وحيد فى القبر


                                وحيد فى القبر                                   
  
اندهش ابونا انسطاسى جداً عندما استيقظ فأحس كأن لفافة فوق وجهه فرفع يده ليبعدها عنه فسقط شئ من يده فتحسسه فإذا هو صليب

كان الظلام يسود المكان وتعجب ابونا انسطاسى من هذا جداً
لأنه تذكر ان نافذة قلايته كانت مفتوحة عندما رقد لينام وأن نور القمر كان يتخلل المكان ويضيئ الغرفة
ثم ما هذه الرائحة العجيبة التى يشمها حاول ان يعرف سرها فلم يستطع
رائحة تشبه رائحة الموتى

وكان بعض الوقت قد مر عليه وقد ألفت عيناه الظلام فدقق النظر جيداً لعله يبصر
وهنا وقف شعر راسه فى خوف وفزع واضطرب جسده كله فوضع كفيه على عينيه لعله يزيل المنظر من امامه ولكنه لما رفع يديه وجد المنظر كما هو
اكوام من العظم فى بعض الاركان واجساد مسجاه حواليه على الارض وكل جسد منها يرتدى تونية بيضاء وعلى وجهه لفافة وفى يده صليب

ولا شك انه طافوس الدير
وهنا تملكه خاطر عجيب حاول ان يبعده عن نفسه فلم يستطع
وبحركة لاشعورية نظر الى ذاته فوجد انه ايضاً يلبس تونية بيضاء وكان ما استطاع ان يراه من شعر لحيته ابيض كله ولم تكن فيها من قبل سوى ثلاث او اربع شعرات بيضاء
ادرك الحقيقة المذهلة انه فى طافوس الدير

فما الذى حدث له

هل مات حقاً وأقامه الله من الاموات
أم وقع رهبان الدير فى خطأ وظنوه ميتاً فدفنوه
أم هناك تعليل ثالث

إنه لايعرف ومع ذلك فهناك حقيقة خطيرة واضحة امامه وهى انه على الاقل ميت فى نظر الناس
وعرف ايضاً حقيقة اخرى وهى انه لايستطيع ان يخرج عن هذا الوضع إذ كيف يمكن للناس ان يروا امامهم ميتاً قد دفنوه بأنفسهم !!
أعصابهم لاتحتمل وعقولهم ايضاً لاتحتمل

إذ عليه ان يقضى بقية حياته كميت داخل الطافوس
كانت هذه تجربة جديدة عليه فى الحياة كيف يمكن ان يحيا هكذا

فى اول يوم تعب تعب شديداً كانت الرائحة كريهة ومنتنة ولا يستطيع ان يتحملها ولكنه قال فى نفسه
المفروض اننى تركت تنعمات العالم وعلى ان احيا هكذا

وتذكر قصة الانبا ارثانيوس عندما كان يترك الماء الذى يبل فيه الخوص دون تغيير حتى ينتن ويقول ان تلك النتونة عوض عن الروائح الطيبة التى كان يتمتع بها فى القصر الامبراطورى

ومالبث ابونا انسطاسى ان تعود هذا الموضع ان يحيا وسط العظام وان يحتمل تلك الرائحة ويألفها

بقيت امامه مشكلة الطعام كيف يأكل
لم يكن لديه فى الطافوس اى نوع من الطعام وما كان ممكناً ان يجلب اطعمة من الدير ويحفظها
انما كان يخرج كل ليلة فى الظلام حوالى منتصف الليل ويأكل بعضاً من الثمار او الخضروات الموجودة فى حديقة الدير او بقية اكل فى اناء نسى الطباخ ان يغسله
او مجرد خبزة وقليلاً من الملح وذلك يكفى
ثم يقضى اليوم كله صائماً حتى يحين نصف الليل مرة اخرى وهكذا
وقضى سنوات طويلة لم تبصره فيها الشمس آكلاً
وفى الواقع لم تبصره الشمس على الاطلاق
وطبعاً لم تكن لديه فى الطافوس اية ادوات او اوان وهنا تذكر ابونا انسطاسى كيف كان يحتفظ فى قلايته بعشرات المعدات فى المطبخ وبألوان من الاطعمة والاوانى
اما الآن فليس لديه شئ منها وهو يعيش من غيرها جميعاً
كما كان يعيش القديس الانبا بيجيمى السائح بدون ادوات على الاطلاق فى مغارته
وهنا شعر ابونا انسطاسى بخجل من حياته الماضية

