة القـديسين، ونترجمه هنا معـيّة القديسين ـ والمعـيّة كلمة عربية جميلة جدًا لا ترادفها كلمة فى أيّة لغـة أخرى ـ وهى تعنى هنا القـديسين الذين عـلى الأرض والقديسين الذين فى السماء، بحيث أن الرسول بولس يسمى المسيحيين، هنا عـلى الأرض، قديسين، وحيث أن القـديس هو الذ خُصّص لمسيح وكُرّس له، والقـديس ليس هو البطـل، فالمسيحية ليس فيها ما يسمّى بطولة ـ هذه المعـيّة تعنى أن ثمّة عُرى لا تنفـصم بين الذين هم عـلى الأرض والذين إنتقلوا إلى الله...
إن البروستانتية، حين ألغـت ذكر القـديسين الممجـدين، حرمت نفسها من كنز لا يثمن...
حرمت نفسها من أن تبقى واحدة مع المواكب، مع هـذه الأجـيال البارة التى سبقـتنا...
لأنه إذا كان المسيح واحـدًا، إذا كان المسيح غـالبًا الموت فغـلبته تفعـل الآن وإلا فليست شيئًا...
إذا قلنا أننا كلنا أموات ونفـنى فى القـبور وأن المسيح سوف يعـيدنا إليه فـقـط فى اليوم الأخـير فهـذا القـول يعـنى أن ثمة فجـوة بين قيامة المخلص واليـوم الأخـير وأن هـذه الفجـوة لا يسدها أحد...
خطـأ البروستانتية الأساسى أنها لا تعـرف الشركة...
هى تعـرف أن الإنسان مع ربه فقط...
ولكن حقيقة الإنسان أنه مع الإنسان الآخـر والله بينهما جامع...
ليس صحيحًا أنى أنا مع الله لوحـدى...
أنا معـكم وكلنا، بعـضنا البعـض، مع الله...
هـذه هى الإنسانية، هـذا هـو جسد المسيح...
المسيح هـو فى الذين يحبونه، هـؤلاء أعـضاء لا ينفـصل بعـضها عـن البعـض الآخـر...
والله الآب هـو أبو هـذه العائلة والمسيح يشكلها والروح القـدس مبثـوث فيها...
هـذه حقيقة الإنجيل...
وحيث أن إيماننا أن المسيح قـد قام حقًا فهـو، من الآن، مهـيمن عـلى هذه الجماعة، أى أن قيامته، إنقاذه الإنسان من الخطيئة والفساد، هذه القـيامة فاعـلة وإلا فمعـنى هـذا أن اليوم الأخير مفـصول عتن القيامة وكأن المسيح ذكرى نلهج بها...
أى أن ثمة هـوة هائلة بين المجئ الأول والمجئ الثانى إذا لم يكن هـناك قـديسون، إذا لم يوجـد أنـاس موصـولون بعـضهم مع بعـض...
الكنيسة، بالتالى، فى جانب من جوانبها، وهى هـذه الموصولية بين كنيسة الأرض وكنيسة الأبكار المكتوبين فى السماء...
وهتذه الموصولية تمثلها الكـاس المقـدسة عـندما نضع فيها أجزاء الأحياء والأموات، بعـد مناولة المؤمنين، فتمـتزج الأعـضاء الحية، أى الأحياء العائشون هـنا، والأعـضاء الذين انتقـلوا إلى الله، الذين ذُكروا، والقـديسون ممثلين بتسع طغـمات عـن يسار الحمل، ووالدة الإله التى هى عـن يمين الجوهرة فى الصينية...
يتحد هـؤلاء بالدم الإلهى...
هذا يعـنى أن دم المسيح الذى سُكب انبث فى الدنيا ويجمع الأحياء والأموات، يجمع الذين مُجـدوا فى قـداسة معـلنة والذين انتقـلوا ولم يُمجّـدوا فى قـداسة معـلنة ولكنهم يساهمون فى حـياة الله والذين، هم عـلى الأرض، يسعـون سعـيًا...
هـؤلاء كلهم مربطـون بعـضهم مع بعـض بدم الحمل الإلهى وهم معـيّة...
ولذا فالإنسان ليس هو، فقط، ابن اليوم...
الإنسان مسنود...
أنا موصول، منذ ألفى سنة، بأناس سبقـونى، بهـذه المواكب التى تتعاقب بالشهادة والدم والأسقـفية والذبيحة المستمرة...
* شفاعة القديسين :
من أجـل هـذا فالدعاء للقديسين ـ وهو ما يسمّمونه الشفاعة ـ هو نتيجة منطقية لكونهم:
[ وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ ] [ لوقا 20: 38 ]...
ويقول صاحب نشيد الأنشاد:
[ أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ ] [ نشيد الأنشاد 5: 2 ]...
إذًان فهؤلاء النائمون فى القبور ليسوا أمواتًا، قلوبهم يقظة...
وإذا أردتم تمييزًا فلسفيًا بين النفس والجسد، فنفوس هؤلاء، منذ الآن، قائمة من الموت...
نفوسهم قائمة بفعل المسيح وأجسادهم منحلة وهذه المقبرة ختمناها بالماء المقدس فأشرنا بهذه الطريقة الرمزية إلى أنها استهلال للقيامة، إنها بدء، إنتظار...
هذا الانتظار هو تطلّع على ما سوف يكون...
ولكن عندنا، هنا، امـران:
عندنا ـ وهذا رأى أورثوذكسى وليس عـقـيدة ـ أن بعض الأجساد لا تفنى ولكن تبقى طرية، مثال على ذلك:
المطران صـدقة الموضوع فى دير مارإلياس ـ شوبا، وقد توفى منذ ما يقرب من مئة وخمسين سنة ولم يزل اللحم على جسده وكذلك شعره...
وكثيرين من أجساد القديسين لم تر فسادًا محفوظة بالكاتدرائية بكلوت بك بالقاهرة...
عن هذه الحالات يقـول سمعان اللاهوتى الحديث انها حالة وسط وأن ثمة إنتظار لملكوت السماوات بحيث أن الجسد لا ينحل ويبقى فى حالة وسطى للدلالة على أن هذه الأجساد سوف تبعث...
وبصرف النظر عن هذا الرأى ، ثمة أمر آخـر مهم هو بقايا رفات القديسين وبقايا الشهداء المحفوظة فى الكنائس والأديرة...
المهم هنا اننا نؤكد هذه المعية بكل هذه الرموز والأعمال، تؤكد هذه المعية الواحدة بيننا وبين الذين ذهبوا، نؤكد ان الروح القدس الواحد يجمع بينهم وبيننا...
ولهذا فالموقف الأرثوذكسى فى إستشفاع العـذراء والقـديسين، أى طـلب دعائهم لنا، الموقف الأرثوذكسى فى ذلك ليس أنهم جسر يوصلنا إلى الله ـ ذلك أن الله أقرب إلينا مما هم إلينا، وهذا التصوير أن الله بعأيد وأنهم هـم يقـربوننا إليه تصوير خاطئ ـ إنما هو أنهم هم معـنا فى صلاة واحدة...
والقضية هى فقـط قـضية ناس مرتـبين حـول عـرش الله...
ويمكننا القـول أن الذين سبقـونا إلى المجـد الإلهى انتهى جهادهم، أكملوا الجهاد الحسن...
من هـذه الناحية هـم ثبتـوا فى سكون الله...
نحسبهم كذلك بحيث أننا نعـتبر أنفسنا خطأة وأننا ما زلنا فى الجهاد فـيما هـم أكملوا الجهاد...
ولا يختلف موقـف الإستشفاع هـذا عـن أى طـلب شفاعة...
فمثلاً، عـندما يقـدّم أحـدنا تقـدمة للكنيسة فى عـيد قـديس ما يطلب إلى الكاهن أن يذكـر له اسمه فطـلب الشفاعة باسم هـذا القتديس أو ذاك يكون من باب أن طـلبة البار تقـتدر كـثيرًا فى فعـلها...
البار يصلى، طـبعًا فى الكنيسة، ولست أتكلم عـن الصلاة الطـقسية التى يرأسها الكاهـن من حيث الوظيفة، ولكنى اتكلم عـن الدعاء الخاص الذى نطـلب فيه شفاعة الأبـرار...
من هـذه الناحية نحن نطـلب شفاعة الأولـين هـؤلاء الذين ينتـمون إلى الصف الأول من هـذه الصفـوف التى، فى النهاية، تتحـلق كلها حـول السيد المسيح...
* يسوع المسيح الشفيع الوحيد :
من هـنا أنه يصبح سطـحـيًا هذا السؤال:
لماذا نصلّى طـلبًا لشفاعة مريم العـذراء عـند الله فى حتين أن الشفـيع الوحـيد عـند الله هو يسوع المسيح؟...
المسيح هو الشفيع الوحـيد بين الله والناس ليس بمعـنى أنه يقـصينا ولكن بمعـنى أنه يقـصى شفاعة العهد القديم...
أى أن موسى لا يمكن أن يكـون شفـيعًا بين الناس والله، فالناس فى اليهودية بقـوا مفـصولين عـن الله إلى حـين أتى المسيح فاتحـدهم به...
إذًا، فالوسيط الوحـيد الذى يجـمع بين الله والناس هو يسوع المسيح، كما يقـول الرسول بولس...
أى هـو الذى عُـلّـق عـلى الخشبة...
فلأنه رُفع عـلى الخشبة ومات ثم قام ألصق الله بالناس...
هـذا يعـنى أنه لا يوجـد إلتصـاق بين الله والناس عـن طـريق اليهـودية ولكن عـن طـريق العهـد الجـديد...
وهكذا عـبارة الشفيع الوحـيد هى ليست لإقـصاء مريم أو بقية القديسين، كلمة وحـيد هى لإقـصاء الذين سبقـوا أى لإقـصاء شرعـية اليهود...
وبالتالى فالمسيح يبقى الشفيع الوحـيد بين الله والناس ونحـن فـيه...
إذًا، فهـذا الشفـيع الوحـيد بين الله والناس هو المسيح النامى العـملاق الذى ينمو من الآن وإلى آخـر الدهـر...
والذى يتناول جسد المسيح ودمه يلتصق به ويصبح جـزءًا من المسيح...
إذًا، فالذى أصبح فى المسيح قائمًا من بين الأموات، الذى يتغـذى من القـيامة ويصبح إنسانًـا قياميـًا، هذا الإنسان يصلى فى المسيح، من جـوف المسيح يصلى ويبقى فى هـذه الوحـدانية المتشفعة، يبقى فى هـذا الكائن الوحـيد المتشفع من أجـل الناس...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل التاسع
المعمودية
" ..و اعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا..."
* الأسرار فى الكنيسة:
يبـتدئ البحـث فى الأسرار من البحث عـن الإنسان المؤمن، بعـد أن صعـد الرب إلى السماء...
نعـلم أن بولس الرسول تكـلّم عـلى أن هنـاك سرًا إلهـيًا كان فى الله منذ الأزل، وهو سرّ محـبة الله للبشر...
هذا السر يشكّـل حـياة الله ضمن الثـالوث القـدوس، أى أن الآب والابن والـروح القـدس متحـدون بسرّ المحـبة:
[ اَلله مَحَـبّة ] [ 1يوحنا 4: 8 ]...
تنطلق المحـبة من الآب وتعـود إليه فى دورة دائمة، فى حـركة بين الأقـانيم الثـلاثة دائمـة...
هـذا السر، سرّ أن الله محـبة، كُشف فى المسيح وحـَقـقـه المسيح...
حقـق المسيح المحـبة بالفـداء ثم عـاد المسيح إلى أحضان الآب وأعـاد إليه هذا الجنس البشرى المـتروك الذى كان قـد أخطـأ....
بعـودة المسيح إلى الآب، الإنسان نفسه عـاد إلى الله...
هـذا فى الأساس...
ثم سكب الله الـروح القـدس عـلى المؤمنين لكى يعـطـيهم كلّ ما حُقـق فى المسيح، أى لكى يمنحهم سرّ محـبته ويجعـلهم يعـيشون معه...
حـياة الله التى تـدور ضمن الثالوث القدوس وتغـلى ضمنه، حياة الله هـذه كان لله أن يمد البشر بها...
والـروح القـدس هو الموزّع لحـياة الله، هو معـطيها...
إذًا، كل الهـدف من مجئ المخـلص عـلى الأرض وصعـوده إلى السماء، هـو تـوزيع المواهـب الإلهـية عـلى الناس...
بكلمة أخـرى، يجب أن يكون هـناك قـوم يعـيشون بحـياة الله، وهـؤلاء القـوم هـم الكنيسة...
والكنيسة تعـيش بحـياة الله، بقـوة الله، كما كانت هـذه القـوة ظاهرة فى المسيح...
أى هى القـوة نفسها التى كانت فى المسيح أيام بشارته، عـندما كان عـلى الأرض...
قـوة المسيح هـذه التى خـلصت وأحـبت يجـب أن تُـنقـل بالـروح القـدس...
حـياة الكنيسة هى، إذًا، حـياة المسيح منقـولة إلينا بالعـنصـرة، بإنعـطاف الـروح القـدس عـلى البشر وعـلى الكون بواسطة الكنيسة...
الكنيسة هى المحـيط الذى فيه الله فاعـل...
الله يحرّك الكنيسة، يحيـيها وينعـشها بالحـياة نفسها التى فيها، هـذه الحـياة التى كانت مسكوبة فى المسيح...
وتوزيع حـياة المسيح والقـوة التى فى المسيح يتممه الـروح القـدس عـن طـريق الأسرار...
السرّ فى الكنيسة ـ كأن نقـول سرّ المعـمودية، سرّ المـيرون أو سرّ الشكر .... ـ السر فى الكنيسة لا يعـنى شيئًا آخـر غـير السرّ الإلهـى القـديم، الأزلى، الذى تكلّم عـنه الرسول بولس، أعـنى سرّ الحـياة الإلهـية، سرّ المحـبة، سر محـبة الآب والابن والروح القدس...
وبالتالى، كيف تظهـر محبة الله لنا بالأسرار؟، هـذا هو الموضوع...
أسرار الكنيسة ماهى إلا نفس السرّ الذى ينكشف الآن، الذى يتحـقـق الآن...
وهـذا السرّ الذى تحـدّث عـنه الرسول بولس فى الرسالة إلى أهـل أفسس عـندما قال:
[ أَنَّهُ بِإِعْـلاَنٍ عَـرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَـازِ.
الَّذِي بِحـَسَبِهِ حِـينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَـمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ اَلْمَسِيحِ.
الَّذِي فِي أَجْـيَالٍ أُخَـرَ لَمْ يُعَـرَّفْ بِهِ بَنُو اَلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْـلِنَ الآنَ لِرُسُـلِهِ اَلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالـرُّوحِ:
أَنَّ اَلأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي اَلْمِـيرَاثِ وَاَلْجـَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِـدِهِ فِي اَلْمَـسِيحِ بِالإِنْجِيلِ. ] [ أفسس 3: 3ـ 6 ]...
ثم يكمّـل:
[ وَأُنِيرَ اَلْجَـمِيعَ فِي مَا هُـوَ شَرِكَةُ اَلسِّرِّ اَلْمَـكْتُومِ مُنْذُ اَلدُّهُورِ فِي اَللهِ خَـالِقِ اَلْجَـمِيعِ بِيَسُوعَ اَلْمَسِيحِ ] [ أفسس 3: 9 ]...
وهـذا السر الإلهى نحـن شركاؤه، نحن شركاء هـذا الشئ الخـفى فى أعـماق الله وهـو أن الأمم محـبوبة كاليهـود، أن البشر جميعـًا محبـوبون ويدخـلون فى مـيراث الله...
أسرارالكنيسة، إذًا، هـذا الإخـراج لسرّ الله، هـذا النقـل وهـذه الترجمـة لهـذه المحـبة...
ولكن لهـذه الأسرار كلها، وبالتالى، عـلاقة بحـياة المسيح فى الجسد...
وهـذا هـو المهم جـدًا فى البحث فى الأسرار...
هـذه الحـياة الإلهـية الأزلـية عـاشها المسيح فى الجسد، هـنا...
والروح يعـطينا حـياة المسيح كما عـاشها هـنا...
وبالأخـير، إذًا، عـندما نتكلّم عـن أسرار الكنيسة السبعة فهـذه كلها تكـون إمـدادات لحـياة المسيح فى أيـام تجسده، بحـيث نعـيش نحـن فى الجسد ما عـاشه هـو فى الجسد...
* سر المعمودية :
1 ـ المعمودية موت وحياة:
سر المعموية ماذا يُخـرج إلينا من حـياة المسيح، ماذا يُترجم لنا؟...
هنا يمكن القـول، أن المعمودية تترجم لنا كل حـياة المسيح إذا كانت هذه الحياة تـلخّـص بكلمتين: مـوت وحـياة...
حـياة المسيح فى البشرية، من الميلاد إلى تمجـيدها عـند فجـر الفصح، كلها موت وحياة، لأن المسيح وُلـد لكى يمـوت ويُبعـث...
طبعـًا، وضعـه فى أقمطة وهـذا المولد المتواضع وهـذه المعـمودية التى نالها من يوحنا فى الأردن وهـذه الآلام المعـنوية التى ذاقها من اليهود وهـذه الاضطهادات، كل هـذا، قـبل صـلبه من اليهود وبيلاطس، كان طـريقـًا على المـوت وكان، فى وقت واحـد، إنبعـاثـًا من موت...
معـمودية يسوع فى الأردن كانت نزولاً تحـت المياه وكانت خـروجـًا من المياه وظهـورًا للآب والـروح عـليه...
كذلك، التجلّى عـلى الجـبل كان تمجـيدًا له، ولكنه، فى آن واحد، حسب رواية لوقا الإنجيلى، كان حديثـًا عـن خروجه من أورشليم، أى كان إستعـدادًا لمـوته:
[ وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً وَلِبَاسُهُ مُبْيَضّاً لاَمِعاً.
وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا
اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ اَلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ.
وَأَمَّا بُطْرُسُ وَاَللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِالنَّوْمِ. فَلَمَّا اِسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ وَاَلرَّجُلَيْنِ اَلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ.
وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: يَا مُعَلِّمُ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً . وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ.
وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذَلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي اَلسَّحَابَةِ.
وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ اَلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ. لَهُ اِسْمَعُوا .
وَلَمَّا كَانَ اَلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَداً فِي تِلْكَ اَلأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ ] [ لوقا 9: 28 ـ 36 ]...
كل فصـول حـياة السيد هى إنبعـاث من موت، مرافـقـة المـوت للحـياة...
من هـذا القـبيل المعـمودية تعـطـينا كل المسيح ولهـذا نقـول أنها المـيلاد الثـانى...
هى المـيلاد الثانى إذا قيس هـذا المـيلاد بمـيلادنا من أمتنا...
هـذا هـو المـولود الأول فى الجسد، ولكننا نولد الآن ليس من لحم ودم ولا من مشيئة رجـل بل من الله...
المسيح أعـطانا أن نصـير أولاد الله:
[ وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.
اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ ] [ يوحنا 1: 12، 13 ]...
الإنسان كان فى حالة الغـضب، فى حالة اللعـنة...
واللعـنة تعـنى الإقـصـاء عـن البركـة...
والبركـة معـناها إمـداد الإنسان بحـياة الله...
الإنسان أُقصى عـن هـذه الـبركات بالخـطـيئة...
هـو جعـل نفسه فى الظـلمة وجعـل نفسه فى العـزلة عـن الله وفى التشتت وفى التفـتت، فى التجـزئة، فى التلاشى وفى الإضمحـلال...
هـذه هى الخطـيئة عـمقـًا وكـينونة...
