حول فيلم آلام المسيح....حقائق في أحداث الصليب



حول فيلم آلام المسيح ... حقائق في أحداث الصليب
============================

القس يوحنا نصيف - الإسكندريّة
===================

أحداث الصليب من أهم الأحداث التي تشغل فكر المسيحيين، لِما لها من تأثير روحي على حياتهم وأبديتهم وعلاقتهم بالله محب البشر.. وبعد عرض فيلم "آلام المسيح" للمُخرِج الأمريكي "ميل جيبسون" وتأثُّر الكثيرين به، ثارت الكثير من التساؤلات حول بعض المشاهد في الفيلم، وهل هي مُطابقة للحقيقة أم لا؟!

في الواقع أن هناك وثائق تاريخية مؤكّدة تشرح لنا بالتفصيل أحداث القبض على المسيح ومحاكمته وتعذيبه وصلبه.. ولا تزال هذه الوثائق موجودة بين أيدينا، وكان يجب على المُخرِج دراستها جيّدًا والالتزام بتفاصيلها، وخاصةً أنها لا تتعارض مُطلقًا مع أيّة وِجهة نظر فنيّة.. ولكن الحقيقة مع أن الفيلم بُذِلَ فيه مجهود كبير لا ننكره، لكن الملاحَظ أن به الكثير من الأخطاء الواضحة في عرض الأحداث، أثارت انتباه كل من شاهده.. هذا بالإضافة للعديد من المبالغات في تصوير الآلام..
الوثائق التفصيلية التي أعنيها تتمثّل في النصوص الإنجيلية، وكفن السيد المسيح المحفوظ في تورينو بإيطاليا، وبه العديد من الملامح الواضحة التي تكشف عما حدث بكل دِقّة.. بعد أن طُبِعَت عليه صورة سلبية Negative لجسد المسيح من الأمام والخلف في لحظة القيامة حين خرج من جسده ضوء وحرارة لفحت النسيج السطحي من قماش الكفن فأصابته بما يشبه (الشياط) ورسمت على القماش شكل ملامح جسد المسيح تفصيليًّا..
ولئلاّ تَثبُت مشاهد الفيلم في الأذهان على أنها بالفِعل الأحداث الحقيقية، أحاول الآن استعراض بعض الأخطاء في الفيلم، وتوضيح الحقائق بخصوصها:
أولاً: عند القبض على المسيح في البستان، تمت الأحداث كما يشرحها لنا القديس يوحنا الحبيب، الذي كان شاهد عيان، كما يلي: "فأخذ يهوذا الجند وخُدّامًا من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك (البستان) بمشاعل ومصابيح وسلاح. فخرج يسوع وهو عالمٌ بكل ما يأتي عليه وقال لهم: مَن تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مُسَلِّمه أيضًا واقفًا معهم. فلمّا قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. فسألهم أيضًا: مَن تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون..." (يو18: 3-8) والواضح من الوصف هنا أن كلمة "أنا هو" التي سمعوها فاجأتهم فاضطربوا وتحرّك أحد الجنود من الصَّف الأمامي خطوة للخلف على أرض البستان غير المستوية فاصطدم بمن خلفه، وتسبَّب في سقوط البعض على الأرض، ثم قاموا ثانيةً بسرعة.. وهذا المشهد لم يظهر بالفيلم..
ثانيًا: طريقة القبض على السيد المسيح بربط سلسلة حديديّة على رقبته، وضربه بالسلاسل.. طريقة غريبة وغير منطقية لشخص لا يقاوِم.. وقد كان المطلوب فقط ضبط وإحضار المسيح لرؤساء كهنة اليهود وليس تعذيبه، فمشاهد التعذيب هنا ليس لها أساس في الحقيقة.. ولكن التعذيب بدأ بالفِّعل بعد محاكمته.. (مت67:26، مر65:14).
ثالثًا: السيد المسيح كان قويّ البنية، فقد كان يعمل نجَّارًا، وكان طوله حوالي 181 سم كما يظهر في الصورة المطبوعة على الكفَن.. وليس من السهل أن يسقط على الأرض بمجرّد الدَّفع بالأيدي أو عندما صفعه عبد رئيس الكهنة.. فسقوط المسيح على الأرض فيه مبالغة كبيرة غير محتمَلة الحدوث.. والفيلم في أغلب مشاهده يصوِّر المسيح على أنه مثل قصبة واهية تحرِّكها الرياح، وهذا مخالف للواقع..!