بدأ ضميره يوبخه كيف كان وهو راهب يحتفظ بأشياء كثيرة
كانت تبدو ضرورية امامه فى ذلك الحين وقد ثبت الآن عملياً انه استطاع ان يعيش من غيرها
وهنا تذكر عشرات الادوات الاخرى التى كان يستخدمها فى قلايته فى ذلك الزمان :
من ادوات مكتب واثاثات وصور وملابس واغطية ونثريات عديدة لا تدخل تحت حصر
وانتبه ضميره كثيراً على ذلك كله

مامعنى الفقر الذى كان قد نذره يوم رسامته
اين فضيلة التجرد
وهنا بحث مع نفسه مشكلة الضروريات والكماليات انها ولاشك مسأله نسبية تتوقف على مدى تجرد الشخص وتقييمه للأحتياجات
اما الآن فقد استطاع ابونا انسطاسى ان يحيا فى الدير وهو لايملك شيئاً على الاطلاق فى حياة تجرد كامل

حتى القلاية المسكن الخاص !! انه يحيا الان فى الطافوس ولا يستطيع ان يعتبره قلايته الخاصة انه غريب ايضاً حتى فى هذا المكان
فى حياته الاولى كانت له قلاية ومحبسة ولا يستطيع احد ان يدخلها دون اذنه
يغلقها ويفتحها كما يشاء بمفتاح يحتفظ به معه اما الآن فأنه لايملك التصرف فى المكان الذى يعيش فيه

لو ادخلوا عليه شخصاً جديداً لايمكنه ان يحتج ولا ان يفتح فمه بل بمجرد ان يسمع دقات حزينة من جرس الدير

يسرع الى وضعه كميت ويرقد نفس الرقدة ويغطى وجهه بلفافة حتى ان فتحوا الطافوس لدفن الميت الجديد يجدون كل شئ كما تركوه

حتى الكتب لم يكن يملك منها ابونا انسطاسى شيئاً
إذا كيف كان يقضى وقته
هنا أحس خطأه القديم

فى ذلك الزمان كان هدفه ان يملأ عقله بالمعلومات
يقرأ عشرات الكتب ويصبح دائرة معارف ولكنه لايجد وقتاً فيه يتأمل ماقرأه
أما الآن فإذ لاتوجد لديه كتب بدأ يجتر المعلومات المخزونة فى ذاكرته ويتأمل

أحياناً كان يستغرق فى آيه واحدة بضعة ايام يغوص فى اعماقها ويكشف له الروح اسراراً عجيبة

حتى كان يصرخ فى فرح مع داود
(لكل كمال رأيت مُنتهى أما وصاياك فواسعة جداً)
عرف انه كان يعيش قديماً على القشور وقشور المعرفة السطحية وعندما كانت تضغطه الرغبة فى القراءة كان يذهب فى الظلام الى الكنيسة ويقرأ قليلاً فى هدوء ويرجع

وعاش ابونا انسطاسى حياة عزلة كاملة وصمت
لم يكن يزور احد طبعاً ولم يكن احد يزوره وطبعاً عاش فى صمت كامل لايتحدث الى احد
فى احدى المرات كان بعض الرهبان يتكلمون خارج الطافوس
وكان يسمع اصواتهم ولا يعلق بشئ هل المعلومات التى يقولونها صحيحة ام خاطئة
هل هى كاملة ام ناقصة
ليس له ان يتدخل ما شأنه
انه ميت ... وفى مرة اخرى سمع رهباناً خارج الطافوس يتحدثون فى اخبار الآباء الاولين ثم ورد اسمه على السنتهم وذكره البعض بالخير وانتقده آخرون اما هو فصامت لا يشكر المادح ولا يجادل المنتقد انه ميت


