الطين بيد الفخاري

بقلم القس بولس حداد

عاش إرميا النبي في أيام السبي، وفي أيام التمرّد والعناد.

وغالباً ما تصطدم محبة الله بعناد الإنسان. وكلما اقترب الله من الإنسان للمصالحة أُسيء فهم هذا الاقتراب، وابتعد الإنسان لجهله. فكبرياء الإنسان هي حجر الصدمة وصخرة العثرة التي تُبعد الإنسان من أمام قلب الله المحب. ويظن الإنسان نفسه أنه أصبح ذا شأن عظيم وهو مكتفٍ بما عنده. وينظر الله إليه بشفقة، وإذا هو تراب ورماد. حتى الأنبياء ورجالات الله العظام قلّما يكتشفون نفوسهم بعيداً عن الحضرة الإلهية. أما الله فيريد أن يعلّمنا دروساً عن ذاته وعن نفوسنا، وهذا ما نعجز عنه بمجهوداتنا وبدرسنا وتنقيبنا؛ إذ نحتاج إلى إعلانات إلهية. فالله وحده يستطيع أن يُعلن لنا حقيقة نفوسنا، وحقيقة ذاته الإلهية، فيكون هو المعلم الصالح ونحن التلاميذ.

عندما نصلي: يا رب كلّمني، وعلّمني، وفهّمني، هل نعني هذه الصلاة؟ هل نحن على استعداد أن نتنازل عن معرفتنا وعلمنا وتحصيلنا، لكي نأخذ تعليماً إلهياً؟ أم نعيش حياة الاكتفاء التي تمنعنا عن التحصيل؟ لا بدّ أن إرميا كان في وضع مُربك ومحيّر. ثمة أسئلة كثيرة أربكت فكره: لماذا نحن في أوضاع كهذه؟ لماذا حصل لنا ما حصل؟ هل نستحق هذه النتائج كلها؟ ومِن هنا إلى أين؟

أتريد جواباً يا إرميا؟ إذا قم انزل إلى بيت الفخاري. فالتعلّم يحتاج إلى جوّ ومناخ ملائمين. "قم انزل" لأن البركات الإلهية تحصل عليها بالنزول. "قم انزل" أيها النبي، والمؤمن، وخادم الرب لكي تبرهن فعلاً أنك متواضع، وجاهل، وفي حاجة أن تتعلم من المسيح الوديع والمتواضع القلب. إحنِ عنقك أيها الحكيم والمتعلم لكي تستطيع أن تحمل نير المسيح وتتعلم منه. "قم انزل" إقراراً منك بأن أبواب المعارف سُدَّت أمامك، وإن كنت تظن أنك تعرف شيئاً، فإنك لم تعرف شيئاً بعد كما يجب أن تعرف (1كورنثوس 2:8).

ماذا رأى في بيت الفخاري؟ ماذا رأى في هذه الجامعة؟

رأى فخّارياً وطيناً. وماذا يمكن أن نتعلم من فخّاري وطين؟ أهذه هي كل الصفوف وكل الأساتذة؟ هل هذه هي مواد التعليم؟ تختلف مواد التعليم باختلاف الأشخاص، لكن العبرة في المعلّم. إرميا يحتاج إلى بيت الفخّاري، وإشعياء إلى مواد أخرى ورؤى مختلفة، كذلك حزقيال، وموسى، وبولس، وبطرس.

ويوضّح الرب علاقته بالشعب وعلاقة الشعب به. "هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل" (إرميا 6:18). إعلان جديد ورؤيا جديدة.

الرب هو المتسلّط، وما زال ممسكاً بزمام الأمور. إلهنا عظيم وقدير، "الرب في السماوات ثبّت كرسيه ومملكته على الكل تسود" (مزمور 19:1-3). "الكل به وله قد خُلق" (كولوسي 16:1). ولا يفلت من يده شيء، فهو صاحب السلطان المطلق، "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عبرانيين 3:1). إلهنا فوق الظروف والأحوال والنواميس، وسلطانه على الطبيعة والمرض والموت. في يده الخير وفي يده الشر. في يده السلام وفي يده الحرب. هو يجمع ويفرّق، يخلّص ويُهلك.

إن حياتنا بلا رؤى، عقيمة وسقيمة، وكذلك هي بلا نموّ، أو تقدّم، أو ارتقاء في مراحل روحية جديدة. فالإعلانات تبدّد الأوهام وتلغي الأسئلة وتنقذ من الضياع. أوضاع محيّرة ومخيفة، يحتاج إرميا فيها إلى إعلان إلهي يوضح فيه الصورة من جديد. هل لدينا فكرة صحيحة عن الله؟ هل نعرف من هو إلهنا الذي نعبده، ونخدمه، وسنقابله، ونعيش معه طوال الأبدية؟ هل نعرف إلى من سلّمنا أمورنا؟ نحن في يد إلهنا الكلي القدرة، ولا يستطيع أحد أن يمدّ يده إلى هذه اليد القوية والقديرة.

