ذوبان الهوية




ذوبان الهوية


ذوبان الهوية
نيافة الأنبا موسي


أخطر ما فى العولمة: "ذوبان الهوية"!

ذلك لأن ثورة الاتصالات المعاصرة، من فضائيات وانترنيت، أحدثت تفاعلاً يومياً، 24 ساعة فى اليوم، وسبعة أيام فى الأسبوع، بين مختلف البشر الداخلين إلى الانترنيت، أو المشاهدين للفضائيات.
ومع أن لهذا التواصل الاجتماعى فوائد جمة، شرحناها سابقاً، وأهمها الاستفادة المتبادلة للمعلومة والخبر، وللأفكار والثقافات، والتعرف على مختلف الأديان والحضارات، إلا أن المشكلة تكمن فى أنه سيأتى يوم قريب، يتربى فيه أطفالنا وشبابنا على الانترنيت والفضائيات، أكثر بكثير من تربية الأسرة والكنيسة والمدرسة. وحين لا تقوم الأسرة والكنيسة والمدرسة بتربية أولادنا وبناتنا، ستتم تربيتهم على ما يشاهدونه على مواقع الانترنيت، وما يكونونه من علاقات فى الفضاء الالكترونى: مواقع الفيس بوك واليوتيوب وTwitter والـ Second Life. وهنا تبدأ المشكلة: أن تذوب هوية من يترك نفسه لتربية هذه المواقع، ومن يرتادها من البشر، وما فيها من أفكار، وما يمكن أن ينتج عنها من علاقات، يمكن أن تكون منحرفة أو خادعة... تذهب به بعيداً عن هويته الأصلية!

وهنا تتوارى شيئاً فشيئاً هوية رواد هذه المواقع، وتذوب تدريجياً، وهذه الهوية يمكن أن تكون عناصرها كما يلى:

1- الهوية الدينية. 2- الهوية الثقافية. 3- الهوية الوطنية (القبطية - كنيستنا، والمصرية - وطننا).
ولنبدأ فى دراستها تباعاً...

1- الهوية الدينية
من المتوقع أن تذوب نظرة الأجيال الصاعدة للأديان، لا ذوبان الحب الإيجابى، ولا التعارف والتفاعل البناء، بل ذوبان الضياع الكامل لها فى حياة أبنائها... حيث يصيحون قائلين: "مش مهم الدين، المهم مزاجى الشخصى واختياراتى!" بل أن بعض المثقفين يتحدثون عن إمكانية وصول الأجيال القادمة إلى ما يسمى "الثقافة الكوكبية" (Global Culture) ، وإلى تدين أو "دين جديد" يتكون من:
1- أديان التوحيد الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام.
2- الأديان الأخرى مثل: البوذية، والكونفوشية، والهندوسية.
3- ميثاق حقوق الإنسان.
لهذا فمن المهم أن من يدخل إلى عالم الفضاء الالكترونى، يجب أن يكون واثقاً من هويته الدينية، ومتمسكاً بها عن اقتناع وحب وفهم، حتى لا تذوب هويته الدينية بسهولة، فى هذا الجو "المعولم"!
والذوبان هنا قد يطال التدين الشخصى للإنسان (كمسيحى)، أو الانتماء الطائفى والعقيدى (كأرثوذكسى)، أو الاثنين معاً! لهذا يجب تثبيت أولادنا مسيحياً وأرثوذكسياً ليواجهوا أعاصير العولمة والإعلام والانترنيت.