فالإنسان من جـديد يولـد وكـأنه لم يكـن...
فى الواقـع، لم نكن نحـن شيئًا قـبل المخلّـص وقـبل أن يتنـزّل عـلينا بالمعـمودية...
2 ـ المعمودية فى الديانات :
ماذا جـرى فى المعـمودية؟...
ماذا كان يجـرى سابقـًا، قـبل المسيح، بالمعـموديات؟...
كان للنـاس فى كل الدنيا معـموديات وفى كل الديـرة...
والوضـوء الإسلامى نـوع من معـمودية وهـو يعـنى إغتسالاً وتهـيئة للصـلاة...
رهـبان قـمران، عـلى شواطئ البحـر الميت، قـبل مجئ المخلّص، كانت لهم أحـواض يغـتسلون فيها كل يوم أكـثر من مرة...
عـندنا، أيضـًا معـمودية يوحنا كتهـيئة للتـوبة...
والدخـلاء الوثـنيون الذين كـانوا ينضمـون للدين اليهـودى عـلى يد الفريسيين، هـولاء، أيضـًا كـانوا يُعـمّدون...
الحضارة البشرية، قـبل المخـلّص، هـنا وهـناك، كانت تعـتمد تشوقـًا منها إلى طهـارة كانت تتـوق إليها...
كانت تتوقـع هـذه البشرية أن تنال طهـارة...
والبشرية أحسّت أنها، من أجـل هـذه الطهـارة تستعـمل مـاء...
طبعـًا، أن يُقـال: هـذا أمـر طبيعـى وبديهى جـدًا كـون المـاء يغسل الجسم...
ولكـن الفكـرة كانت أبعـد من هـذا...
فالمـاء ملتبس المعـنى فى الحضارات القـديمة، أى ان له معـنى مزدوجـًا وهـو لا يعـنى، دائمـًا الطهـارة...
المـاء مخيف البحـر مريـع...
المـاء يـدل عـلى الغـرق، عـلى المـوت...
والمـاء، فى كل الحضارات، كان محـيط الخطـيئة، محـيط الشر...
مثـلاً، فى الفكـر العـبرى: " لوياثـان" التنين: هـذا كان الوحش الأسطـورى الذى فى المـاء...
ولـذا، فخـواض البحـر يقـتل التنـين، وما إلى ذلك من هـذه الصـورة الأسطورية...
المـاء مخـيف ثم المـاء محيى...
فى التـوراة خـلق الله الدنيـا من مـاء:
[ فِي اَلْبَدْءِ خَلَقَ اَللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ اَلْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اَللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ اَلْمِيَاهِ ] [ تكـوين 1: 1، 2 ]...
فى بـداية التكـوين، فى الأساطير البابلية، وأيضـًا فى القـرآن: " وجعلنا من المـاء كل شئ حى"...
المـاء هو المحـيط الذى يخـرج منه الكـائن الحى...
الجـنين يخـرج من مـاء...
إذًا، المـاء مزدوج المعـنى ملتبسه...
ولهـذا فإتخـاذ الإديـان للمـاء لم يكـن سببه فقـط، أنـه غـاسل ولكـن سببه هـو أنـه يميت ويحيى...
وإذًا، فالغسل، هنـا، ليس شيئًا سطحـيًا...
الغسل معـناه أننا نمـوت بشكل مـا...
عـندما جاء المخلص لم يخـترع رمـز المـاء ولم يخـترع المعـمودية...
وجـدها قـائمـة عـند أهـل قمـران ويوحـنا المعـمدان والفريسيين...
ولكـن موقـفه منها كـان أنـه عـبأهـا، مـلأهـا بمعـنى جـديد...
3 ـ المعنى المسيحى للمعمودية:
نعـم، نحـن نمـوت بالمـاء، ولكـن أى مـوت هـو المقـصود؟...
ونحـيا بالمـاء، ولكـن أى حـياة هى المقصـودة؟...
فى أواخـر إنجـيل متى:
[ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ ] [ متى 28: 19 ]...
أى إجعـلوا من جميع الأمم لكم تـلامـيذ و عـمدوهم...
إذًا، فالمعمودية مرتبطة عـند المسيح بأن النـاس يصـيرون بها تلامـيذ له...
أذًا، يتعـلمون الإنجـيل ويأخـذون من الإنجـيل الإيمـان:
[ مَنْ آمَنَ وَاِعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ ] [ مرقس 16: 16 ]...
الإيمـان هـو الخـروج من أى وضع نحـن فـيه إلى الله...
يقـول الله لإبراهـيم:
[ اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى اَلأَرْضِ اَلَّتِي أُرِيكَ ] [ تكوين 12: 1 ]...
الإيمـان هـو، أيضًا، مجازفـة مع الله...
هـو أن يطـرح الإنسان نفسه فى كـائن لا يعـرفه، ويعـرفه عـلى قـدر ما يطـرح نفسه فيه...
يذوقـه بعـد أن يرمى نفسه هـناك...
إذًا، هـناك موت بالنسبة إلى الحـياة القـديمة التى كان فيها، هـناك إنسلاخ عـنها...
شئ منا يمـوت...
نُـغْـرَق فى المـاء...
وإذا متنا تـأتى حـياة جـديدة ليست منـّا...
هـنا كل الحـديث عـند يسوع عـن المـاء الذى هـو يعـطيه، فى مـا قـال للمـرأة السامـرية التى كانت تستقـى من بـئر يعـقـوب:
[ كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً ] [ يوحـنا 4: 13 ]...
إذًا، شئ من الدنيـا القـديمة نـتركه، نـترك هـذا العـالم القـديم، نـدخـل فى وضـع جـديد مع هـذا العـالم الجـديد...
كـلّ هـذا ينكشف، فيما بعـد، بصـورة أوضح بعـد أن قـام المخلّص وحـدثنا الرسول بولس عـن هـذه الحـياة التى جـاءت إلـينا بالمعـمودية حـيث يقـول فى الرسالة إلى أهـل رومية:
[ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اِعْتَمَدَ لِيَسُوعَ اَلْمَسِيحِ اِعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ
فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ اَلْمَسِيحُ مِنَ اَلأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ اَلْحَيَاةِ.
لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ.
عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا اَلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ اَلْخَطِيَّةِ كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ ] [ رومية 6: 3 ـ 6 ]...
مـا أود أن ألفتـكم إليه، فقـط، الآن، هـو هـذا أن اللفظـة التى يستعـملها الرسول باليونانية وقـد تـُرجمت : أعـتمد ، يعـتمد ، معـمودية... إلخ...
هـذه اللفظـة هـى Vaptiso ( أعـمّد ) وهـى تعـنى ، فقط، أغطـّس...
هـذه كلمة عـادية جـدًا صـارت، بعـدئذ، مصطلحـًا مسيحيـًا...
من إعـتمد ليسوع ـ اللام هـنا هـى، فى اليونانية، حـرف جـر وهـو يعـنى الحـركة، أى إنتـقـل إلى يسوع بهـذا التغـطيس ـ إنمـا إنتقـل إلى موتـه فـدفـن مع المسيح بالمعـمودية...
مع هـنا هـى Préfixe أى هـى، فى لغـاتهم، أداة توضـع قـبل الفعـل...
ودفنّـا معـه تصبح، بهـذا، فعـلاً واحـدًا عـندهم ، أى تصبح لفظـة واحـدة...
وإذا قـرأ الواحـد اللفظـة ـ الفعـل هـذا الذى ركّـبه الرسول بولس والذى ليس موجـودًا فى اليونانية بـلّ هـو من إخـتراع بولس: دفـن مع، فهـذا بعـنى أنـه عـندما دُفـن المسيح كان معـه الذين له، أى أن الذين لـه كانوا معـه فى القـبر...
إذًا، نحـن عـندما نعـتمد فكـأننا تخطـينا الزمـان وأبدناه وإنتقـلنا هـذه السنين الألفـين، وكـأننا ، أيضًا، نحـن الذين مـتنا مع المخلّص ودُفـنّـا معـه...
إذًا، ما حصـل ليسوع المسيح ربطـنا مع المسيح...
ما حصـل له هـو، بالفـداء، حصـل لنا أيضـًا...
إن الحـياة الإلهـية التى كانت فى المسيح أبـادت الموت، تفجـّرت فى الموت فحـولته إلى حـياة وقـامت هذه الحـياة من القـبر لأنه لا يمكن أن يُضـبط أساس الحـياة وخالقها فى القـبر...
بعـد أن مات، لا يمـوت ولا يتسلّط عـليه المـوت...
يمكننا أن نقـول، إذًا، أن المعـمودية هـى أن تتحقق فـينا هـذه الأشياء التى صـارت، أن تُخـرج...
فى الحقيقة، ليس هناك شئ جـديد فى المعمودية...
المعمودية لم تبتدئ اليوم، هى إبتدأت آنـذاك بموت السيد وقـيامته...
إن موت المسيح وقيامته هما كحـدث واحـد من حيث الأصـل والطاقـة، لأن كل قـيامة المسيح موجودة فى موته ولكنها تفجـرت بعـدئذ...
أى أن كل حـياة المسيح كانت مسكوبة فيه عـندما مات...
وهذه الحـياة التى فـيه هى مسجلة فينا نحـن منذ أن مات وقـام، أى هى مسجلة فى المؤمنين...
ولذلك، فعـندما يُعـمّد إنسان تـُخـرج هذه الحـياة، نؤديها، ونُعـبّر عـنها...
هى بالحـرى، خـلقة جديدة بالماء والروح...
هى إنكشاف لحـياة المسيح فـينا...
لذلك، نقـول : دُفِـنّـا ـ وهو فعـل ماضٍ ـ معه للمـوت أى حتى المـوت...
نحـن نُدْفـن حتى نموت، حتى، كما أقـيم المسيح من الأمـوات بمجـد الآب، هكـذا نسلك نحـن أيضًا فى جـدة الحـياة، فى حـياة جـديدة...
إذًا، هـذه مشاركة كانت موجـودة وحُـقـقـت الآن، وُزعـت عـلينا هـذه المشاركة، بالـروح القـدس، فى هـذا السرّ...
القضـية، إذًا، ليست قضـية محـو خطـيئة...
هى ليست أن ثمة دَيْـنـًا مكتوبـًا عـلينا يُمْحى فنصـبح بـلا دَيْـن ـ هـذا التصوّر العـادى للمعـمودية وهـو أننا بها نصبح بـلا دين، بلا خطـيئة جـدّية...
فى الحقيقة، إن الخطـيئة الجـديّة لا تورّث، أى لا تنتـقـل، ولكـن الإنسان يولد مـيتـًا، يُولد معـرّضـًا للمـوت، حامـلاً فى طـيّات نفسه وجسده قـوة المـوت...
الإنسان هـو فى حـالة مـوت دائـم، بمعـنى أنـه مقهـور، منحـدر، مهـترئ...
هـذا وضـع نـلاحظـه...
المـوت لم يأتِ...
هـو لا يأتى ولا يذهب...
هـذا ما يُلاحظ: المـوت فى الإنسان...
هـذا وضعـه...
هـو إنسان فى حـالة إنحطـاط...
كلّ إنسان هـو مولود فى الإنحطـاط، فى التقهـقـر، فى الإهـتراء، فى السقـوط، فى الظلمـة...
إذًا، المـوت طاقـة فـينا...
هـذا ما سمّاه فـرويد " غـريزة المـوت"...
فعـندما ينزل المسيح إلينا ويتحـد بنا فى المعـمودية يضـع شيئًا ليس فينا، يضـع قـوة الحـياة...
فقـوة الحـياة التى فـيه تصـارع قـوة المـوت التى فـينا...
فإذا قـبلنا المـوت هـو ، نكون ، فى نفس الوقت، قـابلين إفـناء مـوتنا نحـن...
عـندما نرتضـى أن المسيح مات، أى عـندما نسلّم إليه، إلى صـليبه، إذ ذاك نكـون غـالبين لقـوة المـوت التى فينا...
المهم هـو أنـه يجب أن نـدرك هـذا حـتى نـدرك كـل العـمليه وإلا تبقـى قـضـية سطحـية...
وليس هـناك كعـمودية بدون إدراك ذلك...
كيف خلصـنا يسوع المسيح؟...
خلصـنا بأنـه، وهـو الذى لا يحتمـل المـوت ولا يُحكم عـليه بالمـوت ولا يمـوت ولا يستطـيع أن يمـوت لأنـه بـار، والبـار لا يمـوت، إرتضتى المـوت...
كل عـملية الفـداء متعـلقـة بهـاتين الكلمـتين...
المسيح الذى لا يستطـيع أن يمـوت أراد أن يمـوت...
فإذًا، هـو أدخـل المـوت طـوعـًا إلى ذاتـه...
فالمـوت الذى كان ضـرورة عـلى الجنس البشرى، إقـتبله هـو طوعًـا...
أطـاع الله بهـذا...
لكـونه خضع بإرادتـه للمـوت، كـان فـوق المـوت...
لكـونه أطـاع المـوت، صـار فـوق المـوت وصـار غـالبـًا له، هـو سيد المـوت...
لكـونه أطـاع الله حـتى المـوت، مـوت الصـليب، رفعـه الله إليه: " متوفيك ورافعـك إلىّ"...
رفعـه الله إليه وأعـطاه إسم فـوق كل إسم...
ترجمة هـذا الكـلام فى اللغـة العـصرية تعـنى: أعـطاه قـوة فـوق كل قـوة وحضـورًا فـوق كل حضـور، ونفـاذًا فـوق كل نفـاذ...
وإذًا، حـياة المسيح كانت فـيه ـ وهى حـياة الله فى المسيح فى هـذا الجسد ـ منذ ان قـبل المـوت...
بكلمة أخـرى، كـان المسيح منبعـثـًا منذ أن إرتضـى المـوت...
قـوة الإنبعـاث كانت فـيه آنـذاك...
هـذا يعـنى أنـه، عـندما كان المسيح عـلى الصـليب، بعـد أن مات، لم تكـن ثمة لحظة من لحظات الزمان كان المسيح فيها مغـلوبـًا ولا يمكن أن يُغلب...
من المهم تأكـيد أنه ليس هـناك لحظة زمنية كـان المسيح فيها مـيتًا وعـبدًا للمـوت...
إذًا، هـذا يعـنى أنه مات وقام فى نفس الوقت...
ليس هـذا أنه رُئى حـيًا، كـلا، لم يُرَ حـيًا ولكن فى حقيقة الأمـر، كان حـيًا...
رُئى حـيًا بعـد ثـلاثة أيام، فى اليوم الثـالث، فى القـيامة التى هى كشف لهـذه الحـياة التى فـيه وإذاعـة لهـا وبثـًا لها عـلى الكـون وإشراكـًا للمؤمنين فى قـوة الفـداء...
من هـنا قـول الرسول بولس: " دُفـنّـا معـه للمـوت" وهـذا يعـنى أنـه ربانـا فى المـوت بالمعـمودية، حـتى ، كما أقـيم، نقـوم نحـن أيضًا فى جـدة الحـياة...
نحـن أيضًا عـندما إرتضـينا المعـمودية أو نرتضيها بعـد أن تمت، أى نرتضيها طـيلة العـمر ـ المعـمودية تُرتضى أو تُرفض ـ فإرتضـاؤنا لها يعـنى أننا قـبلنا هـذا المـوت...
قـبلنا مـوت المسيح وقـبلنا أن نموت عـن الخطـيئة...
وبلغـة أخـرى، أن نميت الخطـيئة فـينا، وبهـذا نفصـل كـياننا الحقيقى الجوهـرى عـن الخطـيئة...
عـندما يقـول الرسول بولس: " أن نمـوت عـن الخطـيئة" ، فهـذا لأن الإنسان، فى أصـله، حـرّ من الخطـيئة...
والرسول إعـتبر الخطـيئة جسم غـريب، دخـيل نمـوت عـنه...
إذًا، فى اللحظـة التى نُعـمّد فيها، نمـوت ونقـوم، نحصـل عـلى الحـياة الجـديدة بالمثـل...
وإذا كانت فـينا الحـياة الجـديدة فالخطـيئة تـزول...
إذًا، فـزوال الخطـيئة فـينا أو زوال قـوة الخطـيئة فـينا هـو نتيجة للحـياة الجـديدة...
الحـياة الجـديدة تأتى مثـل الطعم...
والطعم إذا أتى يحـارب الجرثومة...
الحـياة الجـديدة التى تنسكب من المسيح عـلينا بالـروح القـدس فى الكنيسة هى التى تطـارد قـوة المـوت...
فإذًا، نحـن فى مطـاردة لقـوة المـوت عـن طـريق الحـياة الجـديدة...
وهـذا ما نحـياه بوجـه عـام، فى العـمر كـلّه...
حـياتنا هـى إفـناء للمـوت، إمـاتة المـوت، إمـاتة الخطـيئة، إمـاتة كـل قـوة القهـر والظـلم والخـنوع والـذل وكـل ما هـو فساد...
وهى مطـاردة الفساد بقـوة الحـياة التى إنكشفت وتفجّـرت...
* ملحق :
معمودية الأطفال
لللأب/ نقولا أفاناسييف
1ـ المسألة :
تتوجـه البشارة المسيحية إلى الناس كافة حـتى يقـدر كل منهم أن يؤمن بابن الله وأن يدخل فى الكنيسة إذا تاب...
والإيمان والمعـمودية يتطـلبان ذلك الرشد الذى يضمن العـلاقة الواعـية بسر المعـمودية عـند الداخـل إلى الكنيسة...
والكنيسة تقـبل فقـط أولئـك الذين ادركـوا الغـاية والمعـنى من إنضمـامهم إليهـا...
فهـل يتبع هـذا أن الأطفـال والأولاد يجب أن ، ويقـبلوا فقـط إذا بلغـوا ذلك الرشد أو بمكن تعـميدهم وفق رغـبة ذويهم؟...
ويبدو أن هـناك ما يجعـلنا نظـن أن مسألة المعـمودية كانت مطـروحة فى العـصر الرسولى وكانت تثـار من وقت إلى آخـر بصـورة ماسة...
ولكـن بلغـت حـدتها فى زمن المناظـرات البيلاجيوسية...
وبنتيجة هـذه المناظرات ثبتت ممارسة معـمودية الأطفـال...
ولكن المسالة لم تطـرح جانبًا بصـورة نهائية...
وفى الأزمنة الحديثة ظهـرت ظهـرت بصـدد هـذ المسألة تيارات متشعـبة...
2 ـ معمودية الأطفال فى العصر الرسولى:
ليس لدينا من العـصر الرسولى معـطيات إيجابية تجعـلنا نؤكـد الصـورة التى حلت فيها قـضية معـمودية الأطفـال فى الكنيسة الأولى...
أن الشهادات التى لدينا لا تخـولنا الحـق فى أن نؤكـد أن معـمودية الأطفـال كانت تُكمّل فى العصـر الرسولى الأول أو لا تُكمّـل...
لقـد ذكـرت فى أسفـار العـهد الجديد معـمودية بعض العـائلات:
عـماد بطـرس لكرنيليوس [ أعمال الرسل 10]...
معـمودية ليديا وأهـل بيتها [ أعـمال 16: 15 ]...
معـمودية السجان وأهـل بيته [ أعمال الرسل 16: 33 ]...
معـمودية كريسيوس رئيس المجمع وكل أهـل بيته [ أعمال الرسل 18: 8 ]...
ومعـمودية بيت إسطـفانوس [ 1 كورونثوس 1: 16 ]...
ومن العسير أن نذهب إلى أن هـذه البيوت المعـمدة كلها كانت خالية من الصغـار...
كذلك لا نستطـيع الجـزم بأنهم كانوا موجـودين...
