ماذا أعددت للقاء إلهك؟

بقلم الدكتور صموئيل عبد الشهيد



- قف.. لا تتقدم خطوة واحدة.

وحدّق الرجل المشرف على الموت بالكائن الماثل أمامه في ظلال العتمة التي أخذت تزحف إلى عينيه، ولكنه لم يستطع بادئ بدء أن يتبين معالمه، أو يكتشف حقيقة أمره، فتساءَل بصوت راجف:

- من أنت؟ وماذا تريد مني؟

- أنا ملاك الموت. قد جئت لأخطف روحك إلى مقرّك الأبدي.

- أنت ملاك الموت! لا، ابتعد عني، إنني لا أريد أن أموت.

- لا خيار لك في الأمر، فقد صدر إليَّ الأمر الإلهي لكي أقودك إلى حيث يجب أن تكون.

- ولكن .. ولكن لماذا تطلب مني أن أتوقّف ولا أتقدم خطوة واحدة؟

فأجابه ملاك الموت المتلحّف بالظلمة:

- لأن لديَّ سؤالاً خطيراً أود أن أطرحه عليك قبل أن تفارق هذا العالم.

- أي سؤال؟ قل لي.

فتفرّس به ملاك الموت بعينين وامضتين نفاذتين وقال:

- ماذا أعددت للقاء إلهك؟

لا بُدّ لكل واحد منا أن يواجه حقيقة الموت في يوم من الأيام! فالبعض تُتاح لهم الفرصة لكي يتأملوا في حقيقة الحياة التي قضوها على الأرض في إبان شبابهم، وقوتهم، حيث انهمكوا في تحقيق مطامحهم، وانفقوا أوقاتهم في السعي وراء المال أو الجاه أو النفوذ السياسي، أو المركز الاجتماعي. وفي غضون هذه النشاطات، تناسوا إلههم بل تجاهلوا حقيقة الموت وظنوا أنهم خالدون أبداً، وأنهم أقوى من الزمن، بل إن في وسعهم أن يخدعوا الدهر، ويتغلبوا على الهم، والضعف، والخوف من الأمراض المزمنة. ولكنهم فيما هم يتضوّرون من الأوجاع، ويتأكلهم السرطان أو أي مرض خطير آخر، قد تطرأ على خواطرهم فكرة الأبدية، ويكتشفون أن حياتهم التي أهدروها في أمور الدنيا هي باطل الأباطيل وكل شيء باطل. وقد يتساءلون في تلك اللحظات الحالكة جداً: ماذا أعددنا للقاء إلهنا؟ في لحظة كلمح البصر يتبيّنون أن ثروتهم، وأفراد عائلاتهم، وصداقاتهم، ومراكزهم لا معنى لها ولا قيمة، عندما تحين اللحظة الحاسمة التي لا مفرَّ منها.

وهناك أيضاً من يفاجئهم الموت على حين غفلة. شباب وشابات في ريعان الصبا، ووفرة الصحة والعافية، يعبون من الحياة رحيقها، ويجرعون كؤوس المتعة مترعة، دنياهم ملاهٍ، وسهرات، ولقاءات، ومباهج. وفجأة، من غير سابق إنذار يدهم الموت، إما نتيجة لسكتة قلبية، أو حادث سيارة، أو سقوط طائرة كانوا على متنها. هؤلاء لا يجدون الفرصة ليطرحوا على أنفسهم هذا السؤال الخطير. ومن المؤسف حقاً أن بعضاً من هؤلاء قد يكونون أبناء عائلات مسيحية مؤمنة، وقد اعتادوا على الذهاب إلى الكنيسة منذ طفولتهم، وسمعوا كلمة الإنجيل تُكرز من فوق المنابر، ومع كل هذا، تنكروا لها لأنهم وقعوا في شباك إغراء العالم الشرير، وبدلاً من أن يتجهوا نحو الصليب، تحوّلوا إلى مستنقعات الخطيئة، ظانين أن العمر ما برح طويلاً، وأن أبواب الفرص ستظلّ مشرَّعة في وجوههم لكي يطلبوا الرب عندما تدبّ الشيخوخة في أجسادهم، وتخمد لهب الرغبات في قلوبهم. وقد يكون من هذه الفئة من حضر بعض الحملات التبشيرية، واستمع إلى بشارة الخلاص، وتأثر برسالة الإنجيل، ولكن سرعان ما غلبت عليه ملذات الدنيا أو مطامحه الشخصية، أو استبدّت به أطماعه الذاتية.. فاحتقروا فداء المسيح، وألقوا به إلى عرض الحائط. بيد أنه في اللحظة المفاجئة التي لم يتوقعوها انتقلوا من هذه الديار الفانية إلى ساحة القضاء الأزلية من غير أن يعدوا شيئاً للقاء إلههم.