2- الهوية الثقافية
فلكل ثقافة ملامحها الخاصة، فالثقافة الأمريكية تختلف عن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والعربية والإفريقية والأسيوية... إلخ. ثقافات متعددة فى كل العالم، تحترم بعضها بعضاً، كما تحترم الاختلاف الكائن بين
إحداها والأخرى.
ولنا نحن ثقافتنا المصرية التى عشنا عليها، من: احترام الكبير، والالتزام بالوالدين والجدّين، وشهامة التعامل مع المريض والمسن والمحتاج، وحلاوة التكافل الاجتماعى دون نظر إلى أى فوارق دينية أو إجتماعية، وعدم قبول الظلم الواقع على نفسى أو على غيرى، أو ثقافة الإيثار واحترام مشاعر الآخر... أو ذلك الدفء العاطفى فى الأسرة والصداقة والمجتمع... هذه كلها بعض مفردات الثقافة المصرية.
لكن الداخل إلى العالم الافتراضى، سيلتقى بثقافات أخرى، بعضها قد يدعو إلى:
1- الذاتية... حيث شعار البعض الآن: "أنا وبعدى الطوفان".

2- المادية... "المهم عندى فلوسى؟... هذا شعار آخر مرفوع!

3- الجسد... والانفلات الجنسى الرهيب على هذه المواقع، سواء بالصورة أو بالعلاقات المنحرفة المتاحة... وآخر "موضة" موقع يدعو الأزواج والزوجات إلى التبادل والشيوع... وهذا الأمر جرمناه فى مصر، ولكنه متاح فى أماكن أخرى كما تقول الدراسات المعاصرة.

4- الاستهلاكية... حيث ثقافة المول حيث يتم عرض السلع بصورة مبهرة، لتشترى ما لست بحاجة إليه... أما عن أخيك المحتاج: "مش مهم... وأنا مالى؟".

5- العنف... الذى بدأ يسود التعاملات الدولية والاجتماعية والأسرية... وهو منتشر الآن فى كل مكان.
الخطورة – إذن – أنه ما لم تتربى أجيالنا تربية ثقافية مصرية جيدة، بكل ما فيها من إيجابيات، مع رفض ما فيها من سليبات... ما لم نفعل ذلك، ستندمج أجيالنا فى هذه الثقافة العولمية، بكل ما فيها من سلبيات. ونحن طبعاً لا نقصد الانغلاق الثقافى على الإطلاق، بل ندعو إلى الانفتاح الثقافى على الآخرين فى كل العالم، لنستفيد ونختار الجيد، ونرفض الردئ... ننفتح على كل الناس والثقافات، ولكن بشرط أن يكون شعارنا هو: "اختر الجيد، وأرفض الردئ" (Select and Reject).

3- الهوية الوطنية

من مخاطر الاندماج الإلكترونى دون استعداد وبناء وتحضير جيد للإنسان، أن ينتج عنه نوع من "ذوبان الهوية الوطنية"... ذلك لأن الاندماج الثقافى العولمى، سيتبعه بالضرورة الكثير من ذوبان الانتماء الوطنى لبلدى مصر.
بل أن البعض ربما يبهرون بالأوطان الأخرى بما فيها من نمو علمى واقتصادى، أو حرية زائدة، فيتراجع لديهم حبهم واحترامهم لوطنهم الأصلى، وتذوب – بالتالى – هويتهم المصرية، بل أن البعض قد يحسّ بالخجل منها... للأسف!
ولذلك ينبغى أن نربى أولادنا على معرفة هويتهم الوطنية، بجانب هويتهم الكنسية، فهو مصرى قبطى أرثوذكسى... أى أن هويتنا الوطنية تحتوى أمرين:
1- الهوية المصرية (كوطن).
2- الهوية القبطية (ككنيسة).

أ- الهوية المصرية
يجب أن تتعرف أجيالنا مسيحيين ومسلمين على عرقهم الأصلى المصرى، فهم سلالة الفراعنة العظام، أول من عرف الطب والفلك والهندسة والكيمياء والكتابة.