فلـو كـنا عـارفـين أن الرسل عـمدوا أولادًا لقـلنا بتأكـيد أن الصغـار، فى حال وجـودهم، عـمدوا ولكن من كون بيـوت كرنيليوس وليديا والسجان تعـمدت لا نستطيع إطـلاقـًا أن نستنـتج أن الرسل عـمدوا أولادًا...
3 ـ معمودية الأطفال فى العصور الأولى:
أمـا فى العـصر اللاحـق للعـصر الرسولى فممارسة معـمودية الصغـار مشهـودًا لها كـثيرًا...
فإن أوريجانوس يشهـد بأن:
" الكنيسة تقـلّدت من الرسل أن تمنح المعـمودية أيضًا للأطفـال" [ فى الرسالة إلى الرومانيين 5: 9 ]...
ونعـلم أن الأطفـال فى القـرن الثانى عُـمّدوا شرقـًا وغـربـًا...
بـذا يشهـد إيريناوس [ ضـد الهرطقـات 2، 33: 2 ]، وترتليانوس [ فى المعمودية ، 18 ]...
وفى القـرن الثالث، فى كنيسة روما، كانت معـمودية الأطفـال ظاهـرة مألوفـة...
وفى " التقـليد الرسولى" إشارة إلى أنه يجب تعـميد الأطفـال قـبل البالغـين...
وقـد كان يؤتى بالأولاد إلى المعـمودية فى سن مبكـرة جـدًا...
ويتضح هـذا مما أشار إليه هيبوليتوس الرومانى بأن الوالدين أو الأقـارب يستطـيعـون أن يعـطوا جوابـًا أثـناء المعـمودية [ التقليد الرسولى 21: 4 ]...
وإذا أتـاح " التقـليد الرسولى" مجـالاً للشك فى السن التى فيها يؤتـى بالأولاد إلى المعـمودية ففى أيام كبريانوس القرطاجى كانوا يقـولون بأنه لا يجـوز إرجاء المعـمودية إلى ما بعـد اليوم الثامن [ الرسالة الـ 64 ]...
فى القـرن الرابع لم يتغـيّر الموقف من معـمودية الأطفـال...
وكما يتضح من شهادة يوحنا ذهبى الفم [ الموعظة 11، 17: 28 ] ، وأمبروسيوس [ فى إبراهيم 2، 81 ] ، كانت معـمودية الأطفـال نظامـًا شائعـًا...
وفى القـرن الخامس ثبتت المناظـرات البلاجيوسية نظام معـمودية الأطفـال، " إنه من الحماقـة أن نعلم أن الأولاد يستطيعـون أن يرثـوا الحـياة الأبدية دون المعـمودية" ، هكذا قال البابا أينوكنـديوس الأول عـن نتيجة هذه المناظرة...
وفى الغـرب ثبت رأى كبريانوس القرطاجى بمجمعه فى أن المعـمودية يمكن ان تكمّل مباشرة بعـد الولادة...
أمّا فى الشرق ففى القـرن التاسع كانوا أيضـًا يذهـبون إلى أنها تكمّـل فى اليوم الأربعـين...
ثم زال الفـرق بين العـرف الغربى والعـرف الشرقى تدريجـيًا...
ولكن ثبت فـرق آخـر، ففى الشرق رافق معـمودية الأطفـال والأولاد إتمـام سرّ مسحة المـيرون وبعـده يعـلن الطفـل مستحقـًا للإشتراك بسر الشكـر " الفائق القداسة والكمال"...
أمّا فى الغـرب، ففى القـرون الوسطى فـصل التثبيت عـن المعـمودية وأخـذ الأسقف يكمله عـلى الأولاد فى سن الحادية أو الثانية عشرة وكانت المناولة الأولى تتبعـه...
ولكن فى الكنيسة الأرثوذكسية يتم قـبول الأطفـال فى الكنيسة قـبولاً كاملاً بالمعـمودية والميرون...
4 ـ الأساس التاريخى واللاهوتى لمعمودية الأطفال:
وإن كانت معـمودية الأطفـال نظـامـًا شائعـًا فى القـرن الثانى فمن الطـبيعى الظـن بأنـه لم ينشأ فى العـصر اللاحـق للرسل ولكـنه كان تكمـيلاً النظـام العـصـر الرسولى...
فنحـن نعـود هكـذا ثانية إلى هـذا السؤال:
هـل كان الرسل يتممون معـمودية الأطفـال أم لا؟
وإذا كـنا بدون أدلة تشير إلى ذلك فى أسفـار العـهد الجـديد فهـل ينبغى أن نزهـد بحـلّ مسألة جوهـرية كهذه؟...
أن خـلاء الأدلة الواحـدة فى أسفـار العـهد الجـديد طـبيعـى بالكـلية لأن العـدد العـديد من المتعـمدين كانوا من البالغـين...
أن مسألة تعـميد الأولاد يمكن ان تُطـرح فقـط فى الجـيل المسيحى الثـانى ولكن عـندما طُرحت فى ذاك الزمـن كان التقـليد الكنسى فى هـذا الموضـوع متراكمـًا...
من خـلاء الأدلة المباشرة عـن معـمودية الأطفـال فى العـهد الجـديد ينبغـى أن نخـرج بالتعـليم عـن المعـمودية من جهـة وبنظـام معـمودية الدخـلاء عـند اليهـود ونظـام الخـتان من جهـة اخـرى...
وبكلمـة أخـرى، المسألة فى هـل يتـوافـق نظـام معـمودية الأطفـال مع التعـليم عـن سرّ المعـمودية؟...
وهـل ينسجم مع نظـام الخـتان وقـبول الدخـلاء؟...
[ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً ] [ 1 كورونثوس 12: 13 ]...
إن الدخـول فى الكنيسة لهـو الدخـول فى جسد المسيح، وأعضـاءه صـرنا فى المعـمودية...
هـذا الدخـول يجب أن يسبقـه الإيمـان والتـوبة أو التوبـة والإيمـان، وعـليهما يُبنى الإخـتيار الـروحى لمن يرغـب فى الدخـول إلى الكنيسة...
ومع هـذا لا الإيمـان وحـده ولا التـوبة وحـدها ولا الإخـتيار الحـرّ قـادر أن يجعـل من الراغـب فى الإنضمام على الكنيسة عـضـوًا فى جسد المسيح...
إن الكنيسة لا تسجّـل الراغـبين فى الدخـول إليها إن وَجـَدت فيهم الإيمـان والتـوبة ولكنها تكمّـل سرّ المعـمودية عـليهم ، الإنضمام إلى الكنيسة يكمّـله الروح القـدس الذى يرسله الله فى سرّ المعـمودية...
الكنيسة هى مكـان فعـل الروح القدسن ولـذا تُجـرى المعـمودية فى الكنيسة وهى التى تجـريها بالإستقـلال عن المعـتمد ولو بناء عـلى إخـتياره الحـرّ...
المعـمودية هى جـواب الكنيسة عـن إيمان الراغـب فى الدخـول إليها ولكن المعـمودية نفسها تقـتضى أن يتبعها إيمان المعـتمد جوابـًا منه عـن معـموديته...
الدخـول فى الكنيسة ممكن فقـط بالإيمان بابن الله الذى أحـب المعـمد واسلم نفسه من أجـله...
الإيمان السابق للمعـمودية يفـرض الإيمان اللاحـق إنفـتاحـًا كامـلاً له...
الحـياة فى الكنيسة تبتـدئ بوقـت المعـمودية بواسطة الإشتراك فى سرّ الشكر...
بـدون هـذا الإشتراك تظـل المعـمودية غـير ومحقـقـة...
وبدورهـا الحـياة فى الكنيسة غـير ممكنة بدون المعـمودية...
هكـذا نصـل إلى العـبارة " الإيمان ـ المعـمودية ـ الإيمان" وتبـدو هـذه العـبارة إلزامية إطـلاقـًا لكـلّ الداخـلين فى الكنيسة...
إن الشطر الأول والشطر الثالث من هـذه العـبارة يتعـلّقـان بالإنسان، امّـا الشطـر الثـانى وهـو الرئيسى فـلا يتعـلّق به، بـلّ يكمّـله الـروح القـدس بالكنيسة...
[ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ ...]...
الإيمـان السابق يفتح إمكانية تكمـيل المعـمودية...
أمّـا الإيمان اللاحـق فهـو الشرط لإمكـانية الإشتراك فى الإفخـارستيا...
إن الولادة الطـبيعـية من والدين يهـوديين تعـين إنتساب الأولاد إلى شعـب العـهد الـقـديم المخـتار إلا أن الولادة الطـبيعـية وحـدها لم تكـن بكافـية لتجعـلهم أعضـاء فى الشعـب الذى اقـام الله معـه عـهدًا...
فكـان خـتم الخـتان وحـده يجعـل المـولود من أبوين يهـوديين عـضـوًا حـقـيقيـًا فى شعـب الله...
وفى اليهـودية كـان الخـتان يُنظـر إليه كـولادة جـديدة ترافـق الولادة القـديمة...
وأن معـنى الخـتان كعـلامة إنتساب للشعـب المخـتار ينطـلق من هـذا أن الوثنيين كانوا قـادرين أن يصبحـوا أعضاء فى شعـب الله عـن طـريق الخـتان...
وكـان يتمّ عـليهم عـلى أساس إيمانهم وحـرية إخـتيارهم...
[ وَأَخَذَ عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْماً لِبِرِّ الإِيمَانِ الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ لِيَكُونَ أَباً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضاً الْبِرُّ ] [ رومية 4: 11 ]...
ولابـد هـنا ان نـلاحظ أن خـتان الأمميين كـان يرافـق " غسل التطهـير" الذى كـان يجـرى للرجـال والنساء...
وأثنـاء خـتن الدخـلاء كـان صبيانهم يخـتنون...
وأمـّا " غسل التطهـير" فكـان يجـرى للبالغـين والأولاد المولودين قـبل خـتانة الأب...
أمّـا الأولاد الدخـلاء المولودين بعـد الخـتانة فما كانو خاضعـين لـ " غسل التطهـير"...
أن عـصر الولادة الطبيعـية لم يكـن له معـنى فى العـصر الرسولى للدخـول إلى الكنيسة...
فكـان الأمم واليهـود يتنصـرون " بخـتم" سرّ المعـمودية...
فكما كان الخـتان، كانت المعـمودية خـتم الإنتساب إلى شعـب الله...
إن المقـارنة بين المعـمودية والخـتان ظـاهـرة عـند الرسول بولس:
[ وَبِهِ أيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ ] [ كولوسى 2: 11 ]...
بقـوة هـذه المقـارنة استبدل الخـتان المصـنوع بيـد البشر بخـتان غـير مصـنوع بيـد...
لقـد أعـوز الأمم و اليهـود " غسل التطهـير" ليصبحـوا يفعـل الـروح القـدس أعضـاء فى جسد المسيح...
عـليهم ان يولـدوا من فـوق، من الروح القـدس لينتسبوا للعـهد الجـديد...
إن المعـمودية ولادة روحـية وبدونها لا حـياة فى الكنيسة...
وقـد حسم الرب يسوع سرّ المعـمودية فى مقـابلته مع نيقـوديموس قائلاً:
[ فَقَالَ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ .
قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟
أَجَابَ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.
اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.
لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ.
اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ ] [ يوحنا 3: 3 ـ 8 ]...
5 ـ الولادة الطبيعية من أبوين مسيحيين دعوة إلى العماد:
كان لا بـد لعـنصـر الولادة الطـبيعـية أن يدخـل فى حـيّز الوجـود فى الجـيل المسيحى الثانى فيما يتعـلّق بمعـمودية الأولاد المولودين من أبوين مسيحيين...
إن النظـام المسيحى، آنئـذ، كان يوجهه نظـام الرسل الأول عـندما شرعـوا يعـمدون العَـيل ( العائلات )...
إن حـالات التعـميد لعـائلات كاملة كما هى موصوفة فى سفر الأعمال ما كانت نادرة...
إن المقـارنة بين المعـمودية والخـتان أوحت إلى الرسل وصحبهم أن يكملوا فى آن واحد معـمودية البالغـين والأولاد...
وإنّـا لواجـدون فى بولس الرسول ما يثبت ذلك عـندما يقـول:
[ لأَنَّ اَلرَّجُـلَ غَـيْرَ اَلْمُـؤْمِـنِ مُـقَدَّسٌ فِي اَلْمَـرْأَةِ وَاَلْمَـرْأَةُ غَـيْرُ اَلْمُـؤْمِنَةِ مُـقَدَّسَةٌ فِي اَلرَّجُـلِ ـ وَإِلاَّ فَأَوْلاَدُكُمْ نَجِسُونَ. وَأَمَّا اَلآنَ فَهُمْ مُقَدَّسُونَ ( Aghia ) ] [ 1 كورونثوس 7: 14 ]...
فمن كـلام بولس الرسول يتضح أن لعـنصـر الولادة الطبيعـية عـلاقـة مباشرة بالإنتساب إلى الكنيسة ولفظـة " أجـيوس" التى يضعها بولس الرسول للأولاد من أب مؤمن أو أم مؤمنة تعـنى أنهم ينتسبون لشعـب الله. أى أنه يفتح لهم أبواب المعـمودية : إنهم مقـدسون فإذًا قد إعـتمدوا...
إن اللاهـوت العقـائدى يؤكـد أن معـمودية الأطفـال تكمل يناء عـلى إيمان الوالدين :
{ أما ما يختص بالأطفال فهم غـير قادرين أن يكون عـندهم إيمان وتـوبة ولا أن يشهـدوا لهما قـبل المعـمودية فإنهم يتعـمدون يناء عـلى إيمان والديهم وإشبينهم الذين يتلون عوضـًا عتنهم قأنون الإيمان وجحد الشيطان وكل أعماله متعـهدين أمام الكنيسة بتنشئة الأولاد فى الإيمان وحسن العـبادة إذا ما بلغـوا السن }...
إن إيمان الوادين هو حقيقة شرط إمكانية تكميل معـمودية الأولاد...
فى العـبارة " الإيمان ـ المعـمودية ـ الإيمان " الإيمان السابق عـند المعـتمد يقـوم مقـامه عـند الولـد كونه إبنـًا لوالدين مؤمنين...
الكنيسة تنتمى إلى الدهـر الآتى ولكنها قـائمة فى الدهـر الحاضـر...
والولادة الطبيعـية عـنصر طـبيعى متعـلق بالدهـر الحاضـر ولكن من أجل العائشين فى الكنيسة فإنها عنصر كنسى...
الولادة الطبيعـية تجـر إليها الولادة الروحـية للدهـر الآتى...
الولادة من أبوين مسيحيين شهـادة تعـطى للكنيسة أن نقـول أن الله يدعـو أولاد هـذين الأبوين إلى الكنيسة...
ولذلك لا نستطيع أن نقـول أن معـمودية الأطفـال تخـرق حـرية إرادتهم لأن الإرادة الحـرة غـير موجـودة إطـلاقـًا عـندهم ونحن لا نقـول ان الولادة الطبيعـية تخـرق الإرادة الحـرّة عـندهم...
ومن هـنا تنبثـق نتيجـة أساسية تتعـلّق بمعـمودية الأطفـال والأولاد...
إنها تكمل فقـط لأولاد الأشخاص القائمين فى الكنيسة لأن قـيام الوالدين فى الكنيسة يمكن أن يقـوم مقـام إيمان الطفـل المعـتمد...
ففى حـالة معـمودية الأطفـال المولودين لأبوين غـير مسيحيين ليس من إيمان سابق لأن إيمان الإشبين لا يستطيع أن يمـلأ فـراغ الإيمان عـند الأولاد
المولود لأبـوين مسيحيين يدخـل إلى العالم والله يدعـوه إلى الكنيسة...
بالمعـمودية المكملة فى الكنيسة يصبح عضوًا فى شعـب الله...
إن حـياته العاملة فى الكنيسة تتعلق بإيمانه اللاحـق...
وهـذا هـو جـواب من تعـمد فى الطفـولة عـن نـداء الله...
وبآن واحـد هـذا الإيمان هـو جوابـه للكنيسة التى عـمدته عـلى أساس نـداء الله إليه...
وهـذا الجـواب يمكن ان يكـون إيجابيـًا أو سلبيـًا...
ولكـن فى هـذه الحـالة وتلك يظـل عضـوًا فى الكنيسة...
وكما يستحـيل محـو الولادة الطبيعـية هكـذا يستحـيل محـو الولادة الروحـية...
وبقـوة ولادته الروحـية يعـترف انه مقيم فى الدهـر الحـاضـر وأنه ينتمى بآن واحـد إلى الدهـر الآتى...
عـلى المعـتمد نفسه أن يحقـق إنتسابه إلى الكنيسة وان مسئولية هـذا التحقـيق ملقـاة ليس فقـط عـليه ولكن عـلى الكنيسة التى عـلى أساس إيمان والديه كملت معـموديته، ثم تقـع هـذه المسئولية عـلى والديه...
الفصل العاشر
اَلْمَجِئ اَلثَانِى وَالْحَيَاةُ اَلأبَدِيَّة
" ..وأيضًا يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات... الذى ليس لملكه إنقضاء...وننتظـر قـيامة الأموات وحياة الدهـر الآتى . آمين..."
تمهـيد
عندما يفكّـر المـرء بآخـر الأزمنة، تراوده فـورًا مشكلة مصـيره الشخصى، ويطـرح عـلى نفسه السؤال:
ماذا سيحدث بى بعـد المـوت؟...
هـذا التساؤل ناتج عـن جعـل الإنسان نفسه محـورًا للعـالم...
غـير أن الإعـلان الإلهـى والتقـليد الكنسى يعـلّمـان أن " الأنـا" ليست محـور العـالم، وأن محـور العـالم هـو ذاك الذى قـال :
" أنـا الألف والياء، البداية والنهاية"...
لذلك فالسؤال الصحيح الذى يجب أن يُطـرح هـو:
ماذا سيحدث عـند مجئ المسيح الثانى؟...
الكنيسة تعـيش عـلى إنتظـار هـذا المجئ، إذ حيـنئذ فقـط يصـير المسيح " الكـلّ فى الكـلّ" وتتم عـملية الخـلاص وإفـتقـاد الله للبشر...
فى هـذا الفصـل سنبحث كل جوانب هـذا السر محاولين، قـدر المستطاع بنعمة الرب يسوع، الولوج فى أعـماقـه...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المجئ الثانى للمسيح
أ ـ يسوع نفسه :
أثـناء بشرته عـلى الأرض، أعـلن عـن مجـيئه الثـانى فقال:
[ وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا ] [ متى 24: 30، 31 ]...
و [ وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ اَلأَرْبَعِ اَلرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ اَلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ اَلسَّمَاءِ ] [ مرقس 13: 26، 27 ]...
و [ وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ ] [ لوقـا 21: 27 ]...
وقـد ذكّـرنا الرسول بولس بأقـوال السيد هـذه فى أول رسالة كتبها من كورونثوس إلى أهـل تسالونيكى:
[ فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ اَلْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً ] [ 1 تسالونيكى 4: 15، 16 ]...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب ـ الأحداث التى تشير إلى المجئ الثانى:
لم يُعـلن يسوع موعـد مجـيئه الثانى، لا بل أكّـد عـلى أن ذلك الموعـد لا يعـرفه أحـد سوى الله، ولكـنه أشار إلى أحـداث تسبق ذلك الموعـد...
1ـ دمار الهيكل ومدينة أورشليم:
[ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هَذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ هَهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ! ] [ متى 24 : 2 ]...
و [ وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا. حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَالَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً وَالَّذِينَ فِي الْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا لأَنَّ هَذِهِ أَيَّامُ انْتِقَامٍ لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ. وَيَقَعُونَ بِالسَّيْفِ وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ ] [ لوقـا 21: 20 ـ 24 ]...