وفى ذات مرة مرض ابونا انسطاسى وطبعاً لم يزره طبيب ولم يأخذ دواء ولا أى نوع من العلاج
ولا تغذية ولا تقوية احتمل فى هدوء وفى صمت حتى كلمة العزاء لم تصل اليه
وإذ لم يفتقده احد بل كان أحياناً لايستطيع حتى مجرد التأوه عندما يحس ان احداً خارج الطافوس وظل هكذا حتى شفى

وفى احدى المرات وهو يمشى ليلاً رآه رهبان فصاح احدهما وهرب
أما الآخر فظنه احد السواح او احد القديسين القدامى فتقدم اليه وركع وطلب ان يباركه فلم يجادل وانما اطاع وضع يده هليه وباركه ومضى مسرعاً نحو الطافوس

وأشيع فى الدير ان قديساً ظهر لأحد الرهبان واعتكف ابونا انسطاسى جملة أيام لا يخرج اطلاقاً لم يأكل فيها ولم يشرب

عاش ابونا انسطاسى بعيداً بالكلية عن العالم واهله

كان فى ذلك الزمان يكتب رسائل لكثيرين وتصله الرسائل منهم اما الآن فإنه ميت
وهكذا
بعد عن الخطابات وأيضاً عن المجلات والجرائد وعن الاخبار عموماً لا تصله اخبار العالم ولا اخبار الكنيسة ولا حتى اخبار الدير

وبمرور الوقت بدأ ينسى الاخبار القديمة ايضاً كان قديماً يشعر ان الدير محتاج اليه وانه عمود من اعمدة الدير

شخص مهم يقوم بمسئوليات عديدة اما الآن عرف ان الدير مازال ديراً بدونه
وكذلك الكنيسة تخلو فيها احياناً بعض المناصب والمسئوليات
فلا يرشحه احداً لشىء منها انه ميت وهو ايضاً لايفكر فى هذه الامور ولا يعلم بها

وإذ لم يكن له مايشغله سوى الله عاش حياة الصلاة الدائمة فى ذلك الزمان
قبل موته كان يقضى ليالى كثيرة فى القراءة والكتابة وفى الترجمة وفى التأليف وفى النساخة وفى امور خارجة عن نفسه

اما الآن فإنه لايستطيع ان يقرأ او يكتب بالليل إذ لاتوجد كتب ولا إضاءة
فاصبح يقضى الليل كله فى الصلاة وتذكر قول مار اسحق الليل مفروز لعمل الصلاة

وكان يعمل فيه ايضاً اعماله الضرورية فى الدير

ونما فى الصلاة كثيراً حتى تحولت حياته الى صلاة لم يعد فى عقله الا الله وبمرور الوقت نُسيت التذكارات القديمة إذ ليس شئ جديد عالمى يُضاف اليه وذكرياته واهتاماته وهكذا ذالت الطياشة من صلاته

وبدأ يصل الى نقاوة القلب ونقاوة الفكر والى الانحلال من الكل والارتباط بالواحد

تنقى من الافكار الخاطئة ولكن فكراً واحداً ظل يحاربه
قال لنفسه : هأنذا قد عرفت الرهبنة الحقيقية ومارست الموت الكلى عن العالم والاتصال الكامل بالله فماذا يمنع ان اظهر للدير واحيا هكذا

شجعه على هذا الفكر طول المدة التى قضاها فى الطافوس
بحيث نسيه الناس كثير من زملائه القدامى رآهم يدفنون معه فى الطافوس وغالبية رهبان الدير الآن من الجدد الذين لم يعاشروه