أنهم بناة "الأهرام" التى ما زال العلم الحديث فى حيرة من أمرها يدرس: كيف تم بناؤها؟ وكيف صمدت على مر الزمن؟


+ والمصريون هم مخترعو "الورق" الذى كان ينمو كنبات على شاطئ النيل، فجعلوا منه أوراقاً للكتابة، بدأت فى شكل (رول) فى القرنين الأول والثانى، ثم صارت فى شكل (كشكول) فى القرن الثالث

+ وكلمة "الكيمياء" فرعونية، فمصر إسمها (ريم إن كيمى) أى الأرض السمراء، بسبب لون طمى النيل. ومنها أتت الكيمياء عموماً بعد ذلك (chemistry)

+ وفوق الكل، نحن الذين عرفنا "التوحيد"، قبل أن يعرفه كل العالم الأممى، وذلك من خلال "أخناتون".
+ وماذا عن "كتاب الموتى" وكتابات الحكماء؟
+ وها هى آثار الفراعنة العُظام تتحدى الزمن، ولولا استمرار "اللغة القبطية" فى حياتنا الكنسية، لما استطاع "شمبليون الفرنسى"، أن يفك رموز "حجر رشيد"، ويتعرف على مفردات اللغة الهيروغليفية، فانفتح لنا كنز عظيم من آثار وكتابات الفراعنة.
يجب أن تتعرف أجيالنا على هذا كله، لكى يفتخروا بمصريتهم، ويتمسكوا بهويتهم.

ب- الهوية القبطية
وأقصد بها "الكنسية القبطية" الأرثوذكسية، ذات التاريخ المجيد والعريق. فكلمة "قبط" هى نفسها كلمة "Egypt"، وهى أصلاً كلمة هيروغليفية "هاكبتاح"، أى أرض الإله الفرعونى "بتاح"... وصارت فى اليونانية "إيجبتون"، وصرنا ننطقها "القبط"...

لذلك يجب أن تتعرف أجيالنا على كنيستهم المجيدة، فهى:

1- كنيسة "اللاهوتيين": التى قادت العالم فى القرون الأولى للمسيحية، ووجهت المجامع المسكونية العالمية لصياغة قانون الإيمان المسيحى، رافضة.

+ هرطقة "آريوس"... الذى طعن فى ألوهية السيد المسيح.
+وهرطقة "مقدونيوس"... الذى طعن فى ألوهية الروح القدس.
+ وهرطقة "نسطور" الذى فصل بين طبيعتى السيد المسيح: اللاهوت والناسوت.
+ وهرطقة "أوطاخى"... الذى إدعى أن الناسوت كان أثيريا وذاب فى اللاهوت.
+ وهرطقة "سابليوس"... الذى إدعى أن جوهر اللاهوت أقنوم واحد ظهر فى العصور المختلفة بصور متعددة.
+ وهرطقة "أبوليناريوس"... الذى إدعى ذوبان النفس الإنسانية للسيد المسيح فى لاهوته، إلى غير ذلك من الهرطقات...
وحتى اليوم، تظل الصياغة اللاهوتية لقانون الإيمان، والكتابات اللاهوتية لأثناسيوس وكيرلس العمود الفقرى فى شرح اللاهوت المسيحى فى كل أنحاء العالم المسيحى، بطوائفه المتعددة.

2- كنيسة "الرهبنة": فهى الكنيسة التى نشرت الرهبنة فى كل أنحاء العالم، من خلال ما كتبه القديس أثناسيوس عن سيرة الأنبا أنطونيوس، حين كان فى المنفى فى أوروبا... فصار هذا القديس وذاك الكتاب نبراساً فى كل العالم المسيحى.

وقد صار آباء الرهبنة فى مصر: أنطونيوس وبولا وشنوده وباخوميوس، وغيرهم وأولادهم وتلاميذهم معلمى الرهبنة فى كل العالم، حيث جاء "باليديوس" وغيره من بلاد مختلفة، وعاشوا فى أديرتنا، وتعلموا من آبائها، ثم ذهبوا إلى بلادهم ليقيموا رهبنات مشابهة، كما كتبوا تاريخ الرهبان الأقباط ساكنى الصحارى والبرارى والمغارات... وواضعى قوانين الرهبنة.