2 ـ ظهـور الأنبياء الكـذبة:
[ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ... وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ] [ متى 24: 5 ، 11]...
و [ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ ] [ مرقس 13: 6 ]...
و [ اُنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ وَالزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ ] [ لوقـا 21: 8 ]...
3 ـ الحروب والمجاعـات والكوارث الطـبيعـية:
[ وسَوَفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبِ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلٌّهَا. وَلَكِنْ لَيْسً اَلْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةً عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٍ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٍ وَزَلازِلُ فِى أَمَاكِنَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ ] [ متى 24: 6 ـ 8 ]...
و [ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا لأَنَّهَا لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ اَلْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَاِضْطِرَابَاتٌ. هَذِهِ مُبْتَدَأُ اَلأَوْجَاعِ ] [ مرقس 13: 7، 8 ]...
و [ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلاً وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً }. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: { تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ] [ لوقـا 21: 9 ـ 11 ]...
4 ـ إضطهـاد المسيحيين من أجـل المسيح:
[ حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي. وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ] [ متى 24: 9، 10 ]...
و [ فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً ] [ مرقس 13: 9 ]...
و [ فَضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلَكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ. بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ ] [ لوقـا 21: 14 ـ 19 ]...
5 ـ فقـدان المحـبة والإيمان وطغـيان الإثم:
[ وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ ] [ متى 24: 12 ]...
[ وَسَيُسْلِمُ اَلأَخُ أَخَاهُ إِلَى اَلْمَوْتِ وَاَلأَبُ وَلَدَهُ وَيَقُومُ اَلأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ ] [ مرقس 13: 12 ]...
و [ وَلَكِنِ اِعْلَمْ هَذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّ اَلنَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ، بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضىً، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي اَلنَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ لِلَّهِ، لَهُمْ صُورَةُ اَلتَّقْوَى وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هَؤُلاَءِ ] [ 2 تيموثاوس 3: 1 ـ 5 ]...
6 ـ إنتشار الإنجـيل فى كـلّ العـالم:
[ وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى ] [ متى 24: 14 ]...
و [ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ ] [ متى 28: 19، 20 ]...
و [ وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ اَلأُمَمِ ] [ مرقس 13: 10 ]...
7 ـ ظهـور المسيح الدجـال:
[ فَمَتَى نَظَرْتُمْ ( رِجْسَةَ الْخَرَابِ ) الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ ـ لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ ـ فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ ] [ متى 24: 15، 16 ]...
و [ فَمَتَى نَظَرْتُمْ ( رِجْسَةَ اَلْخَرَابِ) اَلَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ اَلنَّبِيُّ قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي ـ لِيَفْهَمِ اَلْقَارِئُ ـ فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ اَلَّذِينَ فِي اَلْيَهُودِيَّةِ إِلَى اَلْجِبَالِ. وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اِخْتَارَهُمْ قَصَّرَ اَلأَيَّامَ ] [ مرقس 13: 14، 20 ]...
و [ وَلَكِنَّ اَلرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحاً: إِنَّهُ فِي اَلأَزْمِنَةِ اَلأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ اَلإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ، فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ ] [ 1 تيموثاوس 4: 1، 2 ]...
و [ لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الاِرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ، الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلَهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلَهٍ مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ. أَمَا تَذْكُرُونَ أَنِّي وَأَنَا بَعْدُ عِنْدَكُمْ كُنْتُ أَقُولُ لَكُمْ هَذَا؟ وَالآنَ تَعْلَمُونَ مَا يَحْجِزُ حَتَّى يُسْتَعْلَنَ فِي وَقْتِهِ. لأَنَّ سِرَّ الإِثْمِ الآنَ يَعْمَلُ فَقَطْ، إِلَى أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي يَحْجِزُ الآنَ، وَحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ الأَثِيمُ، الَّذِي الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ. الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ، وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ الإِثْمِ، فِي الْهَالِكِينَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ الْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا ] [ 2 تسالونيكى 2: 3 ـ 10 ]...
و [ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، اعْلَمُوا أَنَّنَا نَعِيشُ الآنَ فِي الزَّمَنِ الأَخِيرِ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَوْفَ يَأْتِي أَخِيراً «مَسِيحٌ دَجَّالٌ»، فَقَدْ ظَهَرَ حَتَّى الآنَ كَثِيرُونَ مِنَ الدَّجَّالِينَ الْمُقَاوِمِينَ لِلْمَسِيحِ. مِنْ هُنَا نَتَأَكَّدُ أَنَّنَا نَعِيشُ فِي الزَّمَنِ الأَخِيرِ ... وَكُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الابْنَ، لاَ يَكُونُ الآبُ أَيْضاً مِنْ نَصِيبِهِ. وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالابْنِ، فَلَهُ الآبُ أَيْضاً ] [ 1 يوحنا 2: 18، 22]...
و [ وَإِنْ كَانَ يُنْكِرُ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بَلْ مِنْ عِنْدِ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَوْفَ يَأْتِي، وَهُوَ الآنَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ ]
[ 1 يوحنا 4: 3 ]...
و [ لأَنَّهُ قَدْ دَخَـلَ إِلَـى اَلْعَـالَمِ مُضِـلُّونَ كَـثِيرُونَ، لاَ يَعْـتَرِفُونَ بِيَسُوعَ اَلْمـَسِيحِ آتِياً فِـي اَلْجَـسَدِ. هَـذَا هُـوَ اَلْمُـضِـلُّ، وَاَلضِّـدُّ لِلْمَـسِيحِ ]
[ 2 يوحنا 7 ]...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ج ـ اليقظة والسهر:
العـديد من الأحـداث التى ذكـرناها حصـل بالفعـل، ومنها ما يحصـل الآن...
وهـذا ما يحـدو بالمؤمن أن يأخـذ القـضية بكـثير من الجـدية وأن يعـتبر ما حصـل ويحصـل إشارات لإقـتراب موعـد الملكوت، وأن يستعـد لذلك...
كيف يستعـد؟...
بالسهـر والصـلاة...
هكـذا أراد يسوع:
[ لِذَلِكَ كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُسْتَعِدِّينَ لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ. فَمَنْ هُوَ الْعَبْدُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ فِي حِينِهِ؟ ] [ متى 24: 44، 45 ]...
و [ وَلَكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اَللَّيْلِ، يَوْمُ اَلرَّبِّ، اَلَّذِي فِيهِ تَزُولُ اَلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ اَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ اَلأَرْضُ وَاَلْمَصْنُوعَاتُ اَلَّتِي فِيهَا ] [ 2 بطرس 3: 10 ]...
وما مثـل العـذارى العاقـلات [ متى 25: 1 ـ 13 ] إلا ليعـلمنا يسوع بكـل وضوح ضـرورة السهـر المستمـر واليقظـة الدائمـة فى كل حـياة روحـية تَـنْـهدُ إلى الأصـالة...
وأكّـد عـلى ذلك فى مثـل الخـادم الأمين الذى عـاد سيده فوجـده ساهـرًا...
كلّ منّـا مدعـو لأن يكـون إحـدى العـذارى العاقلات أو ذلك الخادم الأمين...
فبـدون حـياة روحـية واعـية تفـتش عـن المسيح فى كـلّ مواضـع سُكْـناه وتسعـى إلى العـيش باستمرار فى ذكـرى الله، وتعـى أننـا موجـودون دومـًا فى حضـرة الله تعـالى، لا توجـد أية حـياة مسيحية حقـيقـية...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د ـ صـلاة يسوع:
يقـول الرسول بولس:
[ صَـلُّوا بِلاَ اِنْقِطَـاعٍ ] [ 1 تسالونيكى 5: 17 ]...
وكـأنه بذلك يدلّـنا عـلى الطـريق لإستجـابة طـلب السيد: " إسهـروا"...
والتقـليد الأرثوذكسى يربـط بين اليقـظـة والصـلاة المستديمة...
هـذا التقـليد، الذى لا يـزال حـيًا فى عـالمنا اليوم، يدعـو على تـلاوة مستمرة لما يُسمّى بـ " صـلاة يسوع" فى شكلها التالى:
[ يا يسوع ابن الله الحـى إرحمنى أنـا الخاطئ ]
هـذه الصـلاة يمكن أن يمارسها المؤمن فى كـل مكـان...
وبإشراف أب روحى ذى خـبرة تنقـلب الصـلاة من حـركات الشفـاه إلى صـلاة قـلبية يرددها القـلب دون إنقطـاع وأثنـاء أى عـمل يقـوم به الإنسان...
ونرى فى كتاب " سائح روسى عـلى دروب الرب" كيف أن أبسط النـاس يمكنهم التدرّب عـلى هـذه الصـلاة والدخـول فى حضـرة الله فيزداد شوقهم إلى لقـياه ويترقـبون بفـرح مجـيئه الثـانى:
[ آمـِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا اَلرَّبُّ يَسُوعُ ] [ رؤيا 22: 20 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـ نهاية العالم" الأرض الجديدة"
يعـلمنا الكتاب المقـدس، فى عـهديه القـديم والجـديد، أن للعـالم بداية ونهاية...
وها هى بعض النصـوص الأكـثر أهمية المتعـلقة بذلك:
أ ـ فى العـهد القـديم:
[ مـِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ اَلأَرْضَ وَاَلسَّمَاوَاتُ هِـيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِـيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى كَرِدَاءٍ تُغَـيِّرُهُنَّ فَتَتَغَـيَّرُ. وَأَنْتَ هُـوَ وَسِنُوكَ لَـنْ تَنْتَهِيَ. أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ وَذُرِّيَّتُهُـمْ تُثَبَّتُ أَمَـامَكَ ] [ مزمور 102: 25 ـ 28 ]...
[ اِرْفَعُوا إِلَى اَلسَّمَاوَاتِ عُيُونَكُمْ وَاُنْظُرُوا إِلَى اَلأَرْضِ مِنْ تَحْتٍ. فَإِنَّ اَلسَّمَاوَاتِ كَالدُّخَانِ تَضْمَحِلُّ وَاَلأَرْضَ كَالثَّوْبِ تَبْلَى وَسُكَّانَهَا كَالْبَعُوضِ يَمُوتُونَ. أَمَّا خَلاَصِي فَإِلَى اَلأَبَدِ يَكُونُ وَبِرِّي لاَ يُنْقَضُ ] [ أشعـياء 51: 6 ]...
[ اِنْسَحَقَتِ اَلأَرْضُ اِنْسِحَاقاً. تَشَقَّقَتِ اَلأَرْضُ تَشَقُّقاً. تَزَعْزَعَتِ اَلأَرْضُ تَزَعْزُعاً. تَرَنَّحَتِ اَلأَرْضُ تَرَنُّحاً كَالسَّكْرَانِ وَتَدَلْدَلَتْ كَالْعِرْزَالِ وَثَقُلَ عَلَيْهَا ذَنْبُهَا فَسَقَطَتْ وَلاَ تَعُودُ تَقُومُ. وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ أَنَّ اَلرَّبَّ يُطَالِبُ جُنْدَ اَلْعَلاَءِ فِي اَلْعَلاَءِ وَمُلُوكَ اَلأَرْضِ عَلَى اَلأَرْضِ. وَيُجْمَعُونَ جَمْعاً كَأَسَارَى فِي سِجْنٍ وَيُغْلَقُ عَلَيْهِمْ فِي حَبْسٍ. ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَهَّدُونَ. وَيَخْجَلُ اَلْقَمَرُ وَتُخْزَى اَلشَّمْسُ لأَنَّ رَبَّ اَلْجُنُودِ قَدْ مَلَكَ فِي جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَفِي أُورُشَلِيمَ. وَقُدَّامَ شُيُوخِهِ مَجْدٌ ] [ أشعـياء 24: 19 ـ 23 ]...
[ قُدَّامَهُ تَرْتَعِـدُ اَلأَرْضُ وَتَرْجُـفُ اَلسَّمَـاءُ. اََلشَّمْسُ وَاَلْقَمَـرُ يُظْـلِمَانِ وَاَلنُّجُـومُ تَحْجِـزُ لَمَعَـانَهَا ] [ يوئيل 2: 10، 3: 15 ]...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب ـ فى العـهد الجديد:
[ وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ ] [ متى 24: 29 ]...
[ وَأَمَّا فِي تِلْكَ اَلأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ اَلضّـِيقِ فَالشَّمْسُ تُظْـلِمُ وَاَلْقَمَـرُ لاَ يُعْـطِـي ضَـوْءَهُ وَنُجُـومُ اَلسَّمَـاءِ تَتَسَاقَطُ وَاَلْقُوَّاتُ اَلَّتِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِـينَئِذٍ يُبْصِـرُونَ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَـابٍ بِقُوَّةٍ كَـثِيرَةٍ وَمَجْـدٍ فَيُرْسِلُ حِـينَئِذٍ مَـلاَئِكَـتَهُ وَيَجـْمَعُ مُخْـتَارِيهِ مِـنَ اَلأَرْبَعِ اَلرِّيَاحِ مِـنْ أَقْصَـاءِ اَلأَرْضِ إِلَـى أَقْصَـاءِ اَلسَّمَـاءِ ] [ مرقس 13: 24 ـ 27 ]...
[ وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَعَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَالأَمْوَاجُ تَضِجُّ وَالنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ لأَنَّ قُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. وَمَتَى ابْتَدَأَتْ هَذِهِ تَكُونُ فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ ] [ لوقـا 21: 25 ـ 28 ]...
[ وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ الآنَ فَهِـيَ مَخْـزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَـيْنِهَا، مَحْـفُوظَـةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَـلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّـارِ... اَلّـَذِي فِيهِ تَزُولُ اَلسَّمـَاوَاتُ بِضَـجِيجٍ، وَتَنْحَـلُّ اَلْعَـنَاصِـرُ مُحـْتَرِقَةً، وَتَحْـتَرِقُ اَلأَرْضُ وَاَلْمَصْـنُوعَاتُ اَلَّتِي فِيهَا ] [ 2 بطـرس 3: 7، 10 ]...
[ ثُمَّ رَأَيْتُ عَـرْشاً عَـظِيماً أَبْيَضَ، وَالْجَـالِسَ عَـلَيْهِ الَّذِي مِـنْ وَجْـهِـهِ هَـرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَـاءُ ، وَلَمْ يُوجَـدْ لَهُـمَا مَـوْضِعٌ!... ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَـاءً جَـدِيدَةً وَأَرْضـاً جَـدِيدَةً، لأَنَّ اَلسَّمَـاءَ الأُولَـى وَالأَرْضَ الأُولَـى مَضَـتَا، وَاَلْبَحْـرُ لاَ يُوجَـدُ فِـي مَـا بَعْدُ ] [ رؤيا 20: 11 ، 21: 1 ]...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ج ـ الأرض الجديدة:
كل النصـوص التى ذكـرناها تعـطـينا صـورة رهـيبة لنهـاية العـالم...
وأمّـا الحـروب والكـوارث الطـبيعـية، وإمكانات التـدمـير الحـديثة، من أسلحـة نوويـة على أسلحـة كيماوية وبيـولوجـية، فبإمكانها تقـريب الصـورة عـن تلك النهـاية وجعـل تصـوّرها سهـلاً عـلينا...
ولكـن عـلينا أن ننظـر إلى الحـدث بعـينى الإيمـان لا بالعـين المجـرّدة، لا سيما وأنه لا بـدّ من زوال العـالم القـديم ليحـلّ عـالم جـديد دشنه المسيح فى مجيئه الأول وسيكمله فى مجـيئه الثانى...
إن يوم نهـاية العـالم سيكون رهـيبًا للأشرار:
[ فَبِمَا أَنَّ هَـذِهِ كُلَّهَا تَنْحَـلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِـبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟ مُنْتَظِـرِينَ وَطَـالِبِينَ سُرْعَـةَ مَجِـيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الَّذِي بِهِ تَنْحَـلُّ السَّمَـاوَاتُ مُلْتَهِـبَةً، وَاَلْعَـنَاصِـرُ مُحْـتَرِقَةً تَذُوبُ ] [ 2بطرس 3: 11، 12 ]...
ولكـنه للمـؤمنين يوم مجـد...
هـذا اليوم هـو المنتظـر لأن فيه:
[ وَبَعْدَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ مَـتَى سَلَّمَ الْمُـلْكَ لِلَّهِ الآبِ مَتَى أَبْطَـلَ كُـلَّ رِيَاسَةٍ وَكُـلَّ سُلْطَـانٍ وَكُـلَّ قُوَّةٍ ] [ 1 كورونثوس 15: 24 ]...
وفـيه يتحقـق العـالم الجـديد الذى تنبّـأ عـنه أشعـياء، إذ قـال:
[ لأَنِّي هَئَنَذَا خَـالِقٌ سَمَـاوَاتٍ جَـدِيدَةً وَأَرْضـاً جَـدِيدَةً فَلاَ تُذْكَرـُ الأُولـَى وَلاَ تَخْطُـرُ عَـلَـى بَالٍ ] [ أشعـياء 65: 17 ]...
ويقـول لنـا بطـرس الرسول بشأن هـذا اليوم فى رسالته الثانية:
[ وَلَكِنَّنَا بِحَـسَبِ وَعْـدِهِ نَنْتَظِـرُ سَمَـاوَاتٍ جَـدِيدَةً وَأَرْضـاً جَـدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ ] [ 2بطـرس 3 : 13 ]...
وأمّـا يوحنا فيذكـر فى رؤيـاه " ثم رأيت سماء جـديدة وأرض جـديدة" ، ويروى لنـا قـول السيد:
[ وَقَالَ اَلْجَـالِسُ عَـلَى اَلْعَـرْشِ: هَـا أَنَا أَصْـنَعُ كُـلَّ شَـيْءٍ جَـدِيداً ] [ رؤيا 21: 5 ]...
إذًا، آخـر الأزمنة ليس مدعـاة للخـوف، فهـو النهـار الذى يلى الظلمـة...
ونحـن بالمعـمودية دخلنـا العـالم الجـديد الآتى:
[ إِذاً إِنْ كَانَ أَحَـدٌ فِي اَلْمَسِيحِ فَهُـوَ خَـلِيقَةٌ جَـدِيدَةٌ. اَلأَشْـيَاءُ اَلْعَـتِيقَةُ قَدْ مَضَـتْ. هُـوَذَا اَلْكُلُّ قَدْ صَـارَ جَدِيداً ] [ 2 كورونثوس 5: 17 ]...
وولـدنا ثـانية لله وأصبحـنا خلـيقة جـديدة...
وكما يقـول الرسول بولس:
[ لأَنَّكُمْ قَدْ مـُتُّمْ وَحَـيَاتُكُمْ مُـسْتَتِرَةٌ مَـعَ اَلْمَـسِيحِ فِي اَللهِ. مَـتَى اُظْـهِرَ اَلْمَـسِيحُ حَـيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي اَلْمَجْدِ ] [ كولوسى 3 : 3، 4]...
وكما سنرى فيما بعـد، عـند مجئ يسوع المسيح الثـانى، يقـوم المـوتى بأجسادهم للحـياة الأبـدية...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 ـ الموت
ما هـو الموت ، وبالتالى من هم الأمـوات؟...
هـذا السؤال أساسى جـدًا فىحـياتنا ولا بـدّ من طـرحه الآن...
الجـواب المـباشر يعـطينا إيّـاه النبى داود:
[ تَحْـجُـبُ وَجـْهَـكَ فَتَرْتَاعُ. تَنْزِعُ أَرْوَاحـَهَـا فَتَمُـوتُ وَإِلَـى تُرَابِهَا تَعُـودُ. تُرْسِلُ رُوحَـكَ فَتُخْـلـَقُ. وَتُجَـدِّدُ وَجْـهَ اَلأَرْضِ ] [ المزمور104: 29، 30 ]...