والباقون من زملائه قليلون ولا يتوقعون رؤيته وإن رأوه لا يتعرفون عليه فقد تغيرت هيئته من فعل الشيخوخة ومن النسك

وحاول ابونا انسطاسى ان يطرد هذا الفكر ويقول لنفسه وما جدوى ان يرانى الناس لقد كنت اشتهى فى ذلك الزمان انا احيا وحيداً وبعيداً عن الناس متفرغاً لله وحده وها انا قد فعلت ما اريد
فلماذا افكر فى تغيير حالتى

ثم تعود الافكار تحاربه قائلة :
انك فعلت هذا مضطراً وما اجمل ان تفعله بإرادتك ومرت عليه فترة طويلة فى مقاتلة الافكار
وأخيراً جاءت ليلة خطيرة جداً فى حياته

وفى تلك الليلة اشتدت عليه الافكار جداً فركع ابونا انسطاسى

وسكب نفسة امام الله فى حرارة شديدة وقال :
مبارك انت يارب فى جميع احساناتك الىّ
انت يارب شفوق وحنون علىّ جداً وقد عاملتنى بما لا استحق ووهبتنى هذه الحياة المنعزلة
حللتنى من الكل وربطتنى بك
غير انى اشعر اننى عشت فى هذا الطقس مضطراً أريد انا احيا فيه بإرادتى من اجل حبك
إنها فكرة أو انها شهوة قد تكون جيدة وقد تكون رديئة ... ولكننى على اية الحالات
اعرضها عليك لاننى لا أستطيع ان اخفى عنك شئ ولتكن إرادتك

واحنى ابونا انسطاسى رأسه وبكى ولم يسمع احد صوته
ولكن السماء سمعت فتقدم واحد من الاربعة والعشرين قسيساً الجلوس حول عرش الله وأخذ هذه الصلاة فى مجمرته الذهبية
وصعد بها الى فوق ونام ابونا انسطاسى والدمع يبلل لحيته البيضاء

إنه لايدرى كم مر عليه من الوقت وهو نائم أهى ساعة أم دهر
كل مايدريه أن جرساً دق دقات عنيفة وفتح ابونا انسطاسى عينيه واندهش جداً وقال فى نفسه
ماهذا الذى أراه
ودارت رأسه فنام ثم استيقظ على صوت جرس آخر لعله جرس باكر ففتح عينيه
وإذ هو امام المنظر الأول فاندهش وزاد تعجبه :
وجد امامه نافذة مفتوحة ونور القمر يدخل المكان ويضيئه كله
ونظر الى ذاته فوجد انه يلبس رداءً أسود وتأمل المنظر حوله فوجده يشبه تلك القلاية التى كان يعيش فيها فى ذلك الزمان فوضع يديه على رأسه وأخذ يفكر
وأخيراً عرف السر
هل كان ماحدث له حلماً ام رؤيا أم درساً فى الرهبنة
ليس يدرى ولكنه ادرك الهدف منه

ومنذ ذلك الحين تغيرت حياته كلية

بدأ حياة الوحدة والنسك التى تعودها خلال (عشرات السنوات)
وأخذ يمارس الصلاة الدائمة كما كان يمارسها فى الطافوس

وعندما كانت الضرورة تدعوه للخروج من قلايته لعمل خاص بالمجمع
كان يسير فى هدوء ولا يلتفت يمنة ولا يسرة
وكان الرهبان يميزونه بصمته وبجسمه النحيل وأدبه الغزير وتواضعه وبراسه المنكس الى الارض وكان بين الحين والحين يرفع راسه قليلاً ويهزها هزة بسيطة
لكى ينفض عن عينيه قطرات من الدموع تمنعه من رؤية ماهو قدام .

من روائع قداسة البابا شنودة الثالث فى كتابه ثلاث قصص هادفة
                 كليب وسط النهار                        

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010