3- كنيسة "الشهداء": فكنيستنا القبطية قدمت للسيد المسيح أكبر عدد من الشهداء، بل إنها الكنيسة الوحيدة فى العالم التى لها تقويم خاص بجانب التقويم الميلادى – يدعى "تقويم الشهداء"، بدأ سنة 284م، مع اعتلاء دقلديانوس للعرش، وهو واحد من عشرة أباطرة رومان، قتلوا الآلاف من المسيحيين الأقباط.
وشكراً لله أن كنيستنا مازالت حتى الآن، تقدم من أبنائها قرابين الاستشهاد، مثل شهداء نجع حمادى الأحباء.

4- كنيسة "الكرازة": فلاشك أن الكنيسة القبطية كانت كنيسة كارزة منذ البداية، فهى التى امتدت بالمسيحية شرقاً إلى الهند، من خلال العلاقة "بانتينوس"، وشمالاً إلى فلسطين وآسيا الصغرى، وجنوباً إلى أثيوبيا وإريتريا، وغرباً إلى المدن الغربية وحتى سويسرا وإيرلندا... وهذا تاريخ مجيد يجب أن يتعرف عليه أولادنا.

وفى العصر الحالى، امتدت الكنيسة القبطية، برعاية ومجهودات قداسة البابا شنوده الثالث، إلى كل أنحاء العالم، وبدأ – مع هجرة الأقباط – نصل بالكنائس والآباء الأساقفة والكهنة والأديرة والاكليريكيات إلى أنحاء الويالات المتحدة وكندا، واستراليا، وأوروبا، وأفريقيا، وصرنا نسمع عن كنائس وقداسات قبطية فى الصين واليابان وسنجابورا وماليزيا وتايلاند والمكسيك وفنزويلا والبرازيل وفيجى وباكستان... إلخ.

+++

الــــــخــــــلاصة:

من المهم – إذن – أن نربى أولادنا تربية سليمة، ونجعلهم يشبعون بهويتهم المسيحية، والقبطية، والأرثوذكسية، والمصرية... لكى لا يذوبوا فى طوفان الانترنيت والفضائيات، بل يظلوا صامدين أمام تأثيراتها، وملتزمين بمبدأ:

+ نتفاعل إيجابياً... + نتفاعل حسناً... + نقبل ونرفض...

فنحن أبداً لا نريد لأبنائنا أن يعيشوا فى "عزلة" عن المجتمع العالمى، والتطوارات المعاصرة، وعالم الانترنيت والفضائيات والمعلومات، بل أن يتعلموا فضيلة "الإفراز والتمييز". التى قال عنها القديس أنطونيوس: أنها
"أهم الفضائل"...

وهنا تحضرنى قصة صغيرة عايشتها فى أحد مطارات أمريكا، وكنت فى وداع قداسة البابا، حيث رأيت رجلاً مصرياً يجلس على مقعد بالمطار، ويحمل طفلاً سنه 2 أو 3 سنوات... وكان الطفل يضرب والده فى صدره قائلاً له:

You are not Egyptian Dad, You are American

وكرر الطفل العبارة بدموع وصراخ ثلاث مرات وهو يضرب صدر والده... فنظر لى والده باشفاق وقال: "شايف ياسيدنا!!" وفى عينيه حسرة بالغة!!

+++
حفظ الله أجيالنا الصاعدة محتفظين بهويتهم متعددة الأبعاد، ليقول كل منهم:
+ أنا مسيحى (الهوية الدينية). + أنا أرثوذكسى (الهوية العقائدية)
+ أنا قبطى (الهوية الكنسية). + أنا مصرى (الهوية الثقافية والوطنية).
وهذا ما نحاول توصيله لأولادنا فى المهجر:

I am Christian I am Orthodox
I am Coptic I am Egyptian

يبقى بعد أن عرضنا لهذه التحديات التى تواجه الجيل الرقمى المعاصر وهى:

1- الثقافة العولمية. 2- ثورة الاتصالات. 3- العالم الافتراضى.
4- بين التراث والمعاصرة. 5- ذوبان الهوية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010