الحـياة هـبة من الله...
وكما رأينا فى الفصـل الثالث الخاص بخـلق الإنسان وسقوطه، فالمـوت ضـد الطـبيعـة الإنسانية الأصـلية:
[ فَإِنَّ الله خَـلـَقَ اَلإِنْسَانَ خَـالِـدًا وَ صَـنَعَـهُ عَـلَى صُـورَةِ ذَاتِهِ ] [ حكمة 2: 23 ]...
وكـذلك:
[ إِذْ لَيْسَ اَلمَـوْتَ مِـنْ صُـنْعِ الله وَ لا هَـلاكُ اَلأحْـيَاء يَسُرَّه ] [ حكمة 1: 13 ]...
فالمـوت، إذًا، نتيجـة الخطـيئة:
[ لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اَللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اِجْتَازَ اَلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ اَلنَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ اَلْجَمِيعُ ] [ رومية 6: 23 و 5: 12 ]...
دخـل العالم بواسطة الإنسان يوم لبَّى دعـوة الشيطان الذى لديه قـدرة المـوت [ عـبرانيين 2: 14 ] ، من أجـل الإبتعـاد عـن مصـدر الحـياة...
والآن حـرىّ بنا أن نطـرح سؤالاً ثانيـًا:
ما هـو مصـيرنا بعـد المـوت ودفـن الجسد عـلى رجـاء القـيامة العـامة؟...
لنمعـن النظـر جـيدًا بالنصـوص الكتابية لعـلنا نلقـى بعـض النـور عـلى هـذه المشكلة...
أ ـ فى المزامير وعند الأنبياء:
المـوت، فى المزامـير وعـند الأنبـياء، يوصف بأنـه " أرض سكـوت" ، " عـدم ذكـر الله" ، " أرض النسيان" ، " التـراب" ، " الحـفـرة" ، " الجـب" وكذلك " الهاوية"...
[ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي اَلْمَوْتِ ذِكْرُكَ. فِي اَلْهَاوِيَةِ مَنْ يَحْمَدُكَ؟ ] [ مزمور 6: 5 ]...
[ مَا اَلْفَائِدَةُ مِنْ دَمِي إِذَا نَزَلْتُ إِلَى اَلْحُفْرَةِ؟ هَلْ يَحْمَدُكَ اَلتُّرَابُ؟ هَلْ يُخْبِرُ بِحَقِّكَ؟ ] [ مزمور 30: 9 ]...
[ أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ أَمِ اَلأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ. هَلْ يُحَدَّثُ فِي اَلْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ أَوْ بِحَقِّكَ فِي اَلْهَلاَكِ؟ هَلْ تُعْرَفُ فِي اَلظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ اَلنِّسْيَانِ؟ ] [ مزمور 88: 10 ـ 12 ]...
[ لَيْسَ اَلأَمْوَاتُ يُسَبِّحُونَ اَلرَّبَّ وَلاَ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى أَرْضِ اَلسُّكُوتِ ] [ مزمور 115 : 17 ]...
[ لأَنَّ اَلْهَاوِيَةَ لاَ تَحْمَدُكَ. اَلْمَوْتُ لاَ يُسَبِّحُكَ. لاَ يَرْجُو اَلْهَابِطُونَ إِلَى اَلْجُبِّ أَمَانَتَكَ ] [ أشعـياء 38: 18 ]...
معـظم النصـوص تُظهـر المـوت وكـأنه مكان الهـلاك، مكان السكوت والنسيان، وبالتالى، وكأن الأمـوات " ينـامون"...
بيـد أن بعـض النصـوص تلقـى عـلى هـذا النـوم بصيصـًا من الأمـل كالمزمور الذى استشهد به بطـرس الرسول فى سفـر الأعـمال:
[ لِذَلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. عَرَّفْتَنِي سُبُلَ الْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ ] [ أعمل الرسل 2: 26 ـ 28 ]...
ونجـد ذلك أيضًا فى سفـر أشعـياء:
[ تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ اَلْجُثَثُ. اِسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ اَلتُّرَابِ. لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ وَاَلأَرْضُ تُسْقِطُ اَلأَخْيِلَةَ ] [ أشعياء 26: 19 ]...
و سفـر أيوب:
[ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ وَاَلآخِرَ عَلَى اَلأَرْضِ يَقُومُ . وبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اَللهَ ] [ أيوب 19: 25، 26 ]...
وبصـورة خاصة فى سفـر حزقـيال:
[ فَقَالَ لِي: تَنَبَّأْ لِلرُّوحِ, تَنَبَّأْ يَا اِبْنَ آدَمَ, وَقُلْ لِلرُّوحِ: هَكذَا قَالَ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ: هَلُمَّ يَا رُوحُ مِنَ اَلرِّيَاحِ اَلأَرْبَعِ وَهُبَّ عَلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَتْلَى لِيَحْيُوا. فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَني, فَدَخَلَ فِيهِمِ اَلرُّوحُ, فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظيمٌ جِدّاً جِدّاً. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا اِبْنَ آدَمَ, هَذِهِ اَلعِظَامُ هِيَ كُلُّ بَيتِ إِسْرَائِيلَ. هَا هُمْ يَقُولُونَ: يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا. قَدِ اِنْقَطَعْنَا. لِذَلِكَ تَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ: هَكذَا قَالَ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ: هَئَنَذَا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا اَلرَّبُّ عِنْدَ فَتْحِي قُبُورَكُمْ وَإِصْعَادِي إِيَّاكُمْ مِـنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي. وأَجْعَـلُ رُوحِـي فِيكُمْ فتَحْـيُونَ, وَأَجْعَـلُكُمْ فِي أَرْضِـكُمْ, فَتَعْـلَمُونَ أَنِّي أنَا اَلرـَّبُّ تَكَـلَّمْتُ وَأَفْعَـلُ, يَقُولُ اَلرَّبُّ ] [ حزقـيال 37: 9 ـ 14 ]...
وفى سفـر دانيال:
[ وَكَثِيرُونَ مِنَ اَلرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ اَلأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ هَؤُلاَءِ إِلَى اَلْحَيَاةِ اَلأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلاَءِ إِلَى اَلْعَارِ لِلاِزْدِرَاءِ اَلأَبَدِيِّ ] [ دانيال 12: 2 ]...
حيث يبـرز نـوع من المقـارنة بين " نـوم" المـوت و " صحـو" القيامة المرتقـبة...
ب ـ موت الأبرار فى سفر الحكمة:
فى أسفـار العـهد القـديم المتأخرة التى كـتبت باليونانية فى مصـر خـلال الـ 150 سنة السابقـة لمـيلاد المسيح، خاصـة فى سفـرى الحكمة والمكابيين الثـانى، يُـبرز مظهـر جـديد لمـا سيحـدث بعـد المـوت...
فيدخـل سفـر الحكمة فى التفاصـيل إذ يبـدأ مرحـلة التفـريق بين نـوعـين من الأمـوات، ويؤكّـد أن الأبـرار منهم لا يمـوتون إلا " ظـاهـريـًا"...
ولأن حـياتهم هـى فـى يـدّ الله فإنهم يعـيشون إلى الأبـد...
[ أمََّا اَلْصِدَّيقُ فَإِنَّه وَ إنْ تَعَجَّلَهُ اَلمَوْتَ يَسْتَقِرَّ فِي اَلرَاحَةِ ] [ حكمة 4: 7 ]...
[ أَمَّا نُفُوسَ اَلصِدِّيقِين فَهِي بِيَدِ الله فَلا يَمُسّّهَا اَلْعَذَاب. و فِي ظَنْ اَلجُهَّالِ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَ قَدْ حُسِبَ خُرُوجُهُمْ شَقَاءً. وَ ذِهَابُهم عَـنـَّا عـَطَبًا أمَّا هُمْ فَفِي اَلْسَلامِ. وَ مَعَ أنَّهُم قَدْ عُـوقِـبُوا فِي عُـيُونِ اَلْنَاسِ فَرَجَاؤُهُم مَمْلُوءٌ خُـلُودًا. وَ بَعْـد تَأدِيبٍ يَسِيرٍ لَهُمْ ثَـوَابٌ عَـظِيمٌ لأنَّ الله إِمْتَحَنَهُمْ فَوَجَدَهُم أَهْـلاً لَهُ. مَحَّصّهُم كّالذّهَبِ فِي البّوْتَقَةِ وَ قَـبِلَهُم كَذَبِيحَةٍ مُحْرَقَةٍ. فَهُمْ فِي وَقْتِ اِفْتِقَادِهِم يَتَلألأون وَ يَسْعُـون سَعْيَ اَلشَرَارِ بَيْنَ اَلقَـصَبِ. وَ يَدِينُونَ اَلأمَمِّ وَ يَتَسَلَّطُون عَـلَى اَلشِعُـوبِ وَ يَمْلُك رَبُّهُم إِلَى اَلأبَدِ. اَلمُتَوَكّلُون عَـلَيْهِ سَيَفْهَمُون اَلحَقّ وَ الأُمَنَاءِ فِي اَلمَحَبّةِ سَيُلازِمُونَه لأنَّ اَلنِعْمَة وَ اَلرَحْمَةَ لِمُخْتَارِيه ] [ حكمة 3: 1 ـ 9 ]...
ويضيف:
[ لأنَّ رَجَاء اّلمُنَافِق كَغُـَبارِ تَذْهَبْ بِهِ اَلرِيحُ وَكَزَبَدِ رَقِـيقٍ تُطَارِدَه اَلزَوْبَعَة وَ كَدُخَّانٍ تُبَدِّدَهُ اَلرِيحُ وَكَذِكَرٍ ضَيْفٍ نَـزَلَ يَوْمًا ثُمّ إِرْتَحَلَ. أمّا اَلصِدّيقُـون فَسَيَحْيُون إلَى الأبَدِ وَعِـْنَد اَلَربِّ ثَـوَابُهُم وَ لَهُم عِـنَايَة مِنْ لُدُنِ اَلعَـلِيّ ] [ حكمة 5: 15، 16 ]...
ج ـ الحياة الأبدية فى العهد الجديد:
هـذا الرجـاء بالحـياة الأبـدية، الذى بـدأ بالظهـور فى العـهد القـديم، توطـد وغـدا أكـيدًا عـند مجـئ السيد المسيح الذى هـو أيضًا حـياة العـالم...
فى إنجـيل [ يوحـنا10: 27، 28 ] ، يقـول يسوع مستخدمـًا عـبارة " يـد الله" الكتابية:
[ خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي ] ....
ويؤكـد قـيامة المؤمنين حـين يقـول:
[ لأَنَّ هَـذِهِ هِـيَ مَشِيئَةُ اَلّـَذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَـنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِـنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَـيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اَلْيَوْمِ الأَخِيرِ ] [ يوحـنا 6: 40 ]...
و [ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ] [ يوحـنا 6: 47 ]...
و [ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَرَى اَلْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ ] [ يوحـنا 8: 51 ]...
ويلفـتنا بشكل خـاص قـوله:
[ قَالَ لَهَـا يَسُوعُ: أَنَا هُـوَ اَلْقِيَامَةُ وَالْحَـيَاةُ. مَـنْ آمَـنَ بِي وَلَوْ مَـاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَـنْ كَانَ حَـيّاً وَآمَـنَ بِي فَلَنْ يَمُـوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟ ] [ يوحـنا 11: 25، 26 ]...
هـذه النصـوص كلّهـا تؤكـد ما يلى:
ـ أن حـياة الإنسان تستمر بعـد المـوت بقـدر ما هى مرتبطـة بالله. لذلك يقـول لنـا السيد فى الإنجـيل:
[ وَلاَ تَخَافُوا مِنَ اَلَّذِينَ يَقْتُلُونَ اَلْجَسَدَ وَلَكِنَّ اَلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ اَلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ اَلنَّفْسَ وَاَلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. ] [ متى 10: 28 ]...
ـ المـوت يحـدث من جـرّاء غـياب الله. وحـيث يوجـد الله لا يوجـد المـوت. لذلك، فالنفس العـطشى إلى الله تسعـى دائمـًا إلى العـيش فى حضـرته لا تمـوت لأن توْقـها إلى الله يحفظها حـية...
ـ الذى يعـيش عـلى هـذه الأرض فى المسيح يستمر عـلى هـذه الحـياة بعـد مـوته. هـذا ما يؤكـّده بقـوة الرسول بولس إذ يقـول:
[ لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اّلْلَّهِ، بَيْتٌ غَـيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ. فَإِنَّنَا فِي هَذِهِ أَيْضاً نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا اَلَّذِي مِـنَ السَّمَاءِ. وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَـدُ عُرَاةً. فَإِنَّنَا نَحْـنُ اَلَّذِينَ فِي اَلْخَـيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَـهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ اَلْمَائِتُ مِـنَ اَلْحَيَاةِ. وَلَكِنَّ اَلَّذِي صَنَعَنَا لِهَذَا عَيْنِهِ هُوَ اَلْلَّهُ، اَلَّذِي أَعْطَانَا أَيْضاً عَـرْبُونَ الرُّوحِ. فَإِذاً نَحْـنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِـينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي اَلْجـَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ اَلرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَـيَانِ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ اَلْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِـنَ عِـنْدَ اَلـرَّبِّ ] [ 2 كورونثوس 5: 1 ـ 8 ]...
وجـاء أيضًا قـوله:
[ حَسَبَ اِنْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْـزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَـرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِـينٍ، كَذَلِكَ اَلآنَ، يَتَعَـظَّمُ اَلْمَسِيحُ فِي جَـسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَـيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ. لأَنَّ لِيَ اَلْحَـيَاةَ هِـيَ اَلْمَسِيحُ وَاَلْمَـوْتُ هُـوَ رِبْحٌ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَتِ اَلْحَيَاةُ فِي اَلْجَسَدِ هِـيَ لِي ثَمَرُ عَمَـلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! فَإِنِّي مَحـْصُورٌ مِنْ اَلاِثْنَيْنِ: لـِيَ اِشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَـلِقَ وَأَكُـونَ مَعَ اَلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِـدّاً ] [ فيليبى 1: 20 ـ 23 ]...
ـ المسيح هـو الحـياة وواهـبها. فالـذى يعـيش فـى المسيح و [ حَـيَاتُكُـمْ مُـسْتَتِرَةٌ مَـعَ اَلْمَـسِيحِ فِي اَلـلـهِ ] [ كـولـوسى 3: 3 ] ، هـذا يـكـون [ مَـتَى اُظْـهِرَ اَلْمَـسِيحُ حَـيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي اَلْمَجْدِ ] [ كولوسى 3: 4 ]...
د ـ ماذا عـن الذين لم يعرفوا يسوع أو لم يقبلوه؟:
يجيب بطـرس الرسول قـائلاً:
[ الَّذِي فِيهِ أَيْضاً ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ، إِذْ عَصَتْ قَدِيماً، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ. ] [ 1 بطرس 3: 19، 20 ]...
إن الذين " تمـردوا" عـلى السيد والذين سوف يتمـردون عـليه هم، بعـد المـوت " أرواح سجينة" ، ويسكنون الهاوية" ، " مكان الهـلاك" و " أرض النسيان"...
هـذا ما تكلمت عـنه المزامـير وأشعـياء النبى...
وفى مثـل لعـازر يشير يسوع نفسه وبعـبارات رمـزية إلى وضـع هـؤلاء المتمـردين الحـزين.
فيقـول بأن الغـنى قـد مـات ودفـن، بينما هـو فى " الجحيم يقاسى العـذاب" ، رفـع عـينيه ورأى من بعـيد غبـراهـيم ولعـازر فى أحضـانه، فصـرخ قـائلاً:
[ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي اَلْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي اَلْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ اِرْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اَللهِيبِ. ] [ لوقـا 16: 23، 24 ]...
ثم يضيف السيد :
[ وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى إِنَّ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ اَلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا ] [ لوقـا 16: 26 ]...
ولكـننا نعـلم أن السيد نفسه قـال أن:
[ غَيْرُ اَلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ اَلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اَللهِ ] [ لوقـا 18: 27 ]...
ونعـلم أن المسيح ـ الله المتجسد ـ لم ينزل من السماء إلى الأرض فقـط بل نزل أيضًا إلى الجحيم وإلى الهـاوية:
[ أَوْ { مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟ } ( أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ ) ] [ رومية 10: 7 ]...
لكـى يفـتقـد الإنسان وهـو فى أقـصى درجـات تعـاسته، ويسكر " القـيود الدهـرية" ويحـرّر الـذين يتجاوبون مع محبته...
إذًا، بالقـيامة تفـقـّد المسيح الذين هم فى الجحيم لأنه " وطئ الموت بالمـوت ووهـب الحـياة للذين فى القـبور"...
وكـل من يلقـى بمصـيره بين يـدى المسيح " أذكـرنى يا رب متى أتيت فى ملكوتك" ، يدخـل فى لحظـة ممـاته مـع السيد إلى الفـردوس:
[ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ اَلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِـي فِي اَلْفِرْدَوْسِ ] [ لوقـا 23: 43 ]...
والفـردوس هـذا هـو:
[ لأَنَّنَا نَعْـلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَـتِنَا الأَرْضِـيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَـاوَاتِ بِنَاءٌ مِـنَ اّلْلَّهِ، بَيْتٌ غَـيْرُ مَصْـنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ] [ 2 كورونثوس 5: 1 ]...
وهـناك يبقـى بإنتظـار فـرح القـيامة...
هـ ـ صـلاة:
وننهـى هـذا الفصـل عـن المـوت بذكـر الصـلوات التى تدعـونا الكنيسة إلى تلاوتها، وهى توجـز ببلاغـة تعـليم الكنيسة عـن غـلبة السيد النهـائية عـلى المـوت:
[ لقـد قـام المسيح من بين الأمـوات ،
الذى هـو مقـدمة الراقـدين وبكـر الخـليقـة ومبدع كـل المخـلوقـات.
وقـد جـدّد بذاتـه طـبيعـة جنسنا المنفسدة.
فلست تتسلّط فيما بعـد أيها المـوت لأن سيد الكـلّ قـد أبطـل قـوتك وحلّها ].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ـ قيامة الموتى والحياة الأبدية
هـل سيقـوم الأمـوات بأجسادهم؟...
وهـل القـيامة هـذه حقـيقـة واقـعـية أم هى ضـرب من الخـيال والوهـم عـفا الزمـان عـلى القـول بهـا؟...
بـادئ ذى بـدء نـورد بعـض النصـوص الكـتابية التى تلقـى الضـوء عـلى موضـوعـنا هـذا...
وسنجـدهـا تدعّـم فكـرة القـيامة الفعـلية للأمـوات...
وتجب المـلاحظة فى هـذا المجـال أن آراءنـا الشخصـية وتأويلاتنا لا قـيمة حقـقـبة لهـا...
فالقـيمة كـلّ القـيمة لمـا أعـلنه الله عـن هـذا السرّ...
والـروح القـدس هـو دون سائر الأرواح قـائدنـا إلى الحقـقـة...
والكـتاب المقـدس يؤكـد عـلى ذلك ويحـذرنا من محـاولة الإتصـال بالأرواح كائنـة ما كانت:
[ لاَ تَلْتَفِتُوا إِلَى اَلْجَانِّ وَلاَ تَطْلُبُوا اَلتَّوَابِعَ فَتَتَنَجَّسُوا بِهِمْ. أَنَا اَلرَّبُّ إِلَهُكُمْ ] [ لاويين 19: 31 ]...