رابعًا: بالنسبة لجَلد السيد المسيح، فهناك بعض الأخطاء في تصوير أحداث الجَلد، منها:
1- لم يحدث أن المسيح قد ضُرِبَ بالعصي قبل الجلد، فهذا لم يُذكَر في الأناجيل، ولا يظهر له أي أثر في صورة الكفن.
2- السياط المُستعمَلة في الجلد كانت من سيور طويلة وليست قصيرة؛ بدليل أنها كانت تلتفّ أحيانًا حول الظهر لتصيب الصّدر كما تظهر في صورة الكفن.. وكانت تنتهي بكرتين صغيرتين من الرصاص لكل سير.. والمُخرِج يصوِّر السياط في الفيلم قصيرة وتنتهي بكُرات غليظة ثقيلة.. ولو كانت هكذا في الحقيقة لكانت قد كسّرت ضلوع المسيح وفقرات ظهره، وهذا بالطبع لم يحدث في الواقع كما تشهد الأناجيل والنبوّات "عظمٌ لا يُكسَر منه" (يو36:19).. كما أن السيور لم تكُن تنتهي بخطاطيف حديدية تنتزع اللحم كما صوّرها المُخرِج، فهذا الوضع لا يظهر له أثر في صورة الكفن.. وهو يُعَدّ مبالغة غير واقعية..
3- ظلّ المسيح واقفًا مُنحنيًا طوال فترة الجلد ولم يسقط على الأرض كما حدث في الفيلم عندما صوّره المُخرِج ساقطًا على الأرض بينما استمرّ الجلاّدون في ضربه وهو على الأرض.. فهذا خطأ لأن صورة الكفن تُظهِر لنا اتجاهات الجلدات على الظّهر بشكل مجموعات محدَّدة ثابتة تكشف أنه كان هناك جلاّدَيْن فقط من اليمين ومن اليسار وأحدهما أقوى من الآخَر، واحتمل المسيح الجلد بصلابة ولم يهتزّ ولم يتحرّك من مكانه..
4- كان المسيح مُجرّدًا من ملابسه تمامًا أثناء الجلد.
خامسًا: مشاهد المحاكمة عند رؤساء الكهنة في الحقيقة لم يكن فيها السيدة العذراء، ولم يكن حاضرًا سوى يوحنا الحبيب (يو18: 15،16) كما لم يحضر أحد تعذيب المسيح بواسطة الجنود الذين أدخلوه إلى داخل دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتيبة (مت27: 27-31، مر15: 16-20، يو19: 1-5) حيث عذّبوه بالجلد والاستهزاء والتكليل بالشوك.. فلا مجال لظهور السيدة العذراء أو المريمات في هذا المشهد أبدًا، لأن من المستحيل أن يدخل شخص مدني رجل أو سيدة إلى ثكنة عسكرية لمشاهدة الوقائع.. أمّا عن مشاهد مسح الدمّ من على الأرض وغيرها من إبداعات المخرج فاحتمال حدوثها غير وارد على الإطلاق لنفس السبب..
سادسًا: في رحلة حمل الصليب يوجَد أكثر من رأي لشكل الصليب وكيفية حمله.. ولكن المُرَجَّح بصرف النظر عن شكل الصليب أن المسيح سقط على وجهه تحت الصليب أكثر من مرّة.. وهذا يظهر من الكدمات والتورّمات الواضحة في وجهه المطبوع على الكفن..
وهنا يظهر ترنُّح وسقوط المسيح في الفيلم بشكل غير سليم..