وهناك فئة ثالثة تسربلت بثياب التدين، وتظاهرت بالتقوى، وعمدت إلى ممارسة الفريسية التي ندّد بها المسيح، واعتقدوا في أنفسهم أنهم بذلك يرضون الله، ويحظون بالحياة الأبدية. هؤلاء خلقوا لأنفسهم مذهبهم الخاص، اتكلوا فيه على برّهم الذاتي، وعلى أعمالهم الصالحة، بل على مديح الناس لهم، فارتاحت قلوبهم إلى منجزاتهم، واقتنعوا أنهم قد ضمنوا السماء ولم يدركوا أنهم بتصرفاتهم هذه وقناعاتهم التي خدّرت ضمائرهم قد ركلوا بأرجلهم كل "عملية الفداء" التي خطها الله من أجل خلاص الجنس البشري. هؤلاء رفضوا "الطريق والحق والحياة"، وانكبوا على شقّ سبل جديدة. ظنوا.. نعم، ظنوا أنها تقودهم إلى الحياة الأبدية، "وقزّموا" دور الصليب، وجعلوا من المسيح مهزلة من المهازل. لا ريب أن الشيطان قد تلاعب بعقول هؤلاء كما تلاعب بعقل آدم وحواء فغرّهم، وأوهمهم أنهم على حقٍ وكل شيء آخر هو باطل. لذلك عندما أقدم ملاك الموت على زيارتهم، لم يشعروا في بادئ الأمر بضلالهم، بل ظنوا بأن أحلامهم لا بد أن تتحقق على الوجه الذي تصوروه. ولربما، في لحظة تذكروا كلمة الوحي الإلهي أنه "ليس بأحد غيره الخلاص" وأكثر ما أخشاه أن هؤلاء، حتى في اللحظات الأخيرة من حياتهم ظلوا متمردين، معاندين، ولعلهم أيضاً سمعوا ملاك الموت يطرح عليهم ذات السؤال الخطير: ماذا أعددتم للقاء إلههكم؟

يا قارئي العزيز، إن ما جعلني أن أخطّ هذا المقال هو ما شهدته عيناي منذ أسبوع عندما قمت بزيارة صديق مشرفٍ على الموت. كان واعياً بأن أيامه باتت معدودة، وحاولت قدر جهدي أن أحدِّثه عن خلاص المسيح، وموته، وفدائه، وأنه يريد منه أن يُقبل إليه قبل فوات الأوان. كان يستمع إليَّ وكأنه أصمّ. كلماتي لم تخترق ذهنه، ولم تؤثر في قلبه، عقله كان بعيداً جداً. وعندما طلبت منه أن أصلي من أجله لم يرفض، ولكنه كان قد أقام حواجز الرفض بينه وبين الرب. سألته أكثر من مرة ماذا أعددت للقاء إلهك؟ فلم يجبني مرة واحدة عن سؤالي. وفي أعماقي شعرت أن هذا الإنسان قد أغلق قلبه نهائياً عن سماع صوت الرب.

لشد ما امتلأ قلبي بالحزن عليه وعلى مصيره الأبدي، وأحسست بذاتي تصرخ إلى الرب أن يليّن قلبه قبل أن يفارق الحياة. ولكنني أدرك يقيناً أن الله لا يرغم أحداً على التوبة، بل يحترم إرادة الإنسان واختياره، غير أن مع كل اختيار هناك مسؤولية تترتب عن هذا الاختيار.

يقول الرب يسوع: ”تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم“. هو يدعوك كما دعاني من قبل، فلماذا لا تستجيب قبل أن يفوت الأوان؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010