ونجـد أيضًا فى:
[ مَتَى دَخَلتَ اَلأَرْضَ اَلتِي يُعْطِيكَ اَلرَّبُّ إِلهُكَ لا تَتَعَلمْ أَنْ تَفْعَل مِثْل رِجْسِ أُولئِكَ اَلأُمَمِ.لا يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ اِبْنَهُ أَوِ اِبْنَتَهُ فِي اَلنَّارِ وَلا مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً وَلا عَائِفٌ وَلا مُتَفَائِلٌ وَلا سَاحِرٌ. وَلا مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً وَلا مَنْ يَسْأَلُ جَانّاً أَوْ تَابِعَةً وَلا مَنْ يَسْتَشِيرُ اَلمَوْتَى. لأَنَّ كُل مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اَلرَّبِّ. وَبِسَبَبِ هَذِهِ اَلأَرْجَاسِ اَلرَّبُّ إِلهُكَ طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكَ ] [ تثنية 18: 9 ـ 12 ]...
أ ـ فى العهد القديم :
ـ عـندما أعـلن الرسول بطـرس قـيامة المسيح [ أعمال 2: 26 ـ 28 ] ، استشهد بنص المزمور قائلاً:
[ لِذَلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَاِبْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضاً يَسْكُنُ مُطْمَئِنّاً. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي اَلْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً. تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ اَلْحَيَاةِ. أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى اَلأَبَدِ ] [ مزمور 16: 9 ـ 11 ]...
بطـرس ، إذًا ، يترجّى القـيامة ، قـيامة الأجساد بالفعـل، وليس نوعـًا من قـيامة الأرواح فقـط، كما كانت تعـلم فى المدارس الفلسفية...
ـ أشعـياء سبق وتكلّم عـن نفسه قائلاً:
[ تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ اَلْجُثَثُ. اِسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ اَلتُّرَابِ. لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ وَاَلأَرْضُ تُسْقِطُ اَلأَخْيِلَةَ ] [ أشعـياء 26: 19 ]...
ـ وفى سفـر أيوب نجـد الإيمان نفسه بالقـيامة بالجسد إذ يؤكـد أنه سوف يـرى الله بأعـين الجسد:
[ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ وَاَلآخِرَ عَلَى اَلأَرْضِ يَقُومُ وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اَللهَ. الَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ. إِلَى ذَلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي ] [ أيوب 19: 25 ـ 27 ]...
ـ وهـنا لا بـد من إثبات نبوءة حـزقـيال التى تتلى فى خـدمة صـلاة السحر للسبت العظيم المقـدس وهى ما يسمّى بجـناز المسيح وتقـام عـادة مساء يوم الجمعـة . هـذه النبوءة تعـطى صـورة واضحـة ومـؤثـرة لقـيامة الأجساد:
[ كَـانَتْ عَلَيَّ يَدُ الرَّبِّ فَأَخْرَجَني بِرُوحِ اَلرَّبِّ وَأَنْزَلَنِي فِي وَسَطِ اَلْبُقْعَةِ, وَهِيَ مَلآنَةٌ عِظَاماً. وَأَمَرَّنِي عَلَيْهَا مِنْ حَوْلِهَا وَإِذَا هِيَ كَثِيرَةٌ جِدّاً عَلَى وَجْهِ اَلْبُقْعَةِ, وَإِذَا هِيَ يَابِسَةٌ جِدّاً. فَقَالَ لِي: [ يَا اِبْنَ آدَمَ, أَتَحْيَا هَذِهِ اَلْعِظَامُ؟ فَقُلْتُ: [ يَا سَيِّدُ اَلرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ . فَقَالَ لِي: [ تَنَبَّأْ عَلَى هَذِهِ اَلْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا اَلْعِظَامُ اَلْيَابِسَةُ, اِسْمَعِي كَلِمَةَ اَلرَّبِّ. هَكذَا قَالَ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ لِهَذِهِ اَلْعِظَامِ: هَئَنَذَا أُدْخِلُ فِيكُمْ رُوحاً فَتَحْيُونَ. وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَباً وأَكْسِيكُمْ لَحْماً وَأَبْسُطُ عَلَيْكُمْ جِلْداً وَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحاً فَتَحْيُونَ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا اَلرَّبُّ ]. فَتَنَبَّأْتُ كمَا أُمِرتُ. وَبَيْنَمَا أَنَا أَتنَبَّأُ كَـانَ صَوْتٌ وَإِذَا رَعْشٌ فَتَقَارَبَتِ اَلْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ. ونَظَرْتُ وَإِذَا بِـاَلْعَصَبِ وَاَللَّحْمِ كَسَاهَا, وبُسِطَ اَلْجِلْدُ علَيْهَا مِنْ فَوْقُ, وَلَيْسَ فِيهَا رُوحٌ. فَقَالَ لِي: [ تَنَبَّأْ لِلرُّوحِ, تَنَبَّأْ يَا اِبْنَ آدَمَ, وَقُلْ لِلرُّوحِ: هَكذَا قَالَ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ: هَلُمَّ يَا رُوحُ مِنَ اَلرِّيَاحِ اَلأَرْبَعِ وَهُبَّ عَلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَتْلَى لِيَحْيُوا. فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَني, فَدَخَلَ فِيهِمِ اَلرُّوحُ, فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظيمٌ جِدّاً جِدّاً. ثُمَّ قَالَ لِي: [ يَا اِبْنَ آدَمَ, هَذِهِ اَلعِظَامُ هِيَ كُلُّ بَيتِ إِسْرَائِيلَ. هَا هُمْ يَقُولُونَ: يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا. قَدِ اِنْقَطَعْنَا. لِذَلِكَ تَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ: هَكذَا قَالَ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ: هَئَنَذَا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا اَلرَّبُّ عِنْدَ فَتْحِي قُبُورَكُمْ وَإِصْعَادِي إِيَّاكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي. وأَجْعَلُ رُوحِي فِيكُمْ فتَحْيُونَ, وَأَجْعَلُكُمْ فِي أَرْضِكُمْ, فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أنَا اَلرَّبُّ تَكَلَّمْتُ وَأَفْعَلُ, يَقُولُ اَلرَّبُّ ] [ حـزقـيال 37: 1 ـ 14 ]...
ب ـ فى العهد الجديد:
ولنـأت الآن إلى العـهد الجـديد. نجـد أن شهـادة بطـرس الرسول التى ذكـرناها تعـتمد أيضًا كـلام يسوع نفسه إذ أكـد رجـاء القـيامة فقـال:
[ اَلْحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآن حِينَ يَسْمَعُ الأمْوَاتُ صَوْتَ ابنِ اللَهِ وَالسَامِعُونَ يَحْيَوْنَ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآب لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ ] [ يوحنا 5: 25 ـ 29 ]...
هـذا هـو النص الإنجـيلى الذى يُقـرأ فى صـلاة الجـناز...
وأمّـا نصّ الرسالة فهـو للقـديس بولس:
[ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذَلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضاً مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ اَلْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي اَلسُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ اَلرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ اَلرَّبِّ. لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهَذَا اَلْكَلاَمِ. ] [ 1 تسالونيكى 4: 13 ـ 18 ]...
كـلّ النصـوص التى ذكـرناها، الواضحـة والمـوافـقة فيما بينها، تبين أن الإعـلان الإلهـى تكلّم عـن قـيامة للمـوتى فى أجسادهم وقـد عـلـّق عـلى ذلك القـديس إيريناوس، اسقف ليـون 170 م، مجـيبـًا عـن تساؤلات المشككين:
{ إن لم يخلص المسيح الجسد بالقـيامة فذلك يعـنى أنه لم يخلّص الإنسان أبـدًا. فهـل رأى أحـد إنسانـًا بدون جسد؟...}...
التمـييز بين روح الإنسان وجسده تمـييز مصطـنع...
والله إفـتقـد الإنسان كما هـو روحـًا وجسدًا...
ومن أجـل هـذا الإنسان تجسّد المسيح وأخـذ جسدًا، ثم مـات وقـام وجلس مع الطـبيعة الإنسانية التى تبنى إلى يميـن الآب داعـيـًا إليه الذين آمـنوا به، والذيم يسلّمـون أمـورهم وحـياتهم للـروح القـدس ليسكن فى هـياكل أجسادهم ويحـوّلها إلى آنـية صـاحـة لإقـتبال الحـياة الأبـدية...
والحـياة الأبديـة هـى " أن يعـرفـوك أيها الآب القـدوس" ...
وتعـطى لمـن يؤمن بالآب ويتقـبّـل الروح القـدس [ يوحـنا 6: 40، 47 و 8: 51 و 11: 25, 26 ]...
وبهـذا الصـدد يقـول الرسول بولس:
[ وَإِنْ كَانَ اَلْمَسِيحُ فِيكُمْ فَالْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ اَلْخَطِيَّةِ وَأَمَّا اَلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ اَلْبِرِّ ] [ رومية 8: 10 ]...
وكذلك:
[ وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: { ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ }. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ ] [ 1 كورونثوس 15: 54 ـ 57 ]...
والآن لا بـدّ مـن طـرح السؤال:
هـل يتمكّن الإنسان منـذ الآن ـ أى فى حـياته الأرضـية ـ أن ينعـم بسكنى الله فـيه وأن يـذوق حـلاوة عـشرة الله؟...
للإجـابة عـن هـذا السؤال رأينا أن ننطـلق من سرد حـادثـة واقـعـية حصـلت للقـديس الروسى سيرافيم ساروفسكى ( 1759 ـ 1833 ) مع صـديق له باسم موتوفـيلوف، ثم نتبعـها بدراسة أعـدّها الأب كاليستوس وير الإنجـليزى والأستاذ فى جامعـة أكسفورد وهـو من أصـل أنجليكانى إهـتدى إلى الأرثوذكسية...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 ـ تجلى الجسد
أ ـ الحوار مع موتوفيلوف:
فى إحـدى لـيالى الشتاء كان القـديس سيرافيم ونقـولا موتوفيلوف يتحـدّثان فى الغـابة. كانا يتكلمان عـن هـدف الحـياة المسيحيةالحقـيقـية. قال سيرافيم جازمـًا:
" إنـه إمـتلاك الروح القـدس"...
فسأل موتوفيلوف:
" وكيف يمكن أن أتـأكـد أنى فى الـروح القـدس؟"...
وقـد جـرى عـندئذ بينهما الحـوار التـالى كما جـاء عـلى لسان موتوفيلوف"
" عـندئذ شدّ سيرافيم كتفى بيـديه وقـال: يا بنى! كـلاا فى هـذه اللحـظة فى روح الله. لمـاذا لا تتطـلع إلى وجههى؟...
ـ لا أستطـيع. عـيناك تلمعـان بأشعـة البـرق الخـاطف ووجهـك يـوج بنـور أقـوى من نـور الشمس. تؤلمنى عـيناى إذا حـدقـتا فى عـينيك...
ـ لا تخف ! فى هـذه اللحـظة بالذات يغـمرك شعـاع كالـذى يغـمرنى. إنـك مثـلى الآن. إنـك ممتلئ أيضـًا من روح الله...
ثم أدار رأسه وقـرّبه من أذنى وتمتم فيهـا كلمات فيها نعـومة السحـر: أشكـر الرب الإلـه عـلى صـلاحه معـنا. إن صـلاحـه لا نهـاية لـه. لكـن لمـاذا لا تنظـر إلىّ؟ حـدّق ! لا تخف فالله معـنا...
بعـد هـذه الكلمات ، إرتمت أنظـارى فـوق وجهـه. شعـرت خشية عـظيمة قـد تملكتنى. تصوّروا وجهـًا ، تصوّروا الشمس، تصوّروا قـلب الشمس، تصوّروا الأشعـة الخاطـفة، تجـدون أنفسكم أمـام هـذا الإنسان. تصوّروا هـذا الوجـه وهـو يخاطـبكم. إنـك ترى حركـات شفـتيه وتلحـظ تعـابير عـينيه المتتابعـة كأنها المـوج، وتشعـر بأن هـناك من يشد كـتفـيك بيـديه. إلا أنـك، لـن ترى، لا يـديه، ولا جسمه. إنـك لا تـرى إلا نـورًا يكـتنفـك ويمـتد بعـيدًا عـنك ويغـمر بضـيائه الثـلوج المبسوطة فـوق أشجـار الغـابة، فينعـكس ضـياء عـلى الرشوحـات الثـلجـية المتساقطـة بإستمـرار"...
الحـوار يستمـر. يسأل سيرافيم موتوفيلوف عـن الشعـور الـذى يعـانيه فى داخـله، فيجـيبه ، ويعـلّـق أن حـالة الذهـول كانت بعـد بعـيدة عـنهما. كـلاهما كانـا بعـد عـلى إرتبـاط بالعـالم الخـارجى. ما فـتئ موتوفيلوف يشعـر بوجـود الثـلج ويشعـر بالغـاب، وحـديثهما كان مترابطـًا. حـتى هـذه اللحظـة كان يلفهما نـور يخطـف الأبصـار....
مـاذا حصـل لهما؟...
ب ـ مغزى الحادثة:
" نـور يخطـف الأبصـار"...
إن لاهـوت الكنيسة الأورثوذكسية الصـوفى أوضـح أن الضـياء الذى ينبعـث من وجـه سيرافيم وموتوفيلوف ما هـو إلا قـوى الله غـير المخـلوقـة. النـور الذى يلفهما هـو النـور الإلهى نفسه الذى غـمر السيد لمّـا تجـلّى عـلى جـبل ثـابور...
" فى عـينيك خطف الـبرق، وفى وجهك ضـياء أين منه ضـياء الشمس". كلمات موتوفيلوف هـذه تحمـل إلى ذاكـرتنا الآيـة الإنجـيلية:
[ وَأَمَّا هـَذَا اَلْجِـنْسُ فَلاَ يَخْـرُجُ إِلاَّ بِالصَّـلاَةِ وَاَلصَّـوْمِ ] [ متى 17: 21 ]...
كما تجـلّى المسيح فـوق جـبل ثـابور كذلك تجـلّى عـبد المسيح سيرافيم فى غـاب سـاروف...
سيرافيم و موتوفيلوف تجـلّيا من مجـد إلى مجـد حسب تعـبير الرسول:
[ وَكُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَاعْمَلُوا اَلْكُلَّ بِاسْمِ اَلرَّبِّ يَسُوعَ، شَاكِرِينَ اَللهَ وَاَلآبَ بِهِ. أَيَّتُهَا اَلنِّسَاءُ، إِخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا يَلِيقُ فِي اَلرَّبِّ ] [ كولوسى 3: 17، 18 ]...
إن " الهـادئـين" ( Hésychastes ) ـ وهم أتـباع مدلاسة روحـية واسعـة الإنتشار فى الشرق المسيحى تشدّد عـلى الصـلاة المستديمة كأداة للعـيش الدائم فى حضـرة الله ـ وخاصة القـديسين سمعـان اللاهـوتى ( 917 ـ 1022 ) وغـريغـوريوس بالمـاس ( 1296 ـ 1359 ) يكـررون الكـلام عـن نـور إلهـى واقعـى ويعـتبرونه ذروة وقـمة الحـياة فى الصـلاة. لا توجـد فى حـالة سيرافيم رؤيـا منظـورة بأعـين الـروح الداخـلية. إنـه نـور طـبيعـى يُنظـر بعـينى الجسد خـارجـيًا...
أيمكن أن تعـتبر حـالة سيرافيم شيئًا عـارضًا فـريدًا يمكن تنحـيته ووضعـه جانبـًا؟...
أيمكن أن يكـون حـدثـًا وحـدثـًا غـير عـادى خـارقـًا وعجـيبـًا؟...
هـذا النـوع من التفسير يحمـل كـثيرًا من الأخطـاء ويُعـتبر معـامرة...
يُروى عـن قـديس روسى آخـر سرجـيوس رادونيج ( 1314 ـ 1392 ) أن العـطـر كان يفـوح من جسده بعـد مـوته وأن النـور كان يغـمر وجهه وأن وجهه لم يكن يشبه وجه الأموات بل وجه الأحـياء، وقـد برهـنت الحـياة المـائجـة فـوق وجهه عـلى عـالم نفسه النقـى...
مثل هـذه الأمثلة تنقـلنا دائمـًا إلى حقـيقـة التجـلّى كحـدث وقـع فى الزمـان والمكـان: " وصـارت ثـيابه بيضـاء كالثـلج"...
عـودة إلى الـوراء، عـودة إلى آبـاء الصحـراء، نجـد أن هـناك حـالات كـثيرة مشابهـة...
فى كـتاب أقـوال الرهـبان وصف لمـوت الأنـبا سيسويس. يقـول الكـتاب:
" عـندما كان تـلامـيذه يحيطـون بـه، وهـو عـلى فـراش المـوت، كان وجهه يشع كالشمس وكان الضـياء يـزداد تألقـًا ويغـمر جسده حـتى فـارق الحـياة، إذ ذاك، صـار النـور بـرقـًا خاطفـًا وإمـتلأ البيت من رائحـة الطـيب"...
فى بعـض الأحـيان يتكلّم كـتاب الأقـوال عـن النـار أكـثر مما يتكلم عـن النـور. إقـترب أحـد تـلامـيذ البـار أرسانيوس الكـبير منه بصـورة عفـوية فوجـده قـائمـًا يصـلى وقـد ظهـر لـه الشيخ وكـانه وسط نـار. ويُروى مثـل هـذا عـن كـثيرين من الآبـاء...
إن فكـرة التجـلّى مع أنهـا غـير واضحـة ويكـتنفها شئ مـن الغـموض إلا أن حـقـيقـتها تبقـى قـائمـة. فى بعـض الأحـيان تظهـر القـوى الإلهـية غـير المخـلوقة بشكـل ألسنة نـارية كما فى يـوم الخمسين وبشكل نـور كما حصـل عـلى جـبل ثـابور أو فى طـريق دمشق مع الرسول بولس...
إن تكلمنا عـن النـار أو النـور فالحـقـيقـة هى هى لا تتغـيّر...
لم يُحصـر هـذا التمجـيد الجسدى فى الكنيسة الأرثوذكسية...
لقـد عـرفـته الكنيسة الغـربية قـديمـًا وفى حـالات كـثيرة مماثـلة...
إنـه نتيجـة لحـرارة الشركـة مع الله، لحـرارة الصـلاة العـميقـة لله..
هـذا النـوع من الصـلاة الحـارة يعـطى إشعـاعـًا للجسد فـائق الطـبيعـة ويكـون سبيلاً إلى التجـلّى الجسدى...
نـرى هـذا التجـلّى الجسدى فى حـياة القـديسة تيريزا، والقـديسة كـاترينا بولونيا وكـاترينا جـنوا...
كما أن جراحـات القـديس فرنسيس الأسيزى فـوق جـبل المـبارنو هى إمـتداد لصـليب المسيح فى أحـد أعضـاء جسده السرى:
[ الَّذِي الآنَ افْرَحُ فِي الاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ: الَّذِي هُوَ الْكَنِيسَةُ ] [ كولوسى 1: 24 ]...
ماهـو المعـنى اللاهـوتى لهـذا التمجـيد الجسدى الـذى ظهـر فى قـديسين من الشرق والغـرب؟...
وراء هـذه الأمـثلة توجـد نقطـتان لهما معـنى أساسى...
أولاً: التجـلى فى كـلتا الحـالتين، حـالة تجـلّى الرب وحـالة تجـلّى قـديسيه، يؤكّـد أهمـية الجسد الإنسانى فى اللاهـوت المسيحى. عـندما تجلّى المسيح عـلى جـبل ثابور ظهر مجده فى جسده وعن طريق هذا الجسد. رأى التلاميذ بأعـينهم الجسدية:
[ فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً ] [ كولوسى 2: 9 ]...