سابعًا: طريقة الصلب كما يكشف عِلم الآثار والتاريخ، ويكشف أيضًا الكفن أنها كانت تتمّ باستخدام ثلاثة مسامير فقط.. مسمارين في معصميّ اليدين للتعليق من أعلى، ومسمار واحد في القدمين للتثبيت. وفي حالة السيد المسيح كانت القدم اليُسرى موضوعة فوق اليُمنى، ونَفَذَ فيهما مسمار واحد كما يظهر بوضوح شديد في صورة الكفن.. حيث أن القدمين ظلّتا على نفس الوضع الذي مات عليه المسيح لسبب التيبُّس الذي يحدث بعد الوفاة "Rigor Mortis".. فظلّت القدمان على نفس الوضع (اليسار ملتوية فوق اليمين).. وتفاصيل وضع المسامير في جسد المسيح يظهر بوضوح في صورة الكفن..
ومن هنا تظهر عِدّة أخطاء في تفاصيل الصّلب بالفيلم، تصحيحها كالتالي:
+ المسامير دُقَّت في المعصم وليس في راحة اليد.
+ لم تُستَعمَل أي حبال لربط اليدين، فنزف الدماء على الذراعين ينساب بوضوح، ويقطع بعدم وجود أي حبال تمنعه..!
+ لم توجَد قطعة خشب أسفل القدمين.. فالقدم اليمنى أسفلها مُغَطَّى بالدماء ، ولو كانت تستند على قطعة خشب لم تكُن لتظهر هكذا..
بوجه عام كان المصلوب يُعامَل باحتقار، ولم يكُن مسموحًا باستهلاك أكثر من خشبة الصليب والثلاثة مسامير، ولم يكُن يُعتنى بالشخص المصلوب لربطه أو سند رجليه أو ستر عورته، أو شيء من مثل ذلك..
+ مشهد قلب الصليب على وجهه لثني المسامير من الخلف، مشهد أقل ما يوصَف به أنه غير موفَّق من المُخرج وغير منطقي بالمرّة. لأن المسامير لم تكن طويلة بالدرجة وغير قابلة للثني من طرفها.. وقد شاهدت أحدها بنفسي في إيطاليا وكان طولها لا يزيد عن 8 سم والسُّمك حوالي 8 ملم.. كما أن هذا المشهد لو كان قد حدث لتهشّم وجه المسيح ورأسه تمامًا، وهذا بالطبع لم يحدث..!
+ طريقة صلب اللصين كانت مماثلة للمسيح تمامًا.. في العُري الكامل، ووضع المسامير، وعدم وجود حبال لربط اليدين... والفارق الوحيد أن المسيح جُلِدَ قبل الصَّلب ووُضِعَ على رأسه إكليل شوك.. وحالة المسيح بهذا الوضع فريدة من نوعها لم تتكرَّر في أي مصلوب في تاريخ البشرية.. ونزف المسيح من الجَلد وإكليل الشوك هو السبب في موته مبكِّرًا عن اللصّين.. إذ أن المصلوب كان يمكن أن يظلّ حيًّا على الصليب أكثر من يومين..!
ثامنًا: ذَكَرَ يوحنا في إنجيله أن السيد المسيح قال له وهو يقف تحت الصليب بجوار السيدة العذراء: هذه أمك. وقال لأمه: هذا ابنك.. ويقول بعدها مباشرة أنه أخذها من تلك الساعة إلى بيته (يو19: 25-27) وهذا يعطي لنا فِكرة عن أن السيدة العذراء لم تحضر إنزال جسد السيد المسيح من على الصليب، بعد الساعة الخامسة عصرًا، ونقله للقبر ودفنه.. بل أن بقيّة الأناجيل تؤكِّد أن وقت إنزال جسد المسيح من على الصليب ودفنه في القبر كانت هناك بعض النسوة ينظرن من بعيد، وهنّ: "مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وسالومه" (مت27: 56-61، مر47:15). وواضح جدًا أنه لم تكُن السيدة العذراء أو يوحنّا بينهن.. وهذه الحقيقة تكشف خطأ وجود العذراء عند إنزال جسد المسيح من على الصليب واحتضانها له بلوعةٍ ومرارة.. ولعل الخطأ مبني أصلاً على خطأ "مايكل أنجلو" الذي نحت تمثالاً شهيرًا لهذا المنظر ربما يكون قد انطبع في ذهن المُخرج.. والحقيقة أن هذا المشهد ليس له أصل في الواقع وإنما فقط في خيال "مايكل أنجلو"، وبالتالي فهو لا يلزمنا بقبول حدوثه..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010