إن الفخاري هو صاحب الطين، وهذا امتياز لنا أن نكون ملكاً لإلهنا العظيم. ختمه علينا ونحن بين يديه. هذا امتياز عظيم، ومسؤولية عظيمة. نحن للرب، وهذا يعني أننا وأولادنا للرب، وأزواجنا وزوجاتنا للرب، وما لنا، وعِلمنا، وطاقاتنا كلها للرب. هذا يحتاج إلى سنوات لكي نتعلّمه ونعيشه. إرميا تعلّمه بلحظة. لمن هذا الطين؟ للفخّاري. بيد من هذا الطين؟ بيد الفخاري.

أحد رجالات الله القديسين المشهود لهم بحياتهم وإنتاجهم، خدم الرب خمساً وأربعين سنة وقد باركه الرب جداً. كشف أحد الكتّاب سرّه فقال: "كان لهذا الإنسان سرّ اكتشفه الناس ساعة موته. فهو لحظة تجدّده كتب على ورقة صغيرة: لما سلّمت حياتي للرب، أصبح هو مَلكي وربي، فأنا ملكٌ له وأريد أن أعيش له. ثم وضع تراباً في هذه الورقة ولفّها في قطعة قماش ووضعها في جيبه". ويبدو أنه كان كل يوم يتفقّد هذه الوديعة وهذه الحقيقة ويردّد: أنا تراب بين يدي الرب. ورقد بين يدي الرب، لأنه عاش بين يدي الرب.

ويل لطين يستقلّ عن الفخاري. اقطع اليد التي تمتدّ لتمسك بك بدل يد الرب. لا تسمح لسادة سوى الرب أن يستولوا عليك. الرب وحده يملك الحق بذلك وما عداه دخيل. فالطين للفخّاري، وللفخاري فقط. لا يوجد فكر خاص أو رأي خاص للطين. لا توجد لديه توجّهات معينة. والجميل في هذا الطين أنه لا يستطيع أن يتكبّر لأنه طين يُداس بالأقدام. ولا يستطيع الرب أن يصنع منا أوعية جميلة ومزخرفة قبل أن يتمكن من إخضاعنا كلياً. أنا أشكر الفخاري لأنه ارتضى أن يمسكني بيده، ولا بدّ أن لديه برنامجاً معيّناً لحياتي. ما اسمك؟ طين، لكن عندي امتياز أني بيد الفخاري.

صاحب الطين يفعل بيده ما يشاء. "وإذا به يصنع عملاً على الدولاب"
(إرميا 3:18). من صمّم الوعاء؟ من برمج الوعاء؟ هل للطين يد في الموضوع؟ "ألعلّ الجبلة تقول لجابلها لماذا" (رومية 20:9) "أو يقول الطين لجابله ماذا تصنع" (إشعياء 9:45)؟ إن مشكلة إيمان القرن الحادي والعشرين كثيرة التساؤلات. "من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله" (رومية 20:9)؟ أليس للخزاف سلطان على الطين؟ أبإمكان الطين أن يحتجّ؟ وماذا في طاقة يده؟ أيعبّر بذلك عن أنه أحكم من الفخاري؟

يكرمنا الرب ويعطينا فهماً وحكمة، لكن لا حقّ لنا أن نتعالى عليه، بل علينا أن نلزم حدودنا، إذ نحن طين بين يديه، يستطيع أن يفعل بنا ما يشاء. جبلة ضعيفة وحقيرة، طين بلا قوة ولا سلطان. نشكر الله إذ إن إلهنا لا يريد أن يبقينا مجرّد طين. إن قصد الفخّاري أن يصنع من الطين أوعية، لكن كما يتصوّرها هو. هذه جرّة.. وهذا إبريق.. وهذا صحن.. وهذه مزهرية. أين هذه كلها؟ إنها في فكر الله، ومن يستطيع أن يدخل إلى فكر الله؟ إذاً، من يستطيع أن يتعاون مع الله في صياغة هذا الوعاء أو ذاك؟ "ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم" (رومية 16:9). "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" (رومية 33:11)، يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان
(2تيموثاوس 19:2)، ولا يحق لأحد أن يقول له ماذا تفعل (أيوب 12:9).

ما هذه الدروس في بيت الفخّاري، ما هذه الجامعة، ما هذا المستوى التعليمي؟ يصنع أوعية كما يتصوّرها في فكره، ثم يشكّل في يده. كل وعاء مختلف عن الآخر، فلا إبريق مثل الآخر ولا صحناً مثل الآخر، هنالك استقلالية تامة. هو يصنع بيده على الدولاب، يعمل بنا وعلينا. فلا نصرخنّ كثيراً ولا نحتجّ على الرب، فهو يعمل على تأهيل شخصياتنا. ففي الطين حصى وقش أحياناً، ويضطر الفخاري أن ينقّيه وأن يدلكه جيداً كي يصبح ناعماً. وبعد ذلك تبدأ عملية إعداد الصورة والشكل، فيظهر الوعاء. ويضطر أحياناً إلى عملية ترميم: "عاد وعمله وعاء آخر" (إرميا 4:18). كان يقصد به مزهرية، وإذ فسد الوعاء عاد وعمله صحناً، وبعد ذلك يضع عليه اللمسات الأخيرة. أحياناً نصلي قائلين: يا ربّ، لمّع حياتنا الروحية، ولمّع شهادتنا ليرى الناس وجوهنا تلمع؛ وننسى أن علينا أن نخضع لعمل كثير في البداية، قبل أن نأتي إلى اللمسات الأخيرة والمنظر الجذّاب والجميل من الخارج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010