كما أن مجـد المسيح لم يكن داخـليًا فقـط بلّ ماديًا وجسديًا كـذلك كان مجـد قـديسيه...
إن تجليهم يؤكـد أن تقـديس الإنسان ليس أمـرًا يستهـدف الـروح فقـط بل أمـرًا يشمـل الجسد أيضـًا، أى الإنسان روحـًا وجسدًا...
ثانيـًا: التجـلى فى كلتا الحـالتين ، فى تجـلّى المسيح وفى تجـلّى قـديسيه، حـدث أخـروى. إنـه سبـق مـذاق وعـربون الحضـور الثـانى. وتمجـيد جسد القـديسين يرمـز بطـريقة حـية إلى مـنزلة المسيحى ، ويشير كـيف أن المسيحى هـو فى " العـالم وأنه ليس من العـالم". وأنـه قـائم فى نقطـة الفصل بين الجـيل الحـاضر والمستقـبل ويعـيش فى الجيـلين معـًا. الأزمـنة الأخـيرة ليست حـدثـًا إستقـباليـًا فقـط. لقـد إبتـدأت بالفعـل...
ج ـ الجسد واسطة لتمجيد الله :
إن بـلاديـوس ( 363 ـ 430 )، فى رحـلته الأولى إلى مصر عـاش مع شيخ ناسك اسمه دوروثيـوس وكـان هـذا ينقـل الحجـارة طـول النهـار تحـت أشعـة الشمس المحـرقـة، لبنـاء القـلالى. إحـتج بـلاديوس عـلى عـمل الشيخ وقال له:" ما هـذا الذى تفعـله طـول النهـار تحت أشعـة الشمس الكـاوية وأنت فى هـذه السن؟ إنـك تقـتل نفـسك"...
فأجـابه دورثـيوس ساخـرًا:" يا بنى يجـب أن أقـتل هـذا الجسد قـبل أن يقـتلنى"...
هـذا القـول يتعـارض تمـامـًا مع قـول بيمين أحـد أبـاء الصحـراء:" نحـن لم نتعـلّم قـتل الجسد بلّ قـتل الأهـواء"...
وراء هـذين القـولين الموجـزين توجـد، بعـد التـدقـيق، طـريقـتان مختلفـان فى النظـرة إلى الإنسان...
الطـريقـة الأولى طـريقـة أفـلاطـونية أكـثر مما هى مسيحية...
والثـانية مسيحية حـقـيقـية ترتكـز عـلى الكـتاب المقـدس...
وراء هـاتين الطـريقـتين المختلفـتين فى النظـرة إلى الإنسان نظـرتان مختلفـتان عـن الخـليقـة...
النظـرة الأفـلاطـونية عـن الخـليقـة تقـول بأزلـية المـادة. ليست المـادة شيئًا خـلقـه الله من العـدم بل شيئًا سبق وأن كان موجـودًا، ومع أن الله يستطيع أن يعـطى للمـادة شكلاً وترتيبًـا إلا أنها تبقـى فى نهاية المطـاف شيئًا خـارج الله ، مبـدأ مستقـلاً عـن الله...
أمـّا الكـتاب المقـدس فـلا يقـبل بأيّـة فكـرة تقـول بمبـدأين...
المـادة حسب التفكـير الكـتابى ليست مستقـلّة عـن الله ولا مساوية لـه فى البـدء، إنها كـكل الكـائنـات الهـيولـية خـلقـة من خـلقـته إذ:
[ ِفي اَلْبَدْءِ خَلَقَ اَللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ... وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً ] [ تكوين 1: 1, 31 ]...
مقـابل هـاتين الفكـرتين عـن الخـليقة نجـد نظـرتين مخـتلفتين فى عـلم الإنسان ( الأنثروبولوجـيا ). ينظـر أفـلاطـون ( ومثله أكـثر الفـلاسفة اليونانيين ) إلى الإنسان نظـرة ثـنائية ويعـالجـه عـلى هـذا الأساس. يعـتبر النفس إلهـية أمّـا الجسد فينظـر إليه كسجن وكنبع للمـآثم. الإنسان عـقل سجين فى جسد تـرابى يخـفـق إلى الحـرية. الجسد قـبر. وهـدف الفيلسوف هـو أن يبقـى بعـيدًا عـن كـلّ ما هـو مـادى...
هـناك من ينظـر إلى الجسد نظـرة معـتدلة فيعـتبرونه وشاحـًا لا بـدّ للإنسان إلا وأن ينعـتـق ( فيثاغـورث )...
وهـناك من ينظـر إليه نظـرة صـارمة قـاسية: " أنك يا نفس فـقـيرة تحملين جـثة" ( مرقس أوريليوس )...
إن الكـتاب المقـدّس يدعـو إلى نظـرة إلى الإنسان تقـوم عـلى الوحـدانية لا الثـنائية كما هـو الحـال فى الفلسفة اليونانية...
ليس الإنسان سجينـًا فى الجسد إنـه وحـدة جسد وروح...
إنـه كـلّ روح جسدى...
قـال أفـلاطـون " الـروح هـى الإنسان"...
أمّـا الكنيسة فـترد قـائلة الـروح ليست كـل الإنسان. روحـى ليست أنـا...
عـندما خـلق الله، عـندما خـلق الثـالوث الأقـدس الإنسان عـلى صـورته خـلق كـيانـًا كـاملاً، خـلق الـروح والجسد معـًا...
وعـندما أتى الله إلى الأرض ليخـلص الإنسان لم يأخـذ نفسًا بشرية فقـط بلّ جسدًا بشريـًا أيضًا لأن إرادته كانت، وهـى، تخليص كل الإنسان، جسده وروحـه...
فى الواقـع أن الجسد كما نعـرفـه ثقـل...
إنـه شئ يسبب لنـا التعـب والشقـاء وعـذاب الولادة...
إنـه كما نعـرفه فعـلاً نبع لكـل الأهـواء الخاطـئة وهـذه كلهـا نتيجـة للسقطـة...
بعـد السقطـة لم بيـق الجسد البشرى عـلى حـالته الطـبيعـية بلّ صـار إلى حـالة مضـادة للطـبيعـة...
لا شك أن الجسد والروح سينفصـلان وهـذا الإنفصـال إنفصـال مؤقـت ما دام المسيحيون يترجّـون قـيامة الجسد وفى القـيامة سيعـود الإتحـاد مـرة أخـرى...
ليس الجسد قـبرًا ولا سجـنـًا بلّ قسم جوهـرى من الإنسان...
إن الجسد فى نظـر الرسول بولس ليس عـدوًا تجـب محـاربته وسحقـه بلّ سبيلاً يمكن الإنسان أن يمجّـد به خـالقـه:
[ أَمْ لَسْتُمْ تَعْـلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُـوَ هَـيْكَلٌ لِلرـُّوحِ اَلْقُدُسِ اَلَّـذِي فِيكُمُ اَلّـَذِي لَكُمْ مِـنَ اَللهِ وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ ] [ 1 كورونثوس 6: 19 ]...
[ فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا اَلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اَللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اَللهِ عِبَادَتَكُمُ اَلْعَقْلِيَّةَ ] [ رومية 12: 1 ]...
الإرتباط الجوهـرى بين النفس والجسد، خلاصهما المشترك هو فكـر واضح جـدًا عـند القديس إيريناوس:
" بيـدىّ الله أى بالابن والروح القتدس خُلق الإنسان عـلى شبه الله. أقـول الإنسان كله لا قسمًا منه فقـط خُلق عـلى صـورة الله. النفس والجسد معـًا يشكـلان الإنسان بقسميه، لا الإنسان بحـد ذاته. لأن الإنسان ككل هـو مزج ووحـدة النفس بالجسد "...
إن صـورة الله، حسب قـول إيريناوس، ليس ينحصـر بالعـقل بلّ شيئًا يتناول الجسد الإنسانى. يعـالج هـذه الناحـية يوستينوس الفيلسوف فى بحـثه عـن القـيامة فيقـول:
" من الواضح ، إذًا، أن الإنسان المخـلوق عـلى صـورة الله هـو جسدى. أليس القـول: إن لا قـيمة للجسد المخـلوق عـلى صـورة الله ولا شرف له قـول غـير صحيح ومشين؟...
فهـل الإنسان روحـًا فقـط؟. كـلا!.إنها روح الإنسان...
أيمكن أن يكون الإنسان جسدًا فقـط؟ . كـلا!. إنه جسد الإنسان...
الإنسان هـو وحـدة من الإثـنين...
لو أخـذ الإنسان بقسمه الواحـد دون الآخـر ، لكـان حياديًـا"...
فى عـبارته " نثبت إستنادًا إلى طـبيعـة الإنسان الكـتابية أن الإنسان سمّى إنسانـًا لا لأنه ذو نفس فقـط أو جسد فقـط ، بل لأنه وحـدة من النفس والجسد ومن الناحيتين خُلق عـلى صـورة الله ومثاله"...
بـدلاً من أن يستغـل الكـتبة المسيحيون النتائج التى يكتسبها الجسد والمادة من خـلقة الإنسان عـلى صـورة الله وقعـوا فى نـوع من المـلائكـية وإعـتبروا الجسد كعـائق ومانع، كشئ لا عـلاقـة له بالحـياة الروحـية، كشئ خـارجى عـن طـبيعـة الإنسان الحقيقية وأوحـوا أن هـدف حـياة الإنسان هـو أن يتحـرّر من ربط المـادة و أن يحـيا حـياة روح بدون جسد...
هـذه النظـرة لا تأخـذ بعـين الإعـتبار الفـرق الجوهـرى بين الإنسان والمـلائكة.
خـلق الله المـلائكة أرواحـًا خـالصـة ، أمـا الإنسان فقـد أعـطاه جسدًا تمامـًا كما أعـطاه روحـًا وهـذان يشكـلان وحـدة جوهـرية...
خـلق الله الإنسان بجسد ومن الكـبرياء والجـنون الفاضح أن يحـاول الإنسان أن يخلع عـنه جسده ويصبح مـلاكـًا...
كما يقـول باسكال:
" ليس الإنسان مـلاكـًا ولا حـيوانـًا. من يريد أن يكـون المـلاك يكـون الحـيوان "...
لا يجـوز أن يتجاهـل الإنسان، ولا أن يحـاول أن يتجاوز الطـبيعـة المادية بل عـليه أن يفـتخـر بجسده وأن يستعـمله كأشرف هـدية من الله...
يعـتقـد الكـثيرون أن الإنسان دون المـلاك لأنه يملك جسدًا...
المـلاك لا يملك إلا روحـًا والإنسان يملك روحـًا وجسدًا...
يقـول غريغوريوس بالماس: " إن الإنسان هـو فـوق المـلاك لأنه يملك جسدًا"...
الإنسان حـد وسط بين المـادى واللامـادى، إنه يشترك فى العالمين ، لذلك يشكّـل جسرًا ونقطة تماس لكـل الخـليقة الإلهية...
كل هـذا وأمـور أخـرى كـثيرة تقـوم وراء سرّ التجلّى، وراء إتساع هـذا السرّ فى أعـضاء الكنيسة...
يقـول أسقف فاستكوت: " إن التجـلّى هـو مقـياس إمكانات الإنسان، هـو كشف قـدرة الحـياة الأرضـية الروحـية فى أسمى أشكالها الخارجـية. إن تجلّى المسيح وتجـلّى قـديسيه يبرهـن لنـا عـن مقـياس إمكانات الإنسان ويُظهـر لنـا الجسد الإنسانى كما خلقـه الله فى البـدء وما هـو مؤهـل ليصبحه بنعـمته وإرادتنا. التجلّى يكشف روحانية طـبيعـتنا المادية الخاطـئة، نـرى الجسد الإنسانى فى حـالته النهائية عـندما يصبح جسدًا روحيـًا. إن تجـلّى الأجساد مظهـر مدرك فقـط ضمن إطـار أنتربولوجيا تقـبل بإمكانات الجسد الإنسانى الروحـية وترفـض بقـوة كل شكل من أشكال الثنائية الأفـلاطونية"...
فلنا أن نرى فى التجلّى الجسد البشرى كما خلقه الله فى البـدء...
مجـد يسوع المسيح فـوق جـبل ثابور ليس مجـدًا أخـريـًا فحسب بل حـدثـًا يشير إلى طـبيعـة الإنسان فى البـدء قـبل أن تدميرها الخطـيئة...
ولذلك نرتل فى عـيد التجلّى:
أيها المسيح المخلص لقـد جعـلت طـبيعـة آدم المظلمة تزهـو بتجلّـيك معـيدًا عـنصـرها إلى مجـد وبهـاء لاهـوتك...
إن تجلّى جسد يسوع المجـيد عـلى جـبل ثابور يكشف " جمال الصـورة الإلهية" ويُظهـر لنا كيف كانت طـبيعـتنا الإنسانية لو لم تتلوّث بخطـيئة آدم ويوضح لنـا ما تستطيعـه وما يجب أن تصـيره طـبيعـتنا البشرية...
فى حـياة القـديسين الذين لم يتمجـدوا جسديًا كما تمجـد سيرافيم، يمكننا أن نلحظ بطـريقـة معـدلة التعـليم نفسه عـن الجسد البشرى...
سنعـرض بعـض الأمثـلة من المتحـدين القـدامى ...
بين النساك القـدماء فى الصحـراء قـد نجـد ثنائية خاطـئة بسبب صـرامة الحـياة الفـائقـة القـياس وقـد نصـادف فى أكـثر الأحـيان العكس...
عـندما خـرج القـديس أنطـونيوس ( 251 ـ 356 ) من برجـه الصحـراوى حيث عـاش متوحـدًا مدة عشرين عـامـًا ( كما ذكـر أثناسيوس الرسولى ) تعـجّـب النـاس عـندما رأوا جسده عـلى حـاله، ما أرهـقـته الصـيامات ولا هـدته صـراعـاته مع الشياطين. كان منتصب القـامة كمسير بالمنطـق وكعائش حسب الطـبيعـة، لا أثـر لأى ثنائية فـيه...
كان أنطونيوس فى حـالة طـبيعـية، إنه فى حـياة حسب الطـبيعة، لم يغـيّر جسده الحـياة الصـارمة...
يظهـر ان الناسك الذى ينشد الحـياة التى قـبل الخطـيئة يستهـدفها نفـسًا وجسدًا...
فى كـتابه " حـياة أنطـونيوس" يُـبرز أثناسيوس الرسولى حفـاظ الناسك أنطـونيوس عـلى جسده بصـورة تثـير الإنتـباه:
" ومع إنه عـاش مئة وخمس سنين فقـد بقـى محافظـًا عـلى نظـره وأسنانه كاملة وبقـيت يـداه ورجـلاه قويتين"...
هـناك فى مصـر رعـية من النساك معـروفة عـندنـا، كانت أجساد متوحـديها فى حـالة صحـية جـيدة كالقـديس أنطـونيوس ولم يمرض أحـد منهم قـبل موته...
عـندما كانت تحضـرهم ساعـة المـنية كان المتـوحد منهم يستعـد ويخـبر إخـوته ثم يضـطـجع وينام نومـته الأخـيرة...
لم يكـن مرض قـبل الخطـيئة...
هـذا ما يحـدث أيضًا فى بعـض الأحـيان مع أولئك الذين حصـلوا بقـداستهم عـلى الحـالة الفـردوسية...
إنهم يتحـررون من الأمـراض...
يكتب يوحـنا السلمى ( 579 ـ 649 ) عـن هـذا الموضـوع فى سلمه المشهـور ويشرح فى آخـر الدرجة الثلاثين من السلّم موضـوع التجلّى...
يتكلم عـن تجلّى الجسد فيقـول: " عـندما يبتهج القـلب بمحـبة الله يبتهـج وجهه ويُشرق. إذًا، عـندما يندمج الإنسان كـليًا بالمحـبة الإلهية يكتسب الوجـه نقـاوة ونـورًا ويصبح مـرآة مشعّـة تعـبّر عـن الأنـوار الداخـلية القـائمة فى أعـماق النفس. بهـذا البهـاء شعّ موسى ولمـع لونه"...
ثم يتابع :" أولئك الذين يصـلون إلى عـمل المحـبة المـلائكى كـثيرًا ما يسهـون عـن تـذوق لـذة الطـعـام. إنى أعـتقـد أن الذين حـازوا عـلى هـذه المحـبة الإلهية شابهوا المـلائكة فكـأنهم خـالدون لا تمـرض أجسامهم بسهـولة، وصـارت غـير فـانية وخـالدة نقـتها لهب المحـبة الإلهية النقـية"...
يمكـن للجسد الإنسانى حـتى فى الحـياة الحـاضرة وفى حـالات معـيّـنة أن يحـقـق ضمن حـدود معـيّـنه عـدم الفساد الذى كان لآدم قـبل السقـطة والذى هـو نصـيب كل الأبـرار بعـد قـيامة الجسد...
هـذا يساعـدنا لنفهم كيف تبـقى أجساد القـديسن غـير فانـية بعـد المـوت فى بعـض الأحـيان...
د ـ مجد القـيامة الأخـير:
إن تجـلّى ربنا وإلهـنا يجيبنا عـلى السؤال التالى:
كيف أن كـثيرًا من القـديسين لا يرى جسدهم فسادًا؟...
مـرة، ومـرة واحـدة فقـط ، أثناء حـياة المسيح عـلى الأرض، ظهـر المسيح لتـلاميذه متجـلّيًـا بالنور الإلهى وللحظـة...
هـذا لا يعـنى أن طـبيعـة الرب البشرية قـبلت شيئًا لم يكن فيها من قـبل ثم فـقـدته. بالعـكس لم يكن المجـد الذى شعّ فى يسوع عـلى جـبل ثابور مجـدًا فـوق العـادة بل شيئًا كان يملكه دائمـًا إلا أنه بحـركة إخـلاء ذات إرادية أخفى هـذا المجـد لظـروف أخـرى...
فى حضـوره الثانى سيأتى الرب بمجـدٍ وقـوة ، والبشر سينظـرون جسده كما هـو فى الواقـع بكل جماله وعـظمته. وأيضـًا قـديسيه ، عـندما يقـوم الأمـوات فى اليوم الأخـير، سيظهـرون ممجـدين جسديًا وروحـيًا...
التجلّى هـو، إذًا، حقيقة أخـروية، أى رجـاء مجئ المسيح الثانى، عـندما يظهـر أيضًا بمجـده كما ظهـر فى ثـابور ويرمـز إلى قـيامة المـوتى، عـندما يخـترق النـور الإلهى ذاته الذى شعّ فى جسد يسوع فـوق جـبل ثـابور أجساد القـديسين النـاهـضين من القـبر.
يقـول غـريغوريوس الناطق بالإلهيات:
" أيعـلن بالتجلى غـير مجـد القـيامة الأخـيرة ؟، إن مجـد ثـابور هـو عـربون ووعـد وظهـور مجـد الفـردوس"...
فى مواعـظ مكاريوس الكـبير ( فى بداية القـرن الخامس ) يجـرى الكـلام بصـورة مفصّـلة عـن تجلّى الإنسان العـتيد بعـد قـيامة الجسد:
" يتمجـد جسد الإنسان عـلى قـدر ما يكـون مالكـًا للروح القـدس. ما يخـزنه الإنسان فى أعـماق نفسه سينكشف وسيظهـر خارج الجسد وسيأتى يوم القـيامة. وبقـوة شمس العـدل، يخـرج من الداخـل إلى الخارج مجـد روح القـدس ويغـمر أجساد القـديسين الذين إخـتبأ مجـدهم داخـل نفوسهم. ما فيهم الآن يخـرج خارج الجسد فتتمجـد إذاك أجسامهم بالنـور الذى لا يُدرك والذى كان فيهم بقـوة الروح "...
بعـد القـيامة ستلمع أجساد القـديسن بالنـور كما يقـول الكـتاب...
هـذا البهـاء مـدين لمجـد الـروح الذى سينسكب فى الجسد ويجعـله شفـافـًا...
الجسد يقـبل أن يكشف البهـاء الذى هـو داخـل النفس روحـيًا وغـير مادى...
سيُرى مجـد الروح فى الجسد المتجـلّى كما ترى تمـامـًا لون الأشياء وسط الأوعـية الزجاجية...
هـذا ما يحـاول أن يفعـله المصـور الكنسى ويمثـله سريـًا...
يحـاول أن يبرز جسد القـيامة المتجـلى المشع بنـور الروح القـدس...
هـ ـ بدء جـيل المستقبل:
إن ما يسميه القـديس تومـا الأكـوينى " إنسكاب الـروح فى الجسد" ليس شـيئًا مُعـدًا فقـط للمستقـبل...
يتمتع البعـض ( كما رأينا ) بمجـد جسدى من الآن ( حتى لو كـان التمتع لحظـة )...
إن حـقـيقة اليـوم الأخـير هى القـيامة الشاملة وتجـلّى الجسد...
ألا نعـيش كمسيحيين دُفـنّـا وقـمنا مع المسيح بالمعـمودية فى الجـيل الآتى منذ الآن بدرجـة ما؟...
أليس ملكوت الله حـقـيقة حاضـرة وفى الوقت نفسه مستقـبلة؟...
إن القيامة كما يؤكـد الإنجيلى يوحـنا فى سرده لقـيامة أليعازر شئ يشترك فـيه المؤمن من الآن...
إن مرثا عـندما تقـول " أنا أعرف أنه سيقـوم فى اليوم الأخير" تقصد القـيامة فى المستقبل...
أمّا المسيح فيؤكـد حـقـيقة القـيامة الحاضرة بجـوابه لها:
[ قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: { أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي اَلْقِيَامَةِ فِي اَلْيَوْمِ الأَخِيرِ }. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: { أَنَا هُوَ اَلْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟ } ] [ يوحنا 11: 24 ـ 26 ]...
كل الأمثلة عـن التمجـيد الجسدى وعـن المذاق المسبق لقـيامة الأمـوات الأخـيرة تؤكـد أن التعـليم المسيحى عـن الآخـرة ليس شيئًا إستقـباليا فقـط بل شيئًا محـقـقًا من الآن وقـد كـُرّس...
يقـول القـديس غريغـوريوس بالماس:
" إذا كان الجسد يشترك آنـذاك مع الروح بالخـيرات السرّية فإنه الآن يشترك بخـيرات الروح الذى يقـطنه"...
هـذا هـو المعـنى اللاهـوتى لحـوار: سيرافـيم وموتـوفـيلوف...
إنه يعـرض بوضوح الأهمية التى للجسد البشرى فى مخطـط الله الخلاصى، ويدعـونا لتوجـيه أنظارنا إلى قـيامتنا العـتيدة وفى الوقت نفسه يرينا كيف يمكن أن نتمتع بالثمار الأولى، ثمار القـيامة هـنا ومن الآن...
و ـ تجلى العالم :
ليس الجسد الإنسانى مدعـوًا ليتجـلّى، ليصـير " متشحـًا بالـروح" وحسب، بلّ الخـليقـة المـادية كلها...
عـندما يـبزغ اليـوم الأخـير لن ينسلخ الإنسان المُعْـتـق عـن باقى الخـليقـة إذ أن الخـليقـة كلها ستخلص وستتمجـد معـه...
يقـول الإنجـيلى يوحـنا:
[ ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ اَلسَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَاَلْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ ] [ رؤيا 21: 1 ]...
ويقـول الرسول بولس:
[ لأَنَّ اِنْتِظَـارَ اَلْخَـلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اِسْتِعْـلاَنَ أَبْنَاءِ اَللهِ. إِذْ أُخْـضِعَـتِ اَلْخَـلِيقَةُ لِلْبُطْـلِ - لَيْسَ طَـوْعـاً بَلْ مِـنْ أَجْـلِ اَلَّذِي أَخْـضَعَـهَا ـ عَـلَى اَلرَّجَـاءِ. لأَنَّ اَلْخَـلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْـتَقُ مِـنْ عُبُودِيَّةِ اَلْفَسَادِ إِلَـى حُـرِّيَّةِ مَجْـدِ أَوْلاَدِ اَللهِ. فَإِنَّنَا نَعْـلَمُ أَنَّ كُلَّ اَلْخَـلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّـضُ مَعاً إِلَـى اَلآن ] [ رومية 8: 19 ـ 22 ]...
يمكن أن تـؤول هـذه الفكـرة عـن خـلاص العـالم تـأويـلاً خاطـئـًا إلا أنها عـندما تُـفَسّر تُـفَسـيرًا صحيحـًا تُشكّـل عـنصـرًا أساسيـًا من عـناصـر العـقـيدة الأرثوذكسية عـن الأمـور المتعـلّقـة بالآخـرة...
يستطـيع الآن أن ينظـر الإنسان إلى الأيقـونات المقـدسة كثمـار أولى لهـذا الخـلاص الجمـاعـى الذى يشمل حتى المـادة...
فيها نـرى بوضـوح مـا للخشب واللـون كمـادة من إمكانـات التقـديس ...
الأيقـونات هى كشوفـات قـوية للقـوة الروحـية التى يملكها الإنسان وبهـا يستطـيع أن يخلّص العـالم بالجمال والفـن...
إنـه عـربون الظفـر العـتيد عـندما يتوطـد الخـلاص الذى حمـله المسيح لكـل الخـليقـة لمحـو نتـائج السقـطة...
الأيقـونة مـثال مـادى إيجـابى أعـيد وضعـه فى تنـاسقـه وجمـاله الأولى يستعـمل الآن كمتشح للروح القـدس...
الأيقـونة تـؤلّـف قسمـًا من العـالم المتجـلّى...
كمـا أن تجـلّى يسوع يرمـز إلى قـيامة الجسد الأخـيرة ، كذلك يشير مسبقـًا إلى تحـوّل كـلّ العـالم...
إن شخص السيد المسيح لم يتجـلّ وحـده فـوق جـبل ثـابـور بلّ ولـباسه أيضـًا...
يقـول ف. دى موريس:
" إن حـدث التجـلّى عـاش خـلال العـصـور وأنـار جميع الأجـيال. لقـد حـازت كلّ الوجـوه، بسبب ذلك النـور وتلك الهـيئة التى شعّـت بمجـد الله، بسبب تلك الأوشحـة التـى لمعـت بيضـاء كالثـلج، عـلى هـذا الإشعـاع وكل الأشياء العـامة تجـلّت. تجـلّى الرب يسوع يعـنى تجـلّى كـل المخـلوقـات تجـليـًا كماله فى المستقـبل ومقـدماته لـنا من الآن ويمكـن أن يتـذوقـها الإنسان. يكفـى أن تكـون له الأعـين لـيرى"...
يقـول القـديس إيريناوس فى وصـفـه اليـوم الأخـير:
" لا أقـنوم ولا جوهـر الخـليقـة يندثـران، بل حجـم هـذا العـالم يعـبر، أى ما كـان سببًا للمعـصـية وصـار به الإنسان عـتيقـًا. بعـبور هـذا الشكل وتجـدّد الإنسان وبنمـوه فى عـدم الفساد لا يستطـيع أن يصـير عـتيقـًا.وتكـون سمـاء جـديدة وأرض جـديدة ويبقـى الإنسان فى الجـديد جـديدًا يحـدث الله ويكلمه"...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6 ـ الدينونة
أ ـ عدل الله وحكمه :
الله طـويل الأنـاة ومتحـنن ومحـب للبشر وهـو بالمقـدار نفسه عـادل...
وكما أن محـبته للبشر وتحـننه لا متناهـيان، كذلك عـدله...
ومع التـأكـيد عـلى أن الله رحـيم غـفتور يفـتح صـدره للـذى يـاتى إليه تـائبـًا ، كالابن الشاطـر، فيعـفـو عـنه ويخـلّصـه، فهـو كـذلك ديّـان يـديـن بالقـوّة نفسهـا من لا يتـوب ويرفـض الخـلاص...
ولـذا كان لا بـدّ من الكـلام عـن العـقـاب الأبـدى بعـد أن تحـدّثـنا عـن الحـياة الأبـدية...
ويذكّـرنا بذلك الرسول بولس حـيث يقـول:
[ فَإِنَّنَا نَعْـرِفُ اَلّـَذِي قَالَ: { لـِيَ اَلاِنْتِقَامُ، أَنَا أُجَـازِي، يَقُولُ اَلرَّبُّ }. وَأَيْضاً: { الرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ }. مُخِيفٌ هُوَ اَلْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اَللهِ اَلْحَيِّ! ] [ عـبرانيين 10: 30، 31 ]...
ب ـ المسيح هو الديان :
لنتـأمـل مـليـًا فى هـذا النـصّ الـذى أعـطانـا يوحـنا الرسول:
[ قَالَتْ لَهُ: { نَعَـمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَـنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ اَلْمَسِيحُ ابْنُ اَللَّهِ الآتِي إِلَـى اَلْعَـالَمِ }. وَلَمّـَا قَالَتْ هَـذَا مَـضَتْ وَدَعَـتْ مَرْيَمَ أُخْـتَهَا سِرّاً قَائِلَةً: { اَلْمُعَلِّمُ قَدْ حَـضَرَ وَهُـوَ يَدْعُوكِ }. أَمَّا تِلْكَ فَلَمّـَا سَمِعَـتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَـاءَتْ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَـاءَ إِلَى اَلْقَرْيَةِ بَلْ كَانَ فِي اَلْمَكَانِ اَلَّذِي لاَقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا ] [ يوحـنا 5: 27 ـ 30 ]...
ولنعـد إلى ما أورده القـديس متى عـن لسان السيد فى يوم الدينـونة:
[ ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّـذِينَ عَـنْ يَمِـينِهِ: تَعَـالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُـعَـدَّ لَكُمْ مـُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَـالَمِـ. لأَنِّي جُعْـتُ فَأَطْـعَـمْتُمُونِي. عَـطِـشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُـنْتُ غَـرِيباً فَآوَيْتُمُـونِي. عُـرْيَاناً فَكَـسَوْتُمُـونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَـيَّ ] [ متى 25: 34 ـ 36 ]...
ج ـ شرط الدينونة:
نخْـلُص مما سبق إلى مـا يلى:
ـ الحـاكم الديّـان سيكـون المسيح نفسه..
ـ هـذا الحـاكم الديّـان يحـبنا ومـات من أجـلنا:
[ لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ اَلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. ] [ رومية 5: 6 ـ 8 ]...
ـ هـذا الحـاكم الديـان نفسه قـال عـلى لسان نبيّـه:
[ قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ, إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ, بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ اَلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا. إِرْجِعُوا إِرْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ اَلرَّدِيئَةِ. فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟ ] [ حـزقـيال 33: 11 ]...
وقـد أكّـد الرسول بولس هـذا القـول:
[ اَلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ اَلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ اَلْحَقِّ يُقْبِلُونَ ] [ 1 تيموثاوس 2: 4 ]...
وذكـرنا بـه بطـرس الرسول:
[ لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لَكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ اَلْجَمِيعُ إِلَى اَلتَّوْبَةِ ] [ 2 بطـرس 3: 9 ]...
ـ وكمـا أن هـذا الحـاكم الديّـان محـب ورحـيم فهـو عـادل...
ـ وسوف يعـاملنـا السيد حسب أعـمالنا ونيّـاتنا فى آن:
[ لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ اَلنَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ اَلْخَطِيَّةِ ] [ رومية 3: 20 ]...
إذ قـال السيد:
[ فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ. وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ] [ لوقـا 6: 36 ، 37 ]...
ـ وبالتالى سيكون حسابنا عسيرًا ومرتبطـًا إرتباطـًا وثيقًـا بمـواقـف داخـلية تنـمّ عـن محـبة وعـطاء يتجـلّـيان فى عـلاقـتنا بالمـرضى والغـرباء والسجـناء والمعـذبين فى الارض لأن فى هـؤلاء يسكن السيد...
وهكـذا، فالمحك ، فى النهاية، سيكـون مقـدار محـبتنا وتكـريس ذواتـنا لخـدمته وخـدمة الذين خُـلقـوا عـلى صـورته ومثـاله:
[ إِنَّ مَحَبَّتَنَا لإِخْوَتِنَا تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّنَا انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. فَالَّذِي لاَ يُحِبُّ إِخْوَتَهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي الْمَوْتِ ] [ 1 يوحنا 3: 14 ]...
ـ هـا هـو الطـريق الذى يجب أن نسلكه لنحـظى بالحـياة الأبـدية...
وقـد أصـبح واضحـًا كلّ الوضـوح...
فما عـلينـا إلا أن نَـعْـبُر من البغـضـاء إلى المحـبة، لأن عـبـورًا كهـذا يجعـلنـا نَـعْـبُر مـن المـوت إلى الله أى الحـياة...
وهكـذا، نستبـق، بشكل من الأشكال، الدينـونة...
وكما يقـول ذهـبى الفـم:
" السمـاء عـلى الأرض نجـدها فى الإفخـارستيا وفى محـبّة القـريب"...
ـ المعرفـة والإيمـان ولـيدًا المحـبّة:
[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً: لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَصْدُرُ مِنَ اللهِ. إِذَنْ، كُلُّ مَنْ يُحِبُّ، يَكُونُ مَوْلُوداً مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ .أَمَّا مَنْ لاَ يُحِبُّ، فَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّفْ بِاللهِ قَطُّ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ! وَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ مَحَبَّتَهُ لَنَا إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الأَوْحَدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. ] [ 1 يوحنا 4: 7 ـ 9 ]...
ـ الله محـبّة، فمـن لا يحـب لا شركـة لـه مـع الله، وبالتـالى لا صـلة لـه بالحـياة التى هـى من لـدن الله...
ومـآله المـوت والزوال...
ومصـيره جهـنم حـيث " لا يوجـد الله" ولا يسمع له صـوت...
أو ليس العـذاب الأبـدى هـو أن يعـرف الخـاطئ أنـه سيحـيا إلى الأبـد بعـيدًا عـن حضـرة الله، لا يسمع صـوته ولا ينعـم بالملكـوت الذى أعـده الله منـذ إنشاء العـالم:
[ ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ ] [ متى 25: 34 ]...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7 ـ الصلاة من أجل الموتى
صلاة البار وشركة القديسين :
يوصـينا يعـقـوب الرسول فيقـول:
[ وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَـوْا. طِلْبَةُ اَلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعـْلِهَا ] [ يعـقوب 5: 16 ]...
وفى كتاب المكابيين نجـد أن صـلاة البـار تقـتدر عـلى الصـفح عـن الخـاطئ حـتى بعـد وفـاته:
[ لأنَّه لّوْ لَمّ يَكُنْ مُتَرْجَيًا قِيَامَةُ اَلَّذين سَقَطُوا لَكَانَتْ صَلاتَه مِنْ أَجْلِ اَلمَوْتَى بَاطِلاً وَ عَبَثًا. وَ لاعْتِبَارِه أَنّ اّلَّذِين رّقّدُوا بِالتَقْوَى قَدْ إِدْخَرَ لَهُمْ ثَوَابٌ جَمِيلٌ. وَهُوَ رَأيٌ مُقَدَّسٌ تَقْوَي وَ لِهَذَا قَدَّمَ اَلكَفَّارَة عَنْ اَلمَوْتَى لِيُحَلُّوا مِنْ اَلخَطِيَّئةِ ] [ 2 مكابيين 12: 44 ـ 46 ]...
أمّـا يوحـنا الإنجـيلى فيعـكس الآيـة ويقـول لنـاك
[ وَلَمَّا أَخَذَ اَلسِّفْرَ خَرَّتِ اَلأَرْبَعَةُ اَلْحَيَوَانَاتُ وَاَلأَرْبَعَةُ وَاَلْعِشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ اَلْحَمَلِ، وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً هِـيَ صَلَوَاتُ اَلْقِدِّيسِينَ ... وَجَـاءَ مَـلاَكٌ آخَـرُ وَوَقَفَ عِـنْدَ اَلْمَذْبَحِ، وَمَعَهُ مِبْخَـرَةٌ مِنْ ذَهَـبٍ وَأُعْطِـيَ بَخُـوراً كَثِيراً لِكَيْ يُقَدِّمَهُ مَعَ صَلَوَاتِ اَلْقِدِّيسِينَ جَمِيعِهِمْ عَـلَى مَـذْبَحِ اَلذَّهَـبِ اَلَّذِي أَمَـامَ اَلْعَـرْشِ ] [ رؤيا 5: 8 و 8: 3 ]...
ويشبه صـلوات القـديسين أمـام عـرش الحمل بكـؤوس من ذهب مملوءة بالبخـور...
فالمـوت، إذًا، لا يفـصـم عُـرى وحـدة جسد المسيح...
والأحـياء فى هـذا العـالم والـذين إنتقـلوا عـلى رجـاء القـيامة هم دائمـًا جسد واحـد...
وهـذا ما نسمّيه بـ " شركـة القـديسين"...
هـذه الشركة التى سبـق وتحـدثنا عـنها فى الفـصل الثـامن تتجـلّى عـلى أفضـل وجه فى حـياة الكنيسة الليتورجـية...
فالكنيسة جمعـاء تصـلّى وليس الأحـياء فقـط...
لأن الأمـوات الموجـودين معـنا فى الكنيسة والـذين تمثـلهم أيقـونات القـديسين الموضـوعـة فى الكنيسة هم أيضًا يشاركوننا التسبيح...
وشئ آخـر هـام يحصـل فى القـداس الإلهى إذ أن الكـاهن يذكـر الأحـياء ويضـع قطعـًا من خـبز التقـدمة عـلى الصينية ثم يذكـر الأمـوات ويضـع عـلى الصينية نفسها قطعـًا من خـبز التقـدمة، وبعـدئذ يضـع ما تجمّـع عـلى الصينية فى الكـاس فيغـدو الأحـياء والأمـوات جسدًا واحـدًا بالمسيح...
لذلك، فالمكـان الوحـيد الـذى يلتقـى فـيه الأحـياء والأمـوات بكـلّ معـنى الكلمـة هـو الكنيسة وبالتحـديد فى الكـأس المقـدس أى فى المسيح يسوع...
لـذا، فنحـن مدعـوون إلى أن نحمـل أمـواتنا فى صـلواتنا إلى الرب وهم أيضًا يشتركـون معـنا فى التسبيح فيتمجـد اسم الرب فيهم وفـينا وينمو الجسد الذى يجمعـنا والذى هـو الكنيسة جسد المسيح...
`16`
التسميات:
طقــس وعقـــيدة
أحدث الموضوعات
From Coptic Books
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010
المشاركات الشائعة
- اكلات صيامى بمناسبة بدء الصوم كل سنة وانتم طيبين
- مسابقة فى صورة اسئلة مسيحية
- افكار تنفع مدارس الاحد { وسائل الايضاح }
- الحان اسبوع الالام mp3
- صور تويتى للتلوين
- دراسة كتاب مقدس ... لابونا داوود لمعى
- صور يسوع المسيح ( مصلوب )
- صلوات الاجبية بالصوت mp3
- حصرياً : اعلان نتيجة مهرجان الكرازة & شعار مهرجان الكرازة 2010 Mp3 ومنهج الألحان
- أرشيف الترانيم والمدائح أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.